بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي البحث:
ليس من السهل التصدي لموضوع ترتجف فرائص من يتصدى لمجرد التفكير فيه لأن دراسة هذا الخطاب يفرض التفكير في ما كان يعتري شخصية رجل عظيم مثل الإمام علي بن أبي طالب ـ (عليه السلام) - الذي حارت العلماء في فهم مكنون شخصيته التي لا تناظرها شخصية سوى شخصية معلمه وابن عمه وملهمه ومربّيه نبي الهدى محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذ تكاد كثير من خصائص شخصية الإمام علي (عليه السلام) تقترب من شخصية النبيّ، كما عبّر عن ذلك القرآن الكريم في آية المباهلة «فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم»[١].
ولايمكن لأيّ باحث أن يستجلي خصائص الشخصيتين أو الإلمام بملامحهما لأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد اصطفاه الله من بين البشر كافة ورعاه واصطنعه على عينه وأعدّه ليحمل رسالته إلى العالم في كل الأزمنة والعصور فكان نسيج وحده، وكان الإمام علي قد فتح عينيه ليرى النبي القدوة والمثال المحتذى في كل شيء كما قال الإمام عن نفسه «ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثرَ أمّه يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالإقتداء به»[٢].
فتربى الإمام (عليه السلام) في حجر صاحب الرسالة كما قال عن نفسه «وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويُمسّني جسده، ويشمني عَرفه»[٣].
ولم يتخلق الإمام (عليه السلام) بخلق مجتمعه ولم يتعلّم عادات من يحيطون به من أفراد المجتمع الجاهلي، ولم يتثقف بثقافة الجاهلية ولم يكتسب من عاداتها ولم يعلق في تفكيره شيء من مفرداتها بل عاش الوحي وحفظ القرآن واستلهم روح الإسلام وتغلغل الإيمان في عروقه، وسرى العرفان في خلاياه فكان سماوياً في تفكيره وخلقه وعقيدته ومشاعره وأحاسيسه وكلّ مكونات شخصيته، وكان في قتاله الكافرين والناكثين والمنافقين بطلاً خارقاً لأنّ تفكيره في الموت والحياة كان سماوياً، وكان في حكمه عادلاً عدلاً أراده الله أن يسود البلاد الإسلامية، وكان إيمانه بالله قد بلغ اليقين فما عاد كغيره من الناس، وكان يريد للمجتمع الإسلامي أن يتخطى أدران الجاهلية ليرقى إلى درجة المجتمع الأمثل، وقد وضعه ذلك في صراع مع الذين يعيشون الدنيا بأدرانها الجاهلية وبراقعها الإسلامية ومن هذا الصراع بين الإيمان والنفاق اتضحت لي ملامح شخصية الإمام علي (عليه السلام) وأدركت ما كانت تعبّر عنه نصوصه من معان تعرب عن ملامح خطابه النفسي.
المبحث الأوّل : خصائص النصّ النفسيّ
لاشك في أن نصوص نهج البلاغة تتميز بخواص فريدة اكتسبتها من شخصية الإمام الإجتماعية والثقافية والروحية ومكونات شخصيته المبنية على ظروفه في مسيرة حياته من طفولته حتى لحظات خلق النص، وطبيعة المواقف المثيرة التي أدت إلى صياغة خاصة تتُلاءم وتلك المواقف فضلاً عن عوامل اخرى يفرضها المقام والحال وما يحيط بالحدث، لذا جاءت نصوص نهج البلاغة المعبّرة عن الحالات النفسية تزخر بخصائص تتماثل وخصائص أسلوب الإمام علي في سائر نصوصه الأخرى وهو الذي اشتهر بفصاحته وبلاغته وقدرته على تأليف الكلام بصور إئتلافية متنوعة ومتناسقة تختزل المعاني تصريحاً وكناية.
وأهم تلك الخصائص :
١ ـ قوة التأثير في المخاطب:
ترتبط قوة تأثير النص بعمق التأثر والإنفعال في نفس الباحث، واستجابته لمؤثرات عنيفة تهز مشاعره، وتحرك كوامن مشاعره فتنطلق الألفاظ بحيوية مؤثرة متجانسة مع عنف التأثر وشدته «ويحدد السياق العاطفي أيضاً درجة الإنفعال قوةً وضعفاً، إذ تُنتقى الكلمات ذات الشحنة التعبيرية القوية حين الحديث عن أمر فيه غضب وشدة انفعال».[٤]
لذا كانت الجمل المعبّرة عن غضب الإمام أو حزنه أو تقريعه وتوبيخه، أو حبه لله ورسوله والمتقين والمؤمنين، أو كرهه للباطل والإنحراف عن الإسلام، حافلة بالألفاظ المشحونة بالعاطفة، فلقد وردت جمل مؤثرة تنم على عمق الشعور بالحزن والألم كقوله (عليه السلام): «يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت أنّي لم أركم، ولم أعرفكم، معرفة والله جرّت ندماً، وأعقبت سدماً، قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرّعتموني نغَب التهمام أنفاساً وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان».[٥]
فقوله يا أشباه الرجال ولا رجال تحمل دلالات نفسية ترتبط بانزعاجه من كثرة ما ماطلوا في الإنخراط في صفوف المجاهدين، وكثرة ما كانوا يتعللون به من حجج لتأجيل القتال من الصيف إلى الشتاء، ومن الشتاء إلى الصيف وغير ذلك مما آذى الإمام (عليه السلام) وأدمى قلبه حتى قال قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً ولو ربطنا السبب بالمسبّب، لأدركنا قصد الإمام (عليه السلام) حين يوبخ الرجال المتخاذلين بقوله (يا أشباه الرجال ولا رجال) وكلّ من يسمع هذا الكلام يُطأطئ راسه خجلاً من قوة أثر هذه العبارة العنيفة إذا ما عدنا إلى زمن الحدث، حيث كان الرجل منهم يفاخر برجولته وشجاعته وفروسيته، وعلمنا أنّ قائل ذلك هو أشجع الشجعان طرّا، وهو الذي كان في أول المجاهدين في سبيل الله في أشد المعارك قسوة وعنفاً، فكانت هذه الألفاظ كالسياط تلسع أجسادهم ولاسيما قوله ولا رجال أي أنكم بتهربكم من الجهاد كأنكم نساء تحتمون ببيوتكم وتلوذون بغيركم فأين رجولتكم وأين فروسيتكم التي تدّعون.
وحين يتمادى معاوية بن أبي سفيان في غيّه ويبالغ في جداله وادعائه مالا حق له فيه ويهدد الأمام (عليه السلام) ينفجر غضب الإمام في عبارات مؤثرة قاسية في تأنيب معاوية إذ يقول (عليه السلام) بفروسيّة ورجولة أبي الحسن «وقد دعوت إلى الحرب فدعِ الناسَ جانباً واخرج إليّ وأعفِ الفريقين من القتال ليُعلَم َأيّنا المرينُ على قلبه والمغطّى على بصره فأنا أبو حسنٍ قاتلُ جدّك وخالك واخيك شدْخاً يوم بدر، وذلك السيف معي، وبذلك القلب القى عدوّي، وما استبدلتُ ديناً ولااستحدثتُ نبيّاً، وإنّي لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين ودخلتم فيه مكرهين».[٦]
فانظر إلى قوة التاثير التي تزخر بها عبارات الإمام (عليه السلام) (فاخرج إليّ) (فأنا أبو حسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخاً) (وذلك السيف معي)(وبذلك القلب ألقى عدويّ) (وإنّي لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين ودخلتم فيه كارهين) عبارات تجلد من يخاطبه بأقسى السياط، يتحداه بقوة الفرسان، ويدخل الرعب في قلبه، بما يذكّره به من قتل جده وخاله وأخيه، في أول معركة خاضها المجاهدون المسلمون، وكان أبو الحسن إذ ذاك فتى في مقتبل العمر، فقتل مَن قتل حتى هُزم جيش المشركين، فما الذي تحدثه مقولة مثل هذه تصدر من بطل همام عرفت صولاته في نفس معاوية وهو يسمع (فأنا أبو حسن) وهو يعرف من هو أبو حسن ويعرف شهرة ذلك السيف الذي يلوح بريقه في مثار النقع فيسمع قوله (وذلك السيف معي) فهو لا يهدّده بسيفه وحده، بل يهدده بذلك القلب الذي ما خاف ولا وجل من لقاء الليوث والفرسان فيقول له: (وبذلك القلب ألقى عدوي)، ومعاوية يعلم أيّ سيف بيده، وأيّ قلب يحمل، فكيف يستقبل هذا الخطابَ المخيفَ المرعبَ الذي يهز كلّ جارحة من جوارحه، ويعصف بكل خلية من خلايا جسده، ولم يكتف الخطاب المرعب بإثارة الخوف في نفسه ‘ بل انتزع كلّ ما بنى عليه ادعاءه بأحقية الخلافة والولاية، فخاطبه بلغة صارمة تقتلع جذور ذلك الإدعاء الكاذب قائلاً وإنّي لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين ودخلتم فيه مكرهين عبارات موجزة رشيقة، ولكنها ملأى بألوان التقريع والتعرية وكشف الأقنعة عن الوجوه فالإمام يجزم مؤكداً أنه يحمل ذلك الإيمان المطلق بمنهاج الرسالة المحمديّة الذي ملأ قلبه، وشدّ ساعده، فقتل آباء معاوية بين يدي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو المنهاج الذي حاربه أبو سفيان ورهطه ومنهم معاوية نفسه، وهو المنهاج الذي لم يسلكه أبوه ورهطه طائعين مؤمنين بل دخلوا في الإسلام بعد أن فتح الله للمسلمين بسيف علي، وسيوف المجاهدين المؤمنين بهذا المنهاج الإلهي، وقد أُكرِه رهط أبي سفيان على الدخول حفاظاً على أنفسهم، وليس إيماناً بذلك المنها ج القويم فكانوا من الطلقاء.
وإني لأدرك أنّ أثر كلام الإمام هذا لا يقل أثراً في نفس معاوية من كلامه الذي هدده فيه بسيفه وقلبه، لأنه يهدم كلّ ما بناه معاوية في عقول أهل الشام من كذب ودجل وادعاء.
وقال (عليه السلام) مهدداً «ولعمري لئن لم تنزِع عن غيّك وشقاقك لتعرفنّهم عن قليل يطلبونك لا يكلفونك طلَبَهم في بَرّ، ولا بحر، ولا جبل، ولا سهل، إلا أنّه طلب يسوؤك وجدانه، وزَوْرٌ لا يسرّك لقيانه» وتظهر حدة التهديد وأثره في نفس المخاطب من ألفاظ القَسَم في قوله (لعمري) تتبعه اللام المُوَطّئة للقسم التي تفيد توكيد القسم واللام المؤكدة الداخلة في جواب القسم ونون التوكيد في(تعرفنّهم) وهذا الحشد في أدوات توكيد التهديد يثير الرعب في نفس المخاطب لأنه يدل على شدة العزم والتصميم على تحقيقه، فكيف إذا صدر عن رجل عُرف بصدقه وثباته على المبادئ والقيم العليا، مثل أمير المؤمنين ذي الصولات المرعبة.
وتدرك الأثر البالغ في عبارات أمير المؤمنين التي تقطر دماً وهو يخاطب أحد عماله وقد خانه ولم يسر على منهاجه القويم في قوله (عليه السلام): «فلمّا رأيت الزمان على ابن عمّك قد كلِب والعدو قد حرِب، وأمانةَ الناس قد خزِيتْ، وهذه الأمّةَ قد فنَكَتْ وشغَرَتْ قلبتَ لابن عمّك ظهر المِجَنَ، ففارقْته مع المفارقين، وخذلته مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمّك آسيتَ، ولا الأمانة أديتَ، وكأنّك لم تكن اللهَ تريد بجهادك، وكأنّك لم تكن على بيّنة من ربّك، وكأنّك إنّما كنتَ تكيد هذه الأمّةَ عن دنياهم، وتنوي غِرّتَهم عن فيئهم، فلمّا أمْكنَتْكَ الشدة ُفي خيانة الأمّة أسرعتَ الكرّةَ، وعاجلتَ الوثبة، واختطفتَ ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئبِ الأزلَّ دامية المعزى الكسيرة ِ».[٧]
وترى قوة التأثير في استثارة عواطف المخاطب والعودة إلى طبيعة النفس البشرية في قوله (عليه السلام) «فلمّا رأيت الزمان على ابن عمّك قد كلِب، والعدو قد حرب» فكأنه يعاتبه عتاب الأخ لأخيه: أفي هذا الوقت الذي تكالب فيه الأعداء على أمير المؤمنين وشنّ المتربصون بالإسلام الدوائر هجومهم على خلافته ليضعفوه ويحرّفوا الدين عن مساره، أفي هذا الوقت تقف أنت إلى جانب أعداء الله فتسرق مال الله، ومال الأيتام والأرامل، وتظهر قمة التأثير في توبيخه في قوله (عليه السلام) «كأنّك ـ لا أبا لغيرك ـ حدَرتَ إلى أهلك تراثاً من أبيك وأمّك، فسبحان الله ! أما تؤمن بالمعاد؟ أوما تخاف الحساب ؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب، كيف تسيغ شراباً وطعاماً وانت تعلمُ أنّك تأكل حراماً وتشرب حراماً ؟» فانظر إلى قوله ـ (عليه السلام) «كأنك ـ لا أبا لغيرك ـ حدرت إلى أهلك تراثاً من أبيك وأمك» تجد الألفاظ تجلده بسياط التوبيخ من أين لك هذا المال؟ هل هو إرث اكتسبته من أمك وأبيك ؟ لتحدر به إلى أهلك مسروراً وكأنك كسبت مالاً حلالاً من تجارة أو بيع ؟ ألا تعلم أنه سحت حرام ؟ ثمّ يجلده بسياط أمضى وأقوى بقوله متعجباً مستغرباً فسبحان الله، أما تؤمن بالمعاد ؟ سؤال ممضّ يغور في أعماق المخاطب فإن لم تؤمن بالمعاد فلست بمسلم مؤمن، وهل ترتضي أن تُحسب من الكافرين ؟ فإن كنت تؤمن بالمعاد فماذا ستقول لرب العالمين يوم تلقاه وظهرك ينوء بذنوب اغتصاب أموال اليتامى والأرامل ؟ ويزيد في التنكيل به بعبارات مؤثرة أيّها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب ولفظة (كان) في هذا القول ساحرة عجيبة السحر في أثرها في نفس المخاطب وفي استعمالها البنيوي، فما أقساها على المخاطب وهي تسقطه من عداد ذوي الألباب في حسابات ولي الله في أرضه، ومن يرتضي أن يكون فيما مضى من عمره ممن يعده أمير المؤمنين من ذوي الألباب الذين يفقهون القول ويحسنون الصنع ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ثمّ يصبح ذلك ماضياً في حساب الولي ولم يعد عنده الآن من ذوي الألباب، وسحر(كان) عجيب في استعمال فريد فالقول في المعهود (يا من كان عندنا معدوداً من ذوي الألباب غير أنّ الإمام عدل عنها لتكون في موقع يهز الوجدان ويثيرالإنتباه لدلالة (كان) على أنك لم تعد كذلك بل صرت من غير ذوي الألباب، وقد يعدها من لا يعرف طعم الأساليب البليغة زائدة في موقعها من الكلام لايغير وجودها وحذفها من معنى الكلام بل أرى أنّ استعمالها بهذا الوضع أعطى المعنى قوة تأثير غير اعتيادية تهز نفس من لم يعد في نظر الإمام علي (عليه السلام) من ذوي الألباب.
٢ ـ الإختزال في الألفاظ والإتساع في المعنى :
لعل من أبرز خصائص كلام أمير المؤمنين ـ علي (عليه السلام) هو اختزال الألفاظ، وقدرته على إيصال أكبر قدر من المعنى بتحميله إيحاءات تجعل المخاطب يذهب في تفسيرها مذاهب كثيرة، لاحتمال تعدد المعاني في البناء الجملي وهو في ذلك يسلك مسلك القرآن الكريم مع فارق المنشئ الذي يتفرد في القرآن عن سواه من البشر، لكن الإمام ـ (عليه السلام) الذي يحمل القرآن في طيات ذاكرته تأثر كثيراً بصياغات القرآن الكريم فهو يكثر من استعمال المصادر التي تحتمل أكثر من وجه بحسب ما يقدّر المخاطب كقوله (عليه السلام) «لقد نقمتما عليّ يسيراً، وأرجأتما كثيراً»[٨] فالوصفان (يسيراً) و(كثيراً) يحتملان أكثر من معنى إذ ربما أراد زمناً يسيراً أو نقماً يسيراً، وكذلك الحال في لفظة (كثيراً) إذ تحتمل معنى زمناً كثيراً، أو معنى (إرجاءً كثيراً)، ومثله قوله (عليه السلام) «أمهلوا طويلاً ومنحوا جميلاَ وحُذّروا اليماً ووعدوا جسيماً» فكل لفظة بعد الفعل هي وصف لمقدّر يناسب المعنى المقصود.
ومن جميل اختزاله قوله لأبي موسى الأشعري وهو غاضب عليه لتثبيطه الناس عن الخروج إليه لمّا ندبهم لحرب أصحاب الجمل «فإن حقّقت فانفذ ْ، وإن تفشّلْتَ فابعُدْ، وأيمُ الله لَتُؤْتيَنّ حيث أنتَ، ولا تُتركُ حتى يُخلطَ زُبْدُكَ بخاثركَ».[٩]
الرسالة تزخر بالمعاني وإن قلّت ألفاظها فالإمام (عليه السلام) دعاه في كلام سابق إلى الإستعداد لمحاربة أعداء الإسلام، وحشد الناس لذلك، والتأهب للقتال، ثم شرط عليه شرطاً موجزاً بألفاظه (فإن حقّقت) أي حقّقت وأنجزت ما أمرتك بإنجازه وجواب الشرط (فانفذ) أي فاقدم أنت وجندك إلينا، فالشرط لفظة واحدة ولكنّ خلفها معاني كثيرة، ومتعلقات لم تذكر في الكلام وكان جواب الشرط لفظة واحدة ضمّت في طياتها معاني كثيرة، ومثلها الجملة المعطوفة عليها (وإنْ تفشّلتَ فابعُدْ، أي إن جبنت وضعفت وتخاذلت ولم تحشّد الناس للجهاد فابعد عن مكانك الذي أنت فيه، وولايتك للمدينة التي أنت والٍ عليها ثمّ سلّم الولاية إلى من يخلفك فيها)، وانظر إلى تهديد الإمام (عليه السلام) (وأيمُ الله لتؤتينّ حيث أنت) وهذه الجملة فيها إيحاءات متشعبة فقوله (لتؤتينّ) تعني في ظاهرها لياتينك من الجند والمجاهدين من يتولى أمرك ويعزلك من الولاية، وتحمل معنى آخر هو ليأتينك حتفك حيث تكمن، وتعني كذلك أنك لن ينفعك اختفاؤك فسوف تدور بك الدوائر وتخرج من جحرك الذي تكمن فيه.
أمّا قوله (حيث أنت) فمن أدق الكلام وأوجزه إذ المعروف أنّ حيث تختص بالإضافة إلى الجمل لذا يكون الضمير (أنت) في تقدير جملة (حيث أنت كامن) ولكن الإمام (عليه السلام) أراد معنى أبعد من ذلك أي ليأتينك من يقبض عليك في أي مكان تكون فيه، أو تهرب إليه، والدليل على ذلك قوله في مكان آخر من الرسالة فإن كرهتَ فتنحّ إلى غير رحبٍ ولا في نجاة .[١٠]
ثمّ تأمّل في قوله (عليه السلام)«تجهّزوا رحِمَكم اللهُ فقد نُودي فيكم بالرحيل وأَقِلّوا العُرْجَةَ على الدنيا».[١١]
ولو تأملنا في قوله (تجهّزوا) لوجدناها مشحونة بالمعاني التي يوحي بها استعمالها، فمن ينوي السفر إلى مكان آخر يهيئ لنفسه من الزاد والماء والملبس ما يكفيه مدة السفر لكنّ الإمام (عليه السلام) لا يعني زاد السفر لأن الرحيل في قوله (فقد نودي فيكم بالرحيل) لايعني السفر في الحياة الدنيا المعروف، بل اراد الرحيل من الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرى في ضوء قوله تعالى {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} فلفظة ( تجهّزوا) تعني اعملوا الصالحات وأعمال الخير بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء الفرائض كلها وبر الوالدين والإحسان لذي القربى وصلة الرحم، وتحقيق كل ما أمر به الإسلام، والإبتعاد عمّا نهى عنه ولو أنعمنا النظر في قوله (عليه السلام) (فقد نودي فيكم بالرحيل) لوجدنا أنها مشبعة بالمعاني، فالرحيل كما قلتُ هو الموت ولكن لِمَ قال الإمام نودي فيكم وهو لايقصد واحداً بعينه لكون الآجال متفاوتة، لا تأتي في وقت واحد، والجواب أنّ العبارة مختصرة والمنادي مجهول فقد يعني الإمام أن الموت لابدّ منه وكل ابن أنثى لابدّ من أن يموت مهما طال به العمر.
وقد قال تعالى «إنّك ميّت وإنهم لميتون»[١٢] وقد يعني أن علامات الموت من ظهور الشيب وضعف البدن وكثرة الأمراض تنادي المؤمن ليأخذ أهبته للرحيل، وقد يعني أنّ من يموتون أمام أعينكم هم السابقون وأنتم اللاحقون وسوف ينالكم ما نالهم طال أو قصر الزمن، كل تلك المعاني وغيرها تحملها جملة الإمام الموجزة فالإمام (عليه السلام) يحذّرهم من حب الدنيا إلى حد نسيان الآخرة كما صرح في أكثر من قول، ويأمرهم بالإقلال من الإنشغال بالدنيا قائلاً «وأقلّوا العُرجة على الدنيا» والعرجة تعني إطالة المقام فإذا أراد المرء الإقامة ربط مطيته بباب الدار فيقولون ما لي عليه عرجة إذا لم يرد الإقامة عنده، قال الخليل «والتعريج حبسك مطيتك ورفقتك مقيماً على رفقتك أو لحاجة وما لنا عُرجة بموضع كذا أي مقام».[١٣]
فكيف يقلّ المرء من الإقامة في الحياة وله أجل مسمّى لايعلمه وهل عرجته بيده؟ الجواب يفسر ما نحن بقصد تبيانه فالإمام لا يقصد الإقلال من الإقامة في الحياة الدنيا بل يريد الإقلال من التشبث بالحياة الدنيا وتوجيه حياته كلها لجمع المال والإستحواذ على الملذّات حلالها وحرامها، بل ينبغي أن يدرك المرء أنه ميّت لامحالة فينظر إلى آخرته ويجعل أعماله في الدنيا تمهّد لسعادته في الآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا ٠وقد قال (عليه السلام) في المعنى نفسه «واتقوا الله عبادَ الله، وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم، وترحّلوا فقد جُدّ بكم واستعدوا للموت فقد أظلّكم».[١٤]
وهذا القول لا يقل اختزالاً عن سابقه، فقوله (عليه السلام) «اتقوا الله» يريد بها اتقوا غضب الله فلا تقربوا أعمال السوء وقوله «بادروا آجالكم» فيه حنكة في صياغة بناء الجملة تثير الإعجاب لأنّ بادروا تعني أسرعوا قال الجوهري «بدر إلى الشيء: أسرع وبابه دخل وبادر إليه أيضاً، وتبادر القوم: تسارعوا وابتدروا السلاح تسارعوا إلى أخذه».[١٥]
والنكتة في بناء هذا الكلام أنّ الموت هو الذي يسرع إلى المرء فيبغته أمّا أن يبادر الإنسانُ الموتَ فالمراد بذلك التهيؤ لاستقبال الموت قبل قدومه، وذلك بتوقع حلوله في كل وقت، فيأخذ أهبته لما بعد الموت، بعمل الخيرات، والتزود بالتقوى والإعتقاد بأنّ كل ما في الدنيا زائل، وأنه لايعدو أن يكون زينة لأيامه، وأنّ الباقيات الصالحات خير وأبقى، وقد اختزل الإمام كل هذه المعاني بقوله بادروا آجالكم بأعمالكم على الرغم من معرفته بأنّ لكل امرئ أجلاً غير أجل غيره لذا جاء بالجمع لأنه قصد أنّ كلّ مسلم يبادر أجله على شاكلته وبطريقته التي تناسبه لأنّ قدراتنا في مبادرة آجالنا متفاوتة بقدر درجات الإيمان والتقوى.
ويعزز ما نذهب إليه قوله وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم وهو قول بليغ يعجز عن الإتيان به فطاحل الشعراء والخطباء، فلا يريد الإمام بيعاً أو شراء في سلع أو حاجيات بل أراد اشتراء ما ينفعه يوم القيامة لأن معنى(ابتاعوا: اشتروا والمرء لا يشتري في الحقيقة بل يعمل الأعمال الصالحة التي تبقى وتنفعه في الآخرة كإطعام اليتامى والمسكين والإنفاق في سبل الخير وإعانة المعوزين وبذلك يقول الإمام ـ (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن ـ (عليه السلام) «وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمّله إياه٠ وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه فلعلك تطلبه فلا تجده٠ واغتنم من استقرضَك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك».[١٦]
والكلام في النصين واحد وإن اختلفت أساليبه فالإمام علي ـ (عليه السلام) كما ذكرت يعيش في غربة بين الناس الذين يكنزون الذهب والفضة ويسعون لدنياهم ولا يعملون لآخرتهم فيحزنه ذلك ويؤلمه لذا كانت أكثر وصاياه للناس أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله ليجدوا ذلك عند الله محفوظاً يخفف عنهم ذنوبهم ويدخلهم جنات الخلد. فالكلام مختصر لكن دلالاته مستفيضة أوجزت بعضها بما ينفع للتمثيل فقط.
٣ ـ الإتساق والإنسجام :
أولى النقاد العرب الإتساق والإنسجام جلّ عنايتهم وعدوه من معايير الجودة في النظم، ويتم بوضع بعض الفصول والمعاني من بعض بشكل أفضل بالنظر إلى أول الكلام ومنعطفه وخاتمته.[١٧]
كما أولى الباحثون في نحو النص اهتماماً كبيراً باتساق النص وانسجام مكوناته، قال محمد خطابي «يحتل اتساق النص وانسجامه موقعاً مركزياً في الأبحاث والدراسات التي تندرج في مجالات تحليل الخطاب، ولسانيات الخطاب/ النص، ونحو النص وعلم النص حتى إنّنا لا نكاد نجد مؤلفاً، ينتمي إلى هذه المجالات خالياً من هذين المفهومين أو من أحدهما أو من المفاهيم المرتبطة بهما كالترابط والتعالق وماشاكلهما».[١٨]
ومن يتأمل في كلام الإمام علي (عليه السلام) يجد أنّه يتصف باتساق عباراته في نظم متوافق في ألفاظه وجمله ومقاطعه فترى العبارات والجمل بأنساق متوازية ومتقاربة فهو ينحت الجمل نحتاً ويصوغها ببراعة ويستطيع كل باحث أن يجد تناسب الألفاظ في الجمل بسهولة ويسر انظر إلى قوله (عليه السلام):
يحيون على فَتْرَة - ويموتون على كَفْرَة
فاتقوا سكرات النّعْمَة - واحذروا بوائق النّقْمَة
طُلُوع جنينِها - وظهور كمينها
شبابها كشباب الغلام - وآثارها كآتار السلام
فتزيغ قلوبٌ بعد استقامة - وتضلُّ رجالٌ بعد سلامة
وتختلفُ الأهواءُ عند هجومها - وتلتبسُ الآراءُ عند نجومها.[١٩]
فلو وازنت بين كل جملتين من الجمل المتسقة لوجدت أنّ الإمام (عليه السلام) يجانس بين اللفظة وما يقابلها (يحيون) و(يموتون) فهما متناظرتان ومتضادتان في المعنى وبعد كل فعل حرف الجر المتعلق به (على).
وانظر إلى كلّ من اللفظتين (فترة) و(كفرة) تجدهما بصيغة واحدة هي (فَعْلَة) كما تجد المعنى في الجملتين مترابطاً ومتصلاً بعضه ببعض٠ ثمّ انظر إلى الجملتين الأخريين تجد التجانس بين الألفاظ واضحاً إذ جاء الفعلان بصيغة الأمرالمسند إلى الواو في الجملتين(فاتقوا) (واحذروا)، والمفعول به بصيغة الجمع في كلا الجملتين، وإن اختلف نوع الجمع في المفعولين (سكرات) و(بوائق) وستلمس التجانس واضحاً في المضاف إليه في الجملتين (النعمة) و(النقمة) من حيث الصيغة والتأنيث والتعريف مع مراعاة المقابلة بالضد في معنى اللفظتين، وتلمس التناسق في الألفاظ وكأنها وزنت بميزان في قوله (طلوع جنينها) و(وظهور كمينها)، فأورد في كلّ منهما مصدراً مماثلاً للآخر في صيغته (طلوع وظهور) وراعى المساواة في نوع المضاف إليه ووزنه وما أضيف إليه من ضمير.
وليس بنا حاجة إلى مزيد فحص وموازنة في الجملتين التاليتين لمعرفة وجوه التناظر بين كل ركن من أركانهما، وكذلك الحال في الجملتين الأخيرتين فهما مكونتان من فعل مضارع (فتزيغ، وتضلّ)، وفاعل نكرة مجموع جمع تكسير (قلوب، رجال) وظرف تكرر في الجملتين (بعد) ومضاف إليه متجانس في صيغته (استقامة، سلامة) فالجمل التي اخترتها من خطبة واحدة تدل على أنّ خطاب الإمام ينثال بجمل متسقة في بنية أركانها وكأنه يصوغها بترتيب ومواءمة بين الألفاظ ليشد السامع إليه في حسن انتقائه للألفاظ المتناظرة في صيغها وأدواتها ولبيان نمط المجانسة في الصيغ تأمّل في نص يظهر فيه حبه لله عزّ وجلّ ولاحظ استعماله صيغة (ما أفعل) التعجبية فيه قال (عليه السلام) «ما أعظم ما نرى من خلقكَ، وما أصغر َعظيمَه في جنب قدرتك، وما أهول ما نرى من ملكوتكَ، وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك، وما أسبغ نعمَكَ في الدنيا، وما أصغرَها في نِعَمِ الآخرة».[٢٠]
فقد كرر الصيغة التي عدّها النحاة قياسية في التعجب، وهو يدرك (عليه السلام) أن تكرارهذه الصيغة في هذا المقام الذي تتوالى فيه نعم الله وصفاته التي ينبغي أن تحاط بهالات الإجلال والتعظيم تتسق مع المقام، فأكثر (عليه السلام) منها لتتحقق المجانسة بين مكونات النص والمعنى المقصود ويتجلى ذلك في ورود (ما أفعله) في عدد من الجمل بمقابلة طريفة في المعنى فيضع الصيغة وما يقابلها في المعنى (ما أعظم وما أصغر) (ماأهولَ وما أحقر) (ما أسبغ وما أصغر) ولا نجد مللاً في تكرار الصيغة بل نجد تجانساً أسبغ على النص حلاوة وجمالاً.
ثم يُتبع ذلك بتكرار صيغة أخرى مشابهة لها ومناسقة هي (أفعل) التفضيل في قوله عن الملائكة «من ملائكة أسكنتهم سماواتك، ورفعتهم عن أرضك، هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقربهم منك».[٢١]
ومثله قوله (عليه السلام) في وصف من أحبهم من المؤمنين «ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً، وأضيق اهل الدنيا حالاً».[٢٢]
وربما تظهر المجانسة في ترتيب الجملة كالتقديم في متعلقات الفعل من مفعولات أو حروف جر فلو دققنا في الجمل الآتية «فلا الداعيَ أجابوا، ولا فيما رغّبتَ رغِبوا، ولا إلى ما شوّقتَ اشتاقوا».[٢٣]
لألفينا أنّ الإمام (عليه السلام) قدّم المفعول به، وحرفي الجر(في)(إلى) في نسق جميل، وقد تجد التناسق في ترتيب بنية الجملة في تقديم جواب الشرط على الأداة وجملة الشرط في نحو قوله (عليه السلام) في حديثه عن أحبائه الزاهدين في الحياة الدنيا «إنّ الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإنْ ضحكوا، ويشتد حزنهم وإنْ فرحوا، ويكثر مقتُهم أنفسَهم وإنْ اغتبطوا بما رُزقوا».[٢٤]
وفي هذه التراكيب يرى النحويون أنّ جواب الشرط محذوف لدلالة ما تقدّم عليه.[٢٥]
ولا نميل إلى ذلك ونرى أنّ ما ذهب إليه المبرد في جواز تقدم الجواب على أداة الشرط وفعله مما يجيزه العرب.
وقد يكون التناسق في نوع الجملة فتتبع الفعلية مثيلتها والاسمية نظيرتها نحو قوله (عليه السلام) للمسلمين وقد فرّق بينهم خبث السرائر وسوء الضمائر «فلا توازرون ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادّون»[٢٦] نسق من الجمل الفعلية المنفية بـ (لا).
ويقول في حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلّم) في نسق مماثل من الجمل الإسمية «عترتُه خيرُ العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرتُه خير الشجر... فهو إمام من اتقى وبصيرة من اهتدى، سراج لمع ضوؤه وشهاب سطع نوره، وزند برق لمعه، سيرته القصد، وسنته الرشد وكلامه الفصل وحكمه العدل».[٢٧]
وأرى أنّ هذه الهندسة في نظم الكلام والقدرة الفائقة على مواءمة الألفاظ ونسق الجمل في مجاميع متناسقة متآلفة تمنح النص حيوية ونضارة وجمالاً تجعل المخاطب مشدوداً إلى سحر هذا البيان، يستقبله بتأثر وانفعال وتعاطف مع المنشئ فيما يذهب إليه ٠
٤ ـ التجانس بين مكوّنات الجملة :
تمتاز نصوص نهج البلاغة بانسجام الألفاظ في الجملة، وفي المقطع، فلا تجد تنافراً بين تلك المكونات، ولا تباعداً في المعاني، ولو تأملنا مليّاً في وصف الإمام ـ (عليه السلام) ـ المخيف لمصير الإنسان ومآله بعد عيش رغيد لوجدنا الجمل تتناسق مكوناتها وتتآلف بعضها مع البعض الآخر وقد آثرت أن أنقل مقطعاً من النص ليكون شاهداً على ما نقول نستطيع من خلاله الغوص في أعماق بنية النص ودراسة التجانس بين مكونات بنية الجملة في ضوء سياق النص قال الإمام « فمات في فتنته غريراً، وعاش في هفوته يسيراً، لم يفد عوَضاً، ولم يقضِ مُفْتَرَضاً، دهمَتْه فَجَعَاتُ المنيّة في غُبَّر جِماحه، وسَنَن مِراحه، فظل سادراً، وبات ساهراً في غمَرات الآلام، وطوارق الأوجاع والأسقام، بين أخٍ شقيقٍ، ووالد شفيقٍ، وداعيةٍ بالويل جزعاً، ولا دمةٍ للصدر قلَقاً، والمرءُ في سَكرة مُلهيةٍ، وغمرة كارثةٍ، وأنّةٍ موجعةٍ، وجذبةٍ مُكربة , وسَوقةٍ متعبةٍ، ثمّ أُدرجَ في أكفانه مُبلِساً، وجُذبَ منقاداً سلساً ثُمّ ألقي على الأعوادِ، رجيعَ وَصَبٍ، ونِضوَ سَقَمٍ تحمله حفَدَةُ الوِلدان، وحشدة الإخوان إلى دار غربته، ومنقطع زَوْرَته حتى إذا انصرف المشيّع، ورجع المتفجّع أُقعِدَ في حفرته نجيّاً لبهتةِ السؤال وعثرَة الإمتحان، وأعظم ما هنالك بليةً نزول الحميم، وتصلية الجحيم، وفورات السعير وسورات الزفير، لا فترةٌ مريحةٌ ولا دَعَةٌ مزيحةٌ، ولا قوّةٌ حاجزةٌ، ولا موتةٌ ناجزةٌ، ولا سنة مسلّية بين أطوار الموتات، وعذاب السعرات».[٢٨]
فلو دققنا في مكونات هذا النص لوجدنا المكونات متجانسة ففي قوله (فمات في فتنته غريراً) و(عاش في هفوته يسيرا) تتكون كل جملة من (فعل + جار ومجرور + اسم منصوب) وفيهما الفعلان متضادان في المعنى والاسمان المنصوبان متجانسان في اللفظ وإن اختلف الموقع الإعرابي لكل منهما، ذلك أنّ الأول حال، والثاني نعت لظرف مستغنى عنه، فالاسمان فضلتان والفضلة والجار والمجرور في الجملتين من متعلقات الفعل والجملتان الأخريان تجانست مكوناتهما (لم يفد عوضاً) (لم يقضِ مفترضاً) دخلت (لم) في الجملتين على ما تختص بالدخول عليه وهو الفعل المضارع واسند كل فعل إلى مسند إليه يدل على الغائب و الاسمان المنصوبان متجانسان في الموقع واللفظ، ولم يرد في هذه الجمل ما هو غريب أو طارئ في بنيتها.
ولاحظ قوله (فظلّ سادراً، وبات ساهراً) فالإنسجام في مكونات الجملتين واضح، ففي كلّ منهما فعل ناقص واسمه ضمير يدل على الغائب استغني عن ذكره يتبعه وصف منصوب سمّاه البصريون خبراً والكوفيون حالاً.[٢٩]
وقد تعلّق بالوصفين جار ومجرور (في غمرات الآلام)، وعطف عليهما ما يجانسهما من حيث الإضافة والجمع (وطوارق الأوجاع والأسقام) ولو عدنا إلى دلالة تلك المكونات وارتباط بعضها ببعض معنوياً لوجدنا أنّ الفعل مات في قصد الإمام (عليه السلام) يرتبط بما يحذر منه من سدر المرء في غيّه حتى يفجأه الموت، وقد مرّ بنا قوله «بادروا آجالكم بأعمالكم» وهو القائل أيضاً «فبادروا المعاد وسابقوا الآجال».[٣٠]
لذا قال «مات في فتنته غريراً» أي مات وهو منغمس في فتن الشيطان غافلٌ عما سيحدث له، وعاش في هفوته يسيراً أي عاش حياته زالّاً عن الطريق الصواب، منحرفاً عن الصراط المستقيم، فلم يمض عليه وقت طويل حتى وجد الموت يطبق عليه٠ فاستعمال (غريراً) مع الفعل (مات) واستعمال (يسيراً) مع الفعل عاش يدل على انسجام بين الفعل والاسم المنصوب بعده.
ولاحظ الإنسجام بين(ساهراً) وما تعلّق به في قوله: (في غمرات الآلام) و (طوارق الأوجاع والأسقام) ذلك أنّ شدّة الآلام، ووكثرة ما يطرقه من الأوجاع والأمراض، تحرمه من النوم فيظل ساهراً لعدم تمكنه من النوم ٠ويظل ساهراً (بين أخ شقيق...).
و(بين) ظرف مكان متعلق بـ (ساهراً) فهو مسجى بين أقاربه لايردون عنه الألم ولا يمنعون عنه السهر، كما قال تعالى «فلولا إذا بلغت الحلقوم، وأنتم حينئذٍ تنظرون[٣١]».[٣٢]
وانظر إلى الاسمين (جزعاً) و(قلقاً) تجد الإنسجام بينهما وبين العامل في نصبهما كما يرى النحويون.
فالداعية بالويل والثبور لا يصدر عنها ذلك إلاّ لجزعها ونفاد صبرها، ولا تلدم صدرها إلاّ حين ترى هذا العزيز يعاني من تلك الآلام فتقلق على مصيره، لذا قال (داعية) في الأولى و(لادمة) في الثانية.
وانظر في دلالة النعت والمنعوت فيما بعد هذه الجمل تجد الإنسجام بين الصفة والموصوف في قوله: والمرء في: (سكرة مُلهية) و(غمرة كارثة) و(أنّة موجعة) و(جذبة مكربة) و(سوقة متعبة) فسكرة الموت تلهي المرء عن كل ما يحيط به من أولاد وزوجة وزينة ومال، وغمرات الموت: شدائده، وفي لحظات الشدة يعيش في مصيبة وكرب يملكان عليه كلّ جوارحه ويقطعان كل آماله فوصف الغمرة بالكارثة منسجم في دلالته، وكذلك قوله (وأنّة موجعة) فالأنّة والزفرة تدلان على ما يقاسيه هو من آلام، أو أنّ الأنة تثير في نفوس المحيطين به الآلام والأوجاع.
ومثلها في الإنسجام (وجذبة مكربة) ويريد بالجذبة تصاعد الأنفاس في لحظات الموت وهي تثير الكرب والحزن والتشاؤم لأن تلك الجذبات توحي بانتهاء الحياة.
ومثلها سوقة الأنفاس التي تتعب الميّت وتنهكه، فالأوصاف منسجمة يوضح بعضها بعضاً وكلها تصب في معنى واحد يزيد من تماسك النص لانسجام مكوناته وانظر بتأمل في الجمل التي تبدأ بالأفعال المبنية للمجهول (أُدرِج) و(جُذِب) (اُلقي) وتدبّرفيما بعد كل فعل تجده منسجماً تمام الإنسجام، فالميت لا حول له ولا قوة بعد موته، لن يعمل شيئاً بل يصبح مستسلماً يعمل فيه الناس ما يلزمه قبل دفنه، ومما يلزمه هو إدراجه في كفنه، وتأمل بعمق في (مبلساً) و(منقاداً) و(سلساً) (رجيع وصبٍ) و(نضو سقَم) تجد أن الميت مطاوع ويائس لايعترض ولا يقاوم لأنّ قواه قد انهارت فهو مهزول الجسم متعب، ويدل على ذلك أن الفعل لم يبن للفاعل بل بُني للمجهول وجاءت المنصوبات دالة على الخنوع واليأس والإستسلام، ونلاحظ الإنسجام بين الفعل وفاعله ومتعلق الفعل في قوله: تحمله حفدةُ الولدانِ، وحشدة الأخوان، إذ أنّث الفعل لجمع التكسير المنتهي بالتاء (حفدة وحشدة) مجانسة للفظ وأفرد الفعل للفاعل في قوله «انصرف المشيّع ورجع المتفجع» ولم يقل(المشيعون) أو(المتفجعون) لأنه لايريد كثرتهم أو قلّتهم بل أراد جنس المشيعين وجنس المتفجعين.
ومن يتتبع مكونات الجمل الأخرى يجد التجانس بين مكونات الجمل واضحاً بين الأفعال وفاعليها ومتعلقاتها وبين الموصوفات وصفاتها والأحوال وأصحابها فلا تنبو لفظة عن اختها ولا تتنافر واحدة مع الأخرى.
وهذا التجانس بين مكونات النص يشدّ أواصر تلك المكونات ويزيد من تلاحمها وتماسكها حتى يبدو النص وحدة متكاملة.
--------------------------------------------------------------------
[١] . آل عمران ٦١.
[٢] . نهج البلاغة ٢/١٥٧.
[٣] . المصدر نفسه ٢/١٥٧.
[٤] . مباديء اللسانيات ٣٥٧.
[٥] . نهج البلاغة ١/٧٠.
[٦] . المصدر نفسه ٣/١١-١٢.
[٧] . المصدر نفسه ٣/٦٥-٦٦.
[٨] . المصدر نفسه ٢/١٨٤.
[٩] . المصدر نفسه ٣/١٢١.
[١٠] . المصدر نفسه ٣/١٢٢.
[١١] . المصدر نفسه ٢/١٨٣.
[١٢] . الزمر٣٠.
[١٣] . كتاب العين ١/٢٢٣ وينظر المختار من صحاح اللغة ٣٣.
[١٤] . نهج البلاغة ١/١٠٩-١١٠.
[١٥] . المختار من صحاح اللغة ٣٢.
[١٦] . نهج البلاغة ٣/٤٦-٤٧.
[١٧] . منهاج البلغاء ٢٠٠.
[١٨] . لسانيات النص مدخل الى انسجام الخطاب ٥.
[١٩] . نهج البلاغة ٢/٣٧-٣٨.
[٢٠] . المصدر نفسه ١/٢١٠.
[٢١] . المصدر نفسه ١/٢١٠-٢١١.
[٢٢] . المصدر نفسه ٢/١٥١.
[٢٣] . المصدر نفسه ١/٢١١.
[٢٤] . المصدر نفسه ١/٢٢٢.
[٢٥] . المقتضب ٢/٦٩ وينظر مغني اللبيب ٢/٣٨٥-٣٨٦وشرح ابن عقيل ٣/١٠٤.
[٢٦] . نهج البلاغة ١/٢٢٢.
[٢٧] . المصدر نفسه ١/١٨٥.
[٢٨] . المصدر نفسه ١/١٤٤-١٤٥.
[٢٩] . التبيين عن مذاهب النحويين ٢٩٥.
[٣٠] . نهج البلاغة ٢/١١٢.
[٣١] . الواقعة ٨٣ ـ٨٤.
[٣٢] . الخطاب النفسي في القرآن الكريم ٢٠٦-٢٠٨.
يتبع .....