وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                

Search form

إرسال الی صدیق
بنية الخطاب النفسي في نهج البلاغة – الثاني
الاستاذ الدكتور: كريم حسين ناصح الخالدي

٥ ـ التداخل النصي :

وهي خاصية  واضحة في نصوص نهج البلاغة عموماً والنصوص المعبرة عن المعاني النفسية خصوصاً، ونقصد بالتداخل امتزاج نصوص الإمام علي (عليه السلام) بنصوص أخرى وهو ما يطلق عليه أحياناً (التناص) وهنا أقرر حقيقة لفتت نظري من خلال تتبع نصوص نهج البلاغة ونصوص  الصحيفة السجادية وخطبة السيدة فاطمة (عليها السلام) والخطب المأثورة عن الأئمة من آل البيت أنّها متداخلة ومتناظرة وبمستوى متقارب لأنها جميعاً تغترف من منبع واحد هو القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ولا أجد غرابة في تداخل نصوص نهج البلاغة بنصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف لأنّ من يدرس سيرة الإمام علي  (عليه السلام) وملازمته للنبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وسماعه وحفظه القرآن الكريم ومعرفته كلّ ما يتعلّق بسوره وآياته وأسباب نزوله ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه وسماعه ما نطق به رسول الله (صلّى اله عليه وآله وسلّم) في كل مناسبة وفي كل مقام، يدرك أنّ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف يعيشان في عقل الإمام ووجدانه ومشاعره وأحاسيسه فامتزجت ألفاظه بألفاظ القرآن الكريم وجرت جمله على لسانه وكأنها جزء من ثروته اللغوية والأسلوبية ومن يستقص مفردات القرآن وتراكيبه في نهج البلاغة يجد معجماً كبيراً.

ومن تلك التداخلات النصية قوله (عليه السلام): «واصبروا  لها أنفسكم».[١]

وهو نصّ يتداخل مع قوله تعالى «واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ».[٢] مع فارق في الاستعمال حيث ورد الفعل (اصبر) متعدياً بنفسه في القرآن الكريم على حين تعدى بحرف الجر في كلام الإمام ـ (عليه السلام) (إلى أنفسكم).

وقوله (عليه السلام) «استمسكْ من العرى بأوثقها» وهو يتداخل مع قوله تعالى«فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها».[٣]

وقوله تعالى «ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى».[٤]

مع اختلاف في البنية لايغير كثيراً في المعنى إذ وردت العروة مجرورة بحرف الجر(الباء) وموصوفة بلفظة (الوثقى)على حين وردت في كلام الإمام (عليه السلام) مجرورة بحرف جر آخر هو (من) وجاءت الوثقى بصيغة (أفعل) وأضيفت إلى الضمير(ها) العائد على العروة.

ونستطيع الربط بين قوله (عليه السلام) «قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السدر المخضود وحلالها بعيداً غير موجود، وصادفتموها والله ظلاً ممدوداً إلى أجل معدود».[٥]

وقوله تعالى: «واصحاب اليمين  ما أصحاب اليمين في سدر مخضود، وطلح منضود وظلّ ممدود»[٦] إذ تجد الإمام (عليه السلام) اقتبس من الآية الكريمة (السدر المخضود) والفرق بين الاستعمالين انها وردت في الآية الكريمة بنكرتين ووردت في كلام الإمام معرفتين، واقتبس (عليه السلام) من السورة نفسها (ظلاً ممدوداً) والفرق بين نص الإمام والآية الكريمة مجيء اللفظتين في كلام الإمام منصوبتين وفي الآية الكريمة مجرورتين.

وكذلك قوله (عليه السلام) «أفٍ لكم لقد سئمتُ عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عِوضاً» يلتقي مع قوله تعالى «يا أيّها الذين آمنوا ما لكم إذا قِيْلَ لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليلٌ».[٧]

فالنصان يلتقيان في الألفاظ والبناء والمناسبة وهي توبيخ المتخاذلين عن الجهاد.

ويتضح هذا التداخل في النصوص في قوله (عليه السلام) «قد وكّل بذلك حَفَظَةً كراماً لا يسقطون حقّاً ولا يثبتون باطلاً واعلموا أنّه مَنْ يتقِ اللهَ يجعلْ له مَخرجاً من الفتن ونوراً من الظُلَمِ».[٨]

وفيه تداخل في موضعين الأول قوله «قد وكّل بذلك حفظة كراماً» وهو مستوحى من قوله تعالى «وإنّ عليكم لحافظين، كراماً كاتبين».[٩]

والموضع الآخر قوله عليه  السلام «واعلموا أنه من يتقِ اللهَ يجعل له مخرجاً من الفتن» وهو مستوحى من قوله تعالى «ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب».[١٠]

والفرق في الموضعين بين النص القرآني ونص الإمام  هو اتيانه (عليه السلام)  بجمع تكسير (حفظة) وفي الاية الكريمة (لحافظين) بصيغة جمع المذكر السالم وتكرر(كراماً) في النصين وصاغ الإمام من معنى (كاتبين) جملة (لايسقطون حقا ولا يثبتون باطلا وهذا لايختلف في معناه عن لفظة (كاتبين).

 ويلتقي قوله (عليه السلام):  وإنّ للذِكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً فلم تشغلهم تجارةٌ ولا بيعٌ عنه  مع قوله تعالى «رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله»[١١].

ويأخذ الإمام علي  (عليه السلام) كثيراً من ألفاظه ومعانيه من القرآن الكريم كقوله (عليه السلام) مخاطباً معاوية  ولمّا أدخل الله العربَ في دينه أفواجاً وأسلمت له هذه الأمة طوعاً وكرهاً كنتم ممن دخل في الدين إمّا رغبةً وإمّا رهبةً على حين فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم فلا تجعلنّ للشيطان فيك نصيباً ولا على نفسك سبيلا).[١٢]

وفي هذا النص أكثر من تداخل نصّي فقوله (عليه السلام) فلما أدخل الله العربَ في دينه أفواجا) مستوحى من قوله تعالى «إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبّح بحمد ربك واستغفرْه إنّه كان توّابا» والفرق بين نص الإمام والآية الكريمة أنّ الإمام ـ (عليه السلام)  ـ قال  أدخل الله  بدلاً من يدخلون في هذا المقام الذي يردّ فيه على تبجح معاوية بدخول الإسلام  ليشعره بأنّ الله تفضل على العرب بدخولهم في الإسلام وأنّ دخولك لم يكن إيماناً بل كان رهبة من سيوف المسلمين أو طمعاً في أموال دولة  المسلمين وما أفاء الله به عليهم من خيرات.

وفي ذلك تبكيت وتوبيخ. وقوله  طوعاً وكرهاً  مستوحى من قوله تعالى «وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً».[١٣]

وقوله (عليه السلام)  على حين فاز أهل السبق بسبقهم  مستوحى من قوله تعالى «والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنّات النعيم».[١٤]

أو قوله تعالى «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصاروالذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم».[١٥]

وفي هذا النص اختار من الآيتين ما يناسب الموقف لمن يدعي الإسلام أنّ فضله ليس كفضل السابقين والأولين من المهاجرين والأنصار.

وما أوردته من نصوص أمثلة قليلة، ومن يستقص وجوه التداخل النصيّ في نهج البلاغة وما يستوحيه من القرآن الكريم  يجد عجباً.

ولو استعرضنا الأمثلة التي أوردتها ونظرنا فيها بعمق لوجدنا أنّ التداخل  قد يكون  إمّا:

١ ـ تداخلاً لفظياً إذ يجعل الإمام (عليه السلام) معجمه مستمداً من معجم ألفاظ القرآن الكريم فهو(عليه السلام) يميل  إلى استعمال الألفاظ القرآنية في عباراته وجمله التي تعبر عن مشاعره وأحاسيسه وأفكاره لأنها ألفاظ تعيش في عالمه اللغوي واستعمالاته اليومية  لحفظه القرآن الكريم واستيعاب معانيه ودلالات ألفاظه.

٢ـ تداخلاً في جزء من مكونات الكلام بذكر لفظين أو أكثر من الآية الكريمة ٠

٣ ـ  تداخلاً  يقتبس  فيه الإمام  (عليه السلام)  آية ويزيد عليها لفظاً أو لفظين  من كلامه بحسب ما يتطلبه المقام.

٤ ـ تداخلاً يخلط فيه الإمام (عليه السلام) كلامه بألفاظ قرآنية ممتزجة  بألفاظه المقرّبة لألفاظ القران الكريم وبروح قرآنيّة متكاملة.

٥ ـ تداخلاً معنوياً يعيد فيه الإمام (عليه السلام) صياغة الآيات الكريمة بألفاظه هذا فضلاً عن أنّ الإمام (عليه السلام) يقتبس من القرآن الكريم آيات كثيرة لم أشأ الحديث عنها لأنّ البحث في ذلك يخرجنا مما نحن فيه من الحديث عن بنية النص.

المبحث الثاني: علاقات التماسك في النص النفسيّ:

توطئة: لم يتفق الباحثون المحدثون على اتجاه موحّد في دراسة قضية التماسك بين مكونات النص وأجزاء بنيته لما يتصف البحث فيه من التجريب والتنظير الفردي فلم أجد مجموعة من العلماء المحدثين الذين كتبوا في النص يتفقون على خطوط أساسية يمكن دراستها ووضع الملاحظ عليها بل وجدت كل باحث يدرس المسألة من نظرته الخاصة بالنص، ووجدت المحدثين العرب وللأسف يلهثون خلف هذه الرؤى المتباينة  لايعرفون ماذا يأخذون منها فيقرأ الباحث كتاباً لأحد منظّري الغرب ويظن أنه قد فتح فتحاً مبيناً، فيتمسّك بتقسيماته، وحدوده، وأمثلته، وكأنّها هي الأساس في هذا الموضوع، ويذهب باحث غربي آخر مذهباً آخر فيتبعه من العرب آخرون وهكذا تجدنا نلهث وراء آراء الغربيين من غير اتفاق على أسس متفق على صحتها، وقد أشار الدكتور صلاح فضل إلى هذه القضية قال علينا أن نؤكد أن التماسك ليس مجرد نوع من الظواهر الموضوعية للقول فحسب، بل إنّه باعتباره(كذا) مظهراً للمدلول ولتفسير الخطاب يصبح ذاتياً وشخصيأً...

ومن هنا يرى الباحثون أنّ المشكلة الأساسية التي تقوم عند مواجهة مفهوم تماسك النص تنبثق من طبيعة النص ذاته (كذا) إذ تنصبّ عليه بحوث متعددة الإختصاصات والتوجّهات ممّا يجعل تحديد مفهوم عام للتماسك أمراً عسيراً .[١٦]

ولبيان ذلك أشير إلى أنّ أولئك الباحثين لم يعدوا العدة لوضع تنظير جديد بل ما زالوا موزعين بين الأثر الغربي والتراث العربي، إذ يرى د عمر أبو خرمة أنّ أبرزخصائص النص أن يكون متتالية جملية خطية متصلة ويقترح لها مجموعة قوانين تسمح بتماسكها فلا تنفكّ وحين يعرض القوانين نجد أنّ اكثرها مستنبط من أفكار عربية قديمة أبدل تسميتها، وبعضها لا علاقة له بالتماسك .[١٧]

وأرى أنّ ما قدّمه الدرس البلاغي والنحوي عند العرب فيه كثير مما تنتظم فيه رؤية التماسك بمنظور شامل، على حين ما زال البحث الحديث يتخبط في ذلك وأفضل ما قدّمه في هذا المضمار لا يعدو ما أنتجه العقل العربي، وسوف نحاول في دراستنا اعتماد المقولات العربية ونستفيد مما قدّمه النظر الحديث ويمكن تقسيم هذه العلاقات على قسمين:

الأول: العلاقة بين الألفاظ: وهو ما يدعى قوّة الوشائج بين الألفاظ ويعتمد على ترابط الألفاظ بعضها ببعض

 الآخر: نعني به الترابط بين مجموعات من الجمل في ضمن قطعة معنوية متجانسة تربطها بالقطعة التي قبلها والتي بعدها وشائج لفظية ومعنوية وبنيوية ولا أريد الخوض في هذه العلاقات من الناحية التنظيريّة بل سأستنبط هذه العلاقات من نص نفسي من نصوص نهج البلاغة أحلل فيه بنية النص لاستجلاء العلاقات بحسب القسمين الأول والآخر، قال الإمام (عليه السلام) في ذمّ أصحابه:

 احمَدُ اللهَ على ما قضى مِن أمرٍ، وقدّرَ من فعلٍ، وعلى ابتلائي بكم أيّها الفِرقة ُ التي إذا أمَرْتُ لم تُطعْ، وإذا دعوتُ لم تجبْ، إنْ أُمْهِلتُم خُضتُمْ، وإنْ حُوربْتُم خُرْتُمْ، وإنْ اجتَمَعَ الناس على إمامٍ طعنتُمْ، وإنْ أُجِبتُمْ إلى مُشاقّةٍ نَكصتُمْ، لا أبا لغيرِكُمْ، ما تنتظرونَ لنصركمْ والجهاد على حقِّكم ؟ الموتَ أو الذلَّ لكم، فَوَاللهِ لَئِنْ جاء يومِي  ـ ولَيَأتينّي ـ ليُفَرَّقنّ بيني وبينَكم وأنا لِصُحبتِكُم قالٍ، وبكم غيرُ كثير. للهِ أنتم، أمَا دِينٌ يجمَعَكُم ؟ ولا حميّةٌ تشحَذكُم ؟ أوَ ليس عَجَبَاً أنّ معاويةَ يدعو الجفاةَ الطَّغَامَ فيتّبعونَهُ على غير معونةٍ ولا عطاءٍ، وأنا أدعوكم ـ وأنتُم تريكةُ الإسلام وبقيّةُ الناس ـ إلى المعونةِ وطائفةٍ من العطاء فتَفرّقونَ عنّي وتختلفون عليّ، إنّه لا يخرجُ إليكم مِن أمري رضى فترضَوْنَه، ولا سُخْطٌ فتجتمعون عليه، وإنّ أحَبَّ ما أنا لاقٍ إليّ الموتُ، قد دارستُكُمْ الكتابَ، وفاتَحْتُكم الحِجاجَ، وعَرّفتُكم ما أنكرْتُم، وسَوّغْتُكم ما مَجَجْتُم، لو كان الأعمى يَلْحَظُ، أوِ النّائمُ يستيقِظُ، وأقرِبْ بقومٍ مِنَ الجَهلِ باللهِ قائدُهُمْ معاويةُ، ومُؤدبُهم ابنُ النابغةِ   .[١٨]

الخطبة مشحونة بالعواطف، إذ تعبّر عن سخط الإمام (عليه السلام)  على من يخاطبهم من المتخاذلين عن الجهاد والمماطلين في المواعيد، والمبتعدين عن توجّه الإمام الذي يمثل النهج المحمديّ يتبعون أهواءهم ويعبدون شياطينهم فهم والإمام على طرفي نقيض فالخطبة نسج من المعاني النفسية الطاغية وردت بعبارات زاخرة  بمعاني الحزن والألم والغضب والتبكيت والتوبيخ وغيرها من المعاني، وهي وحدة نصية متكاملة سنحاول دراسة الروابط بين أجزائها.

فالناظر إلى الخطبة نظرة كلية يجد انها سلسلة من المقاطع المترابطة المتماسكة تشدها أدوات ومعان، وما يسمّيه البلاغيون من فصل ووصل، وطرائق أخرى اقتضاها المقام والحال ولا اريد الخوض في تنظيرات الربط والتماسك بل سأجعل ذلك يأتي في اثناء الحديث عن تقسيمات الخطبة وربط أجزائها ووسائل تماسك تلك الأجزاء على النحو الآتي:

١ ـ المقطع الأول: يبدأ بقوله (عليه السلام) مفتتحاً الخطبة أحمد الله على ما  ثمّ يشطر ماحمد الله عليه إلى شطرين مترابطين بحرف عطف يربط جملة بأخرى:

١ـ (قضى من أمرٍ) و٢ ـ (قدّر من فعلٍ) وأداة الربط هنا (الواو) وهي الأداة التي ربطت الجملة المسبوقة بأداة الوصل (ما) التي سموها (المصدرية) بالمصدر(ابتلائي) ليكون الكلام على النحو الآتي:

أحمد الله على ما (قضى وقدّر) وعلى (ابتلائي بكم).

٢ـ المقطع الثاني: يرتبط هذا المقطع بما سبقه برابط هو (أيتها الفرقة)وهو نداء متصل بالضمير الدال على جماعة المخاطبين (كم) وهو رابط قويّ يشدّ ما قبله بما بعده وهو ليس نداءً في الحقيقة بل استعملت أداة النداء (أيّ) للتعبير عن التوبيخ لأنّه حين قال (ابتلائي بكم) ربط الكلام بتوضيح الضمير(كُم) فقال (أيتها الفرقة) تبياناً وتوضيحاً ولكون (الفرقة) معرفة ربطها بأداة الربط والوصل (التي)فالمقطعان ارتبطا بـ (ايتها الفرقة)، أمّا (التي) فقد ربطت مجموعتين من الجمل الشرطية هي:

 المجموعة الأولى: وتتكون من جملتين ارتبطت إحداهما بالأخرى بحرف العطف (الواو) هما:

١ـ إذا أمرتُ لم تُطِعْ.

٢ ـ وإذا دعوتُ لم تُجِبْ.

المجموعة الثانية من الجمل المرتبطة بـ (التي) وإن لم تعطف على المجموعة الأولى بحرف عطف ظاهر ولكن المعنى يدل على ارتباطها وهو ما يعدّ من الربط بواو غير مذكورة ويلاحظ فيها (الإلتفات) من ضمير الغيبة للمؤنث، إلى ضمير الخطاب لجماعة المخاطبين الذكور، وتتكون هذه المجموعة من أربع جمل ترتبط فيما بينها بحرف العطف (الواو) وهي:

١ـ إنْ أمهلتم خضتم.

٢ ـ وإن حوربتم خرتم.

٣ـ وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم.

٤ ـ وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم.

وقد يسأل سائل كيف رُبطت مجموعةً إحدى جملتيها صلة لموصول والأخرى معطوفة عليها، بمجموعة أخرى اختلفت فيها أداة الشرط واخلف نوع المخاطب، ونجيب عن ذلك بأنّ المعنى لم يتغير بتغيّر الأداة من (إذا) إلى (إنْ) لأنّ الكلام في المجموعتين هو في معنى الشرط، فلم يتغيّر مجرى الكلام بل ازداد الشرط أصالة باستعمال الأداة الأم (إنْ) بعد أن كانت الأداة متضمنة معنى الشرط لذا فالكلام مازال مستمراً في نمطه الشرطي، أما الإنتقال في الخطاب من الغيبة إلى خطاب جماعة المخاطبين فلم يغير في معنى الكلام لأنّ الإلتفات وظيفته جمالية تؤدي إلى تطرية الإستعمال عند المخاطب وزيادة الإنتباه أمّا من حيث المعنى فما زال الخطاب موجهاً إلى من ابتلي بهم الإمام (عليه السلام) الذين عبّر عنهم بـ (أيتها الفرقة) ولذا نستطيع القول إنّ الكلام مترابط بـ (واو) مستغنى عن ذكراها لأنّ معنى الكلام يوحي بذلك ٠

 والترابط بين مكونات المجموعة الثانية يتجلى باستعمال الواو العاطفة بين جمل متجانسة  في بنيتها إذ تتكون كل جملة من أداة الشرط (إنْ) وجملة الشرط المكونة من فعل ماض وفاعله، وكذلك جواب الشرط في قوله (عليه السلام)  (إنْ أمهلتم خُضتم) و(إن حوربتم خُرتم) وهما جملتان متكافئتان في مكونات بنيتيهما متجانستان في نوع أفعالهما.

والجملتان مرتبطتان بواو العطف بجملتين أخريين متقاربتان في مكونات كل منهما مع اختلاف يسير هو أنّ الجملة الأولى بني الفعل فيها للمعلوم وفاعله اسم ظاهر، على حين بني الفعل في  الثانية للمجهول، ونائب الفاعل ضمير جماعة المخاطبين، وفي كل منهما جار ومجرور  وجواب الشرط في كلّ منهما فعل ماض مبني للمعلوم أسند إلى ضمير جماعة المخاطبين.

والتجانس الملحوظ في كلّ جملتين من هذه المجموعة يمنحها تماسكاً وترابطاً فضلاً عن ربطهما بالواو وهي سمة واضحة في الأساليب العربية.

٣ـ المقطع الثالث:يرتبط هذا المقطع بما قبله بقوله (عليه السلام) داعياً عليهم دعاءً ظاهره أنه ليس عليهم، وباطنه أنّه عليهم لأنّ ما بعده يدل على سخط الإمام وضجره من سوء أعمالهم وهذا الدعاء  لا أبا لغيركم  والمعهود في مثل هذا المقام أن يقول: (لا أبا لكم) ولكنّ الإمام عدل عن التصريح بذلك إلى الدعاء على غيرهم أدباً وتكرّماً، وقد جعلتُ هذا الدعاء رابطاً لما وجدته من عُلقة بين المقطع السابق وبينه في المعنى لأن الكلام لم ينصرف إلى غرض آخر، بل امتد التوبيخ والتبكيت إلى من يخاطبهم مع زيادة في حدة التوبيخ، وللتعبير عن هذه الحدّة انتقل الإمام إلى الإستفهام الذي يراد به التوبيخ بقوله  ما تنتظرون لنصركم والجهاد على حقكم  ٠

وفي كلامه هذا ربط بين لفظتين هما (نصركم) و(الجهاد) وهذا الإستفهام كما نلحظ مرتبط في قوله (عليه السلام) بـ (وإنْ أجبتم إلى مشاقة نكصتم) لأنّ المراد بالمشاقة: الحرب لذا وبّخهم على نكوصهم  بقوله   ما تنتظرون... وقد وردت في هذا المقطع جملة تبدو منقطعة عمّا قبلها لغياب الرابط بينها وبين ما قبلها وهي جملة  الموتَ أو الذل لكم  وأرى أنّ الكلام متصلٌ تمام الإتصال وإن غابت أداة الربط لأنّ معنى الكلام (أوَ تنتظرون الموت أو الذلَ لكم) وتلك عقبى من يتخاذل عن الجهاد وطلب النصر على الأعداء لأنهم إن تخاذلوا وفشلوا في جهاد أعدائهم فسوف يغزونهم في عقر دارهم فيموت من يموت ويُذل من يبقى حيّاً، فالإمام ربط كلامه بعضه ببعض وإن لم يذكر أداة ربط بل كان الربط خفياً.

٤ ـ المقطع الرابع :

وهو مقطع يتفجّر غيظاً وحزناً ربطه الإمام ـ (عليه السلام) برابطين  أحدهما: الفاء في قوله  فوالله  وأرى أنّ القَسَم هو الرابط الآخر، لأنه في ضوء ما وبّخهم عليه من خذلان وتمرّد وعصيان للأوامر وتباطؤ في تلبية دعوة الجهاد أقسَم الإمام  لئن جاء يومي ـ وليأتينّي ـ لَيُفَرّقَنّ بيني وبينكم  ولا يقتصر الأمر على الخلاص منهم بالموت بل يذهب إلى الإمعان في توبيخهم  قائلاً  وأنا لصحبتكم قالٍ، وبكم غير كثير  فقسمه (عليه السلام) يربط تخاذلهم بالحال التي سيكون عليها عند موته بأنه مبغض لصحبتهم لأنها صحبة لا تزيده عدداً ولا قوة ٠

فالمعنى ما زال متماسكاً يرتبط بعضه ببعض، هذا فضلاً عن استعمال الإمام ـ (عليه السلام) أداة الربط (الواو) في عطفه  شبه الجملة (بيني) على نظيرتها  (بينكم) وعطف الجملة الإسمية (وأنا لصحبتكم قالٍ) على نظيرتها (وبكم غيرُ كثيرٍ).

 ٥ ـ المقطع الخامس :

وهو يرتبط بما قبله برابط معنوي هو التعجّب في قوله  للهِ أنتم  وهو قول بليغ يتعجّب فيه ممّا هم عليه من حال، وهذا التعجب ينتقل به إلى مجموعة من الأسئلة التي لا يريد لها جواباً بل يريد الإمعان في التوبيخ بعبارات قاسية في تأثيرها في نفوسهم  بقوله  أما دين يجمعكم ؟ ولا حميّة تشحذكم ؟.

وهذا المقطع كسابقه يرتبط معنوياً بما قبله من مقاطع، لأنّ الخطبة وحدة معنوية متماسكة يرتبط بعضها ببعض لذا جاء التعجب مما سبق من خذلانهم وامتناعهم من الإنخراط في صفوف المجاهدين متصلاً بما قبله، وهو حلقة اتصال بما بعده من الأسئلة التوبيخيّة.

والسؤالان اللذان ذكرتهما  من مجموعة أسئلة هذا المقطع يتسقان في البنية ويتكافآن في مكونات بنية كلّ منهما، وهذا الإتساق يسهّل ربطهما بما قبلهما، كما أن الإنتقال من التعجب إلى الإستفهام مع امتداد  خيوط المعنى منوّعاً في نبرات الكلام يمنح المقطع تنوّعاً متماسكاً ومؤثراً في المخاطب ٠ ويردف الإمام هذين السؤالين التوبيخيين بسؤال يحمل معنى التعجب أيضاً يرتبط بهما بأداة الربط (الواو مسبوقة بالهمزة قائلاً  أوليس عجباً... وفي هذا السؤال مجموعة من الجمل المتشابهة والمترابطة بأداة ظاهرة أوبأداة مستغنى عنها، فجملة (ليس عجباً أنّ معاوية) مرتبطة بجملة (أنّ واسمها وخبرها) لكون اسم  ليس (أنّ معاوية) يتضمن أداة ربط هي (أنّ) لذا يأتي خبر أنّ(يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه) مكملاً لمعنى جملة (ليس)، وفي هذا الخبر نعتان لمفعول مستغنى عن ذكره، مرتبطان بغير أداة عطف هما (الجفاة الطَغَام) والتقدير الجفاة و الطغام، ثمّ يربط جملة (يتّبعونه) بالفاء، كما يربط الاسمين المنفيين (غير معونة) و(لا عطاء) بالواو.

وأحدث الإمام ـ (عليه السلام) ربطاً وتنويعاً في الصياغة وبنية الجملتين في آن واحد وفيه تظهر براعة الإمام في دقة التعبير فهو يربط الجملة الاسمية التي خبرها مستغنى عن ذكره دلت عليه الجملة الفعلية (يدعو)، بجملة اسمية خبرها مستغنى عن ذكره دلّت عليه الجملة الفعلية (أدعوكم).

وترتبط بالفعل (أدعوكم) جملة تدلّ على الحال عُطف على خبرها اسم مناظر للخبر  وأنتم تريكة الإسلام، وبقية الناس  كما ارتبط الفعل (أدعوكم) نفسه برابط آخر هو التعلّق المعنوي (إلى المعونة) وهو متماسك بعاطف هو(الواو) مع (طائفة من العطاء).

وزيادة على ما ذكرنا من ارتباطات لجملة (وأنا أدعوكم) نجدها ترتبط بجملة (فتفرقون) وجملة (تختلفون) بكل من الفاء والواو.

ويختم هذا المقطع بتأكيدين يرتبطان معنوياً بما أورده من تعجب من أفعالهم المخزية ليظهر لهم موقفه من تلك الأفعال: 

 الأول: قوله (عليه السلام) إنّه لايخرج إليكم من أمري رضى  ؛ فترضونه ولا سخط فتجتمعون عليه والآخر: معطوف على الأول بالواو في قوله  وإنّ أحبّ ما أنا لاقٍ إليّ الموت  ويلاحظ في التاكيدين عدد من الروابط الداخلية منها تعلق حروف المعاني بأفعالها ومنها الفاء والواو، ومنها الوصل في (ما أنا لاقٍ).

وهي روابط قد وثّقت عرى الإتصال بين مكونات الجمل وأشباهها ٠

٦ - المقطع السادس :

وفيه سلسلة من الجمل المتناسقة والمتجانسة والمتماسكة بحرف (الواو) وقد ربط حرف التحقيق (قد) هذا المقطع  بما سبقه في قوله  (قد دارستكم الكتاب)، و(فاتحتكم الحجاج) و(عرّفتكم ما أنكرتم) و(سوغتكم ما مججتم)  فالأفعال كلها ماضية مسندة إلى ضمير المتكلم ومتعدية إلى مفعول واحد، ويلاحظ في الجملتين الثالثة والرابعة وجود ربط  بين المفعول وصلته بالوصل في (ما أنكرتم) وما (مججتم) لما بين الموصول وصلته من ترابط وتكميل في المعنى.

 وختم الإمام عيه السلام خطبته هذه  بجمل عجيبة الصياغة تبدو في ظاهرها أنها منفصلة أو مستأنفة، غير أنّها مرتبطة كل الإرتباط بما قبلها لأن الجمل المتناسقة التي سبقتها هي تذكير بما سعى إليه الإمام (عليه السلام) لتوعيتهم وتوجيههم وتحذيرهم مما سدروا فيه من غيّ فجاء قوله في الخاتمة خلاصة لتجربته معهم في عبارة تعبّر عن حالهم  لو كان الأعمى يلحظ ُ، أو النائم يستيقظ، وأقرب بقومٍ من الجهل بالله قائدهم معاوية، ومؤدبهم ابن النابغة  فقوله  لو كان الأعمى ... معناه أنّ تلك الحجج والنصائح لاتجدي معكم نفعاً لأنّكم قومٌ عميٌ لا ترون، وأنتم نيامٌ لا تستيقظون فارتبط الكلام بما قبله في المعنى وذلك بالإنتقال  من السياق الخبري في الجمل الفعلية السابقة لهذا القول، إلى الكلام الإنشائي الذي يبدأ بـ (لو).

ثمّ ربط الكلام بجملة عجيبة الصياغة جاءت بهيأة الصيغة الثانية للتعجب (أفعل به) ولكنها متصلة بما بعدها(أقرب بقوم من الجهل بالله قائدهم معاوية) وجملة (قائدهم معاوية) جملة اسمية ارتبطت بما قبلها بغير أداة ربط وهي امتداد لجملة التعجب.

والمعنى لم ينقطع بانتهاء جملة التعجب لأنّ التعجب من كون معاوية قائدهم لم يكن هو المتعجب منه وحده بل عطف على المتعجب منه جملة أخرى (مؤدبهم ابن النابغة).

ولو تأملنا بخاتمة الخطبة وربطنا ها بمفتتح الخطبة (أحمد الله على ما قضى من أمرٍ وقدّر من فعل وعلى ابتلائي بكم ...) نجد أنّ الربط واضح حيث يختم بذكر موازنة بين قوم تعجب من جهلهم بالله يقودهم معاوية ويؤدبهم عمرو بن العاص، وقوم  أتاح الله لهم الإمام علي ليؤدبهم  ويعرض لهم الحجج ويعطيهم البراهين، لكنهم كانوا كالنيام الذين لا يستيقظون والعُمي الذين لا يبصرون.

ومما تقدّم نستخلص أنّ وسائل الربط والتماسك كثيرة منها الربط بحروف العطف المختلفة الظاهرة والمستغنى عن ذكرها، والربط بأسماء الوصل وحروفه، والربط بتغيير المعنى مع امتداده، سواء بالدعاء أو القسم أو التعجب أو الإستفهام وغيرها من المعاني، والربط بالضمائر، وأسماء الإشارة، والتكرار وغيرها من وسائل الربط التي يتحكم بها المنشئ بحسب المعاني المقصودة  لذا أقول إن وضع ضوابط لربط مكونات النص وتماسكه أمر لا يمكن حصره في قواعد أو ضوابط محدودة وسنجد في نصوص أخرى روابط غير ما ذكرنا.

وتظهر روابط التماسك في النصالسابق موضحة  في المخطط الآتي:

ما قضى من أمرٍ احمد الله على وقدر من فعل وابتلائي بكم اذا امرتُ لم تُطع ايّها الفرقة التي اذا دعوتُ لم تُجب إنْ أُمهلتم خضتم إنْ حُوربتم خرتم إنْ اجتمع الناس على إمام طَعَنتم وان أُجِبتم الى مشاقة نكصْتُم لا ابا لغيركم ما تنتظرون لنصركم والجهاد على حقكم الموتَ او الذلَ فوالله لئن جاء يومي – وليأتينّي ليُفرقنّ بيني وبينكم وانا لصحبتكم قالٍ وبكم غير كثيرلله انتم أمَا دينٌ يجمعكم ولا حميةٌ تشحذكم أوَليس عجباً أنّ معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه وانا ادعوكم وانتم  تريكة الاسلام الى المعونة وطائفه من العطاء فتفرقون عني وبقية الناس وتختلفون علي انه لايخرج إليكم من أمري رضى فترضونه ولا سخط فتجتمعون عليه قد دارستكم الكتاب وإنّ احبّ ما انا لاقٍ اليّ الموتُ وفاتحتكم الحجاج لوكان الاعمى يلحظ  وعرفتكم ما انكرتم او النائم يستيقظ وسوغتكم ما مججتم واقربْ بقومٍ من الجهل بالله قائدهم معاوية ومؤدبهم ابن النابغ.

المبحث الثالث: الظواهر البنيويّة في النصّ النفسيّ :

تتضح لمن يدرس النص المعبر عن أحاسيس الإمام ومشاعره، وما أراد به التأثير في نفوس سامعيه، وتوجيههم الوجهة التي أرادها الله لعباده، جملة من الظواهر الأسلوبية التي مازت خطبه ورسائله، وجعلتها نسيجاً متفرّداً، يعرفه مَن خبر أساليب المفوّهين والخطباء، وهذه الظواهر أذكرها تمثيلاَ وانتقاءً لأنّي أدرك أنّ نسج خطب الإمام، ورسائله نسج متميز في الكلام العربي أستطيع وصفها  بالقمة الثالثة بعد نسج القرآن الكريم، ونسج أحاديث نبي الهدى محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم، لذا سأذكر عدداً من هذه الظواهر أهمّها:

١ـ التفصيل، أوالإمتداد البنيويّ للجملة في النصّ النفسيّ وسائر نصوص نهج البلاغة:

 وهي ظاهرة واضحة بل طاغية في أكثر النصوص، وفيها تظهر براعة الإمام (عليه السلام) في تفريع الكلام وتنويع أساليب التعبير عن المعنى الواحد بجمل متقاربة في المعنى، متباينة في المبنى، ولقد وجدت في ذلك عجباً  يبهر الدارسين  لما يمتلكه الإمام (عليه السلام) من قدرة على تشقيق المعاني وتفريعها وإيجاد القنوات التعبيرية المتشعبة لتنقل تلك المعاني مع خصوصية كلّ منها في مخاطبة السامع والتأثير فيه.

وتلك هبة من الله لا تتأتى لكل البشر، ذلك لأنّ التنويع في بنى الجمل يتطلب خزيناً من المفردات لا ينضب، وقدرة على التنويع في بنى الأساليب بأسانيد مختلفة، وعبقرية في المقاربة بين البنى وذلك لا يقوى عليه إلاّ بليغ مفوّه وكثيراً ما يستعين الإمام (عليه السلام) بحروف العطف في تواصل هذا الإمتداد في الجمل نحو قوله (عليه السلام) في إحدى خطبه:

  فاعتصموا بتقوى الله، فإنّ لها حبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وبادروا الموت في غمراته، وامهدوا له قبل حلوله، وأعدّوا له قبل نزوله، فإنّ الغاية القيامة، وكفى بذلك واعظاً لمن عقل، ومعتبراً لمن جهل، وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس، وشدّة الإبلاس، وهول المطلع، وروعات الفزع، واختلاف الأضلاع، واستكاك الأسماع، وظلمة اللحد، وخيفة الوعد، وغمّ الضريح،  وردم الصفيح، فاللهَ اللهَ فإنّ الدنيا ماضيةٌ بكم على سَنَن، وأنتم والساعةُ في قَرَنٍ، وكأنّها قد جاءت بأشراطها، وأزفتْ بإفراطها ووقفت بكم على سراطها، وكأنّها قد أشرفت بزلازلها، وأناخت بكلاكلها، وانصرمت الدنيا بأهلها، وأخرجتهم من حضنها، فكانت كيوم مضى، أوشهر انقضى، وصار جديدها رثّاً وسمينها غثّاً في موقف ضَنْك المقام، وأمور مشتبهة عظام ونارٍ شديدٍ كَلَبُها عالٍ لَجَبُها، ساطعُ لهبُها متغيظُ زفيرها، متأجج سعيرها بعيد خمودها، ذاك وَقودها مخيف وعيدها ... .[١٩]

في هذا المقطع تجد الإمام (عليه السلام) يفرّع المعاني وينوّع في الجمل والألفاظ على النحو الآتي:

١ ـ أخذ من معنى التقوى ما يرتبط بها (فإنّ لها حبلاً وثيقاً عروته - ومعقلاً منيعاً ذروته)

٢ ـ ويخاطب أهل التقوى والمسلمين - (بادروا الموت في غمراته)- (وامهدوا له قبل حلوله) -(وأعدّوا له قبل نزوله).

٣ ـ وفرّع من كون القيامة هي الغاية - (وكفى بذلك واعظاً  لمن عقل) - (ومعتبراً لمن جهل).

٤ ـ وذكرهم بأن قبل بلوغ تلك الغاية (القيامة) مصاعبَ وأهوالاً،  منها: (ضيق الأرماس) - (وشدة الإبلاس) و- (وهول المطلع) - (روعات الفزع) - (إختلاف  الأضلاع) - (استكاك الأسماع) - (ظلمة اللحد) - (خيفة الوعد) - (غمّ الضريح) - (ردم الصفيح).

٥ ـ وبنى على تقوى الله : (الدنيا ماضية بكم على سَنَن) ــ (وأنتم والساعة في قرن).

٦ ـ ثم يأتي بأداة التشبيه (كأن) ليتولد من دخولها على الساعة المكنى عنها، أكثر من معنى: (جاءت بأشراطها) ـــ (وأزفت بإفراطها)، (وقفت بكم على سراطها).

 ثم يكرر (كأنّ) وضمير الساعة (قد أشرفت بزلزالها) ـــ (وأناخت بكلاكلها) ــ (وانصرمت الدنيا بأهلها)  ــ (وأخرجتهم من حضنها).

٧ ـ ويأتي بالفعل الناقص (كان) ويسنده إلى الدنيا ليكون خبرها (كيومٍ مضى) ـــ (شهر انقضى).

 ويأتى بفعل ناقص آخر (صار)ليكون اسمها وخبرها (جديدُها رثّاً) ـــ (سمينُها غثاً)

٨ ــ ثم يصف الموقف بأنه (ضنْك المقام) ــ والأمور(مشتبهة عظام) ويعطف عليها لفظة (نار) يصفها بأنّها: (شديدٌ كلبُها) ــ (عالٍ لجبها) ــــ(ساطع لهبها) ــــ (متغيظ زفيرها)ـــ(متأجج سعيرها) ـــ(بعيد خمودها) ــــ (ذاكٍ وقودها) ـــ (مخيف وعيدها).

والإمام (عليه السلام) يجانس بين المتفرعات في نهاياتها، أو صياغاتها، أو نوع اللفظ فيها وذلك بتفريع الجمل الفعلية من نظيرتها ‘ والاسمية من مثيلتها، وما فيها متعلقات من المصادر يتفرع منها ما في نظيراتها من المصادر، وما فيها نوع من المشتقات يتفرع منها ما فيه مشتقات، حتى ترى زخارف متجانسة و متناظرة ومتداخلة، الفرع يتمم  الأصل، والأصل ينفتح على الفروع فيمدّها بالمعاني المتشعبة وكل خطب الإمام ورسائله تنحى هذا المنحى من غير استثناء.

------------------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة ١/١٥٠.
[٢] . الكهف ٢٨.
[٣] . البقرة ٢٥٦.
[٤] . لقمان٢٢.
[٥] . المصدر نفسه ١/٢٠٠-٢٠١.
[٦]  الواقعة ٢٧ ـ ٣٠.
[٧] . التوبة ٣٨.
[٨] . المصدر نفسه ٢/١١٢.
[٩] . الإنفطار١١.
[١٠] . (الطلاق ٦٥)
[١١] . النور ٣٧.
[١٢] . المصدر نفسه ٣/١٧.
[١٣] . آل عمران  ٨٣.
[١٤] . الواقعة ١٠ ـ ١٢.
[١٥] . التوبة ١٠٠.
[١٦] . بلاغة الخطاب وعلم النص ٣٣٩-٣٤٠.
[١٧] . ينظر نحو النص ٢٠٩-٢٢٤.
[١٨] . نهج البلاغة ٢/١٠٠-١٠١.
[١٩] . المصدر نفسه ٢/١٣٠-١٣٢.

يتبع .....

****************************