وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                

Search form

إرسال الی صدیق
تألُّق سياسي ـ إنساني فريد في كلامه عليه السلام – الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

كما لا يمكن أن يتكرّر في حياة البشرية رجل كأمير المؤمنين عليّ عليه السّلام.. لا يمكن أن يتكرّر أيضاً خطابُه وقوله ـ فيما شافَهَ به وفيما دوّنه ـ لتبصير الآخرين.

وفي كلام الإمام عليّ عليه السّلام أسرار عُلوية جعلته متميّزاً أشدّ التميُّز.. فإذا هو يعبر الأزمنة والقرون متألقاً، هادياً وكاشفاً للأجيال عن جادّة العبودية الصادقة لله تعالى، ومعبراً عن الحبّ الكبير للإنسان.. وبشكل خاص: للإنسان المستضعَف المحروم.

إنه صلوات الله عليه الإمام الفرد المتفرّد.. الذي لا تأخذه لائمة في قبال المبادئ الإلهية التوحيدية التي يحملها في صدره المقدس، ويمارسها في أيام حياته الشريفة على الأرض.

تقرأ في رسائل الإمام.. فتُعاين مبادئ الحق والصدق والخير في أعلى صورها وأرقى ما يمكن منها. وتعاين مقارعته الجبّارة للظلم والظالمين، تحقيقاً للعدل والإنصاف المنشود: .. وأيمُ الله، لأُنصِفَنّ المظلومَ مِن ظالِمه، ولأقُودَنّ الظالمَ بِخِزامَتِه حتّى أُوردَهُ منهلَ الحقّ، وإنْ كانَ كارِهاً .

وها نحن أيها الأصدقاء.. مع قراءةٍ أوّلية في عدد من رسائل الإمام عليه السّلام، التي تضمّن أغلبَها كتاب « نهج البلاغة » العظيم.

الحاكم.. والجماهير

هذه رسالة بَعث بها أمير المؤمنين عليه السّلام إلى أحد الولاة الذين عيّنهم في الأقاليم الإسلاميّة.

ولم تذكر المصادر التاريخية اسمَ هذا الوالي الذي خاطبَه الإمام في رسالته هذه، بَيْد أنّ مضمون الرسالة يظلّ عاماً، يحمل من المعاني والمبادئ ما يصحّ أن يستلهم منه الحاكمون دروساً بليغة في منهج التعامل مع المواطنين.

في البدء.. نفهم من النص أنّ هذا الوالي كان ممّن يعتمد عليهم الإمام في إدارة شؤون ذلك الإقليم وفي تطبيق أحكام الدين. وكان ذا قوّة وصلابة تؤهّلانه ـ إدارياً وقيادياً ـ لمواجهة مكائد وأحابيل أحد خصوم الإسلام المنحرفين، وللمحافظة على الثغور الإسلاميّة التي تتعرّض للهجمات الآثمة من قبل هذا الخصم وقوّاته المتجاوزة.

نطالع في هذه الرسالة العلَوية السامية بدايتَها أولاً.

كتب عليه السّلام: « أمّا بعد.. فإنك ممّن أستظهِرُ به على إقامة الدين، وأقمعُ به نخوةَ الأثيم، وأسُدّ به لَهاةَ الثغر المَخُوف » ( أي الفم المتوحش الكائن على الحدود ).

بعد هذه المقدمة التي كشفت عن منزلة هذا الوالي وحزمه.. أخذ الإمام عليّ عليه السّلام يقدّم توصياته القيادية المتألّهة، ويرسم لواليه منهج السياسة الداخلية في التعاطي مع المواطنين. وهو المنهج السياسي الإسلامي الأصيل النابع من الرؤية العلَوية التي تمتزج فيها قوة الجلال ورقّة الجمال امتزاجاً عضوياً لا يقبل التجزئة والتقسيم.

«.. فاستَعِنْ باللهِ على ما أهمّك، واخلِط الشدّةَ بضِغثٍ من اللِّين ( أي: بشيء من اللين )، وارفُق ما كان الرفقُ أرفَق، واعتَزِم بالشدّة حين لا يُغْني عنك إلاّ الشدّة ».

أجل أيها الأصدقاء.. إنّ هذه المرونة الرائعة هي نهج إنساني يتحدّر من أفق كلُّه بصيرةٌ وخير، وكلّه موازنة دقيقة بين الحق ومصلحة الإنسان.. فلا هي شدّة دائمة تُرهِق وتُنفِّر، ولا هي لِين مستمر يقود إلى الضعف والتراخي والتضييع.

ثمّ تكشف رسالة أمير المؤمنين عليه السّلام إلى واليه عن مَدىً فذّ في تعامل الراعي مع الرعيّة، أو تعامل القائد مع المواطنين. في هذا المدى نلاحظ العدالة المطلقة والمساواة العجيبة في جلائل الأمور ودقائقها. إنه عليه السّلام يوصي بالمساواة بين الناس حتّى في النظر والتحية والسلام!

هي ذي عبارات الإمام دالّة بنفسها غنيّة عن الشرح والبيان: « واخفِضْ للرعيّة جناحَك، وابسُطْ لهم وجهَك، وألِن لهم جانبك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية.. حتّى لا يَطمعَ العظماء في حيفك ( أي: جورك )، ولا ييأسَ الضعفاء من عدلِك ».

الارتقاء بالإنسان

في كل الرسائل التي بَعَث بها أمير المؤمنين عليه السّلام إلى مَن أراد أن يبعث إليه.. تَميُّزٌ خاص وتَفرُّدٌ شاخص.

هذا التميّز هو كالمرآة تعبّر عن الروية اليقينيّة والبصيرة الحياتية للإمام. وهذا التفرّد هو صورة من صور العمق التوحيدي العلَوي.. الذي يُعنى دائماً بالارتقاء بالإنسان ونقلِه إلى آفاق واقعية عالية تليق بكرامة الإنسان ونفاسة قدره.

هذه المعاني ـ أيّها الأصدقاء ـ ممّا نلمسه حتّى في الرسالة التي كتبها الإمام عليه السّلام إلى الأسود بن قُطَيبة صاحب جُند حُلوان ـ أي قائد القوات في منطقة حُلوان التابعة لحكم الإمام.

يستهلّ أميرُ المؤمنين رسالتَه هذه بعبارةٍ يوصي بها هذا القائد بالإنسان. والوصية بالإنسان ـ في رؤية عليّ عليه السّلام ـ هي مرتبطة دائماً بالحق والعدل والإنصاف. وإنّ قيمة الإنسان ـ حاكماً ومحكوماً ـ إنّما هي بمقدار انسجام هذا الإنسان مع الحق. يقول عليه السّلام:

« أمّا بعد .. فإنّ الوالي إذا اختلف هواهُ مَنَعه ذلك كثيراً من العدل؛ فليكُن أمرُ الناس عندك في الحقّ سواء.. فإنّه ليس في الجوَر عِوَض من العدل. واجتَنِبْ ما تُنِكرُ أمثالَه، وابتَذِل فيها نفسَك فيما افتَرضَ الله عليك، راجياً ثوابَه ومُتخوِّفاً عِقابَه ».

إنّها إذَن ـ أيّها الأصدقاء ـ وصيّةُ الإمامة الإلهية المعصومة في إقامة العدل النفسي والعدل الاجتماعي.. « فإنّ الوالي إذا اختلَفَ هواه مَنَعَه ذلك كثيراً من العدل » ـ كما قال عليه السّلام.

إنّ إقامة موازين العدل إنّما ينبغي أن تتحقّق أوّلاً في داخل نفس القائد.. لِتَشيع من بعد ذلك في الآفاق الاجتماعية والسياسية. من هنا كان تأكيد الإمام ـ في كثير من رسائله ووصاياه ـ على استقامة الوالي أو الحاكم، قبل أن يطلب من الناس طاعته والإصغاء إلى أمره. ومن هنا أيضاً كان تأكيد الإمام في رسائله ووصاياه على مراقبة الله عزّوجلّ والإحساس الحيّ بحضوره وشهوده سلوكَ الإنسان وسريرة نفسه، لكي تكون هذه المراقبة عاصمةً من الزلل، صائنةً من المزالق والانحراف.. « وابتَذِلْ نفسَك فيما افترضَ الله عليك، راجياً ثوابَه ومتخوِّفاً عِقابَه ».

نواصل قراءة هذه الرسالة الموجزة المكتنزة بالمعاني الكبيرة.. فنجد وصيّةَ الإمام عليه السّلام لقائد قوّات منطقة حُلوان في أن يدأبَ على العمل الصالح ولا يسمح لنفسه أن تميلَ إلى فُتور أو فراغ. وهذا العمل له أُفقان: أفق شخصي لهذا القائد، وأفق اجتماعي يرتبط برعاية شأن المواطنين. أي أنّ الحاكم ـ بهذا التلاقي بين الأفقَين ـ لا يَشغله إصلاحُ شأن المواطنين عن إصلاح شأن نفسه. وفي هذا من التنمية السياسية والإيمانيّة الشاملة ما لا خفاء فيه. يقول الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:

« واعلَمْ أنّ الدنيا دارُ بَليّة، لم يَفرُغْ صاحبُها فيها قَطُّ ساعةً إلاّ كانت فَرغَتُه عليه حسرةً يوم القيامة.. وأنّه لن يُغنيك عن الحقّ شيءٌ أبداً. ومن الحقّ عليك: حِفظُ نفسِك، والاحتساب على الرعيّة بجهدك... والسلام ».

مبدأ المساواة في توزيع الثروة

هذه ـ يا أصدقاءنا ـ وثيقة تحمل خطاباً من القيادة الحازمة إلى أحد المسؤولين الإداريين. إنها رسالة من الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام إلى عامله على ( أردَشير خُرّة ) مِن كُوَر فارس.. يعلو فيها الصوتُ العَلَوي قوياً واضحاً يريد إحقاقَ الحق والوقوف بوجه الظلم والتجاوز.

نستمع إلى الخطاب العَلَوي.. يخاطب ( مَصقَلة بن هُبَيرة الشيباني ): « بَلَغني عنك أمرٌ.. إن كنتَ فعلتَه فقد أسخطتَ إلهَك وعصيتَ إمامَك: إنّك تقسم فَيءَ المسلمين ـ الذي حازَتْه رماحُهم وخيولُهم وأُريقت عليه دماؤهم ـ فيمن اعتامَك ( أي: اختارك وقصدك ) مِن أعراب قومك! فوالذي فَلقَ الحبّةَ وبَرأ النَّسَمة.. لئن كان ذلك حقّاً لَتجِدَنَّ لك علَيَّ هَواناً، ولَتَخِفّنَّ عندي ميزاناً؛ فلا تستَهِنْ بحقِّ ربِّك، ولا تُصلحْ دنياك بمَحق دينك فتكونَ من الأخسَرينَ أعمالاً ».

ويختم إمامُ العدل المطلق رسالتَه إلى مَصقلة بقوله : « ألاَ وإنّ حَقّ مَن قِبَلَك وقِبَلَنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء: يَرِدون عندي عليه، ويَصدُرون عنه ».

الخطاب في هذه الرسالة ـ أيها الأصدقاء ـ تعبير عن موقف إداري حازم ينطلق من متابعة القيادة ومراقبتها للمسؤولين وكبار الموظفين ومحاسبتهم ومحاسبة دقيقة، لئلاّ تَزِلّ في رعاية شؤون الناس قَدَم، ولإغلاق كلّ باب يمكن أن تتسرّب منه الأثَرة وينفذ من خلاله الظلم.

إنّ الإمام عليَّ بن أبي طالب الذي يتجلّى فيه الحق أعلى التجلّي، إنّما يحذّر في هذه الرسالة أحدَ كبار موظّفيه من الميل إلى المحسوبية والمنسوبية على حساب أموال المسلمين العامّة؛ فهي ـ كما يعبّر أبو الحسن صلوات الله عليه ـ « ممّا حازته رماحُهم وخيولهم، وأُريقت عليه دماؤهم » في المعارك والفتوح. وهو سلام الله عليه يرى أن الاستئثار بهذه الأموال جريمة كبرى ومخالفة في غاية الشناعة والفضاعة.

في هذه الرسالة يقرر أمير المؤمنين مبدأ ( المساواة في التوزيع ). وهو المبدأ الذي طالما دعا إليه وأعلن مخالفته للزائغين عنه من الحاكمين. إنّه هو نفسه المبدأ الإسلامي الأصيل الذي كان يمارسه رسول الله صلّى الله عليه وآله في توزيع الثروة.

ونلاحظ أخيراً وعي الإمام لهذه المسألة من بُعدها الإيماني أيضاً.. قال: « فلا تَستَهِن بحقّ ربّك »، وقال: « فقد أسخطتَ إلهك وعصيتَ إمامَك ». أي أنّ القضايا متكاملة الجوانب في بصيرة الإمام ومواقفه وخطاباته.. يتداخل فيها الغيب والشهادة، والآخرة والدنيا. وتلك مزيّة كبيرة نتعلّمها من الخطاب العلَوي المبارك، بعيداً عن التجزيئية والنظرة الأُحاديّة القاصرة.

القائد الإسلامي

رسالة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إلى عامله على البصرة عثمان بن حُنَيف.. ما تزال تتلألأ على جبين الدهر.

إنها رسالةٌ معجزة، لا يقولها صادقاً من الحاكمين غيرُ عليّ صلوات الله عليه. وقد كشفت في الوقت نفسه عن أبعاد من الصدق عميقة ومدهشة.

منطلَق هذه الرسالة عتاب من الإمام إلى والي البصرة على إجابته إلى وليمةٍ مُنِع من حضورها الفقراء ودُعي إليها الأغنياء.. تُستطاب فيها ألوان الأطعمة، وتُنقَل إليها أنواع المأكولات. وهذه الإجابة إلى مأدبة الأغنياء المترفين المانعين الضعفاءَ والفقراء.. ممّا لا يجوز في حكومة عليّ الذي يدور معه الحقّ أينما دار. والولاة الذين يعيّنهم الإمام عليه السّلام في الأقاليم إنّما يمثّلون الإمام فيما يحكمون من المدن والولايات.

بعد أن فرغ الإمام عليه السّلام من معاتبة عثمان بن حُنَيف تلك المعاتَبة المبصِّرة.. دَلّ الإمام على بُعد من أبعاد شخصيّة الحاكم الإسلامي الحق، وكشف عن جانب من خصائصه وسماته العالية والصعبة في الوقت ذاته. كتب سلام الله عليه إليه:

« ألاَ وإنّ لكلِّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه.. ألاَ وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمْرَيه، ومن طُعمه بقُرصَيه ( والطِّمر هو الثوب البالي ). ألاَ وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكنْ أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد. فواللهِ ما كنزتُ مِن دنياكم تِبراً ( أي ذَهباً )، ولا ادّخرتُ من غنائمها وَفراً، ولا أعددتُ لبالي ثوبي طِمراً ».

هذه العبارات الملتهبة بالصدق، المضيئة بالحق.. إنما هي بيانٌ ناصع وتعليم ساطع لمن يَنصِبُ نفسَه قائداً وإماماً يُؤتَمّ به ويُقتدى بسيرته. وهي كاشفة عن الاندكاك المطلق بيقين الإيمان، وكاشفة أيضاً عن الاحترام العميق للإنسان.

وربّما هَجَس في نفسِ أحد أنّ هذا الترفّع العلَوي الفذ إنما كان في ظروف من الفقر العام والحرمان الشامل. لكنْ يكذّبُ هذا الظنَّ نفسُ الوليمة الباذخة التي دُعي إليها عثمانُ بن حُنَيف، بما فيها من الدلالة على الثروة والترف.

نفس الرسالة تشير إلى أمير المؤمنين عليه السّلام إنما فعل هذا باختياره؛ لأنّه الحاكم العام لكافة المسلمين، وإمام لكل البائسين والمحرومين. نواصل القراءة في هذه الرسالة المدهشة. يقول قائد الموحّدين:

« ولو شئتُ لاَهتديتُ الطريقَ إلى مُصفّى هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونَسائج هذا القَزّ.. ولكن: هَيهاتَ أن يَغلبني هوايَ ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة؛ ولعلّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمعَ له في القُرص، ولا عهدَ له بالشِّبَع! أوْ أبيتُ مِبطاناً ( أي: ممتلئ البطن ) وحولي بطونٌ غَرثى ( أي: جائعة )، وأكبادٌ حَرّى ؟! ».

إنّه إذن ـ أيّها الأصدقاء ـ الموقف الاختياري النبيل للقائد الإسلامي في التعالي على رغبات الجسد وحظوظ النفس. وإنها المواساة الإنسانية الكريمة للفقراء والمُعدَمين. تُرى.. كيف يكون قائداً للفقراء مَن لم يَذُق معهم عضّةَ الجوع ومرارة الحرمان ؟!

إنها خصلة فريدة متوحّدة من خصال إمام الحق أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.. لم يسبقه إليها سابق، ولا يلحقه فيها لاحق.

الحاكم.. بين الأمانة والخيانة

الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام مَعنيّ بإقامة الحق في كل شؤون الدولة الإسلاميّة التي كان يقودها: صغيرها وكبيرها؛ لأن هذه الدولة ينبغي أن تكون مظهر الإرادة الإلهيّة في القسط، وصورةَ العدل بين الناس.

وللحاكم الذي تُعهدَ إليه مسؤولية إدارية أو قضائية في هذه الدولة خصائص مرتبطة بالعدل ومقترنة بالحق. من هنا جاء تأكيد الإمام في رسائله على الاختيار الصالح للمسؤولين وفق قيم أساسية تحقّق الواقع الإسلامي المطلوب.

في رسالته التي بَعَث بها إلى ( رِفاعة ) قاضِيه على الأهواز.. يحذّر الإمام عليه السّلام من اختيار الخائن لهذه الأمانة الإلهية الخطيرة.

كتب صلوات الله عليه: « اعلَمْ يا رفاعةُ أنّ هذهِ الإمارةَ أمانة، فمَن جَعَلها خيانةً فعَلَيه لعنةُ اللهِ إلى يومِ القيامة. ومَن استعمَلَ خائَناً فإنّ محمداً صلّى الله عليه وآله بَريءٌ منه في الدنيا والآخرة ».

والإمام أبو الحسن عليّ عليه السّلام بصيرٌ بالرجال، نَقّادٌ عارف يميّز حقائق الأمور. وله من بصيرته المتألّهة الثاقبة ما يحقّق الأمن والخير لو أُصغِي إلى رأيه، وانقاد الناس إلى نور بصيرته.

هو ذا عليه السّلام يحذّر مالك الأشتر نمطاً من أصحاب المواقع الاجتماعية والسياسية الذين يتسلّقون عبرها ليكونوا في مواقع القيادة مع كل حُكْم، ومع كل حاكم. ومثل هؤلاء ينبغي ـ في الرؤية العلوية ـ أن يُعزَلوا عن قيادة الجماهير ويُمنَعوا من تلقّد المسؤوليات أو التأثير في المسؤولين، وإن كانت لهم خبرة وبَصرَ بأمور البلاد، ذلك أنّهم يحملون تاريخاً سيّئَ الصيت، ممّا يجعل الخسارة بهم أكبر من الربح.

كتب الإمام في رسالته إلى الأشتر لمّا ولاّه مصر: « إنّ شرَّ وزرائك من كان للأشرارِ قَبلَك وزيراً، ومَن شَرِكَهُم في الآثام، فلا يكونَنّ لك بِطانةً؛ فإنّهم أعوانُ الأئمّة وإخوانُ الظَّلَمة. وأنت واجدٌ منهم خيرَ الخلَف ممّن له مِثل آرائهم ونفاذِهم، وليس عليه مِثلُ آصارِهم وأوزارِهم وآثامِهم، ممّن لم يُعاون ظالماً على ظُلمه. ولا آثماً على إثمِخ. أولئك أخَفُّ عليك مَؤونة، وأحسَنُ لك مَعُونة، وأحنى عليك عَطفاً، وأقلُّ لغيرك إلفاً.. فاتَّخِذ أولئك خاصّة لخَلَواتك وحَفَلاتك ( أي لجلساتك المهمّة ) ».

هذا التحذير العلَوي من بطانة السوء ـ أيّها الأصدقاء ـ إنّما هو تحذير الناصح الشفيق.. ذلك أن تورّط الحاكم ـ في كلّ موقع قيادي ـ بمثل هذه البطانة لن ينتهي به إلاّ إلى الخُسران والبَوار. وقد وصف الإمام عليه السّلام هذه الحالة في قوله الآخر.. وهو يعلّمنا ويحذَرنا: « مَن فَسَدت بِطانَتُه كان كمن غَصَّ بالماء؛ فإنّه لو غَصّ بغيره لأساغَ الماءُ غصَّتَه » ـ أي: لَسهّل الماء هذه الغصّة وخلّصه منها.

الطبقات المُعدَمة

المزايا الفريدة الرفيعة للإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام كثيرة وفيرة، يبلغ اجتماع كثرتها ووفرتها في رجل واحد إلى حدّ الإعجاز الذي لا يبلغ نعتَه وصفُ الواصفين.

من هذه المزايا ـ يا أصدقاءنا ـ عنايته الحقيقية بالفقراء، وحمايته الواقعية للضعفاء.

ومِثلُ هذه العناية والحماية الإنسانية المتفرّدة ممّا تفيض به السيرة العملية للإمام عليه السّلام، إبّان سنوات حكمة القائم على المبادئ التوحيدية المتميزة في الكوفة.

رسائله إلى الولاة حَمَلت لمحاتٍ من وصاياه وتعليماته السامية في الاهتمام الواقعي الجادّ بالطبقات الضعيفة والمحرومة: تفقّداً لشؤونها، ورفعاً لمستواها المعيشي، وارتقاءً بوضعها الاجتماعي.

نقرأ في رسالته عليه السّلام إلى قُثَم بن العباس عامِله على مكة: « وانظُرْ إلى ما اجتمع عندك من مال الله.. فاصْرِفه إلى مَن قِبَلَك من ذوي العيال والمجاعة، مُصيباً به مَواضعَ الفاقة والخَلاّت. وما فَضَل عن ذلك فاحمِلْه إلينا لنقسِمَه فيمن قِبلَنا ».

( مال الله ) في رؤية أمير المؤمنين إذَن.. أحقُّ الناس به: ذوو العيال والمجاعة، أي فئات الفقراء والمُعدَمين. وليس لأحدٍ ـ كائناً مَن كان ـ أن يستأثر به ويمنعه أهلَه المستحقّين له.

هذا المبدأ العلَوي القيّم ممّا يتكرر ذكرُه والتأكيد عليه في رسائل أخرى خاطَبَ بها الإمامُ ولاةً آخرين.. كما في رسالته التي كتبهاً نظاماً إدارياً إنسانياً لمالك بن الحارث الأشتر لمّا ولاّه مصر. جاء في هذه الرسالة العظيمة:

«.. ثمّ اللهَ اللهَ في الطبقة السُّفلى من الذين لا حيلةَ لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البُؤسى والزَّمْنى؛ فإنّ في هذه الطبقة قانعاً ومُعتَرّاً. واحفَظْ لله ما استَحفظَك مِن حقِّه فيهم، واجعَلْ لهم قِسْماً من بيتِ مالِك، وقسماً من غَلاّتِ صَوافي الإسلام في كلّ بلد... ».

هذا النصّ العلوي ـ أيّها الأصدقاء ـ هو وثيقة متقدّمة في موضوع الضمان الاجتماعي ورعاية الدولة للبائسين والمرضى والعاجزين عن العمل. وفيه تشريع لمصادر المال الذي يُنفَق على هذه الطبقة. وهذه المصادر هي: قسم من بيت المال أو خزانة الدولة، والأموال التي لا أهل لها ولا وارث.. وهي ما عبّر عنه الإمام عليه السّلام بـ ( صوافي الإسلام ).

وتخطو رسالةُ أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر خطوةً أخرى في هذا السبيل، فتدلّ على بُعدٍ أكثر إنسانيةً وأوفر فهماً للمسؤولية وإحساساً بالرقابة الإلهية. وقد بصرّه الإمام عليه السّلام بما ينبغي للحاكم من البحث عمّن لا يقدرون ـ من الضعفاء ـ على إيصال أصواتهم إلى الحاكم، لأيّ سبب من الأسباب.

جاء في هذه الرسالة التي دوّنها الإمام وثيقةً إدارية لمصر: « وتَفقَّدْ أمورَ مَن لا يَصلُ إليك منهم... ففرِّغْ لأولئك ثقتَك مِن أهل الخشية والتواضع.. فَلْيَرفع إليك أمورَهم. ثمّ اعمَلْ فيهم بالإعذار إلى الله يومَ تلقاه؛ فإنّ هؤلاء مِن بين الرعيّة أحوَجُ إلى الإنصاف مِن غيرِهم... ».

ويختتم الصوتُ العلَويّ المتألّه وصيّتَه بهذا الشأن فيُلزم الحاكمَ برعاية اليتامى المنقطعين والكبار المسنّين المتعفّفين. يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: « وتَعهَّدْ أهلَ اليُتم وذوي الرقّة في السنّ ( أي: كبار السنّ ) ممّن لا حيلةَ له، ولا يَنصِبُ للمسألة نفسه. وذلك على الولاة ثقيل.. والحق كلُّه ثقيل ».

حاكم.. في وليمة

كان أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام قد عيّن ( عثمانَ بن حُنَيف ) والياً على البصرة. وعثمان هذا وأخوه سهل كانا من المؤمنين الصادقين في ولائهم للإمام.

عثمان بن حُنيف دعاه يوماً أحدُ فِتْية أهل البصرة إلى مأدبةٍ فأجاب. ولعلّ ابن حُنيف لم يكن يتوقّع أن يكتب له الإمام رسالة في هذا الموضوع شديدة اللهجة، يُعاتبه فيها على تلبية الدعوة وحضور الوليمة؛ فإنّه لا ينبغي لوالي المسلمين وراعي شؤونهم أن يُبادر إلى حضور « طعامِ قومٍ عائلُهم مَجْفُوّ، وغنيُّهم مَدْعُوّ » ـ كما نَصّت رسالة إمام العدل والإنسانية صلوات الله وسلامه عليه.

لقد فَتَحت الرسالةُ بَصرَ والي البصرة ونَبّهَته إلى قضايا مهمّة، وعلّمته أن يقتدي بسيرة إمامه عليّ الحاكم العام للمسلمين آنذاك، إذ اختار الزهدَ الصعب، وتحمّل بارادته مشقّات التقشّف.. يواسي بذلك الضعفاء والمحرومين أينما كانوا في أطراف بلدان المسلمين؛ فـ « لعلّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمَعَ له في القُرص، ولا عهد له بالشِّبَع » ـ كما صرّح أمير المؤمنين في إحدى المناسبات.

تتحدّر عبارات الإمام كالسيل العظيم.. تكشف لعثمان بن حُنَيف ما ينبغي للحاكم المسلم والقائد لعامّتهم أن يكون عليه في تحمّله هذه المسؤولية. نقرأ معاً ـ أيّها الأصدقاء ـ عباراتٍ من هذه الرسالة الفذّة المدهشة، كتب عليه السّلام:

« أأقنَعُ مِن نفسي بأن يُقال: هذا « أمير المؤمنين ».. ولا أُشاركهم في مَكاره الدهر ؟! أو أكونَ أُسوةً لهم في جُشوبةِ العَيش ؟! فما خُلِقتُ ليشغَلَني أكلُ الطيّبات: كالبهيمة المربوطة هَمُّها عَلَفُها، أو المُرسَلَةِ شُغُلُها تَقَمُّمُها.. تَكترِشُ مِن أعلافِها وتَلهو عمّا يُراد بها ».

هذه الصورة الفريدة الخاصة التي يقدّمها الإمام عن وليّ أمر المسلمين ـ في بصيرته وسيرته ـ ربّما واجهت بسبب تميّزها وتفرّدها، تساؤلاً فيه معنى التشكيك.. فبادَر أمير المؤمنين إلى عرض هذا التساؤل والإجابة الفورية عن هذا التشكيك. نواصل قراءة الرسالة:

« وكأنّي بقائلكم يقول: ( إذا كان هذا قُوتُ ابنِ أبي طالب، فقد قَعَد به الضَّعفُ عن قتال الأقران، ومُنازلَةِ الشجعان )! ».

ويَجيءُ جوابُ الإمام واضحاً صريحاً صراحةَ الحقّ العلَوي.. يقول: « ألاَ وإنّ الشجرةَ البَرّيّةَ أصلبُ عُوداً، والرواتعَ الخَضِرةَ أرقُّ جُلوداً، والنباتات البَدوية أقوى وَقوداً وأبطَأُ خُموداً ».

إنّها إذَن ـ أيّها الأصدقاء ـ الصلابة الصُّلبة والمعيشة المُخشَوشِنة.. هي ما تريدها الرؤيةُ العلَوية في الحاكم القُدوة، والقائد الأُسوة. وقد كان على عثمان بن حُنيف أن يجعل إمامَه مَثَلَه الأعلى الذي يتطلّع إليه ويحتذيه.

والآن ـ يا إخوتَنا ـ أيسرّكم أن نتابع القراءة في آفاق هذه الرسالة العالية ؟ نكتفي بقراءة هذا المعنى النفيس الذي صدّره الإمام عليه السّلام بالقَسَم:

« وايمُ اللهِ ـ يميناً بَرّةً أستثني فيها بمشيئة الله ـ لأَرُوضَنّ نفسي رياضةً تَهِشّ معها إلى القُرص ـ إذا قَدَرَتْ عليه ـ مطعوماً، وتَقَنَعُ بالملح مأدوماً... أتمتلئ السائمةُ مِن رِعْيها فتَبرُك.. وتَشبَعُ الرَّبِيضةُ من عُشبها فتَربِض.. ويأكلُ عليٌّ من زاده فيَهجَع ؟! قَرّت ـ إذَن ـ عينُه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المَرعيّة!! ».

( تَهُشّ: تفرح، مأدوماً: أي مأدوماً به الطعام، السائمة: الأنعام التي تسرح، الرِّعي: العشب، الرَّبيضة: الغنم مع رعاتها، يهجع: يسكن ويهدأ، الهاملة: المتروكة ).

ضدّ التمايز الطبقي
رسائل الإمام أمير عليّ عليه السّلام لآلئ نفيسة يزهو بها جِيدُ تاريخ الإنسان من أوّله إلى آخره.
إنّ كل عبارة في هذه الرسائل تكشف عن مدىً فسيح: يُبصِّر ويُنوِّر، ويهدي البشرية إلى الموقف الأصح الذي لا أصحّ منه.. والذي لا يصدر إلاّ عن صاحب الإمامة الإلهية المعصومة.
تَستَلفِتُنا هنا مرةً أخرى تلكم الرسالة الرائعة الخالدة التي بعث بها أمير المؤمنين عليه السّلام إلى عثمان بن حُنَيف واليه على البصرة.
الظرف الذي كُتبت فيه الرسالة أنّ عثمان بن حُنَيف دعاه بعضُ أعيان البصرة إلى وليمة.. فأجاب وحَضَر مع الحاضرين. بَيْد أنّ هذه الإجابة تُعدّ ـ في حكومة القسط العلَوي الدقيق ـ مخالفة عظيمة، ومفارقة لابدّ أن تُواجَه بالحزم!
لكنْ.. ما الذي يَعيبُ الوالي إذا حضر وليمةً دُعي إليها ؟!
صحيح أن تلك المأدبة كانت متنوّعة الأطعمة، « دسمة » المآكل.. لكنها تظلّ وليمة من الولائم على كل حال.
غير أنّ إمام الناس ـ غنيّهم وفقيرهم ـ له رؤية أخرى، وله موقف يفارق ما تَظنُّه النظرةُ العَجْلى المتساهلة المتراخية. إنّ عليّاً عليه السّلام « إمام » بالمعنى الذي يملأ كلّ الكلمة.. إمام يأتمّ به الناس ويقتدي بسلوكه كافة المسلمين. ومَن يُعيّنه أمير المؤمنين نائباً عنه في المدن والأقطار لابدّ أن يكون ممثّلاً للعدل العلوي الحازم الدقيق.
نقرأ إذن مطلع هذه الرسالة المتميّزة.. لنتعرّف على حقيقة الأمر. يقول الصوت العلَوي المُجَلجِل بالحق:
« أمّا بَعدُ يا ابنَ حُنَيف، فقد بَلَغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدُبة.. فأسرعتَ إليها: تُستطابُ لك الألوان، وتُنقَل إليك الجِفان! وما ظَنَنتُ أنّك تُجيبُ إلى طعامِ قومٍ: عائلُهم مَجفُوّ، وغنيُّهم مَدعُوّ! فانظر إلى ما تَقضِمُه مِن هذا المَقضَم: فما اشتَبَه عليك عِلمُه فالفِظْه، وما أيقنتَ بِطِيب وجوهِه فَنَل منه ».
هذه الفقرات من الرسالة نَقَلت عثمانَ بن حُنَيف والي البصرة إلى وعيٍ جديد ما كان قد تَفطّنَ له مِن قَبل. وقد فَهِم أنّ عليه ألاّ يُجيب إلى مأدبة مُنع من حضورها الفقراء، وفُتِحت أبوابها للأغنياء والمُوسِرين. والوالي ـ أو المسؤول الكبير في الدولة ـ إنما هو والٍ للناس وقائد لهم. وهذا التمايز الطبقي الذي يُشارك فيه من شأنه أن يُلغي مصداقية القائد، ويشكّك في استيعابه لحقيقة القيادة التوحيدية التي لا ترضى بالتمييز.
رسالة الإمام تَلفت نظر ابن حُنيف إلى مسألة أخرى دقيقة.. في حضوره هذه المأدبة وفي تناوله من طعامها. وقد عبّر الإمام عليه السّلام عن هذا التناول للطعام بـ ( القَضْم )؛ ازدراءً وتحقيراً لشأن ما أُعدّ هنالك من ألوان الطعام. ( قضم الشيء: قطعه بأطراف الأسنان ).
المسألة المهمة الأخرى أنّ الإمام عليه السّلام دعاه أيضاً إلى التعرّف عملياً على قاعدة عامة في الأكل، هي: تَركُ ما فيه شبهة إلى ما لا شبهة فيه، على الرغم من قلّة ما يتناوله قضماً بأطراف الأسنان.
وهذا ـ يا أصدقاءنا ـ بُعدٌ آخر نفيس من أبعاد السيرة العلَوية العظيمة.. التي كلُّ مَدى من أمدائها مدرسة، وكلّ خَلجة من خَلَجاتها آفاق للتعلّم والاستبصار.

الرجل الأنسب.. في الموقع الأنسب
هذه رسالة خاطَبَ بها الإمام عليه السّلام أحد كبار الموظفين في جهاز حكومته الإداري. موضوع الرسالة: عَزلُ هذا المسؤول عن وظيفته الفعلية، وتعيينُه في وظيفه أخرى.. في ظرف خاص من ظروف الدولة يُنذر بالحرب.
إنّ مثل هذه التنحية لمسؤول كبير في ظرف يجري الاستعداد لخوض حرب مع العدو.. ربّما تثير هَمَساتٍ وتساؤلات حول المسؤول الإداري المُنحّى. وربّما فُسِّر هذا الإجراء القيادي بأنّه خدش في كفاءة المسؤول أو في إخلاصه.. خاصة في ظروف المواجهة الحربية، حيث المناخ النفسي مناسب لتفشّي الإشاعات وانتشار التفسيرات الخاطئة أو المُغرِضة.
هذه الرسالة هي من قائد الدولة الإسلاميّة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام إلى ( عمر بن أبي سَلَمة المخزومي ).. وكان عامِلَه على البحرين، عَزَله فيها وعيّن بدله ( النعمان بن عجلان الزُّرَقي ).
يقول نصُّ الرسالة: « أمّا بعد، فإنّي قد وَلَّيتُ النعمانَ بن عجلانَ الزُّرَقي على البحرين، ونَزَعتُ يدَك ( أي: عزلتُك ).. بلا ذمٍّ لك ولا تثريبٍ عليك؛ فلقد أحسنتَ الوِلايةَ وأدّيتَ الأمانة، فأقبِلْ غيرَ ظَنين ولا مَلُوم، ولا مُتَّهَمٍ ولا مأثوم.. فقد أردتُ المسيرَ إلى ظَلَمةِ أهل الشام، وأحببتُ أن تشهد معي؛ فإنّك ممّن أستَظهُر به على جهاد العدوّ وإقامة عمود الدين، إن شاء الله ».
هذه الرسالة العلوية المتيقّظة ـ بنصّها الواضح الصريح ـ قد قطعت الطريق على تقوّلات المغرضين وأبطلت إشاعات المُرجِفين. وحفظت لوالي البحرين ماء وجهه كما ينبغي له، وكشفت عن طَرَف من الاستعداد العسكري لمواجهة معاوية العدوّ الماكر في الشام.. فإذا هذا التغيير في المواقع الإدارية في جهاز الدولة تغيير تقتضيه الضرورة في وضع الرجل الأنسب في الموقع الأنسب.. ممّا يعبّر عن حنكة القيادة العليا وما تتّسم به من حزم ووعي للظروف الطارئة، ومن بَصَر بكفاءات الرجال.
وعمر بن أبي سَلَمة هذا ـ أيّها الأصدقاء ـ هو رَبيبُ رسول الله صلّى الله عليه وآله، أي هو ابن ( أُمّ سَلَمة ) زوجة رسول الله وأمّ المؤمنين. وهو شابّ من أصحاب البصائر، فقد كان عمره إذ ذاك في حدود الثانية والثلاثين.. اختاره الإمام عليه السّلام ليصحبه في المعارك الوشيكة الوقوع؛ استظهاراً به على جهاد العدوّ وإقامة عمود الدين، كما في نصّ رسالة التنحية والتنصيب.
كان ابنُ أبي سَلَمة هذا مسؤولاً إدارياً ناجحاً في البحرين، وقد استبدل به أميرُ المؤمنين عليه السّلام رجلاً آخر مؤهَّلاً للإدارة الناجحة، هو النعمان الزُّرَقي الأنصاري الذي كان لسان الأنصار وشاعرهم وسيد قومه.
في هذه الرسالة ـ يا أصدقاءنا ـ كثير من المعاني الحياتية المتفتّحة، وكثير من أساليب الإجراء المناسب في الوقت المناسب. وهي قطرة من بحار أمير المؤمنين في البصيرة والوعي والموقف الصائب.. تلك البحار العظيمة التي ما لها من نهاية.

توجيه عسكري
ما وصل إلينا من رسائل الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام هو ثروةٌ من ثرواته المعرفية والحياتية الرائعة التي تكشف عن أبعاد كثيرة.
من هذه الرسائل.. تلك التي بَعَث بها الإمام إلى ( كُمَيل بن زياد النَّخَعيّ ) عاملِه على منطقة ( هِيت ) غربيَّ العراق.. في اتجاه الشام.
كان المتسلّط على بلاد الشام آنذاك ( معاوية بن أبي سفيان ) يتزعّم عصابة الانحراف عن الحق، ويجمع كيده لمحاربة حكومة العدل الإلهي العلَوي لإضعافها بكل وسائل المكر والدهاء.
ومن جملة ممارسات حاكم الشام العدوانية: شَنُّه الغارات الأثيمة على أطراف العراق من جهة ( هِيت ).. سلباً ونهباً وتقتيلاً وتشريداً.
في مثل هذا الظرف.. لم يَصدُر مِن كُميل والي المنطقة ما يُدلِّل على تَصدّيه لهذه الهجمات الظالمة، ولا على تحرّك مناسب في مثل هذا الظرف الحسّاس؛ فحواجزه العسكرية في المنطقة مُعطَّلة، وجنده غائبون.. وما ثَمّ إلاّ غارات ( الشجرة الملعونة ) في الشام.. لا يردعها رادع، ولا يقمعها قامع!
ويحاول كميل أن يتلافى موقفه المُحرَج.. فيشنّ هجمات على ( قَرْقيسيا ) الخاضعة لحكم الشام، والتي لم تكن مصدر خطر آنذاك!
إزاء هذه المفارقة الدالّة على وهن في الموقف العسكري.. بَعَث الإمام عليه السّلام رسالة إلى عامله على ( هِيت ) يَعيبُ فيها هذا الموقف، ويدعوه إلى اتّخاذ تدابير حازمة لمواجهة الخطر في مكامنه الحقيقية.
نقرأ في هذه الرسالة: « أمّا بعد، فإنّ تضييع المرءِ ما وُلّي، وتكلُّفَه ما كُفي.. لَعجزٌ حاضر، ورأي مُتَبَّر. وإنّ تَعاطيَك الغارةَ على أهل قَرقيسيا، وتعطيلك مسالحَك التي ولّيناك ـ ليس لها مَن يَمنعُها، ولا يَرُدّ الجيشَ عنها ـ لَرأيٌ شَعاع ( أي: مُبعثَر متَفرّق )؛ فقد صِرتَ جسراً لمن أراد الغارةَ من أعدائك على أوليائك.. غيرَ شديد المَنْكِب، ولا مَهيبَ الجانب، ولا سادٍّ ثُغرة، ولا كاسرٍ لعدوٍّ شوكة، ولا مُغنٍ عن أهل مِصره، ولا مُجْزٍ عن أميره ».
رسالة قيادية مركّزة.. تحمل من معاني اللوم بمقدار ما تحمل من معاني تحريك الهمّة وإثارة النَّخوة، وتُرشد إلى فعلِ ما ينبغي فعلُه في مقابل ما لا ينبغي من الوجهة العسكرية الدفاعية.
إنّ التهاون في صدّ غارات العدو ممّا يُطمِعه في شنّ مزيد من نوبات الاعتداء، وما أيسر ما تُغير قوّاتٌ باغية على قرىً ومدن لا حاميَ لها ولا مُدافِعَ عنها! مِن هنا يَلفِت نظرَنا هذا التعبير الدقيق الرائع الذي وصف به الإمام هذه الحالة، فقال في خطابِ عامله: « صِرتَ جسراً لمن أراد الغارةَ من أعدائك على أوليائك ! ».
ثمّ ماذا تحمل هذه الرسالة من غير هذا وذاك ؟
إنها تحمل تحديداً لخصائص القائد العسكري الذي مهمّته حماية الحدود. وهذه الخصائص يُوجزها الإمام عليه السّلام بخصال: الشدّة والقوة العسكرية التي تُرعب العدوّ، وحفظ الحدود وصيانتها من عبث المعتدين، وإلحاق الهزيمة بالقوات المتجاوزة وكسر شوكتها، وحماية المواطنين وتوفير الأمن لهم. وهذا ـ بلا شك ـ يكفي القيادة العليا هَمَّ هذه المنطقة من الوجهة العسكرية.

مبدأ العدالة في توزيع الثروة
العائدات المالية العامة للمسلمين.. هي ما يُعرف باسم ( بيت المال ). وموجودات بيت المال تُنفَق في جانبين. أحدهما: النفقات العامة في ضمان الفقراء والعاجزين، ورواتب القضاة والجنود، وشؤون الصحة والتعليم، وأداء ديون الغرماء، والعمران.. وسواها. والجانب الآخر: تقسيم الفائض بعد أداء الجانب الأول. وهذا التقسيم يكون بالسويّة بين عامة المسلمين.. دونما اعتبارات طبقية أو امتيازات فئوية.
هذا المعنى ـ أيّها الأصدقاء ـ يتجلّى واضحاً في تعاليم الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، وفي رسائله التي كان يبعث بها إلى المسؤولين في أقاليم الدولة والقائمين على الشؤون المالية والادارية.
ذكر الشيخ المفيد في كتابه ( الاختصاص ) أن الإمام عليه السّلام ولّى بيتَ مال المدينة: عمارَ بن ياسر وأبا الهيثم بن التيِّهان.. فكتب: « العربي والقُرَشي والأنصاري والعجمي وكل مَن كان في الإسلام من قبائل العرب وأجناس العجم.. سواء ». فأتاه سَهلُ بن حُنَيف بمولىً له أسوَد، فقال: كم تعطي هذا ؟ فقال له أمير المؤمنين: « كم أخذتَ أنت ؟ »، قال: ثلاثة دنانير، وكذلك أخذ الناس. قال عليه السّلام: « فأعطُوا مولاه مثلَ ما أخذ: ثلاثة دنانير ».
رسائله عليه السّلام شَهِدت هذا اللون من العدالة في توزيع الثروة.. وهو مبدأ أكّدت عليه السياسة العلَوية التي لم تَرُق ـ بسبب ذلك ـ أصحابَ الامتيازات الطبقية الجوفاء.
في رسالته إلى مَصقَلة بن هُبيرة الشيباني عاملِه على ( أردشير خُرّة ) ..

نقرأ وصيّةَ أمير المؤمنين له، قال عليه السّلام: « ألاَ وإنّ حَقّ مَن قِبَلَك وقِبَلَنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء، يَرِدون عليه ويَصدُرون عنه ».
وفي رسالة أخرى من رسائله الإدارية عليه السّلام.. تتكرّر وصيّة الإمام بالمساواة في التوزيع. كتب صلوات الله عليه في رسالته إلى حُذَيفة بن اليمان واليهِ على المدائن: « آمرُك أن تَجبي خراجَ الأرضين على الحق والنَّصَفة، ولا تتجاوز ما قَدّمتُ به إليك، ولا تَدَع منه شيئاً، ولا تَبتدع فيه أمراً، ثمّ اقسِمْه بين أهله بالسويّة والعدل ».
وهذا التوزيع العادل للثروة كان يتمّ ـ أيّها الأصدقاء ـ دون تأخير، فلا تُحبَس حتّى ليلةً واحدة.. على ما كانت عليه سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسيرة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام مِن بعده.

يتبع ......

****************************