وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                

Search form

إرسال الی صدیق
تجليات الزهد في نهج البلاغة – الثاني

كاظم حمد المحراث

وتكاد مضامين الحثّ على التقوى أن تطغى على أيّةِ دعوة زهدية أُخرى ، كمّاً ونوعاً ، وتعدّت الصِيَغ والأساليب المعهودة ، وأدخلت ـ في نهج البلاغة ـ تفاصيل يصعب حصرها بإيجاز ; حتّى لا يكاد مضمون زهدي ، أو دعوة إليه ، يجري دون أن يُفتتحَ بالدعوة إلى اتّقاء الله :( اتّقوا الله ) لفظاً أو معنىً.
الفدية : الفداء. أرهقتهم : غشيتهم.
القوادح : جمع قادح ، وهو أُكام يقع في الشجر والأسنان.
أوهقتهم : جعلتهم في الوَهَق ; وهو حبل كالطوَل. والقوارع : المِحَن والدواهي.
ضعضعتهم : ذلّلتهم.
عفّرتهم : كبّتهم على مناخرهم في العفر ; وهو : التراب.
المناسـم : جمع مِنْسَم ، وهو مقدّم خفّ البعير ، أو الخفّ نفسه.
دان لها : خضع.
أخلد إليها : ركن لها.
السَغَب : الجوع.
الضنك : الضيق.
لا يدعون ركباناً : لا يقال لهم ركبان : جمع راكب ; لأنّ الراكب من يكون مختاراً ، وله التصرّف في مركوبه.
الأجداث : القبور.
الصفيح : وجه كلّ شيء عريض ; والمراد : وجه الأرض.
الأجنان : القبور.
الرُفات : العظام المندقّة المحطومة.
وتبدو الملازمة جليّة بين الدعوة إلى الزهادة والحثّ على التقوى ، وكثيراً ما يحلّ مصطلح الزهد بدل مصطلح التقوى ، فهما ـ في نهج البلاغة ـ مصطلحان يتناوبان كثيراً ، ويعطي أحدهما معنى الآخر في كثير من الدعوات والنصوص ; فتارةً يأخذ التقوى معنىً لازدراء محاسن الدنيا ، وتحقير ملذّاتها ، والالتفات إلى الآخرة ، وتعظيم نعمها... وهذا هو الزهد..
« اتّقوا الله ! فما خُلِق امرؤ عَبثاً فيلهو ، ولا تُرِك سُدىً فيلغو ، وما دنياه التي تَحَسَّنَتْ له بخَلَف من الآخرة التي قبّحها سوء النظر عنده ، وما المغرور الذي ظَفرَ من الدنيا بأعلى هِمَّته كالآخر الذي ظَفرَ من الآخرة بأدنى سُـهمته » [١]..
وتارة يتّخذه دعوة للاعتراف بنِعم الله على عباده في الدنيا..
« أُوصيكم عبادَ الله بتقوى الله ، الذي ضرب لكم الأمثال ، ووقّت لكم الآجال ، وألبسكم الرِياش ، وأرفغ لكم المعاش ، وأحاط بكم الإحصاء ، وأرصد لكم الجزاء ، وآثركم بالنِعمِ السوابغ... أنتم مُختبرون فيها ، ومُحاسبون عليها » [٢]..
وثالثة ، فالتقوى يعني الاستفادة ممّا يلي من مكنون النفس وحدودها ، وما يحيط بخلجاتها ، ومواجهة غرائزها ، والاعتراف بمعاصيها ، وإلزامها بالعودة إلى حدود الله... وهذا هو الزهد أيضاً..
« اتّقوا الله تقيَّةَ مَن سمِع فخَشعَ ، واقترف فاعترف ، ووجِل فعمِل ، وحاذَرَ فبادَر ، وأيقن فأحسَنَ ، وعُبِّر فاعتبر ، وحُذّر فحذر ، وزُجِر فازدجر ، وأجاب فأناب ، وراجع فتاب ، واقتدى فاحتذى ، وأُرِيَ فرأى ، فأسرع طالباً ، ونجا هارباً... » [٣].
ويدخل الزهد في تفاصيل التقوى وطريقته ، وفي عرض صفات الإنسان التقي ومسـيرته ، وهو وصف يؤكّد للدارس أنّ صفات التقي في نهج البلاغة هي صفات الزاهد نفسها ، وبالتالي فإنّ التُقى يعادل الزهد..
« اتّقوا اللهَ عبادَ الله ! تقيَّةَ ذي لبّ شغل التفكّر قلبَه ، وأنْصَبَ الخوفُ بدنَه ، وأسهر التهجّد غِرارَ نومه ، وأظمأ الرَجاءُ هواجرَ يومه ، وظَلَفَ الزهدُ شهواته ، وأوجَفَ الذكر بلسانِهِ ، وقدَّم الخوفَ لأمانهِ...
ولم تفتِلْه فاتِلاتُ الغُرور ، ولم تَعْمَ عليه مُشْتبهاتُ الأُمور ، ظافراً بفرحة البشرى ، وراحةِ النعمى ، في أنْعَمِ نومه ، وآمنِ يومه. قد عبر مَعْبَر العاجلة حميداً ، وقَدَّم زادَ الآجلةِ سعيداً ، وبادر من وَجَل ، وأكْمَشَ في مَهَل ، ورغِبَ في طَلَب ، وذهب عن هَرَب ، وراقبَ في يومه غَدَه ، ونظر قُدُماً أمامه ; فكفى بالجنّةِ ثواباً ونوالاً ، وكفى بالنارِ عقاباً ووبالا !... » [٤].
والعبادة التي يجهر بها نهج البلاغة ، ويريدها منهجاً للمؤمنين ، تشتمل على الحثّ الدائم على إمكانية نيل أفضل درجات التقرّب إلى الله ، وبالتالي فهي لا تخرج من دائرة الزهد نفسِها التي يطلّق فيها الزاهد حبَّ المالِ ، وحبّ الأولاد ، ووجاهة الدنيا ، ونعيمها... ويرضى بما عند الله ، ويقنع به ، وأن يخافه ـ جلّ شأنه ـ خوفَ مَن يراه ، ويرهب سطوته ، رهبةَ عالم بها ، ويعمل لنيل ثوابه في اليوم الآخر.
فالعبادة هنا ، عبادة زاهدة ، فيها من الإخلاص والتوجّه المطلق ، والانشغال بها ، ما يبعدها عن أن تكون أداءً لطقوس يومية ، أو فرائض شهرية واجبة حسب..
« فوالله ! لو حَنَنْتُم حنينَ الولَّهِ العِجَال ، ودَعَوْتُم بِهَديلِ الحَمام ، وجَأرْتُم جُؤارَ متبتّلي الرُهْبان ، وخرجتُمْ إلى الله من الأموال والأولاد ; التماسَ القُرْبَةِ إليه في ارتفاعِ درجة عنده ، أو غفرانِ سيّئة أحصتها كُتُبُه ، وحَفِظَتها رسلُه ، لكان قليلاً في ما أرجو لكم من ثوابه ، وأخافُ عليكم من عقابه » [٥].
وتبيّن الجملتان الأخيرتان من هذا النصّ شـدّة اهتمام عليّ (عليه السلام)بالعباد ، وحرصه على توجيه كيفيّة عبادتهم ونوعيّتها ، وتبيّنان طبيعة المهمّة التي يحملها ، وهي مهمّة توجيه أخرجته من الأنانيّة الفرديّة في العبادة إلى مسؤوليّة جسيمة في حمل الجماعة على الدين الأُصولي ، بصورته النقيّة التي بشّـر بها الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والتي سار عليها الرعيل الأوّل من صحابته ( رضوان الله عليهم ) ، والتي يبيّن النصّ الآتي بعض كيفيّاتها :
« لقد رأيتُ أصحابَ محمّد صلّى الله عليه فما أرى أحداً يُشبهُهم منكم ; لقد كانوا يُصبِحون شُعْثاً غُبْراً ، وقد باتوا سُجّداً وقياماً ، يُراوحون بين جباهِهم ، وخُدودِهم ، ويقفون على مثلِ الجمر من ذِكْرِ معادِهم ، كأنّ بين أعْيُنهِم رُكَبَ المِعْزَى من طولِ سُجُودِهم ، إذا ذُكِرَ اللهُ هَمَلَتْ أعيُنُهم حتّى تَبُلَّ جيوبَهم ، ومادوا كما يميدُ الشجرُ يومَ الرِيحِ العاصف ، خوفاً من العقاب ، ورجاءً للثوابِ » [٦] .
وأيضاً ، لم يزلْ يرسّخها في الأذهان ، ويقوّيها في القلوب ، وتراه لا ينصرف عنها حتّى وهو في رمق حياته الأخير ، بل إنّه ـ في موقف الموت ـ يجعل من نفسه عبرةً للآخرين ، وعِظةً لهم ، لعلّهم يلتفتون إلى أنّ ما حلّ به سيكون النتيجة الحتميّة لكلّ حيّ قبله وبعده..
وبدا كأنّه يريد التأكيد على صدق دعواته الزهديّة التي مرّت بلا اهتمام عند أغلب الناس..
« كنتُ جاراً جاوركم بدني أيّاماً ، وستُعْقَبونَ منّي جثّةً خلاءً ، ساكنةً بعد حَراك ، وصامتةً بعد نُطْق. ليَعِظَكم هُدوئي ، وخفوتُ إطرافي ، وسكون أطرافي ; فإنّه أوعظُ للمعتبِرين من المنطق البليغ ، والقول المسموع.
وداعي لكم وداع امرئ مُرْصَد للتلاقي ! غداً تَرَوْنَ أيّامي ، ويُكشَفُ لكم عن سرائري ، وتعرفونني بعد خلوِّ مكاني ، وقيامِ غيري مَقامي » [٧] .
وأنا مؤمن تمام الإيمان بأنّ هذه المهمّة قد وضعت لعليّ (عليه السلام) وضعاً ربّانيّاً ، جعلته يحمل يقيناً مطلقاً بثراء ما وهبه الله للإنسان من نِعَم في الحياة ، وبأفضليّة ما ينتظره من ثواب بعد الموت ، وكأنّه يرى تلك الحقائق رؤية العين ، ويلمسها لمس اليد..
« وتا للهِ ! لو انماثَتْ قلوبُكم انمياثاً ، وسالت عيونكم ـ من رغبة إليهِ أو رهبة منه ـ دماً ، ثمّ عُمِّرْتُم في الدنيا ـ ما الدنيا باقيةٌ ـ ما جزت أعمالكم ـ ولو لم تُبْقوا شيئاً من جُهْدِكم ـ أنْعُمَهُ عليكم العِظامَ ، وهُداه إيّاكم للإيمان » [٨]..
يقابلها عجز المعرفة البشرية ، ومحدوديّة معلوماتها عن جوهر تلك النِعم وعمقها ، ويظهر أنّ الإشفاق على محدوديّة علم البشر متأتّ من معرفة الإمام عليّ (عليه السلام) العميقة بأسرار الكون والخلق والوجود ، بمعنى : إنّه يعرف من بواطن الأُمور ، وخفايا الأشياء ، ما لا يعرفُ سائر البشر.
ومن يبغي التعرّف على بعض من علمه (عليه السلام) في نشأة الأرض والسماء ، وتكاثر البشر ، ودورات الحياة ، وعن نهاية العالم ، وعن تراكم الثروات التعدينيّة ، وعن ربط حياة مخلوقات الأرض والبحر والجو ، والليل والنهار ، فليرجع إلى كتاب د. مهندس عبد الهادي ناصر ، الموسوم بـ : نظرات في الكون والقرآن ، والمتّكئ في استنتاجاته العلمية على القرآن الكريم وكتاب نهج البلاغة..
ومن هذا العلم الذي استُودِع عنده ، استمدّ عليّ (عليه السلام) ركائز الإيمان الذي قاد إلى التقوى ، والورع ، والعبادة ، والزهد بأشكاله الصحيحة البعيدة عن التطرّف والانحراف والغلوّ.
وصارت أخبار الأوّلين ، وأحداث التاريخ القريب منها والبعيد ، باعثاً لاستنتاج العِبَر ، وطرح المواعظ ، ووُظِّفَت ـ في نهج البلاغة ـ بأساليب خطابيّة ذات مضامين زهديّة ، لامست الحسّ الديني لدى الأفراد ، وكان أمير المؤمنين يُدرك أنّ العباد بحاجة إلى التذكير الدائم ، وأنّ مهمّته الدينيّة تستدعي الإلحاح المستمرّ ، وإلقاء الحجج على البشر في بيان فضل الله ، وفي أُصول الإسلام ، وفي قيمة حياة ما بعد الموت ، والمقارنة ، والترغيب ، والترهيب..
« أوَ ليس لكم في آثار الأوّلين مزْدَجرٌ ، وفي آبائِكم الأوّلين تبصِرةٌ ومُعَتَبر ; إن كنتم تعقِلون ؟!
أوَ لم تَروا إلى الماضين منكم لا يرجعون ، وإلى الخَلَفِ الباقين لا يبقون ؟!
أَوَلَسْتُم تَرَون أهلَ الدنيا يُمسون ويُصبحون على أحوال شتّى : فميّتٌ يُبْكى ، وآخَرُ يُعَزَّى ، وصريعٌ مُبتلى ، وعائد يعود ، وآخرُ بنفسه يجود ، وطالبٌ للدنيا والموتُ يطلبُه ، وغافلٌ وليس بمغفول عنه ; وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي ! » [٩].
وليس هذا فحسب ، بل إنّه كثيراً ما يسترفد العِبرةَ ، ويبثّ الحكمة ، ويستخلص النصيحة ، بالاعتماد على تجربة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أعمامه وعشيرته الأقربين ، وعلى الصراع غير المتكافئ بين الإسلام والشرك ، والقوّة القليلة التي غلبت فئةً كثيرة بإذن الله ، كي يتّخذ من هذا كلّه ، وذاك كلّه ، برهاناً على صدق التجربة الزهدّية المأخوذة من صميم الإسلام ، والتي ينادي بها ويسعى لتحقيقها..
« لقد كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ، ما يزيدُنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ، ومُضيّاً على اللَقَمِ ، وصبراً على مَضَضِ الألم ، وجـدّاً في جهاد العدوِّ..
ولقد كان الرَجل منّا والآخرُ من عدوِّنا يتصاوَلانِ تصاوُلَ الفَحْلين ، يتخالسانِ أنفسهَما ، أيُّهما يسقي صاحبَه كأسَ المنون ، فمرّةً لنا من عدوِّنا ، ومرّة لعدوّنا منّا ، فلمّا رأى الله صِدْقَنا أنزل بعدوّنا الكَبْتَ ، وأنزلَ علينا النصر ، حتّى استقرّ الإسلام مُلقِياً جِرانَه ، ومتبوِّئاً أوطانه » [١٠] .

مضامين وحدانيّة الله عزّ وجلّ في نهج البلاغة :

في الفلسفة الوجوديّة ، يفصل موضوع الإيمان بوجود الله وإنكار وجوده ، بين التديّن والإلحاد ، وخرجت من عباءة هذين الموضوعين نظريّات واتّجاهات فلسفية شتّى ، لكنّها كلّها ـ كما نرى ـ لا ترقى إلى مضمون النظريّة القرآنيّة المبرهنة على وجوده المتعالي ، وهي نظريّة استفادت الفلسفة الإسلاميّة منها في المعرفة والتنظير..
ولأنّ موضوع هذا البحث لا يتّخذ القرآن مادةً له ، فإنّنا نترك للقارئ حريّة التوجّه إلى الدراسات والتفاسير القرآنيّة ، والتعرّض إلى المباحث التي تهتمّ بهذه الإشكاليّة.
لكن الذي يهُمّنا هنا ، إنّنا نجد في نهج البلاغة نصوصاً تتساوق مضامِينُها مع مضامين الفلسفة القرآنيّة المشار إليها ، تحيط الناس ببراهين وحدانيّته سبحانه وتعالى ، وكُنه وجـوده..
يأتي بعضُها مخصّصاً لهذا الغرض ، في مثل : «... سَبَقَ الأوقاتِ كَوْنُه ، والعَدَمَ وجودُه ، والابتداءَ أوَّلُه. بتشعيره المشاعر عُرِفَ أنْ لا مشعَرَ له ، وبمضادّتِه بين الأُمور عُرِفَ أنْ لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عُرف أنْ لا قرينَ له. ضادّ النورَ بالظُلمةِ ، والوضوحَ بالبُهْمَةِ ، والجمودَ بالبللِ ، والحَرُورَ بالصَرْدِ...
لا يُشْمَلُ بحدّ ، ولا يُحْسَبُ بعدّ ، وإنّما تَحُدّ الأدواتُ أنفسَها ، وتشير الآلاتُ إلى نظائرِها. منعتها « منذُ » القِدْمة ، وحمتْها « قـد » الأزليّة ، وجنَّبتها « لولا » التكملة ، بها تجلّى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون... » [١١] .
وهذا نصّ طويل ، يحتاج إيراده كاملاً ، وتحليله مفصّلاً ، إلى بحث مسهب قائم بذاته.
أمّا القسم الآخر من المضامين المخصّصة لبيان وحدانيته تعالى فإنّها تأتي في سياق التذكير والتزهيد ، والحقّ أنّ هذا السياق الخطابي الأخير يستدعي توطئة تستميل القلوب ، وتصرف إليه الأذهان ; إذ أنّ تشديد الخطاب على وجوده الأوحد ، ووصف خلقه جلّ وعلا ، أمرٌ يجعل المتلقّي أكثر ثباتاً على الإيمان ، وأشـدّ تمسّكاً بالتقوى ، وأقرب إلى اعتناق ما يجهر به الخطيب..
من ذلك : « الحمدُ للهِ المتجلّي لخَلقِهِ بَخَلْقِهِ ، والظاهر لقلوبهم بحجّته من غير رَوِيَّة ; إذ كانت الرويّاتُ لا تليقُ إلاّ بذوي الضمائرِ ، وليس بذي ضمير في نفسه. خَرَقَ عِلمُه باطنَ غَيْبِ السُتُراتِ ، وأحاطَ بغمُوضِ عقائدِ السريراتِ... » [١٢] .
للانفعال المخصوص الذي يعرض لها من المواد ، وهو ما يسمّى بـ : الإحساس ، فالمَشْعَر من حيث هو مَشْـعَر منفعل دائماً ، ولو كان له سبحانه مشعر لكان منفعلاً ، والمنفعلِ لا يكون فاعلاً. الصَرد : البرد.
أمّا قوله : « منذ القِدْمة » ، و « قد الأزليّة » ، و « لولا التكملة » ، فمعناه : أنّه يقال في كلّ « مخلوق » : « قد وجد » ، و : « وجد منذ كذا » ; وهذا مانع للقِدَم والأزليّة ، ويقال فيه كذلك : « لولا خالقه ما وجد » ; أي هو ناقص لذاته ، محتاج للتكملة بغيره.
وبعد هذا التقديم ، يتّجه النصّ إلى بثّ المضمون الزهديّ الواعظ :
«... أين تذهبُ بكم المذاهبُ ، وتتيهُ بكم الغياهبُ ، وتَخدعكُم  الكواذبُ ؟! ومن أين تُؤْتَوْن ، وأنّى تُؤفَكُوْن ؟! فلكلِّ أجل كتاب ، ولكلِّ غيبة إياب ، فاستمعِوا من ربّانيِّكم... » [١٣].
استمدّ نهج البلاغة أفكاره الفلسفيّة ، ومضامينه الدينية ، ودعواته الزهديّة من بعض ما بشّر به القرآن الكريم ; والتي من بينها الدعوة إلى التوبة ، التي وعد الله أن تكون مكافأتها المغفرة والنجاة من الخطايا والذنوب ، وغالباً ما ترتبط دعوة النهج إلى التوبة بالتشجيع على الاتّصاف بصفات الحذر ، والتخلّي عن الغفلة ، والانتباه إلى قِصَر العمر ; فالموتُ آت وحينذاك لا ينفع إلاّ صالح الأعمال ، الذي إن فات على المرء عمله ، فليَلذ إلى ربّه ويتُب ، ويطلب العفو والصفح قبل فوات الأوان.
ويلمس قارئ نهج البلاغة دعوات التنفير من الدنيا ، والهروب إلى الله ، في مضامين الزهد كلّها التي وقع حديثنا عليها ، أو التي لم يقع عليها بعد ، وبدا من خلال ذلك كلّه أنّ قدرة الإنسان على كبح جماح نفسه ، ولجم نزواتها عن ملذّات الدنيا المحرّمة والمكروهة ، وهي الضمان الفريد لكسب مرضاة الله... وعلى المرء ألاّ يقنط من رحمته ، وإن كثرث ذُنوبه ، على أن يقترن ذلك الإحساس بصحوة الضمير ، والاعتراف بالخطأ ، والشـعور بالندم ، والتصميم على اللاّعودة إلى ارتكاب المعاصي ، وتلك هي التوبة..
« فأفِق أُيّها السامع من سَكْرَتِك ، واستيقِظ من غفلتِك ، واختصرْ من عَجَلَتِكَ ، وأنْعِمِ الفِكْرَ في ما جاءَك على لسان النبيّ الأُمّيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ممّا لا بُدّ منه ، ولا مَحِيْصَ عنه ، وخالِفْ ذلك إلى غيره ، ودَعْهُ وما رضي لنفسِه ، وضَعْ فَخْرَك ، واحطُطْ كِبْرَك ، واذكُرْ قَبْرَكْ ; فإنّ عليه ممرّك. وكما تدِينُ تُدانُ ، وكما تزرعُ تحصُدُ ، وما قدّمتَ اليومَ تَقْدِم عليه غداً ، فامْهَدْ لِقَدَمِكَ ، وقَدِّمْ ليومك.
فالحذرَ الحذر أيُّها المُسْتَمْتِعُ ! والجِدَّ الجِدَّ أيّها الغافل ; ( ولا يُنْبِّئُكَ مِثْلُ خَبير ) [١٤] » [١٥]..
« فطوبى لذي قَلْب سليم ، أطاعَ مَنْ يهديِه ، وتجّنبَ مَن يُرْدِيه ، وأصاب سبيلَ السلامةِ مَنْ بَصَّرَه ، وطاعةِ هاد أمَرَه ، وبادَرَ الهدى قبل أن تُغْلَقَ أبوابُه ، وتُقطَّعُ أسبابُه ، واستفتحَ التوبةَ ، وأماطَ الحَوبةَ ، فقد أُقيمَ على الطريقِ ، وهُدِيَ نهجَ السبيل » [١٦] .
ويأتي بثُّ مجموعة من البديهيّات الدينيّة المتوافقة مع السلوك العبادي ، والمنهج الديني ، مثل : التوكّل على الله عزّ وجلّ توكّلاً صادقاً ، والرجاء لرحمته الواسعة ، والقناعة والرضا بما قسمهُ جلّ وعلا ; متساوقاً تمام التساوق مع أنماط المضامين الزاهدة المبثوثة في كتاب نهج البلاغة.
فالقناعة ، هنا ، قائمة على فلسفة إيمانيّة ، أساسها رفض الدنيا الدنيّة ، وعمودها إيمان مطلق بما في يد الله تعالى;إذ «لا يكون المؤمنُ مؤمناً حتّى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده » [١٧]..
وذلك لأنَّ « الدنيا دارٌ مُنِيَ لها الفَناءُ ، ولأهِلها منها الجلاء ، وهي حُلوةٌ خَضِـرة ، وقد عَجِلَتْ للطالب ، والتَبَسَتْ بقلبِ الناظر ; فارتَحلوا منها بأحْسَنِ ما بحضرِتكم من الزاد ، ولا تسألوا فيها فرقَ الكَفاف ، ولا تطلُبوا منها أكثر من البلاغ » [١٨] .
فالتجلّي الملموس في جملة الأداءات المضمونية الزاهدة التي عرضناها يتيح للمتلقّي الوقوف على نمط النموذج الإنساني الذي يتمنّاه نهج البلاغة ، وهو نموذج لا يرضى أن تتساوى الحياة مع الموت في عمله وعقله وشـعوره ، بل إنّه لا ينظر إلى أهمّية الحياة ، ولا يضع لها قيمة دون أن تكون سبيلاً يمكّن الإنسانَ الفوزَ بمقعد محترم في الحياة التي تليها.

-----------------------------------------------------------------------------
[١] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٩ / ٣٠٠..
لها : تلهّى بلذّاته.
لغا : أتى باللَّغْو ; وهو ما لا فائدة فيه.
خلف : ما يَخلُف الشيء ويأتي بعده.
السُّـهمة : النصيب.
[٢] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ٣٤٤..
ضرب الأمثال : جاء بها في الكلام لإيضاح الحجج ، وتقريرها في الأذهان.
وقّت الآجال : جعلها في أوقات محدودة ، لا متقدّم عنها ولا متأخّر.
الرياش : ما ظهر من اللباس.
أرفغ لكم المعاش : أوسع.
أحاط بكم بالإحصاء : أي جعل إحصاء أعمالكم والعلم بها عملاً كالسُور لا تنفذون منه ولا تتعدّونه.
أرصد لكم الجزاء : أعدّه لكم فلا محيصَ عنه.
[٣] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ٢٥٥..
اقترف : اكتسب.
وَجلَ : خاف.
بادَر : سارعَ.
عُبّر فاعتبر : عُرِضت عليه العِبَر مراراً كَثيرة فاتّعظ.
ازدجر : امتنع عن الشيء وانتهى.
أناب إلى الله : تاب.
احتذى : شاكَلَ بين عمله وعمل مقتداه ; أي : أحسن القدوة.
[٤] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ٢٦٣..
أنصب : أتعب.
الغِرار : القليل من النوم وغيره.
أسهره التهجّد : أزال قيامُ الليل نومَه القليل ، فأذهبه بالمرّة.
الهواجر : جمع هاجرة ، وهي نصف النهار عند اشتداد الحرّ.
ظلف الزهد شهواته : منعها.
أوجف الذكر بلسانه : أي أسرع ; كأنّ الذكر لشدّة تحريكه اللسان موجفٌ به كما توجف الناقة براكبها.
لم تفتله : لم تردّه ولم تصرفه.
لم تَعْمَ عليه : من : عمي يعمى ; أي : لم تخْفَ عليه الأُمور المشتبهة.
النعمى : سـعة العيش ونعيمه.
العاجلة : الدنيا ، وسُمّيت : مَعْبراً ; لأنّها طريق يُعَبر منها إلى الآخرة ; وهي : الآجلة.
بادر من وَجَل : سبق إلى خير الأعمال خوفاً من لقاء الأهوال.
أكمش : أسرع ; والمراد : جدّ السَيْر في مهلة الحياة.
قُدُماً : المضي إلى أمام ; أي : مضى مُتقدّماً.
[٥] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٣٣٢..
الوُلّه العِجال : الولّه : جمع والهة ، وهي كلّ أُنثى فقدت ولدَها ; وأصل الوله : ذهاب العقل ، العجال من النوق : جمع عجول ; وهي : التي فقدت ولدها.
هديل الحمام : صوته في بكائه لِفَقْد إلفه.
جأرتم : رفعتم أصواتكم ، والجؤار : الصوت المرتفع.
المتبتّل : المنقطع للعبادة.
[٦] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٧ / ٧٧..
شُعْثاً : جمع أشعث ; وهو : المغبر الرأس.
غُبْراً : جمع أغبر ; وهو : المغبرّ ، والمراد : أنّهم كانوا متقشّفين.
المراوحة بين العملين : أن يعمل هذا مرّة ، وهذا مرّة ، وبين الرجلين : أن يقوم على كلّ منهما مرّة ، وبين جباههم وخدودهم : أن يضعوا الخدود مرةّ والجباه أُخرى على الأرض ; خضوعاً للهِ وسجوداً.
رُكَب : موصل الساق من الرِجل بالفخد ; وإنّما خصّ رُكبَ المِعزى ليبوستها واضطرابها من كثرة الحركة.
مادوا : اضطربوا وارتعدوا.
[٧] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٩ / ١١٦..
جثّة خلاء : خالية من الروح.
الخفوت : السكون.
أطرافه : يداه ورأسه ورجلاه.
مُرْصِد : مُنتظِر.
[٨] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٣٣٢..
انماثت انمياثاً : ذابت ذوباناً.
[٩] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٧ / ٨٠..
مزدجر : الانزجار والارتداع.
بنفسه يجود : من : جاد بنفسه ، إذا قاربَ أن يقضي نحبه ; كأنّه يسخو بها ويسلّمها إلى خالقها.
[١٠] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٤ / ٣٣..
اللَّقَم : معظم الطريق أو جادّته.
مضض الألم : لذعته.
التصاول : أن يحمل كلّ واحد من النِدَّين على صاحبه.
يتخالسان أنفسهما : كلّ منهما يطلب اختلاس روع الآخر.
الكبْت : الإذلال.
جران البعير : مقدّم عنقه من مذبحه إلى مَنْحَرِه ، وإلقاء الجِران : كناية عن التمكّن.
[١١] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٣ / ٦٩ ـ ٧٦..
المشعر : محل الشعور ، أي الإحساس ، فهو : الحاسّة ، وتشعيرها : إعداده
[١٢] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٧ / ١٨١..
المراد « بذوي الضمائر » : ذوو القلوب والحواس البدائية.
السُترات : جمع سـترة ، وهي : ما يُسْـتر به ، أيّاً كان.
[١٣] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٧ / ١٨٩..
الربّاني : العارف بالله عزّ وجلّ.
[١٤] . سورة فاطر ٣٥ : ١٤.
[١٥] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٨ / ١٥٨..
امهد : ابسط.
[١٦] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١١ / ٦٥ ـ ٦٦..
الحَوبة : الإثم ، وإماطتها : ثنيها.
[١٧] . مروج الذهب ومعادن الجوهر ١ / ٦١٥.
[١٨] . شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ١٥٢..
مُنَي لها الفناء : قُدِّر لها.
الجلاء : الخروج من الأوطان.
التبست بقلب الناظر : اختلطت به محبّةً.
الكفاف : ما يمنعك من سؤال غيرك ; وهو : مقدار القوت.
البلاغ : ما يُتبلّغ به ; أي : يُقتاتُ به مدّة الحياة.

المصادر :
١ ـ تاريخ الأُمم والملوك ، المسمّى : تاريخ الطبري ، لأبي جعفر محمّد ابن جرير الطبري ( ت ٣١٠ هـ ) ، عزّ الدين للطباعة والنشر / بيروت ، ١٩٨٥ م.
٢ ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ، الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ( ت ٤٣٠ هـ ) دار الكتاب العربي / بيروت ، ١٩٨٠ م.
٣ ـ خصائص أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، لأحمد بن شعيب النسائي ( ت ٣٠٣ هـ ) ، تحقيق أحمد ميرين البلوشي ، مكتبة المعلاّ / الكويت ، ١٤٠٦ هـ.
٤ ـ الزهد وصفة الزاهدين ، لأحمد بن محمّد بن زياد بن درهم ( ت ٣٤٠ هـ ) ، تحقيق مجدي فتحي السيّد ، دار الصحابة / طنطا ، ١٤٠٨ هـ.
٥ ـ سنن الترمذي لمحمّد بن عيسى بن سورة الترمذي ( ت ٢٧٩ هـ ) ، دار إحياء التراث العربي / بيروت ، بدون تاريخ.
٦ ـ شرح « نهج البلاغة » ، مجموع ما اختاره الشريف الرضيّ ، أبي الحسن محمّد بن الحسين بن موسى الموسوي ( ت ٤٠٦ هـ ) من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، لابن أبي الحديد ( ت ٦٥٦ هـ ) ، بتحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم ، دار الجيل / بيروت ، ١٤٠٧ هـ.
٧ ـ شرح « نهج البلاغة » ، للشيخ محمّد عبده ، تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد ، مطبعة الاستقامة / مصر. بدون تاريخ.
٨ ـ صحيح مسلم ، لأبي الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري ( ت ٢٦١ هـ ) ، دار الفكر / بيروت ، ١٩٧٨ م.
٩ ـ الطبقات الكبرى ، لابن سـعد ( ت ٢٣٠ هـ ) ، بيروت ، بدون تاريخ.
١٠ ـ فضائل الصحابة ، لأحمد بن حنبل (ت ٢٤١ هـ) ،مؤسّـسة الرسالة / بيروت ، ١٩٨٣ م.
١١ ـ الفلسفة الصوفية في الإسلام ،د. عبد القادر محمود ،دار الفكر العربي / مصر ، ١٩٦٦ م.
١٢ ـ كتاب الزهد الكبير ، لأبي بكر البيهقي ( ت ٤٥٨ هـ ) ، تحقيق عامر أحمد حسين ، مؤسّـسة الكتب الثقافية / بيروت ، ١٩٩٦ م.
١٣ ـ لسان العرب ، لابن منظور ، أبي الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم الإفريقي المصري ، دار صادر / بيروت ، ٢٠٠٠ م.
١٤ ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر ، للمسعودي ، علي بن الحسين ( ت ٣٤٦ هـ ) ، تحقيق محمّد محي الدين عبد المجيد ، دار التحرير / مصر ، ١٩٦٦ م.
١٥ ـ المصنّف في الأحاديث ، لمحمّد بن أبي شيبة الكوفي العبسي ( ت ٢٣٥ هـ ) ، سلسلة مطبوعات الدار السلفية / بومباي ـ الهند ، بدون تاريخ.
١٦ ـ المناقب ، لأحمد بن موسى ابن مردويه الأصفهاني ( ت ٤١٠ هـ ) ، دار الحديث للطباعة والنشر / قم ، ١٤٢٢ هـ .

إنتهى .

****************************