يقول الشريف الرضيّ إنّه بعد أن فرغ من كتابة القسم الأوّل من كتاب خصائص الأئمّة باسم خصائص أمير المؤمنين عليه السلام وبطلبٍ من بعض معارفه, جمع خُطب وكُتب وكلمات أمير المؤمنين عليه السلام وسمّاها بـ نهج البلاغة. وقد كتب في مقدّمته السبب الّذي دعاه إلى تأليف هذا الكتاب، وجاء فيها :
وكنت في عنفوان السّن ، وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب خصائص الأئمّة عليهم السلام يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم... وفرغت من الخصائص الّتي تخصُّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام وعاقت عن إتمام بقيّة الكتاب محاجزات الزمان... فاستحسن جماعة من الأصدقاء والإخوان ما اشتمل عليه الفصل المقُدّم ذكره معجبين ببدائعه.. وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعّبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وآداب، علماً أنّ ذلك يتضمّن عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربيّة وثواقب الكلم الدينيّة والدنيويّة ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف.. فأجبتهم إلى الابتداء بذلك، عالماً بما فيه من عظيم النفع.... ورأيت من بَعْدُ تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة...
هل كان الرضيّ أوّل من جمع خطب الإمام عليه السلام؟
ولم يكن الشريف الرضيّ هو السابق إلى جمع كلام الإمام عليّ عليه السلام، ولا الأوّل في تدوينه، فقد عني الناس به عنايةً بالغة، وحظي بما لم يحظ به كلام أحدٍ من البلغاء على كثرتهم في الجاهليّة والإسلام، ودوّنوه في عصره، وحفظوه في أيّامه، وكتبوه ساعة إلقائه. ومن هؤلاء زيد بن وهب الجهنيّ، وكان من أصحاب الإمام عليّ عليه السلام، وشهد معه بعض مشاهده حيث جمع كتاباً من خطبه، والحارث الأعور الّذي دوّن بعض خطب الإمام عليه السلام، والأصبغ بن نباتة الّذي روى عنه عهده للأشتر النخعيّ لمّا ولاّه مصر، ووصيّته لولده محمّد بن الحنفيّة.
ومن الّذين حفظوا كلام الإمام عليه السلام ورووه: شريح القاضي ، وكميل بن زياد النخعيّ ، ونوف البكّاليّ ، وضرار بن ضمرة الضبائيّ ، فهؤلاء سمعوا بعض كلامه عليه السلام وحفظوه.
وذكر الجاحظ (٢٥٥ هـ- ٨٦٨م)أنّ خطب الإمام عليّ عليه السلام كانت مدوّنة محفوظة مشهورة.
وأحصى المسعوديّ ما كان محفوظاً من خطبه عليه السلام وعدّها بأربعمائة خطبة.
ومن خلال النصوص المذكورة بأقلام الأعلام على اختلاف مذاهبهم، وفيهم المتقدِّم على الرضيّ بزمان طويل، يتبيّن لنا أنّ خطب الإمام عليّ عليه السلام كانت مدوّنة محفوظة مشهورة بين الناس معروفة عندهم، وأنّها تنوف على أربعمائة وثمانين، بينما المذكور منها في الكتاب الّذي جمعه الرضيّ لا يصل إلى هذا العدد.
مضافاً إلى ذلك فقد ذكر السيّد عبد الزهراء الخطيب في كتابه (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) أسماء المصنّفات والكتب الّتي جمعت كلام الإمام عليّ عليه السلام قبل زمن الشريف الرضيّ، وعددها اثنان وعشرون مؤلّفاً ومصنّفاً ، منها:
١ - خُطب أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر في الجُمع والأعياد وغيرها، لزيد بن وهب الجهنيّ. والظاهر أنّ هذا الكتاب أوّل كتاب جمع خطبه عليه السلام، لأنّ مؤلّفه أدرك الجاهلية والإسلام.
٢ - خُطب أمير المؤمنين عليه السلام المرويّة عن الإمام الصادق عليه السلام، وقد ذكرها ورواها أبو روح فرج بن فروة عن مسعدة بن صدقة. وقد وصلت نسخة من هذا الكتاب إلى السيّد عليّ بن طاووس، وكتب عليها أنّها كُتبت بعد المائتين من الهجرة.
٣ - مائة كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام : اختارها أبو عثمان عمرو بن عثمان الجاحظ من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، واختار الشريف الرضيّ جملة منها، وأثبتها في النهج.
٤ - رسائل أمير المؤمنين عليه السلام وأخباره وحروبه : لإبراهيم بن محمّد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن مسعود الثقفيّ الكوفيّ.
بالإضافة إلى الكثير من المؤلّفات الّتي لم نذكرها اختصاراً.
المؤلّفات بعد الرضيّ
كما أنّ الشريف الرضيّ لم يكن أوّل من جمع وألّف في كلام الإمام عليّ عليه السلام، كذلك لم يكن آخر من قام بذلك. ولم تنحصر كلمات وحِكَم ومواعظ أمير المؤمنين عليه السلام بالّذي جمعه الرضيّ فحسب، فقد حاول كثير من العلماء والأدباء على مرِّ العصور قبل عصر الرضيّ ـ كما تقدّم ـ وبعده أن يُفرِدوا لكلامه كتباً خاصّة ودواوين مستقلّة، بقي بعضها وذهب الكثير منها مع الأيّام في جملة ما ذهب من الكتب الشيعيّة والإسلاميّة عموماً حيث تعرّضت للنهب والإحراق.
وأحصى العلماء والمحقّقون ثمانيةً وأربعين مؤلّفاً من كلام الإمام عليّ عليه السلام، بالإضافة إلى ما ذكره بعضهم من أنها أكثر من ذلك، وأهمّ هذه المؤلّفات:
١ - دستور معالم الحِكَم ومأثور مكارم الشِّيم من كلام أمير المؤمنين عليه السلام : لأبي عبد الله محمّد بن سلامة بن جعفر الفقيه الشافعيّ المعروف بالقاضي القضاعيّ، المتوفّى سنة (٤٥٤) هـ.
٢ - كلام الإمام عليّ عليه السلام وخطبه: لأبي العبّاس يعقوب بن أحمد الصيمريّ، النيسابوري (توفّي ٤٧٤ هـ).
٣ - نثر اللآلئ: للشيخ أمين الإسلام أبي علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسيّ، المفسِّر المشهور المتوفّى سنة (٥٤٨) هـ.
٤ - غرر الحِكَم ودرر الكلِم: لأبي الفتح ناصح الدين عبد الواحد بن محمّد بن عبد الواحد الآمديّ ( توفّي سنة ٥٥٠ هـ)، من مشايخ ابن شهرآشوب.
٥- منثور الحِكَم: لأبي الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن محمّد البكريّ الشهير بابن الجوزيّ، من أفاضل علماء الحنابلة(توفّي سنة ٥٩٧ هـ).
٦ - نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة : للعلّامة المحقّق الشيخ محمّد باقر بن عبد الله المحموديّ معاصر، وهو موسوعة تبلغ ثمانية مجلّدات.
بالإضافة إلى غيرها من الكتب... ولكن على الرغم من القيمة العلميّة والأهميّة البالغة لهذه الكتب والمؤلّفات في ميزان العلم ومتاجر الفضل، بقي هذا (النهج) الّذي جمعه الرضيّ هو الكتاب الخالد على الدهر، ولا يُبليه الزمان مهما طال عمره.
حفظ وشرح نهج البلاغة
و قام العديد من الأعلام بحفظه وحثّ الناس على الأخذ به وتعلّمه، فكان من حَفَظته القاضي جمال الدين محمّد بن الحسين بن محمّد القاشانيّ. ومن حفَّاظه في القرون المتقدِّمة: الخطيب أبو عبد الله محمّد الفارقي المتوفّى سنة (٥٦٤) هـ.، والمؤرّخ الشاعر الشيخ محمّد حسين مروّة الحافظ العامليّ، وغيرهم ممّن لا يتّسع المجال لذكرهم من الّذين حفظوا كتاب نهج البلاغة.
وهكذا توالت وتضافرت الشروح حول (نهج البلاغة) منذ عهدٍ قريب من عصر السيّد الرضيّ إلى عصرنا الحاضر، وممّن شرحه :
١ ـ السيّد عليّ بن الناصر المعاصر لسيّدنا الرضيّ شرحه وأسما شرحه بـ(أعلام نهج البلاغة) وهو أوّل الشروح وأقدمها.
٢ ـ أبو الحسين سعيد بن هبة الله قطب الدين الراونديّ المتوفّى ٥٧٣ أسما شرحه بـ(منهاج البراعة).
٣ ـ القاضي عبد الجبّار المردّد بين جمع مقارنين بعصر شيخ الطائفة ذكره العلّامة النوريّ في (المستدرك).
٤ ـ الفخر الرازي محمّد بن عمر الطبري الشافعيّ المتوفّى ٦٠٦ كما صرّح به القفطيّ في (تاريخ الحكماء).
٥ ـ أبو حامد عزّ الدين عبد الحميد الشهير بابن أبي الحديد المعتزلي المدايني المتوفّى سنة ٦٥٥، له شرحه الدائر الّذي اختصره المولى سلطان محمود الطبسيّ الآتي ذكره.
٦ ـ كمال الدين الشيخ ميثم بن عليّ بن ميثم البحرانيّ المتوفّى ٦٧٩، له شرحه الكبير والمتوسّط والصغير.
٧ ـ السيّد نعمة الله بن عبد الله الجزائري التستريّ المتوفّى ١١١٢له شرحه في ثلاث مجلّدات.
٨ ـ الحاج ميرزا حبيب الله الموسويّ الخوئيّ المتوفّى حدود ١٣٢٦، له شرحه الكبير الموسوم بـ(منهاج البراعة).
وتُرجِم الكتاب إلى اللّغات غير العربيّة. وقد ذكر السيّد محسن الأمين بعض هذه الشروح في كتاب (أعيان الشيعة)، والشيخ الأمينيّ في كتاب (الغدير)، والآقا بزرك الطهرانيّ في كتاب (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) .
والمعلوم أنّ شروح نهج البلاغة بلغت المائتين وما فوق. ولو قُدِّر لأحد أن يحظى بكلّ ما أُلِّف حول (النهج) قديماً وحديثاً لاجتمع له مكتبة برأسها تستحقّ أن يُطلق عليها (مكتبة نهج البلاغة) .