بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
- إن ظلامة علي -عليه السلام- في حياته ظُلامة تاريخية معروفة!.. عندما سُئل أحد المؤلفين المسيحيين، الذي ألف كتاباً عن علي -عليه السلام-: أنت الذي تصف علياً -عليه السلام- بهذه الأوصاف، فلمَ لا تُسلم؟.. فما كان منه إلا أن قال: إن دفاعي عن علي، هودفاع عن إنسان مظلوم، وطبيعة الإنسان أنه يتأذى على ظُلامة مظلوم.. وعلي ظُلم في التاريخ، ولم يُعرف قدره، وأردت أن أدافع عنه.
- إن ظلامة علي -عليه السلام- في التاريخ وقعت، وكما يقال: الزمن لا يرجع إلى الوراء، فما وقع وقع!.. ولكن الكلام الآن هوعن ظُلامة علي -عليه السلام- في حياتنا اليوم، الظلامة المعاشة.. وهذا أمر قابل للارتفاع؛ لأن الإنسان إلى أن تقبض روحه بإمكانه أن يتدارك، كم فعل العبد الصالح الحر، حيث انتقل من أسفل سافلين إلى أعلى عليين.
- إن ظلامة علي -عليه السلام- في أتباعه وفي شيعته، هذه الظُلامة لها صور منها: إدعاء الموالاة إدعاءً، من دون مطابقةٍ لفعله، ولما أراده علي -عليه السلام-.. لعل البعض أراد أن يدخل في هذا المنهج، وفي هذه المدرسة.. ولكن عندما يرى سلبيات بعض أتباع هذه المدرسة، وإذا به ينصرف!.. وهذه جريمة كبرى، أن يُنفِّر الإنسان الآخرين عن منهج أهل البيت (ع)، ويكون مصداقاً لذيل الرواية لا لصدرها: (كونوا زينا لنا، ولا تكونوا شيناً علينا)!..
- إن نهج البلاغة هوالصورة الأخرى من ظلامة علي -عليه السلام-.. هنالك الكثيرون ممن يذكرون علياً -عليه السلام- كشفيع لهم في يوم المحشر، والبعض من الممكن أن يكون قد ذرف دموعاً على عليٍ -عليه السلام- في شهر استشهاده، ولعل البعض أنشد أوقرأ فيه شعراًً.. ولكن لعله طوال حياته، لم يفتح كتاب علي (ع) في العمر ولومرة واحدة؛ وهوكتاب نهج البلاغة، هذا التراث الذي بين أيدينا.. فالبعض يتمنى أن يكون في زمان أمير المؤمنين (ع)، ليحارب معه، وليستمتع بخطبة من خطبه.. هذا التمني جيد، ولكن هذه الأمنية متحققة!.. إن كان الإنسان صادقاً في هذه الأمنية، فليفتح النهج وليستمع إلى كلمات علي (ع) في الحروب، وإلى كلماته (ع) في خطب الجمعة، وفي وصف المتقين.. فإذن، ما عليه إلا أن يذهب إلى مكتبته، ويستخرج نهج البلاغة، ويأخذه بيده ليعيش في رحاب علي عليه السلام.
فإذن، إن من أفضل أنواع الضيافة الرمضانية هذه الأيام والليالي، أن نعيش على مائدة علي -عليه السلام-.. والغرض من ذلك أولا: رفع الظلامة إجمالاً، وثانيا: شهر رمضان هوأقرب الشهور إلى ذكر علي -عليه السلام-، وثالثا: ليالي القدر فيه مقترنة باسمه الشريف.. فهذا شهر اقتران بركة الصيام، ببركة ذلك الدم الطاهر الذي أريق في محراب العبادة.
- إن أول حكمة من حكمه، حكمة تناسب أوضاعنا الاجتماعية.. فبعض كلمات علي -عليه السلام- تصب في عالم التربية والأخلاق، وبعض كلماته تصب في عالم التربية الاجتماعية والتعامل مع الغير.. والحقيقة أن هذا الكتاب نهج للسعادة، ونهج للرقي، وليس للبلاغة فحسب!..
(كن في الفتنة كابن اللبون)
- إن عليا عليه السلام- يقول: (كن في الفتنة كابن اللبون: لا ظهر فيُركب، ولا ضرع فيُحلب)!.. فهذه الكلمة على قصرها، كأنها تجربة حياة علي -عليه السلام- مع الفتن، فهومنذ نعومة أظفاره، ويعيش الفتن المختلفة: في صدر الإسلام كانت فتنته مع المشركين، لأن فتنة النبي هي فتنته، والمؤامرة على النبي في ليلة المبيت، دفعها علي -عليه السلام- بذلك المبيت الخالد، ذلك المبيت الذي استحق عليه علي - عليه السلام- وساما {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}..
هذه أولى ابتلاءات علي بالفتنة.. وفي المدينة فتنته مع اليهود، وفي حروبه مع المنافقين، وغير ذلك من الآلام التي كانت تعتصر قلب علي والزهراء -عليهما السلام-.. وكذلك بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وآله- وما أدراك ما جرى على علي!..
تلك الفتن التي يقول عنها: (فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى).. بعض الموالين عندما يمر على هذه الكلمة، تدمع عينه بل يبكي لحالة علي.. فكلمة (صبرت) لا يعني أنه صبر يوماً أوبعض يوم، بل كل حياته كان القذى في عينه، والشجى في حلقه، وقبل أن يتوفى أخوه المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم- وهذه محنة علي (ع)..
إن ما يُعطى لعلي من لواء الشفاعة في عرصات القيامة، من صبره في هذه الأمة، وليس هذا بتصريح غريب عندما يقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم-: (ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت)!.. وقياساً صحيحاً مدللاً بالتاريخ والنصوص: ما أوذي وصي مثل ما أوذي علي صلوات الله وسلامه عليه!.. وكلمته الآنفة (فصبرت) نعم الدليل على هذه الحالة.
- إن عليا -عليه السلام- إلى أن استشهد في محراب العبادة، وهويعيش الفتن تلوالفتن، الفتن التي تشيب لها الرؤوس، والفتن التي تنهدّ لها الجبال.. إذ يجد قوماً من هذه الأمة وعلى جباههم كآثار ركب المعز من كثرة السجود، فيضطر علي -عليه السلام- أن يسحب سيفه ليُريق هذه الدماء.. علي مظهر الرأفة، الذي يتألم لنزع خلخالٍ من رجل ذمية، فكيف نفسه تطاوعه بأن يلج بسيفه في دماء المتظاهرين بالإسلام؟!..
إن فتنة الخوارج قصمت ظهر علي -عليه السلام-، لأن الشعار كان شعاراً مغرياً، و(ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأصابه)!.. هؤلاء المساكين خرجوا بدعاوي مغرية جذابة، ولكن انتهى أمرهم إلى أن يكون سيف ممثلهم ابن ملجم، هوذلك السيف المرشح ليريق دم أشرف وصي في تاريخ البشرية.
- إن عليا -عليه السلام- إذن خبير في الفتن، بل نشأ في الفتن؛ بمعنى أنه رآها وعاشها، واكتوى بنارها، وأخيراً قُتل بسيفها!.. عليٌ مع هذه الخبرة الطويلة في تاريخ الفتن -إن صح أن نُعبر فشأن علي أكبر من هذه التعابير، ولكن من باب تقريب الفكرة- خبير بالفتن، وكيفية الخلاص منها.. يقول: (كن في الفتنة كابن اللبون)؛ وابن اللّبون هوولد الناقة الذكر، لم يقوظهره على الركوب، وليس له ضرعٌ يُحلب منه.. وبالتالي، فهولا يقوم بأي خدمة.. إنما الإنسان يستبقي عنده ابن اللبون، ليكبر في يوم من الأيام، فيصبح ظهراً، أويصبح ذا ضرع فيحلب منه.
- إن الفتن على ثلاثة أقسام: الفتنة الأولى: الفتنة العقائدية، الفتنة الثانية: الفتنة الحُكمية، والفتنة الثالثة: الفتنة الموضوعية.
أولاً: الفتنة العقائدية: أن يعيش الإنسان حالة من الترجرج والزئبقية في فهم العقيدة الصحيحة: ما هوالحق في مجال التوحيد، وفي مجال العدل، وفي مجال الإمامة، وفي مجال المعاد، وفي مجال فهم جزئيات الشريعة؟..
هناك كتاب جميل وطريف، وهو(شبهات المشككين حول الإسلام) هذا الكتاب كتبه مجموعة من المحققين، جمعوا الشبهات التي وردت على القرآن الكريم..
هنالك قسم من علماء النصارى المتخصصين في العلوم الإسلامية أوالمستشرقين، هؤلاء أخذوا يبحثون عن الآيات التي ظاهرها التناقض، مثلاً: عيسى المسيح رفعه الله إليه، الرفع يعني أنه ما مات وأنه حي.. وكيف رب العالين توفاه أي أماته، وفي آية يقول: (رفعه)؟.. كيف نجمع بين الوفاة وبين موضوع الرفع؟.. وما شابه!..
- إن الإنسان في هذا العصر إلى سنوات وإلى قرون، هوفي عصر التشكيك العقائدي؛ لأنه زمن الحروب المباشرة.. قد لا يكون هذا الزمن زمن الحروب الكبرى؛ لأن الحروب الكبرى يصل رمادها إلى عيون الجميع..
والأفضل الاستعاضة عن ذلك بالغزوالثقافي والغزوالفكري.. وهنالك دلال في الوسط، الدلال الذي يجعل الشبهة تنتقل إلى القلب.. فالوسائل المضللة، والوسائل التي توجب الانحراف الفكري، والشبهة، والشهوة.. تدخل القلب، فيصبح دلالاً لورود الشبهة إلى العقل.
- إن الإنسان إذا تميّع، وفقد قوامه الباطني، وتوجه للانحرافات السلوكية المختلفة.. فكأن هنالك جهازا مشككا في المخ، يمشط أقل شبهة تنغرز فيه.. وهويعيش دوامة فكرية معينة، والقرآن الكريم أشار إشارة جميلة ولطيفة، ولكن والله العالم .
لعل هذه الآية شاهد على ذلك، هذه الآية التي تُقرأ عادةً في المجالس الحسينية: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون}؛ أساءوا السوء في مقام العمل.. والتعبير تعبير عام: أي كل صور الانحراف تندرج في أساءوا السوء!.. هم أساءوا السوء، ولكن العاقبة موقف عقائدي: التكذيب بآيات الله، والاستهزاء بها..
وعند قراءة تاريخ بعض المنحرفين عقائدياً، حتى في زمان الأئمة -عليهم السلام- يلاحظ أن هؤلاء مُبتلون في السر بالمعاصي الكبيرة.. والمعاصي الأخلاقية والشهوية، هي أرضية خصبة للانحرافات الفكرية العقائدية.
- إن علياً -عليه السلام- لا يُريد هذا المعنى: (كُن في الفتنة العقائدية كابن اللبون)؛ أي كن إنسانا ليس لك شغل بالعقائد، وابتعد عن الأبحاث العقائدية.. لا، ليس هذا بصحيح، كن في الفتنة العقائدية صاحب رأي!.. أنت إنسان تُسافر إلى بلاد مختلفة، يُسأل عنك أنت من أي دين؟.. ومن أي مذهب؟.. ومن أي مدرسة من مدارس المسلمين؟..
لذا لابد أن تثبت ما أنت عليه، لا يكفي أن تفتخر ببطولات الأئمة - عليهم السلام- وتقول: إمامي هوفاتح خيبر!.. بل عليك أن تأتي ببراهين، وبأدلة.. هذه الأيام هنالك هجمة شرسة على الإسلام، وهنالك شُبهات حول الإسلام، وحول القرآن الكريم، وحول نبوة النبي، وحول عصمة النبي من أعداء الإسلام.. الأعداء الكبار هؤلاء يطرحون شبهات لهم في مواقعهم، لذا على الإنسان أن يكون مُتسلحاً بسلاح العقيدة الحقة.. وهذه الأيام -بحمد الله- المواقع العقائدية، والكتب العقائدية ما أبقت لأحد حجة في هذا المجال.
فإذن في الفتنة العقائدية لا بد أن ندخل، ونخوض، ونتسلح بسلاح العقيدة الحقة، ولكن بشرطها وشروطها.. فالإنسان الذي لم يتقن أوليات الشريعة، ولم يتقن التقليد، والعبادات، ويريد أن ينتقل من ألف باء الدين إلى أدق الأبحاث العقائدية التفصيلية.. والبعض لا يمتلك القدرة الذهنية، فإنسان في مستوى متوسط لا يمتلك القدرة على التحليل، يأخذ الشبهة فتستقر في ذهنه، ثم يقرأ الجواب، فلا يعرف معنى الجواب، فيأخذ بالشبهة ولا يأخذ بالرد.. فيزيد الطين بله!.. وبالتالي، لا بد أيضاً أن نخوض في الأبحاث العقائدية في الوقت المناسب، وعلى أيدي أناس مهرة، ومن كتب منقحة في هذا المجال.. حفظ الله بعض العلماء الأبرار في الحوزات العلمية، هذه الأيام ألفوا موسوعات عقائدية منقحة في أصول الدين.. عليكم بالمعروفات في هذا المجال، وعليكم بالمعروفين من المؤلفين في هذا المجال، لا تذهب يميناً وشمالاً، ولا تقرأ الكتب العقائدية التي هي من مصادر غير موثقة؛ لأنها قد تزيدك شكاً وانحرافاً في هذا المجال.
ثانياً: الفتنة الحُكمية: أن لا يعلم الإنسان تكليفه في الحلال والحرام، هذه الفتنة أيضاً أمرها سهل، فالإنسان المُقلِّد أراح نفسه من هذه الفتنة.. مثلا: هذا عليه نزاع: هل هوحلال أم حرام؟.. فيبحث من بين العدول من المجتهدين، فيقلد الأعلم منهم، فإذا ثبت يوم القيامة أنه ارتكب الحرام الواقعي، الذي أفتى له المجتهد ظاهراً، يقول: يا رب!.. ما شأني، خذ بيد هذا العالم وعاقبه.. إن كان له القابلية في الفتوى وأفتى؛ فهومأجور على فتواه، حتى لوكان مخطئاً.. وهذا المقلد يأخذ طريقه إلى الجنة، لأنه لا حساب عليه.. البعض يكتب في أول الرسالة العملية، ويقول: العمل بهذه الرسالة مُجزٍ، ومُبرئ للذمة!.. بعض العلماء عندما يكتب هذه العبارة في أول رسالته العملية، يعلم الله ماذا ينتابه من الشعور!.. أي يوم القيامة أيها المقلدون أنا أجيب عنكم، لا عليكم أنتم اعملوا بالرسالة، وهذه رقبتي بيني وبين الله!.. لذا حق للبعض من العلماء أن يفر من الفُتيا فراره من الأسد.. فإذن، إن الفتنة الحكمية أيضاً أمرها سهل!..
ثالثاً: الفتنة الموضوعية: أثناء تشخيص الموضوعات الخارجية، مثلا: الإنسان عليه أن يعادي أعداء الله، ويجب أن يعرف هل هذا الإنسان عدولله، أم ليس بعدو؟.. لا يدري!.. وهذا الكلام الذي يقوله منكر، أومعروف؟.. لا يدري!.. هذه الجهة الفلانية التي تدعوالناس إلى نفسها: حزباً، أومؤسسة، أوجهة، أوأي شيء كان؛ هؤلاء مخلصون في كلامهم، أم أنهم يطرحون الشباك للصيد.. كل من في الوجود يطلب صيداً، إنما الاختلاف في الشبكات، هل هم من هذا القبيل؟.. هل هذا الإنسان من مصاديق الرواية التي تقول: أن البعض من الناس يستأكل بالدين، إذ أن بعض الناس يستأكل بالشركات التجارية وبالمحلات، وبعض الناس يأكل باسم الدين، هل هذا من هذا القبيل أم لا؟.. هنا المصيبة في تشخيص هذه المصاديق!.. إنها قضية محيرة جداً، فماذا يعمل الإنسان في مفترق الطرق؟.. هنا عدة حلول:
الحل الأول: تحكيم الموازين.. وهوالجانب العملي، (اعرف الحق، تعرف أهله)، (قس الرجال بالحق، ولا تقس الحق بالرجال).. هنالك موازين لتمييز المخلص من غير المخلص، وهنالك موازين لمعرفة المعروف من المنكر.. اعمل بهذه الموازين، تعرف أهله.
الحل الثاني: الفطنة.. قال النبي (ص): (المؤمن كيس فطن حذر)!.. أي أن المؤمن موجود ذوذكاء اجتماعي قوي جداً، لأن ذكاء المؤمن ليس ذكاء جامعيا، وليس ذكاء مأخوذا من رسالة الماجستير أوالدكتوراه.. إنما ذكاء المؤمن قسم منه من تجارب الحياة، وقسم منه أبحاث أكاديمية.. ولكن قسم منه اتصال بعالم الغيب: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله)؛ ينظر بعين الله، نعم المؤمن يمتلك هذه النورانية في باطنه، لأنه طالما دعا في جوف الليل في مناجاة خاشعة، والدموع على وجنتيه في صلاة الليل: (وهب لي نوراً أمشي به في الناس، وأهتدي به في الظلمات)، وطالما قال لربه: (اللهم!.. أرني الأشياء كما هي)؛ أي لا تجعل عليها غشاوة، ولا تجعل الشيطان يُلبس الباطل بثوب الحق.. فإذن، إن المؤمن بفراسته يعيش هذا النور الباطني.
الحل الثالث: الوقوف عند الشبهات.. لوأن الإنسان لم يعرف الحق، والأمور مشتبهة؛ فعليه أن يقف عند الشبهات!.. لماذا يجعل نفسه جسراً لعبور الآخرين، حيث يقول علي عليه السلام: (كن في الفتنة كابن اللبون: لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب)!.. هذا الضرع في الجمل، وحتى في الأم المسكينة.. بعض الأمهات يتوقفن عن الصيام عند الإرضاع، لأن هذا الحليب خلاصة دمها، والدم يتحول إلى لبن، عصارة الوجود.. وهكذا الأمر في الحيوان، هذا الحيوان المسكين يحول الدم إلى حليبٍ سائغ يشربه بني آدم، يقول علي عليه السلام: لماذا تعطي دمك للآخرين؟.. لماذا تعطي حليبك للآخرين؟.. إذا كان الطرف لا يستحق ذلك، لماذا تجعل الضرع مفتوحاً هكذا، يأتي كل من هب ودب ليمتص من حليبك، فالعمر من الحليب؟..
- إن البعض يذهب إلى الجلسات الباطلة، ويجالس البطالين؛ فهذا من أسباب قسوة القلب.. إن دعاء أبي حمزة الثمالي ليس للبكاء فقط، وإنما للتدبر (لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين، فبيني وبينهم خلّيتني)!.. لذا على المؤمن عندما يذهب لزيارة أحد، أوعندما يصادق أحداً، أوجهة، أوتياراً، أوحتى عالماً.. عليه أن ينظر لمن يعطي هذه الأوقات التي يصرفها في محضرهم أوفي اجتماعاتٍ مطولة؟.. هذا العمر، يجب أن يوضع في الموضع المناسب، لا يرتبط بكل أحد، (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).. فالبصيرة في التعامل مع الآخرين، من موجبات النجاة من الفتنة.. أما لواتضح الحق للإنسان، فعليه أن يعطي وجوده للدين وأهله، الذين تفانوا في خط عليٍ وفي خط الحسين -عليهم السلام- وفي خط العلماء الأبرار طوال التاريخ.. رحم الله الميرزا الشيرازي الكبير عندما حرم التبغ عن المؤمنين، لأجل مقاطعة الشركات الاستعمارية، يقال: أن السلطان في إيران طلب كعادته التبغ، ولكن زوجته قالت: لا!.. فالميرزا الشيرازي حرم التبغ.. السلطان يطلب من زوجته التبغ، وهي مؤتمرة بأمر مرجعها في ذلك العصر.. نعم إذا كان الأمر بهذا الوضوح، فأكرم وأنعم بأن نعطي النفس والنفيس، في سبيل رفع الفتنة واجتثاث جذورها.
(الفقر يخرس الفطنة عن حجّته)
- إن من لوازم المحبة والمشايعة، أولاً معرفة منهج من نشايعه، ومعرفة من واليناه وذكرناه بخير، وادعينا الانتساب إليه.. والالتزام الآخر، هو التأسي بمنهجه.. فإن المحبة الحقيقية، تدعو الإنسان لأن يتشبه بمن يحب.. وشهر رمضان شهر منتسب بنحو من الانتساب إلى علي (ع)، فإنه الشهر الذي أريق فيه دمه الطاهر في محراب العبادة.. وبالتالي، فإن من صور الولاء، وعرفان هذا الجميل لهذا الإمام الهمام، أن نتعلم منهجه في الحياة.. والمشايعة العملية، لا تتم إلا من خلال المعرفة النظرية.. والذي لا علم له ولا معرفة له، لا يمكنه التأسي، فإن التأسي بالمجهول غير ممكن!.. فلابد أن نملأ عقولنا وأفكارنا بهذا البعد العلوي، المتمثل بالنهج وهو جزء من عطاء علي (ع).
- إن في كلمات علي (ع)، هنالك إشارة في عدة كلمات إلى ذم الفقر، وإلى ذم قلة المال بيد الإنسان.. وتارة نلاحظ هنالك مدح للزهد والإعراض عن الدنيا، وذم المتاع العاجل، وذم الحالة حالة كنز الذهب والفضة {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.. كيف نجمع بين هذه السلسلة من الآيات والروايات وسيرة المعصومين؟.. ولنعلم ما هو موقف علي (ع) من المال ومن الدنيا بشكل عام!.. فالنبي المصطفى (ص) أكرم الخلق على الله -عز وجل- تعرض له خزائن الأرض، إلا أن النبي المصطفى (ص) يختار من بينها الكفاف.. ولكن في الوقت نفسه، هنالك إشارة للفقر بلهجة الذم، يقول الإمام علي (ع): (لو كان الفقر رجلاً لقتلته)!.. علي (ع) يأخذ موقفاً من الفقر؛ أي أن الإنسان الذي لم يتقن حركته الدنيوية، ليس له مستقبل أخروي مشرق.. فالدنيا مزرعة الآخرة، والمزرعة كلما زادت واتسعت، كثر أنهارها، وكثر العاملون عليها، وزادت الثمار، وزاد المحصول.. فالدنيا مزرعة، وثمارها نقطفها في الآخرة.
- إن عليا (ع) يقول كشاهد أيضاً: (الفقر يخرس الفطن عن حجته).. إذ أن الإنسان الفقير لا يؤخذ بكلامه، حتى لو كان لديه حجة، وهو إنسان منتقص في المجتمع مالياً، فهو إنسان لا وجاهة له.. والمقل غريب في بلدته، لأنه يطلب الزواج فلا يزوج، ويدخل المجلس فلا يقومون له، شأنه شأن الغريب، لأن الغريب لا يزوج، ولا يحترم أيضاً بخلاف أهل المال!.. (إذا أقبلت الدنيا على أحد، أعارته محاسن غيره.. وإذا أدبرت عنه، سلبته محاسن نفسه).
فإذن، نحن بين سلسلتين من النصوص.. والواقع الخارجي أيضاً يدل على أن المال له قيمة احترامية في سيرة المعصومين (ع).. فرب العالمين كان يعلم منذ الأزل، أن الإسلام الفتي وهذا النبي الغريب اليتيم، يحتاج إلى دعم مالي.. ومن هنا رب العالمين زوج حبيبه المصطفى (ص) بخديجة، على اختلاف في السن -كما هو المعروف- وكانت هي مصدر قوة للإسلام، بجوار وجاهة أبي طالب، وسيف علي (ع) الذي لمع بريقه في هذه الأيام حيث معركة بدر الكبرى.. فالنبي (ص) كان يدعم الإسلام بأموال خديجة، والركن السياسي كان متمثلا بأبي طالب، ذلك الذي حقه على الإسلام كثير.. والنبي الأكرم (ص) لماذا أعطى فاطمة فدك، هذه القطعة من الأرض التي كانت مثار جدل ونزاع بين أئمة أهل البيت، ومن كان في مقابلهم؟.. -الأئمة (ع) كانوا يرفعون شعار فدك، كصورة من صور المظلومية-.. لماذا النبي أنحل فاطمة بفدك، وماذا يصنع علي بفدك وغير فدك؟.. فدك رصيد مالي لحركة علي في الأمة، كأموال خديجة.. شاء الله -عز وجل- أن يجعل مال خديجة قوة للإسلام، ومال فاطمة ابنة خديجة قوة للإمامة؛ ولكن الأمور جرت باتجاه آخر.
- كيف نجمع بين هذه الروايات؟..
- إن الفقر فقران: هنالك فقر معلول، لتقصير العبد في حركته الحياتية.. فرب العالمين قسم الأرزاق، وأراد من الإنسان أن يصل إلى سقف مالي معين.. يرى أن الإنسان سعادته متوقفة -مثلاً- على الزواج، والزواج يحتاج إلى مستو مالي معين، فهذه الأيام الناس لا يزوجون إلا من يتمكن من إدارة المنزل.. وهذه السعة المالية متوقفة على أن يحوز على رسالة جامعية -مثلاً-.. وهذه الشهادة الجامعية متوقفة على أن يدرس الإنسان في هذه الفترة الزمنية.. والذي لا يدرس، لا يتخرج ولا يأخذ الشهادة، وبالتالي، فإنه لا يتوظف، ولا يزوج؛ فيقع في الحرام.. ويوم القيامة يقال له: أنت الذي ضيعت الفرصة، بتركك الدراسة أيام شبابك، وانشغالك بالحرام المعهود.
- إن من آثار الحرام في حياة الإنسان، وخاصة الحرام النظري، والحرام السمعي؛ تشويش البال.. لأن الذين ينظرون إلى الحرام، ويسمعون إلى الحرام؛ يبتلون بعدم التركيز.. وبالتالي، فإن هذا يؤدي إلى الفشل في حياتهم العلمية والعملية.. وهذه من عقوبات رب العالمين الخفية!.. فهو عندما يريد أن يركز في المادة العلمية، وإذا بفكره يذهب إلى الصور المحرمة.. فالذي يكثر من الاستماع المحرم، والنظر المحرم؛ تتغير تركيبته الهرمونية والفيسيلوجية، حتى خلايا المخ تتأقلم على وفق الحرام؛ أي أن هذا المخ يصبح تفكيره تفكيرا شهوانيا.. والذي ينظر ويسمع ويمارس الحرام، يتحول بعد فترة إلى إنسان يغلب عليه التوجه الشهوي، كما في وصف علي: كالدابة المرسلة!.. كلما فتح كتاباً، لا يرى فيه جاذبية.. فيفتح التلفاز، ويرجع إلى ما كان عليه من الحرام.
فإذن، إن الفقر تارة يكتبه رب العالمين للعبد كتابة، لأنه إذا زاد عن الكفاف، بعض الأوقات الثروة تغري الإنسان وتغويه: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}؛ أي إذا توهم الغنى يطغى، فكيف إذا تحقق الغنى بالفعل؟!.. وعليه، فإن الصورة النموذجية المثلى هي: (ما قل وكفى، خير مما كثر وألهى)!.. رب العالمين بعض الأوقات؛ رأفة بعبده ورحمة به، يضيق عليه الدنيا.. كذلك الذي كان عند النبي الأكرم (ص) وأصر أن يعطى المال، والنبي طبيب الأمة، لم يكن ليستجيب له.. ولكن بعد الإصرار يبدو أن النبي (ص) دعا له بذلك، وإذا به تنمو ثروته.. زادت دوابه، وتكاثرت كالدود، وإذا به يخرج من المدينة.. فحرم أولاً من جوار النبي (ص)، وحرم من خطب النبي (ص)، وحرم من الصلاة خلفه.. أحدنا يتمنى أن يرجع به الزمان إلى الوراء، ليصلي ركعة خلف رسول الله (ص)، وهذا الإنسان المسكين حرم من الصلاة مقابل الجلوس أمام أغنامه.. طبعاً الغنم إذا زاد عن نصاب معين، تجب فيه الزكاة، فبعث له (ص) كي يدفع زكاة غنمه وأمواله، وإذا به يستنكف ويشبه هذا الأمر بالجباية، وكأن النبي صار من السلاطين، وأخذ يجمع الجباية من أمته.
- إن رب العالمين يعلم كيف يتعامل مع عبده.. في دعاء الافتتاح نقول: (ولعل الذي أبطأ عني، هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور).. وهنا باب ينفتح منه ألف باب: فالذين يدعون في شهر رمضان، وفي ليالي القدر في سجودهم، ثم لا يستجاب لهم الدعاء، يصابون بردة فعل ويقولون: كفانا دعاء!.. دعوت سنة أو سنتين ولم أر الاستجابة؟.. فهذا الإنسان لا يعلم أن المستقبل مربوط بالحياة الأبدية، فرب العالمين يعلم أنه إذا أعطى هذا العبد هذه الكمية من المال، فإن درجته تتنزل في الجنة، وتنزل الدرجات معناه أن يعيش في الطبقة الدنيا من الجنة أبد الآبدين، مقابل الاستمتاع: بمبنى، أو سكن، أو بمزرعة، أو ما شابه ذلك.. فكيف إذا علم الله -عز وجل- أن هذا المال سيخرجه من الجنة إلى النار.. فالمال كلما زاد، كلما زادت فيه نسبة الإمام والسادة، وما شابه ذلك.. وكلما زادت النسبة، ولم يدفع؛ فإنه سيكون هنالك مكان محجوز له في عالم الغضب الإلهي.. هذا الإنسان يتمنى لو أنه لم يعط هذا المال؛ لئلا يتورط بتبعاته.. بل يتمنى الإنسان لو أنه كان ترابا!..
وعليه، فإن هنالك فقرا يريده الله -عز وجل- لك، وهنالك فقر تريده أنت لنفسك.. ما الفرق بين الفقرين؟.. الفرق بينهما بيّن واضح!.. فالإجمال في الطلب من صفات المؤمن.. إن بعض المؤمنين يقول: كان لدينا تاجر في إحدى البلاد، كان تقريباً يشبه ملك التجار، له تجارة وله كسب.. ولكن يقول: إذا دخل وقت الصلاة، وكأنه إنسان لا شغل له.. يقول: هذا الإنسان وهو في تجارته ومرابحته، كان إذا وقف بين يدي الله في وقت الصلاة، كأنه لا شغل له.. وقد ورد عن زوجات الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-: (كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في بيته هاشاً، باشاً وكان ضحاكاً في بيته، وكان يجلس معنا يحدثنا ونحدثه.. فإذا أذّن للصلاة، كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه).. فإذن، إن الفقر الذي من الله -عز وجل- فيه رائحة النعمة والإكرام.. وأما الفقر المذموم في الشريعة، فهو الفقر الذي لا يسعى الإنسان فيه لتهيئة المقدمات.
- إن القضية هي كيف نجمع بين الفقر الإجباري والاختياري؟..
هناك أحاديث تقول: (الدنيا والآخرة ضرتان: إن أرضيت إحداهما، أسخطت الأخرى)، وهذا القرآن الكريم يقول: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً}، وأحاديث أخرى تقول: (الدنيا مزرعة الآخرة).. فما الذي يجب على الإنسان أن يقوم به؟.. هل يغوص في السعي الدنيوي، فيأخذ الشهادة الجامعية ومن ثم الماجستير، ثم الدكتوراه، ثم بعد ذلك مرحلة أرقى؟.. ولكن إذا توغل الإنسان في الدنيا لكسب المال، وإذا بالغ في السعي -هذه الأيام المال لا يحصل بالسعي العادي، إذ لابد من الاستماتة في السعي.. فالإنسان إذا أراد أن يصل إلى دنيا وسيعة، لابد له من المبالغة في السعي- فإنه يبتلى بقسوة القلب وبإدباره.
- كيف نجمع بين السعي الدنيوي الحثيث، وبين السعي لأمور الآخرة؟.. هل من جامع بينهما أم لا؟..
الجواب:
هذا الأمر يحتاج إلى حديث مفصل، وإلى بيان فلسفة الوجود، وإلى موقع الإنسان من الوجود.. مرة ننظر إلى الأمور بعناوينها البسيطة، وتارة ننظر إلى الأمور بعناوينها الانتسابية.. أي تارة تنظر إلى طفل في الشارع على أن اسمه أحمد، هذا الولد تسلم عليه سلاماً عادياً، باعتباره طفل يلعب في الشارع.. ومرة يقال: هذا الولد أحمد هو ابن المرجع الكبير، ابن العالم الفلاني، ابن من تقدره أنت.. عندما تعلم بهذا الانتساب، هو طفل، ولكن تسلم عليه كما تسلم على العلماء -مثلاً- لأن هذا منتسب إلى بيت كبير.. رحم الله الشيخ مرتضى الأنصاري، هذا الذي إلى يومنا هذا ما من عالم إلا وقد استفاد من علمه، من خلال كتابيه: المكاسب، والرسائل.. هذا الشيخ كان يدرس، وأثناء التدريس كان يقف ثم يجلس.. -طبعاً العالم الوقور كل أعماله مدروسة: قيامه، وقعوده، حتى نظراته لها معنى-.. قيل له: يا شيخ، ما هذا القيام والقعود أثناء الدرس؟.. فقال: أنا عندي احترام خاص لذرية رسول الله (ص)، وأنا أثناء الدرس أرى من الباب إنسانا سيدا ابن رسول الله يمر، فأقوم له إجلالاً واحتراماً، فقيامي وقعودي احتراما لهذا السيد!..
فإذن، إن الإنسان قد يحترم أحداً لانتسابه إلى جهات عليا.. فاعتبروا الدنيا مثل هذا السيد، الدنيا في حد نفسها صحيح دار ملهية، كالثعبان: مسها لين وفي جوفها السم النقيع.. فعلي (ع) يخاطب الدنيا ويقول لها: (يا دنيا غرّي غيري، قد طلقتك ثلاثا).. كل هذه المعاني صحيحة؛ ولكن باعتبار الدنيا دنيا.. والتسمية فيها ذم؛ أي الحياة الدنيا التي لا قيمة لها!.. ولكن إذا نظرنا ببعد آخر، ونظرنا إلى الدنيا على أنها مزرعة للآخرة: فأنظر على أن هذه الزوجة ليست زوجتي، بل هي أمانة الله عندي، هذه مخلوقة الله عندي، خاصة إذا كانت المرأة مؤمنة ومصلية.. إن بعض الناس يشتكون من ضيق المعيشة، ومن بعض البلاءات البدنية الدنيوية.. وهذا طبيعي، لأن العقوبة الإلهية تحل على من لا يحسن معاملة زوجته، ولأنه لم ينظر إليها على أنها وديعة الله لديه.. إن البعض يقبل ولده لا أنه ولده، بل لأنه مخلوق الله عز وجل.. فأنا أحب الله، وأحب كل خلق ربي، وابني هذا أقبله من هذا المنطلق.. أو تعلمون أن من الدرجات العليا في الإيمان، أن يصل الإنسان إلى درجة أنه يحب ذرية رسول الله (ص) أكثر من ذريته، وذلك لأنه ينظر إلى قلبه، فيرى حبه لابن الرسول، هذا الطفل الصغير أشد من حبه لولده، يقول: لأن هذا ابني وهذا ابن رسول الله ولو بوسائط، وأنا أحب رسول الله أكثر من حبي لنفسي، فأحب هذا السيد أكثر من حبي لولدي.. هكذا المفروض رياضياً ومنطقياً!.. هنيئاً لمن وصل إلى هذه الدرجة من شفافية القلب!..
- إن الدنيا جميلة، وفي نظر زينب (ع) التي نعتقد أنه ما من مخلوق على وجه الأرض، قاسى ما قاسته زينب (ع)، حتى الحسين الشهيد.. لأن الحسين ما شاهد الأسر، وانتهى يوم عاشوراء باستشهاده، وذهب إلى الرفيق الأعلى، وبدأت مصائب أخته زينب (ع).. ومصيبتها أعظم من مصيبة الإمام السجاد (ع)، لأنها رأت شخصاً كإمام زمانها في الأغلال، بينما الإمام (ع) ما رأى إمام زمانه في الأغلال.. فإذن، زينب (ع) رأت ما رأت من القضايا، التي لم تتحملها الملائكة، لعل إلى يومنا هذا هنالك ملائكة تضج مما جرى في يوم عاشوراء.. ولكن بماذا تجيب عندما يسألها أحدهم؛ تعليقا على واقعة الطف: كيف رأيت صنع الله فيك؟.. وإذا بها تقول: ما رأيت إلا جميلاً!.. قتل الحسين في حد نفسه مفجعة للأنبياء السلف، فالأنبياء بكوا على سيد الشهداء كما في الروايات الكثيرة، ولكن لأن هذا القتل شاءه الله، كما قال الإمام الصادق (ع): (لقد شاء الله أن يراهن سبايا، كما شاء أن يراه قتيلا)!.. لذلك تحولت هذه الحركة إلى منظر جمالي، لأن الله يحب هذا المنظر.. إذا كان قتل الحسين لأن الله شاءه جميل، فكيف بالدنيا برمتها بحذافيراها؟..
فإذن، إن المؤمن عليه أن ينظر إلى الدنيا بنعيمها وبما فيها من متاع، على أنها بلغة للآخرة.. فلو صار حريق، وهنالك حاجة إلى سلم ليقفز الإنسان من خلاله على الحائط، وقيل له: نبيع لك هذا السلم بمليون دينار بحريني، ألا يشتري هذا السلم؟!.. سلم خشبي قيمته نصف دينار، ولكن يشتريه بمليون حتى يقفز من الحائط، ولا يحترق بالنار.. نعم، إذا نظرنا إلى أن هذا سلم ينجينا من ذل العباد، ويوصلنا إلى الآخرة؛ فعندها يصبح هذا السلم الخشبي أغلى من جواهر الوجود.
وعليه، فإن على الإنسان أن يسعى في الدنيا سعياً حثيثاً، ولكن أيضا عليه أن لا ينس الأمور المقارنة، فهما ضرتان؛ لذا لابد أن يوازن فيما بينهما!.. وخير جواب للسؤال الذي تقدم أعلاه: كيف نجمع بين السعي الدنيوي الحثيث، وبين السعي لأمور الآخرة، هو قول الإمام علي (ع): (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).
يتبع ...