وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
جولة في نهج البلاغة – الثاني

(وقفة مع النفس)

- إن من أفضل أنواع التعقيب، الجلوس على مائدة التفكر والتذكر!.. فالمؤمن بإمكانه في هذه الجلسة المباركة أن يغير شيئاً من مجرى حياته إن أراد.. هذه الآية الكريمة في حال الاختلاف بين الزوجين، فيها نكته عرفانية جميلة: {إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}.. بعض العلماء يقول: إذا أراد الإنسان أن يصلح بينه وبين زوجته، فإن رب العالمين يتدخل ويوفق بينهما: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن).. فكيف إذا أراد أن يصلح فيما بينه وبين الله تعالى، ألا يتدخل رب العالمين في أن يوفق بينه وبين عبده؟.. ولكن بشرط أن يريد!.. يقول في محكم كتابه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، هو يريد المصالحة، بل يريد ما هو أرقى من المصالحة، كما نقرأ في الدعاء: (يا جاري اللصيق!.. يا رُكني الوثيق!.. يا إلهي بالتحقيق!.. يا رب البيت العتيق!.. يا شفيق، يا رفيق)!.. فرب العالمين هكذا يريد علاقته مع عباده، ولكن العبد -مع الأسف- لا يريد، فإذا أراد فتح له الأبواب على مصراعيه: يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني.. فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي.. وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم.. وإن تقرب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا.. وإن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا.. وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة).

- إن الشباب في آخر السنة الدراسية وفي سنة التخرج، يرى بأنه على أبواب امتحان يحدد مصيره: دراسته، وزواجه، وحياته، ووضعه المالي.. فتراه يستنفر كل الطاقات والقوى، من أجل أن يتقن هذا الأسبوع، حتى أهل الفسق والانشغال بالمحرمات، تراه إنسانا جاداً مكباً على كتابه، والفرق في ذلك بسيط.. فكيف إذا أراد الإنسان أن يقدم امتحاناً يتحدد على أساسه، لا فقط مستقبل سنته، وإنما مستقبل حياته الأبدية؟!.. فالقضايا التكاملية، وما يتعلق بالنفس؛ قضايا تراكمية.. أي في ليالي القدر، في هذا الأسبوع الحساس والمصيري، إذا كتب للإنسان القرب من ربه، كتبت له السعادة في هذه السنة، تضاف إلى السعادة في السنة القادمة.. وإذا بالقضية قضية توالدية تكاثرية، ولهذا صح أن نقول: بأننا في هذا الأسبوع نرسم الأبدية.

- إن ثلاثة أيام على الأقل تحدد ثلاثمائة وستين يوماً في السنة: حياة أو مماتاً، فقراً أو غنى.. ويا ليت الأمر ينحصر بهذه الأمور، بل يتعدى الأمر إلى أن يكتب الإنسان -لا قدر الله- في ديوان الأشقياء، أو يكتب في ديوان السعداء.. ويا لها من جائزة كبرى في هذه الليالي!.. ولكن الأمر يحتاج إلى استنفار دائماً!.. لذا على الإنسان في الأسبوع الذي فيه ليالي القدر، أن يتخذ اعتكافاً روحياً.. هذا الاعتكاف الظاهري في المساجد ظاهرة جيدة، البعض اعتكف في شهر رجب، وفي شهر شعبان؛ ولكن البعض يخرج من المسجد وإذا به يهم بالمعصية.. صحيح هو جسمه اعتكف في المسجد، وصام الأيام الثلاثة؛ ولكن لم يدخل في دورة اعتكاف روحي، بل خرج وهو على ما هو عليه.. هذا الأسبوع أسبوع الاعتكاف الروحي: البعض في إجازة الصيف، يذهب ليشم الهواء في الجبل الفلاني أو في المصيف الفلاني، وهذه الروح أليس لها الحق أن تعطيها إجازة ثلاثة أيام إن لم يكن أسبوعاً؟.. فالذي يحيي ليالي القدر إلى الصباح، من الطبيعي أنه يرهق في النهار؛ لذا عليه أن يخصص أيامه ولياليه لهذه القضية المصيرية، ويحاول أن يكون في حل من العمل اليومي!..

- إن على الإنسان أن يقف وقفة تأمل مع النفس في خلوة، هذه الخلوة تكون في أي مكان: على شاطئ البحر، أو ساعات الاستلقاء قبل النوم.. بل الأفضل أن تجلس في بيت من بيوت الله –عز وجل- في مسجد خال، تصلي ركعتين بين يدي الله -عز وجل- وتستفهم الله: (استفهم الله يفهمك)!.. البعض إذا سمع عن ولي، أو عن مرب، أو عن أستاذ قدير في الصين في مجال التربية الأخلاقية، فإن البعض قد يشد الرحال إليه؛ لماذا لا نشد الرحال لأن نكون بين يدي الله، فهو المربي الأعظم؟.. في كل يوم نقول: الحمد لله رب العالمين، هل ذهبت يوماً من الأيام إلى مسجد فارغ، في ساعة هدوء، تقول: يا رب، أنت معلم المعلمين، أنت أحكم الحاكمين.. الكل يتوجه إليك، والوجود كله طراً بيدك، والكل مستمدة من مددك.. هل ذهبنا إلى المسجد بعنوان الجلوس بين يدي الله؟.. هل هنالك مكان أقرب إلى الله -تعالى- من المساجد، وإذا قدرت لك عمرة أو حجة، تذهب إلى جوار الكعبة، تمسك بأستار الكعبة وتقول: عبدك متشبث بأذيال عفوك؟.. مع الأسف ليست لنا هذه الوقفات والجلسات مع رب العالمين!.. صحيح أينما تولوا فثم وجه الله، ولكن الإنسان يفزع إلى المسجد، طبعاً يفزع إلى صاحب المسجد ويستفهم الله.

- إن الإمام الكاظم (ع) يقول: (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم)، هذه غاية المنى، والأولياء المراقبون لأنفسهم ليس في اليوم مرة، بل مرات بعد كل فريضة، وهو على مصلى العبادة، حيث العروج إلى الله -عز وجل- يستفهم ربه: (استفهم الله يفهمك)!.. {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}!.. على الأقل في الشهر مرة نجلس مع أنفسنا.. أحدنا يخدش الخدشة، يسارع إلى الطبيب لتضميد جراحه، وكلنا يعلم علاقتنا بهذه الأبدان الفانية، إنها علاقة مؤقتة!.. بل الإنسان عندما يرى إنساناً غادر هذه الدنيا، يشمئز من هذا البدن السريع إلى التعفن.. وأما الذي عليه الحساب، والذي يكرم، والذي ينتقل إلى بدن برزخي، فهي هذه الروح التي ستبقى معنا.. لنسأل أنفسنا في هذا اليوم أسئلة عريضة: مر علينا شهر رمضان، مرت علينا سنة بلياليها وأيامها، بحجها وعمرتها، بمحرمها وصفرها وشعبانها ورجبها.. فهل قطفنا ثمار هذه السنة كما يحب الله ويرضى؟.. في ليالي القدر المباركة -بحمد الله- هناك جو متميز.. ولكن هذا الجو المتميز، والذي كانت تغلب عليه حالة الإنابة والتوبة والمعاهدة مع الله -عز وجل- في دفع المنكر في حياتنا، هل بقينا أوفياء لهذا العهد؟.. كم أقول: أتوب، وأعود!..

- إن كل إنسان مؤمن براً كان أو فاجراً، له ثلاثة أضلاع بثلاثة زوايا:

الزاوية الأولى: زاوية الفكر.. زاوية الرؤيا الكونية، والبعد المعرفي في الحياة.. مرت علينا سنة، كم نمينا من هذا البعد؟.. فالإنسان يحاسب على قدر عقله.. وقربه من الله -عز وجل- يكون بمقدار ما أعطي من العقل والتدبر والتفكر: خير العبادة الفكر، كم نمينا من ثقافتنا الدينية في هذا العام المنصرم، أنساً بمفاهيم الكتاب الكريم؟.. إلى يومنا هذا البعض منا يقرأ القرآن وقد بلغ الختمة المائة، ولعل البعض الألف، وإلى الآن يقرأ القرآن وهو عربي اللسان، ولا يعلم المعنى اللفظي لآيات الله عز وجل مثل: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}.. حتى {اللَّهُ الصَّمَدُ} هذه السورة التي نلهج بها صباحاً ومساءً، نحن لا نعلم ما معنى الصمد في هذه الآية.. على الأقل نعلم الكلمات الأولية.. إذا تزوج أحد فتاة من بلد لا يعرف لغتها، فإن أول خطوة يقوم بها هي أن يتعلم لغة هذه الفتاة، حتى يتكلم معها الكلام الشاعري والغرامي.. فالذي لا يفهم العربية وهو مسلم، كيف يتحمل أن يعيش في هذه الدنيا، وهو لا يتعلم لغة كتاب ربه؟.. يتعلم اللغات الأخرى، ويهمل لغة القرآن!..

فإذن، إن السؤال الأول عن البعد المعرفي..

ليس المطلوب منا أن نقرأ كتب الفلسفة والمنطق وغيره، بل علينا أن نفهم كتاب ربنا بألفاظه، وأن نعلم مسائلنا الشرعية.. والمسائل الضرورية محدودة جداً، قد لا تتجاوز المائة مسألة: في الصلاة، والطهارة، والصوم، والخمس، وما شابه ذلك.. فلو أراد أحدنا أن يتعلم المسائل الفقهية الضرورية في الشريعة، فإن شهرا واحدا يكفيه كي يتعلم هذه المسائل.. والذين يريدون وصلاً بليلى، لابد أن يعرف من هي ليلى، وما هي مواصفاتها، وأن ينظر إلى صورتها.. إذا طُلب من إنسان أن يحب فتاة في الصين أو الهند، فإنه يطلب أن يرى صورتها، أو يسمع صوتها.. ولكن إذا لم يسمح له بذلك، فإنه سيرفض ويقول: كيف أحب جهة مجهولة من جميع الجهات، وإذا أحببتها فهو حب نظري!.. عندما يسأل الطفل: هل تحب الله؟.. يقول: نعم، هو ربي!.. ونحن أيضاً كهؤلاء الأطفال، هل نحب ربنا؟.. ولكن أين الحب لله -عز وجل- وأين حب الزوجة، والأولاد والمتاع؟.. ليتنا نعطي عشر هذا الحب لله رب العالمين!.. ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره!.. فمدى ذكرنا لله -عز وجل- يكشف عن حبنا الباطني.. في دعاء كميل نقول: (اجعل لساني بذكرك لهجا، وقلبي بحبك متيما)؛ هذان أخوان لا يفترقان: القلب المتيم، واللسان اللهج بذكر الله -عز وجل- صنوان متلازمان.

الزاوية الثانية: مسألة القلب السليم.. ما مدى شغلنا وعملنا في العام المنصرم: مع القلب، مع حركة الباطن، مع عنصر الحب والبغض: من نحب؟.. ومن نبغض؟.. وما هي الدوافع الباطنية في وجودنا؟.. إن الإمام الجواد (ع) في هذا الحديث يفتح لنا باباً واسعاً من أبواب السير إلى الله -عز وجل- حيث يقول: (القصد إلى الله بالقلوب، أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال).. نحن عيوننا على المستحبات والنوافل، والحج والعمرة، وأن نتحرك بأبداننا في المشاهد المشرفة، وأن تصل أيدينا إلى الحجر الأسود، وأن نكون تحت الميزاب، وما شابه ذلك.. هذا جيد!.. فالأعمال الجوارحية من أوليات الشريعة، ولكن الأرقى من ذلك، هو إصلاح هذا الأمير الباطني.. فمملكة البدن لها وزارات وقوى، وهذه الحواس الخمس.. ولكن هل أصلحنا هذا الباطن، كي يتحول من نفس لوامة، ومن نفس أمارة، إلى ذلك القلب السليم؟.. {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.. هذه الآية تشير إلى محورية القلب، في حركة العبد إلى الله عز وجل.. هنيئاً لإبراهيم (ع)!.. الناس يفتخرون بأصدقائهم، فيقولون: صديقي الوزير الفلاني، وإذا بهذا الذي جعله الله في الأرض خليفة، يصبح خليلاً لله عز وجل.. لو قال القرآن: اتخذ إبراهيم ربه خليلاً، لما كان فيه عجب، ولكن العجب هنا: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}!.. فرب العالمين هو المبادر، وكأنه يفتخر بأن له خليلا وصديقا كإبراهيم الخليل.. إبراهيم الخليل جاء ربه بقلب سليم، وبقلب منيب.. ما قال: جاءنا ببناء البيت، وما قال: جاءنا بمحاولة ذبح إسماعيل، وما قال: جاءنا بأن ترك ذريته في واد غير ذي زرع.. وإنما قال: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، ذلك القلب الذي رأى الناس عاكفة على عبادة الأصنام، فعبر عنهم: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.. نعم شغل إبراهيم بالقلب!.. ونبي الرحمة النبي المصطفى (ص)، أمضى ثلثي حياته في عمارة القلب.. هيأ نفسه في ثلثي عمره إلى سن الأربعين، ليعطي عطاؤه في سن الأربعين إلى الثالثة والستين.. هذه السنوات المباركة من حياة النبي، الذي غير بها معالم البشرية ومعالم التأريخ، من بركات هذا العمل الأنفسي.

فإذن، إن السؤال الثاني: إلى أين وصلنا في مرحلة القلب السليم؟.. والمقصود بالقلب السليم: القلب الخالي من الملكات الفاسدة، الذي لا يعيش حالة الحسد، والتكبر، وغلبة الشهوات الباطنية، والطمع في متاع الحياة الدنيا.. فالقلب بمثابة جيفة في قارورة، هذه القارورة أغلقتها بإحكام، وصباحاً ومساءً تجعل هذه القارورة في مستنقع الورد والمسك.. الباطن فيه جيفة، في يوم من الأيام تؤخذ هذه القارورة على يد ملك مسمى باسم عزرائيل، يضرب القارورة على الحجر، وإذا بهذا النتن يفوح إلى السماء.. أن نعطر أنفسنا في مظاهرنا الخارجية، هذا لا يشفي الغليل، علينا بفتح القارورة أولاً، ثم إخراج هذه الجيفة ورميها خارجاً، ثم صب الماء القراح عليه.. عندئذ لا يحتاج إلى مسك وإلى زعفران، كي تحسن أو ترفع من هذه الرائحة.. وهذا الكلام مأخوذ من الروايات: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (تعطروا بالاستغفار، لا تفضحكم روائح الذنوب).. الذنوب جيف في هذه القارورة، علينا أن نخرج هذه الجيفة قبل أن ينكشف عنا الغطاء: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.. ما الفائدة من هذا الانكشاف؟.. كلنا بعد الممات أولياء الله، وأهل المكاشفة والشهود والسير الأنفسي؛ ولكن ما الفائدة من ذلك؟.. فات الأوان، اليوم دار عمل ولا جزاء، وغداً دار جزاء ولا عمل.

- الزاوية الثالثة: في الجوارح.. في الأعمال الخارجية: إن البعض يسأل: أي الأذكار مؤثرة في القرب إلى الله -عز وجل- وتصفية الباطن؟.. ليس هناك تناسب بين الأمرين: حيث أن الذكر حركة في اللسان، وتصفية الباطن أمر في القلب.. وعليه، فإنه لابد من وجود مناسبة بين الأداة وبين الطرف الآخر.. ورد أن أمير المؤمنين (ع ) سأل الرسول الأكرم (ص) بعد خطبته عن شهر رمضان قائلاً: (يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟.. فقال (ص): يا أبا الحسن؛ أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله تعالى).. إن بعض المؤمنين، وخاصة من الشباب.. الشاب بما أعطي من إرادة، وبما أعطي من شهوات، وبما أعطي من ميل للحياة الدنيا وزخرفها.. لو قام بحركة جهادية في باطنه؛ فإنه يصل إلى المراحل العليا بسهولة، والكبار أيضاً يصلون ولكن ببطء.. ولكن الشاب إذا أراد أن يصل للمقامات العالية الروحية والقربية؛ فإنه أسرع.. وذلك لأنه دائماً على مفترق طريقين، فيجاهد نفسه مجاهدة.

فإذن، إن الشباب -ولله الحمد- ليس عندهم مشكلة عقائدية عميقة، ولا قضايا سرقات، ولا مشاكل قتل.. ولكن القضية كلها تدور حول فلك الشهوات.. حيث أنه يمضي ساعات، وحتى لعل في ليالي شهر رمضان، وهو ينظر إلى ذبذبات في التلفاز، وهي حركات كهربائية فقط، هنالك شاشة زجاجية، وخلفها صور تعرض.. فإذا انطفأت الكهرباء، تتحول هذه الصورة إلى لوحة سوداء.. فهل المؤمن يبيع دينه ودنياه وآخرته، بالجلوس أمام هذه الشاشة؟.. ينظر إلى الحرام في جوف الليل، وإذا جاء الطفل الصغير يسرع ويطفئ الجهاز، وكأنه في حال عبادة.. ويخاف من الخادمة في المنزل، ويخشى أن تنقل الأخبار لربة المنزل.. فهو يخشى الطفل والخادمة، ولكن رب العالمين هو أهون الناظرين، ووجوده كالعدم!.. أحد العلماء يقول: نحن في مقام العمل كلنا كفار، والقرآن الكريم يقول ذلك: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}.. في مقام العمل -والحمد لله الذي لا يؤاخذنا في مقام العمل.. فالكافر من ينكر وجود الله علنا أو اعتقاداً- نحن نجعل وجوده -جل جلاله- كالعدم في مجال العمل.

(نعم القرين الرضا)

- إن من متع الدنيا أن يجلس الإنسان إلى أحبابه وإخوانه من المؤمنين، لأنه إذا اجتمع المؤمنون على طاعة الله، وعلى ذكر الله: لكلمة هادفة، أو لدعوة بين يديه، أو حتى لإجابة دعوة مؤمن على طعام؛ فإن هذا الاجتماع لأي من هذه الأمور الثلاثة، هو موضوع لنزول الهبات الإلهية.. وفي روايات أهل البيت (ع) دعوة إلى التزاور في البيوت، ودعوة إلى إحياء أمرهم (ص).. عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: (أيما مؤمن خرج إلى أخيه يزوره؛ عارفا بحقه: كتب الله له بكل خطوة حسنة، ومحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة.. فإذا طرق الباب، فتحت له أبواب السماء.. فإذا التقيا وتصافحا وتعانقا، أقبل الله عليهما بوجهه، ثم باهى بهما الملائكة فيقول: انظروا إلى عبدي!.. تزاورا وتحابا في حق، عليّ أن لا أعذبهما بالنار بعد ذلك الموقف).

- إن الله -عز وجل- له أشعة كونية، وله ما يسمى بأشعة الليزر، وله ما يسمى بهذه الأشعة التي تصور بها بواطن العباد من خلال الأشعة المعروفة.. ولله -عز وجل- أشعة روحانية، يسلطها على بقاع من الأرض بشكل دائم ورتيب، كبيته الحرام.. وهنالك ما يشبه الأقمار الصناعية، تسلط أشعتها وحزمتها النورية على بقاع في الأرض في بعض الأوقات، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اغتنموا الدعاء عند أربع: عند قراءة القرآن، وعند الأذان، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الصفين للشهادة).. وكذلك المجالس التي يتم فيها عقد القران، حيث أن هنالك حزمة نورية روحانية تلف المجلس، والإنسان يشعر بهذا الجو، ومن هنا أمرنا بالدعاء في مجالس العقد.

- إن الشجرة المثمرة لها ملائكة موكّلة بالثمار، ولكن عند اجتماع المؤمنين، فإن ملائكتهم هي التي تحف بهذه المجالس المباركة.. ولهذا فإن من متع الحياة أن يلتقي الإنسان بإخوانه المؤمنين.. ورحم الله سلمان، هذا الذي تربى في مدرسة أهل البيت (ع) إذ يقول: (لولا السجود لله، ومجالسة قوم يتلفظون طيب الكلام، كما يتلفظ طيب التمر.. لتمنيت الموت)..

وسلمان هو تلميذ علي (ع)، وعلي عندما يصف المتقين يقول: (المتقون حقاً هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع)، (صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالمحل الأعلى).. فقلب سلمان في العرش، ولا يحب المكوث في الدنيا؛ لولا السجود والجلوس مع المؤمنين.. وبالتالي، فإن المؤمن في متعة مستمرة، لأنه في النهار يلتقي بإخوانه في المسجد وغيره فيستمتع، وإذا جن عليه الليل يسجد بين يدي الله عز وجل.

- إن من كلمات ومواعظ الإمام علي (ع): (نعم القرين الرضا)!.. فما الفرق بين الرضا والتسليم القلبيين، والرضا والتسليم الاعتقاديين؟..

- إن الدنيا دار بالبلاء محفوفة، (الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات).. هنالك مكاره في حياة الإنسان، إن أكبر الشخصيات الدنيوية في هذه الأرض، لم تحقق كل آمالها، حتى كبار رؤوسا الدول العظمى، من آمالهم -مثلاً- أن يقضوا على القوة الأخرى المنافسة لهم.. إذن، حتى هؤلاء لم يحققوا مآربهم في الحياة.. فالدنيا دار تنازع، نزاع وتصارع من أجل البقاء.. وطبيعة الحياة الدنيا طبيعة محدودة: فالثروات محدودة، والفرص محدودة، والمقامات محدودة.. والناس في سباق نحو اغتنام الفرص، واقتناء المكاسب.. وبالتالي، فإنه من الطبيعي أن يصبح هناك شح في الموارد الطبيعية.. ففي أدغال أفريقيا المياه قليلة، وعندما يأتي قطيع من الجواميس العطشى؛ فإنها تتناطح فيما بينها من أجل الماء، وقد يصل الأمر إلى معركة حامية فيما بينهم.. والدنيا هكذا!.. الفرص فيها محدودة، والإنسان مهما بلغ لن يصل إلى مآربه.. أضف إلى أن الله -عز وجل- له مشيئته، فيبتر بعض الأعمار بتراً.. وهذه الأيام كثرت قائمة الأمراض التي ليس لها علاج، قال الرضا (ع): (كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون).

- إن الذي يريد أن يرتاح في حياته من جميع الجهات: أسرة، ووظيفة، ومالاً، وصحة، وعافية، وو.. الخ؛ هذا إنسان متوهم، فهذا الأمر ما جعله الله -عز وجل- لأنبيائه.. ولو كان الإعفاء من البلاء مزية، لما كان النبي أكثر الأنبياء بلاءً، حيث يقول (ص): (ما أوذي نبي مثلما أوذيت)!..

ماذا نعمل أمام البلاء؟..

- إن هنالك عدة وصفات في البلاءات، فلكل شيء في الشريعة وصفة وبرامج للمواجهة:

الخطوة الأولى: معرفة نوع البلاء.. إن الخطوة الأولى أمام البلاء، هي أن ننظر هل أن هذا البلاء بلاء مقدر، أو بلاء مكتسب؟.. أي هذا قضاء وقدر، أم أن هذه نتيجة وهذا جزاء؟.. وهذا يحتاج إلى قدرة تعقلية كبرى، فالدين هو دين التعقل، (تفكر ساعة، خير من عبادة سبعين سنة)، لأن الإنسان إذا قوى في نفسه الجانب التعقلي والتحليلي، بإمكانه أن يصلح مسيرته في الحياة مع نفسه ومع ربه.

- إن البلاءات تارة تكون قضاء وقدرا بحتا، والإنسان ليس له فيه أي دور.. ولكن بعض أنواع البلاء، هو انعكاس لعمل الإنسان، مثلا: إنسان يبتلى بالإفلاس، لأنه طمع في مال الدنيا، ووسع في رقعة تجارته زيادة عن القدر المتعارف، فاضطر لأن يأخذ قروضا ربوية.. هذا الشعار يجب أن يكتبه المؤمنون على صدورهم الباطنية، إنه شعار جميل، متخذ من نصوص أهل البيت (ع): (ما قل وكفى، خير مما كثر وألهى‏)!.. قد يستنكر البعض هذا الحديث، ويقول: إذا عملت بهذا الحديث من أين أدعم المشاريع الإسلامية؟.. فأنا إنسان أحب أن أنمي ثروتي، ليزداد خمسي، وتزداد المشاريع الإسلامية والحوزات انتعاشاً!.. ولكن من قال ذلك؟.. إذا كان زيادة المال يلهي صاحبه عن نفسه، وعن مسيرته التكاملية، ويوقعه في الحرام، كيف يكون أمرا راجحا؟.. ومن قال: بأن تنمية المال بأي طريق كان، أمر راجح؟.. فإذن، إن الخطوة الأولى في مواجهة البلاء، هي أن ندخل في مختبر النفس، وننظر إلى أن هذا البلاء من أي أصناف البلاء!..

الخطوة الثانية: الصبر.. إن هناك صبرا جيدا، فالأم التي تسمع بوفاة ولدها، فلا تجزع ولا تظهر الجزع.. فإن هذا الصبر يعود إلى عدة أسباب: قسم منه خشية على نفسها، وقسم منه لأجل مراعاة الآخرين، وقسم منه للعقل.. إن بعض أصحاب النبي (ص)، كان لا يشرب الخمر قبل تحريم الخمرة، لأن الخمرة شيء غير جيد، فإذا شرب الخمر، فإنه سيسكر ويذهب عقله، والصبيان يضحكون عليه.. فهذا تعقل!.. لأن الخمرة لم تحرم، ولكن هذا الرجل عقله حرم الخمر على نفسه.. فإذن إما من باب مراعاة الناس، أو من باب الرفق بالسلسلة العصبية، والجهاز الهضمي والقلبي، وما شابه ذلك؛ فإنه يصبر!..

- إن هنالك ما هو أعلى من الصبر، نريد أن نصل إلى جوهر كلام علي (ع) قدر استطاعتنا.. فالأعلى من ذلك هي أن يصل العبد إلى درجة يرى مالكية الله -تعالى- له أقوى من مالكيته لنفسه.. يرى نفسه ملكاً طلقاً حقيقياً لله عز وجل، ورب العالمين يريد أن يعمل في ملكه ما يشاء.. فهذا البلاء الذي نزل على بدن الإنسان، الذي أصيب بجرح بليغ، والدماء تنزف منه نزفاً.. هذا البدن له نسبة إلى الإنسان، فالجسم الذي نعتني به، ونبعثه للبلاد الأجنبية بآلاف الدنانير لعلاج شيء فيه، هذا الجسم -على احترامنا له وتقديرنا له- هو مطية مؤقتة للإنسان وليس مطية أبدية.. هذا الجسم الذي هو دابة الروح له صلة بالإنسان: صلة الراكب والمركوب.. أما صلته بالله -عز وجل- فهي صلة المعلول والعلة، الخالق والمخلوق.. أين علاقة الدابة وصاحب الدابة، وعلاقة المالك والمملوك؟.. مثلا: عندما يستأجر الإنسان سيارة، وتعطب هذه السيارة، أيهما يكون أكثر حزناً: هو، أم الشركة المالكة؟.. وكذلك فإن أجسامنا مستعارة، كالسيارات المستأجرة من شركات التأجير.. بينما هو الذي أخرج الإنسان من ظلمة العدم إلى نور الوجود، هو أولى ببضاعته -بدابته- يعمل بها كيفما يشاء.. بينما أحدنا في مقام العمل هكذا تؤلمه البقة، والحال أن المؤمن أرقى من هذا بكثير.. في بلاد الهند هناك عجائب وغرائب من خرق الطبيعة، وهم أناس في مقام التقييم الذاتي من أسخف خلق الله، ولكن ببعض الرياضات، وصل إلى درجات مذهلة في التصرف بالمواد الطبيعية.. فكيف إذا كانت هذه المجاهدة ضمن المدرسة الإسلامية، ومدرسة أهل البيت؟!.. في هذه المدرسة عندما يتعالى الإنسان عن متطلبات ذاته، وإذا به في ساعتها يعطى درجة من درجات استشعار حلاوة السيطرة على النفس.. وكيف إذا استمرت المجاهدة في دروب مختلفة من دروب الحياة؟!..

- إن الإنسان لابد أن يصل إلى هذه الدرجة: أن نرى الله -عز وجل- أولى بنا من أنفسنا.. ولهذا النبي (ص) في عيد الغدير، قال للمسلمين قبل أن ينصب ابن عمه ووصيه علي (ع) لإمامة المسلمين إلى الأبد، قال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟.. قالوا: بلى.. انتهى الأمر!.. ما دام أنا الأولى بكم من أنفسكم، فمن كنت مولاه، فهذا علي مولاه.. انطلق من هذا المنطلق!.. ولهذا نحن نعتقد أن الإمام المعصوم له سلطة على الإنسان، أكثر من سلطة الإنسان على نفسه بمقتضى هذا النص.. فإذن، نعم القرين الرضا!..

- إن المشيئة ماضية على الإنسان أجزع أم صبر، وبالتالي، فإن مقتضى العقل يقول: ما دام قد كتب لك هذا البلاء، لماذا لا تستثمر هذا البلاء في التودد إلى الله -عز وجل-؟.. إذا ذهب الإنسان إلى باب كريم من كرام الدنيا وطرق بابه، ولكن هذا الكريم يطل عندما يراه، ويقول: لا تفتحوا له الأبواب!.. لا لبخل فيه، فخزائنه مملوءة بالطعام؛ ولكن هناك عداوة بينه وبين هذا السائل، لأنه ربما ضرب ولده أو عاكس ابنته في الطريق.. فهو يعتبر أن ذلك استهانة به، ويعتبره عدوا له.. وبالتالي، فإن كرمه لا يصل إليه.. ولكن وهو واقف على الباب، وإذا بحجر يسقط من بناء هذا الكريم، فيشج رأسه، وتسيل الدماء على صدره.. عندها يقول هذا المسكين: الآن يا فلان هب أني عصيتك!.. لا تنظر إلي لما بيني وبينك، ولكن ترى وضعي، وإلى ما أصابني على بابك.. فهذه البلية نزلت علي، وأنا بين يديك، الآن من هذا الباب أكرمني، لا لاستحقاقي، ولكن لما أصابني بين يديك، وفي سبيل الاستجداء منك.. أحد المؤمنين -إنسان عادي- ولكن في موسم الحج رجع وأصيب بحادث، فبترت رجله.. فألقى الله -عز وجل- عليه نوراً، ما فارقه إلى هذا اليوم.. وذلك لأنه أصيب في سبيل الله، فعوضه رب العالمين بما لا يخطر بالبال، فرب العالمين شكور غفور.. إن الإنسان المؤمن في شهر رمضان قريب إلى الله عز وجل، وهو شهر المصالحة.. فرب العالمين يلغي الملفات العالقة، ويقول: هذه الملفات؛ ملفات الخصومة اجعلوها جانباً، يا ملائكتي!.. غلوا أيدي الشياطين، وافتحوا الأبواب على الصائمين، واستجيبوا أدعيتهم!..

يتبع ...

****************************