ب- الخصائص المعنوية في الحجازيات
١.العفاف:
من أهم الخصائص المعنوية التي رفعت الحجازيات الى حد الأشعار العذرية هي العفاف والحرمة، تظهر أشعار الشريف، الشخصية المتقية والمحبة والعاشقة في الحجازيات، لماذا تعتبر العفاف الخصوصية البارزة لهذه الأشعار؟ الاجابة ليست صعبة " لقد مرّ بنا طموح الرجل ورغبته في المعالي التي أرقت مضجعه منذ كان فتى، وتوليه أمر النقابة وأمور المساجد في بغداد، بعد أن جاوز العشرين، ثم توليه النيابة عن بغداد والنقابة وإمارة الحج والمظالم قبل الكهولة؛ فإذا ما أضيف الى ذلك نسبه النبوي واعتزازه به، ورغبته في الخلافة، وإعلانه هذه الرغبة والعمل لها، أدركنا الحواجز التي تقف أمامه، وتمنعه عن أن يشارك شعراء بغداد ومجونهم ".[١]
لعله يكون من غير المنصف أن نعد تحسب العوامل الخارجية والمكانة الاجتماعية عامل العفة في الحجازيات للشريف الرضي فقط لأن الروح الرفيعة والفؤاد السليم للشريف الرضي،هوالعامل الاساس للعفة في شعره لا مكانته الاجتماعية لأنه " كان للتربية الدينية والأخلاقية وللبيئة التي نشأ فيها أثر كبير في أخلاقيات الشريف واتجاهات غزله، لذلك نراه يركز في قصائده على مظاهر الطهر والعفة والذكرى ".
كان يعرف الشريف الرضي أنّ نظرة الرقيب هي عامل لعدم وصوله الى المحبوبة أيضاً:
ولي نظرةٌ لا تملك العينُ أختها ***** مخـافةَ ينْـثوها على رقيــب [٢]
أو يقول:
عندي رسائلُ شوق لستُ أذكرها ***** لولا الرقيبُ لقد بلّــغتها فـاك [٣]
٢.ذكر المحبوب:
التفاتاً الى مطالع الحجازيات نشاهد خصوصية معنوية أخرى تشير الى ذكر المحبوب وأماكن اللقاء:
تذكرتُ بين المأزمين الى منى ***** غزالاً رمى قلبـي وراح سليماً (المصدر نفسه،ج١،١٧٩) .
تبين هذه الأبيات أنّه مهما يفترق ويبتعد عن عشيقته على رغم البعد والفراق منها ولكن يخفق فؤاده لأجلها ويتسلى بذكرها:
ثم انثنَينا إذا ماهَـزّنا طـرَبُ ***** على الرحال، تَعَلّلنا بذكــراك ( المصدر نفسه،ج٢،١٠٧ ) .
" ومن مفعول (ذكرى الذكرى)، كان الشريف الرضي ينظر الى الآثار والأمكنة بجدلية الرغبة والاشقاق، الرغبة في أن يرى الطول والاشفاق على نفسه من الأسى". [٤]
أمن ذكر داربالمصلى الى منى تعادُ ***** كمـا عيد السـليم المؤرق [٥]
ليست الحجازيات الشريف الرضي مجالا لذكر محبوبته فقط، بل يتمنى الزمن مع محبوبته حتى يعود فيدفع كل ما في سعته لزمن الفقيد:
يا ليلة السفح ألا عدتِ ثانية ***** سقى زمانك هطال من الديم
ماض مِنَ العيش لويُفدى بذلتُ له ***** كرائم المال من خيل ومن نعم [٦]
٣.طيف الخيال:
" حين يعتمد الشاعر في بناء شعره على طبع سمع، وبديهة حاضرة، وموروث إبداعي ثر، فلابد من أن يظهر أثر النشاط الخيإلى في شعره بجلاء ووضوح، هذا النشاط الذي هو جوهر الابداع – الشعري خاصة – وقد كان الرضي من أهم شعراء الطبع، والبديهة الذين ظهر أثر الخيال في شعرهم " [٧].
ولا يهدء شغف الشريف الرضي الى المحبوب بالتذكر فقط إذن يسكن فؤاده المضطرب بالتوسل إلى التوهم والخيال:
حبذا منكم خيال طـارق مرّ ***** بالحي ولم يلمم بنا [٨]
وأيضاً:
قالتْ: سيطرُقُكَ الخيــا ***** لُ مِنَ العتيق على نواها
فعدي بطيفــك مُقلَةً ***** إنْ غبتِ تطمَعُ في كراها [٩]
فمن عادة العشاق أنهم حينما يفترقون عن المحبوب يتفشون كل مكان عنه وينظرون بكل حدب وصوب، وفكان ييظاهر أمام عينيه طيف المحبوب دائماً ولكن هذا دواء لا يشفي دائماً:
إنّ طيف الخيال زار طروقاً **** والمطايا بينَ القنان وشعب
زارني واصلاً على غير وعد ***** وانثنى هاجراً على غير ذنبِ
كان قلبي إلىه رائد عيني ***** فعلى العين منّةُ للقلب
بت ألهوبناعم الجيد غضّ ***** وفم بارد المجاجة عذب
بل وجدي، ومَن رأى إلىوم قبلي ***** ناقعاً للغليل مِنْ غير شرب
سامحاً لي على البعاد بنَيْلِ ***** كان يلويه في زمان القُربِ
كان عندي أنّ الغرور لطرفي ***** فإذا ذلك الغرورُ لقلبي [١٠]
٤.الأسف والتهلف:
توجد في غرام وهوى وحب الشريف الرضي حالة خاصة، يشاهد أحبائه في مناسك الحج أوقوافل الحجاج ويعلم جيداً بأنه قبل أن يصل إلىهم ويلاقيهم، يحصل الهجران والفراق بينه وبينهم (أي الهجران والبعد والفراق قبل الوصال):
ويا بؤسَ للقـربِ الذي لا نذوقه ***** سوى ساعة ثمّ البعادُ مدى الدهر [١١]
" خذلكم الشاعر يطوف البيت فتقع عينه على غرائب الحسن، ثم يكشف الواقع غشاوة هواه، إذ يعرف أنها لحظة لن تعود.
ومن الذي يضمن للشاعر أن يسمح الزمان اللعوب بأن يرد إليه هو قلبه بعد عام أوعامين ". [١٢]
لذا ينقسم حب الشريف الرضي الى ثلاثة أطوار منها: نظرة الهيام والوجد، البعد والفراق الأبدي، والتلهف الأبدي:
نَظَرتُك نظرةً بالخيف كانت ***** جلاءَ العين مني بل قَذاها
ولم يكُ غيرُ موقفنا فطارَت ***** بكل قبيلةٍ منا نسواها
فواهاً كيف تجمعُنا الليإلى ***** وآهاً من تفرقنا وآها [١٣]
" وكثيراً ما كان يفوت شاعرنا اللقاء فلا يسعد به، ولا يتيسر له الاجتماع بمن يحب فيأسف ويتحسر ويذوب ألماً " ، [١٤]
وهو يقول:
تَزافرَ حبي يوم ذي الأثلِ زَفْرةً ***** تذوبُ قلوبٌ من لظاها وأدمعُ [١٥]
" من هنا نعرف كيف كان الشريف كثير الأسى والحنين، فالذي يشهد مواكب الحسن من مختلف الشعوب في موسم لا يدوم غير أسابيع لا يستطيع تزويد العين والقلب بغير الحسرات". [١٦]
واها ولـولا أن يلومَ ***** اللائمونَ لقلتُ آها [١٧]
إذن، يعتبر الندم والتهلف على الوصال والهجران الأبدي من الخصائص المتعلقة بحجازيات الشريف الرضي، التي نستطيع مشاهدتها في أكثر حجازياته:
أيها القانص ما أحســ ***** ـنتَ صيدَ الظبياتِ
فاتكَ السربّ وما زُو ***** دْتَ غيرَ الحسرات [١٨]
٥.الصدق والوفاء :
الصدق والوفاء من خصائص الأخرى في حجازيات الشريف لأنه وفيّ وصادق في حبه، ولا يرى التكلف والتصنع في غرامه وشعره:
أغيبُ فأنسى كل شيء سوى الهوى ***** وإن فجعتني بالحبيب النوائبُ
ولا زاد يوم البين إلاّ صبابةً ***** فلا الشوق منسيٌ ولا الدمع ناضبُ
أحنَّ، إذا حنّت ركابي وفي الحشا ***** بلابلُ لا تعيا بهنّ النجائبُ
فعندي اشتياق ما يحنّ أخوالهوى ***** وعندي لغوبٌ ما تحنّ الركائبُ
وإنيّ لأرعى من وداد أحبّتي ***** على بعدٍ ما لا تراعي الأرقابُ [١٩]
فهو لا ينسى الهوى، والفراق لا يزيده إلاّ شوقاً، فأنه متعب ولكنه مشتاق، ويراعي وداد أحبته أكثر مما تراعي الأقارب بعضهم البعض والقطعة التإلىة تدل على وفائه الذاتي:
يا ريم ذا الأجرع يرعى به ***** ثمار قلبي بدل الرطب
هناك شرب الدمع مع ناظري ***** يا مشرتي بالبارد العذب
أنت على البعد همومي، إذا ***** غبتَ وأشجاني على القرب
لا أتبع القلبَ الى غيركم ***** عيني لكم عينٌ على قلبي [٢٠]
فنرى عمق الصدق الذي يتمتع به الشريف الرضي، فهو يطلب إنساناً يدخل في اثناء سره ليفهم أن الشريف رجل صادق.
٦.الرّقّة :
الرّقة من خصائص حجازيات الشريف الرضي، وقد عرف من قديم بهذه الصفة من ذلك قول الباخرزي صاحب دمية القصر: " وله شعره إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه وقعد بالنجم نواصيه، وإذا نسب انتسب الرقة الى نسيبه ". [٢١]
ننقل طرفاً من أشعاره تدلّنا على الرِّقّة التي تبناها في شعره، لذلك اخترنا « ظبية البان » لنقف متفرِّجين على جمالها ورقيق ألفاظها ودقيق معناها :
يا ظبية البان ترعي في خمائلهِ ***** ليهنك إلىوم أنّ القلب مرعاك
الماءُ عندك مبذولٌ لشارِبِهِ ***** وليسَ يُرويك ألاّ مَدمَعي الباكي
هبّت لنا من رياح الغَورِ رائحةٌ ***** بعد الرُّقادِ عرفناها برياك [٢٢]
"لتكن حجازيات الشريف هي الشاهد على أنّ ما ضينالم يكن كتلةً من الجمود ، وإنّما كان ماضي أُمّة حيَّة ، تدرك دقائق الأحاسيس " [٢٣] .
٧.العِرفان
يشكل العرفان جانباً واسعاً من الشعر الغزلي الذي تغني به بعض أرباب الذوق والمتطلِّعين إلى الذات الربوبية ، وربّما ملك هذا الجانب فؤاد شاعر ذاب حُبّاً للمحبوب المطلق فسما به الغزل إلى حَظيرة القدس ، فأنطقَ الحبُّ لسان قلبه وانطلق العارف يعرج في سماء المعني، يشرب من يد الحبيب خمر المعرفة ويسكر برحيق الحبّ .
لاغر ولو قلنا إنّ الأدب العربي قبل القرن الرابع الهجري وحتى إلى الهجري وحتى إلى القرن السادس كان لا يعري اهتماماً بهذا الجانب ولا يعرفه كما نفهمه الآن .
فكان العرب يتغزّلون بالجانب المادي من المرأة ، ثمَّ حدث تطوّرٌ وهوالغزل بالجمال في تصوير أخلاق المرأة من غنچ ودلال وخلف الوعد والمَطل إلى غير ذلك ممّا نسيباً، ولم يلتفت أحدٌ منهم إلى تصوير الجمال المعنوي الذي يتواجد في غير المرأة ، دع تلك الأوصاف التي وصفوا بها الطبيعة ومفاتنها من خمائل وزهور وطيور وحمام ،فانّها لاتدخل في اطار بحثنا وإنّما تدخل في حيزٍّ المادّة ، وربّما تجد عندهم أوصافاً معنوية وعالية إلى درجة السمو وإلى حدٍّ السماء ، ثم تجدها في سبيل ليلى الواقعية أو بثينة بنت زيد أو عمرو،فتحليق الشاعر في جو الخيال لبتناوش أوصافاً بديعة وممتازة في سببل ابنة عمّه أوغيرها من بنات سائر القبائل لابرفع الروح الى عالمِ المعنى .
ونرى تطوّراً أحدثه الشريف الرضي في الشعر العربي من خلال الغزل إذ تسامى بشعره وبغزله عن لمياء بنفسها أو أطلال الحبيب البشري إلى لمياء الرمزية ومحبوبه العلويّ وإلى نفحات نجد، حيث يبحث عن مطلوبه في تلك الديار ويصبّ دموع الشوق وتتقطّعُ أنفاسُه حسرات في سبيل ساكني طَيبة ، ومَن هُم ساكنُوها؟!
إنّ الشريف تغزّل بالأراضي الحجازية وأنشا قصائده الحجازيات ، تلك القصائد التي تناولتها القلوبُ فاقترنت بأبدع ما أنتج الأدب العربي في أزهر عصوره من عيون شعر العرب، فقد قيست بخمريات أبي نؤاس وهاشميات الكميت ومدائح البحتري وتشبيهات ابن المعتزّ وزهديات أبي العتاهية ، وهذه القصائد كلّها أنشدها وهو منجد على ظهر الأراضي الحجازية ، فتراه فيها يتحرّق اشتياقاً ويتغزل بأروع ما تغزّل المتغزلون وتابعه على طريقته شعراء كبار كالمهيار الديلمي تلميذه والحاجري والتلعفّري، فأصبح الغزل بعد الشريف الرضي تغنياً لمحبوبٍ فوق الجسد والمادة وتحليقاً في سماء الحب المطلق ، الذي لا حدَّ له ولا نهاية وقد ضربنا أمثلة للتجاوب الذي حصل عند الحافظ الشيرازي مع الشريف الرضي ، ولا ندّعي أنّ الحافظ الشيرازي تأثّر في غزله بالشريف الرضي كما اننا لا ننكر هذا التاثير ،حيث نرى الرجلين تقاربا في طريقتها ، فكاد الكلام يخرج من قلب واحد على لسانين .
ولربّما جاء غزل الشيرازي مماثلاً للشريف الرضي عن تضارب القلوب وتلاقي الارواح في عالم الحب .
٨. الاشارة الى مناسك الحج:
من خصائص مراسم الحج تجمع العديد من الناس من اقشارٍ وفرق مختلفة، الشريف الرضي في أحد قصائد الحجازيات " فيشير الى مناسك الحج في منى وليإلى الخيف ويستمطر علىها صوب الغمام، هناك يتلقى الظالم والمظلوم والمشكو والشاكي والمحسن والمسيء ". [٢٤]
إذا يَلتقي كلّ ذي دينِ وماطِلـه ***** منّا ويجتمعُ المشـكووالشاكـي [٢٥]
من المناسك المتعلقة بالحج " النفر" المختص بيوم الثالث من أيام التشريق ويسرع فيه الحجاج من منى نحو مكة، قد ذُكر هذا العمل مراراً بواسطة الشريف الرضي:
ما ترى النفرَ والتحملَ للبيــ ***** ـن، فماذا انتظارنـا للبــكاءِ [٢٦]
أو يقول:
كَــمْ نأى بالنَفـر عَنّـــا ***** مِــن غَــزالٍ ومَــــهاة [٢٧]
وأيضاً:
وقالوا غداً ميعادنا النفر عن منى ***** وما سـرّني أنّ اللقاءَ معَ النفـر [٢٨]
من الفرائض للحجاج رمي الجمرات، والشريف الرضي كان يصف النساء الحاجّة حين رمي الجمرات مراراً:
مُجتمراتُ رُحــنَ عـــن ***** رَمـــي الجمــار موهـنا [٢٩]
أو:
ورامينَ وهناً بالجمار وإنما ***** رموا بينَ أحشاء المحبين بالجمر
رموا لا يبالونَ الحشى وتروّحوا ***** خليين والرامي يُصيبُ ولا يدري [٣٠]
٩. الرمزية في الحجازيات:
الرمزية، مذهب شعري يمثل بالرموز ما يوجد من تجانس خفي بين الأشياء ونفوسنا، ولم تكن الرمزية معروفة في تلك العصور. والرمزية تظهر عادة حينما يتطوّر الخيال وتتطوّر الحياة، فيترك الشاعر الصور الساذجة ويظّل يتطلّع إلى صور في نفسه بألفاظ معروفة ومألوفة.
والقرن الرابع الهجري من العصور الأدبية المزدهرة التي قوي بها الخيال واتسعت علوم الرجال، فنبغ فيه ثلاثة شعراء الكبار وهم: المتنبي وأبوالعلاء المعري والشريف الرضي.
فالشريف الرضي الذي يتمتع بهذا الأدب والعلم الجم، له أن يكون من بناة الرمزية وأن يتحدث في الشعر عن معان يقصدها ويأتي بألفاظ تدل على معان غير مقصودة، أو يضرب تجانساً بين الأشياء ونفسه ويرمز إلى غايته رمزاً حيث كان يذكر أسماء لم تكن لها مسميات في ذهنه، ومن ذلك يقول زكي مبارك:
"إن الأسماء التي وردت في شعر الشريف، لم تكن لها في ذهنه مسميات، أريد أن أصرح بأنه كان يسلك المذاهب الرمزيۀ". [٣١]
فنرى في شعره كثيراً ما تحدث عن لمياء وأميمۀ وما إلى ذلك من أسماء منها:
ألا أيها الركب إلىمانون عهدكم ***** على ما أري، بالأ برقين قريب
وإن غزالاً جزتم بكناسه ***** على النأي عندي المطال حبيب
ولما التقينا دل قلبي على الجوي ***** دليلان؛ حسن في العيون وطيب
ولي نظرۀ لاتملك العين اختها ***** مخافة يثنوها على رقيب
وهل ينفعني إلىوم دعوي براءة ***** لقلبي ولحظي، يا اميم، مريب [٣٢]
ومن اميم هذه؟ أهي الحبيبة التي قصر هواه علىها كما للمجنون من ليلي؟ لم تعرف الدنيا هذا وما كتب المؤرخون كما كتبوا عن مجنون وحبه لليلي العامرية، نسمع الشريف الرضي في الأبيات التالية وتغزله بظمياء:
لقلبي بغوري البلاد لبابة ***** وإن كنت مسدوداً على المطالع
لعلى اعطي، والأماني ضلة، ***** وان الليإلى معطيات موانع
مبيتي في اثواب ظمياء، ليلة ***** بوادي الغضا والعاذلون هواجع [٣٣]
فرمز بظمياء بدل أميم، ثم نراه يتغزل بالعامرية، والعامرية هي ليلي:
وقفت بربع العامرية وقفة ***** فعز اشتياقي والطلول مواضع
وكم ليلة بتنا على غير ريبة ***** علىنا عيون للنهي ومسامع [٣٤]
فلم تكن اميم بنفسها ولم تكن ظمياء تري بالعين ويسمع حديثها كسائر النساء ويري مكانها ولم تكن ليلي ولا آلها ممن لهم وجود في الخارج وإنما خلقهم الشاعر رموزاً يتغزل بهم ويريد غيرهم.
وما هو ذو الأثل ووادي الأراك ورامة في الأبيات التإلىة:
تذكرت إيا ما بذي الأثل بعدما ***** تقضي أواني في الصبا وأوانها
يطيب أنفاس الرياح ترابها ***** ويخضل من دمع النسائم بانها [٣٥]
وقوله في وادي الأراك:
خليلي! هل لي لوظفرت بنية ***** إلى الجزع من وادي الأراك سبيل
وهل أنا في الركب إلىمانين دالج ***** وأيدي المطايا بالرجال تميل [٣٦]
فكلّ هذه الأسماء المواضع – كما ذكرنا سالفاً- اسماء رمزية من صنعة الخيال المرهف قاصداً محبوباً واحداً.
١٠. البداوة في الحجازيات:
تعتبر البداوة من الخصائص البارزة في أشعار الشريف الرضي التي تتجلى في حجازياته بوضوح كامل.
وما يعطي اللون والرائحة البداوة بالحجازيات، يصدر عن روح الشريف الرضي واشتياقه الى تراث البداوة ووقوفه على الأشعار واللغات القدماء وأيضاً الحوادث التي ترتبطه الى الحجاز والبداوتها، " فتساعده رقة الهواء، وإتساع الفضاء، وحرية القول، ومشاهدة العرب الصميميين من أهل تلك الديار، على طبع قصائده بطابع الرقة والبداوة مضافاً إلى ما فيه قبل ذلك ". [٣٧]
١١.المرأة في الحجازيات:
نظرة الشريف الرضي الى المرأة تختلف عن الآخرين تماماً عن الذين ينظرون الى المرأة كمتاع للذة والمتعة فقط، ويتوجهون الى الجانب المادي من الحب فقط، وتختلف نظرة الى المرأة من الشعراء العذريين أيضاً الذين يميلون الى ذكر الهم والغم فقط ولا يهتمون الى مشاعر وأحاسيس المرأة أبداً " وتغزل فكوى القلوب بنار العشق، وأعلى محل المرأة ووصف جمالها ووصف فطابق وصفه خصال موصوفه ". [٣٨]
" المرأة في حس الشريف، إنسانة تحب، بمقدار ما تُحب، أو هي أكثر شغفاً، وأغنى روحاً :
لكِ الله من مطولة القلبِ بالهوى ***** قتيلة شوقٍ والحبيبُ غريبُ
يقولون مشغوفُ الفؤاد مروّع ***** ومشغوفة تدعوبه فيُجيبُ
هاهي العذرية تطلّ على حقيقتها في علاقة الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل ". [٣٩]
وفي حجازياته نجد الوصف الحسي للعيون الساحرة والنظرة القتالة فقط:
عارضاً فإن كان فتىً ***** بالعيونِ النجلِ يقضي فأنا
إنْ مَنْ شاط على ألحاظها ***** ضعفُ مَن شاط على طول القَنَا [٤٠]
وفي الاختصار أن " ذلك هو شأنه مع المرأة : تحبه ويحبها، ويتذكرها وتتذكره ويأنس بحديثها، ويفرح بجمالها جسداً وروحاً ويود عن الأشياء من حوله. ولا شيء غير ذلك ". [٤١]
١٢. طريقة الحب في الحجازيات:
" كان للشريف الرضي مذهب في العشق، وفي أنشطته سياسية وفكرية كثيرة تتوفر امكانية صياغة المذهب، أما في العشق، فإن صياغة مذهب للعشق عمل مذهل ... وكان الشريف الرضي لوحده تجربة متكاملة، فقد اندفع في العشق الى النقطة البعيدة الى حبة القلب، وما أبعدها ". [٤٢]
"في شعر الشريف الرضي لا إرتسمت أحوال ومقامات للحب، توحد فيها الروحي بالحسي، والالهي بالارضي، فجاء في شعره القبض والسبط والهيبة والأنس، والجمع والفرق، الغيبة والحضور، والصحو السكر، والستر والتجلي، إنما في سياق تجربة واقعية مشهودة ". [٤٣]
طريقة الشريف الرضي في الحب فريدة وهوكان متبايناً عن شعراء العذريون لأنه لا يتغزل بامرأة واحد مثلهم ويعشق الى محبوبات كثيرة، يكون وأي جميلة محبوبته ولكن هذا الأمر لا يعني أن يجعله في زمرة شعراء الإباحية التي يصفون المحبوبات بالوصف الحسي وحتى يذكرون أسمائها دون خجل.
الشريف الرضي عنده محبوبات كثيرة، هل يقدر أجاب جواباً متقناً لهذا الأمر ؟ نعم
عشقتُ ومإلى يعلَم الله حاجـة ***** سوى نظري والعاشقون ضروب [٤٤]
هو يعتقد أنّ العشاق مختلفين، بعضهم يعشق امرأة واحدة، وبعضه يعشق عدة نساء، بالحب الحسية، وأيضاً وشخص كمثله يعشق الى المرأة يعني يعشق الى الجنس الجمال.
حب الشريف الرضي كان نظرة جملة وأعلى من الحب العذريون.
حبه يختلف الى حب المتصوفة " إنّ المتصوفة أرادوا الوصول الى الله تعالى من خلال الكلمة الاشارة، الرمز، لكن الشريف الرضي كان يعرف الخالق ويقدسه من خلال الحياة، أي من خلال حكمة الخالق في خلقه " [٤٥] .
كما قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب (ع):" الحمدلله المتجلي لخلقه بخلقه " [٤٦] ، وأيضاً قال علىه السلام: " ما رأيتُ شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه ". [٤٧]
و" الحجازيات هي لقاء المحبة الإلهية مع المحبة الإنسانية فيصيرالحب سموأ وتديناَ جميلاَ ففي الطريق إلى محبة الخالق يلتقِي بمحبة المخلوق، وهذا شأن عظيم وقديم إن الجمال خلق أبدعه الله ، فعشقته النفوس وقصدته وحنت إلىه، وهذا ما يتجلى في حجازيات الرضي " . [٤٨]
النتيجة
١- الحجازيات هي قصائد ومقطوعات غزلية ذكر فيها الشريف الرضي مواضع الحجاز أوأنشدها في الحجاز وإن لم يذكر فيها الحجاز ، ولذلك سميت بالحجازيات ، وتعتبر الحجازيات من روائع الادب العربي القديم .
٢- وللحجازيات ميزات خاصة ، إما لفظاً كذكر مواضع الحجاز أوالفاظ في ذكر الأحباب وتشبيههم بالظباء و.... وإما معناً كالعفة والعرفان والرقة والرمزية و... .
٣- كان الشريف الرضي في حجازياته مبدعاً أسلوباً غزلياً جديداً نكاد لانراه إلا في شعر بعض الشعراء الحجازيين كعمر بن أبي ربيعة وغير حجازيين كالعبّاس بن الأحنف ولكن حجازيات الشريف تختلف من شعرهما تماماً .
واتبع شعراء كثيرون من معاصريه أو من الأجيال القادمة فنّه الغزلي كتلميذه مهيار الديلمي وأستفاد الشعراء الصوفيون وفي طليعتهم إبن الفارض من أسلوب الحجازيات في أشعارهم الصوفية ومعانيهم العرفانية إذن نرى مواضع الحجاز في شعر إبن فارض مثلاً رموزاً لمنازل المعرفة السماوية .
٤- نظرة الشريف إلى الحب ، نظرة متباينة وهويعشق المرأة يعني إلى الجنس الجمال والحجازيات هي لقاء المحبة الإلهية مع المحبة الإنسانية فيصيرالحب سمواً وتديناً جميلاً ففي الطريق إلى محبة الخالق يلتقي بمحبة المخلوق ، ولأنّ الجمال خلقه الله ، فعشقته النفوس وجمالها وهذا ما يتجلى في حجازيات الرضي.
------------------------------------------------------
[١] . عبد الفتاح محمد الحلو،١٩٨٦م،ج٢،١٤٠
[٢] . د،١٤٠٦ه،ج١،١٧٩
[٣] . المصدر نفسه،ج٢،١٠٧
[٤] . عزيزالسيد، جاسم ،١٩٨٦م،ص١٢٨
[٥] . د،١٤٠٦ه،ج٢،٧٦
[٦] . المصدر نفسه،ج٢،ص٢٧٣
[٧] . عبد الطيف عمران ،١٩٨٦م،٣٢١
[٨] . المصدر نفسه،ج٢،٥٧٦
[٩] . المصدر نفسه،ج٢،٥٧٦
[١٠] . المصدر نفسه،ج١،١٤٨
[١١] . المصدر نفسه،ج١،٥١١
[١٢] . زكی مبارك ،لاتا،ج٢،١٣١
[١٣] . المصدر نفسه،ج٢،٥٣٦
[١٤] . حسن جعفر نورالدين،١٩٩٠م،٩٦
[١٥] . المصدر نفسه،ج٢،٦٥٣
[١٦] . زكي مبارك،لا تا ،ج٢،ص٩٧
[١٧] . د،١٤٠٦ه،ج٢،٥٦٦
[١٨] . المصدر نفسه،ج١،٢١٧
[١٩] . المصدر نفسه،ج١،ص١٧٦
[٢٠] . المصدر نفسه،ج١،ص١٧٩
[٢١] . الباخرزي،١٩٨٥م ،ج١،ص٢٩٢
[٢٢] . الديوان ١٤٠٦ه،ج٢،ص١٠٧
[٢٣] . زكي مبارك،لا تا،ج٢،ص١٤٠
[٢٤] . حسن نورالدين،١٩٩٠م،٩٣
[٢٥] . د،١٤٠٦ه،ج٢،٥٦٦
[٢٦] . المصدر نفسه،ج١،٢١٧
[٢٧] . المصدر نفسه،ج١،٥١١
[٢٨] . المصدر نفسه،ج١،٥١١
[٢٩] . المصدر نفسه،ج٢،٤٨٠
[٣٠] . المصدر نفسه،ج١،٥١١
[٣١] . زكي مبارك،بلاتا،ج٢،ص١٠٠
[٣٢] . الديوان،١٤٠٦ه،ج١،١٧٩
[٣٣] . المصدر نفسه،ج١،٦٥٨
[٣٤] . المصدر نفسه،ج١،٥١١
[٣٥] . المصدر نفسه،ج٢،٥٣٦
[٣٦] . المصدر نفسه،ج٢،٢٢٠
[٣٧] . محمد هادی الامينی،١٤٠٨ه،ص٤١
[٣٨] . عبد الفتاح محمد الحلو،١٩٨٦م،ج٢،٢٠٩
[٣٩] . عبد اللطيف شراره،١٩٩٢م،ص٥٣
[٤٠] . الديوان،١٤٠٦ه،ج٢،٤٧٨
[٤١] . عبد اللطيف شراره،١٩٩٢م،ص٥٤
[٤٢] . عزيز السيد جاسم،١٩٨٦م، ص١٠٤-١٠٣
[٤٣] . المصدر نفسه، ص١٢٣
[٤٤] . الديوان،١٤٠٦ه،ج١،١٧٥
[٤٥] . عزيز السيد جاسم،١٩٨٦م،ص١٢٠
[٤٦] . الشريف الرضي،١٤٢٢ه،خطبة ١٠٨
[٤٧] . المصدر نفسه، خطبة ١٠٨
[٤٨] . عبد اللطيف عمران،٢٠٠٠م،ص٢٥٤
فهرس المصادر والمراجع
١- إبن خلكان، أحمد بن محمد أبي بكر، وفيات الأعيان، القاهرة، طبعة دارالثقافة، بلاتا.
٢- الأميني، عبدالحسين أحمد النجفي، الغدير، تحقيق مركز الغدير للدراسات الاسلامية، مطبعة فروردين قم، ايران، ١٤١٦ ه ق.
٣- الأميني، محمد هادي، حياة الشريف الرضي، ط١، طهران، مطبعة شمشاد،١٤٠٨ه ق.
٤- الباخرزي، أبوالحسن، دمية القصر وعصرة أهل العصر، تحقيق الدكتور سامي مكي العافي، ط ٢، الكويت، دارالعروبة للنشر والتوزيع، ١٩٨٥ م.
٥- الثعالبي، عبد المللك، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، بيروت، دارالفكر، ط ٢، ١٩٧٣ م.
٦- جاسم، عزيز السيد، الاغتراب في حياة وشعر الشريف الرضي،دارالأندلس، بيروت، الطبعة الاولى، ١٩٨٦ م.
٧- الحلو، محمد عبد الفتاح، الشريف الرضي، حياتة ودراسة شعره، هجر للطباعة والنشروالتوزيع والاعلان، ط ١، ١٩٨٦ م.
٨- حنا الفاخوري، تاريخ الادب العربي، طهران، منشورات طوس، ١٣٧٨ ش.
٩- الخطيب البغدادي، أبوبكر احمد، تاريخ بغداد، ط ١، القاهرة، مطبعة السعادة، بلاتا.
١٠- سزگين، فؤاد، تاريخ التراث العربي، نشر مكتبة آية الله العظمي المرعشي النجفي العامة، قم، ايران، الطبعة الثانية، ١٤١٢ ه ق.
١١- شراره، عبداللطيف، شعراؤنا القدامي، الشريف الرضي، دراسة ومختارات، الشركة العالمية للكتاب، ط ١، ١٩٩٢ م.
١٢- الشريف الرضي، الديوان، منشورات مطبعة وزارة الارشاد الاسلامي. الطبعة الاولي في ايران، ١٤٠٦ ه ق.
١٣- الشريف الرضي، نهج البلاغة، بنياد النهج البلاغة، قم، ١٤٢٢، ه ق.
١٤- الشيبي، مصطفي كامل، الشريف الرضي دراسات في ذاكره الافيه، ط ١ ، ١٩٨٥م
١٥- عمران، عبداللطيف، شعرالشريف الرضي ومنطلقاته الفكرية، ط ١، دمشق، دارالينابيع، ٢٠٠٠ م.
١٦- مبارك، زكي، عبقرية الشريف الرضي، ط ٢، بيروت، المطبعة المصرية للطباعة والنشر، بلاتا.
١٧- نورالدين، حسن جعفر، الشريف الرضي حياته وشعره، ط ١، بيروت، دارالكتب العملية، ١٩٩٠ م.
انتهى .
بقلم فاطمة صلاحي عز ، طالبة جامعة آزاد الإسلامية في كرج
- تحت إشراف:الاستاذ الدكتور سيد محمد الحسيني، والاستاذ الدكتور علي رضا حيدري