لبيب بيضون
عقد الصلح
قال الامام علي (ع):
ولا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك وللّه فيه رضا، فإنّ في الصّلح دعة لجنودك وراحة من همومك، وأمنا لبلادك. ولكن الحذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه، فإنّ العدوربّما قارب ليتغفّل، فخذ بالحزم، واتّهم في ذلك حسن الظّنّ. وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة أوألبسته منك ذمّة، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمّتك بالأمانة، واجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فانّه ليس من فرائض اللّه شيء النّاس أشدّ عليه اجتماعا، مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر (أي وجدوا عواقب الغدر وبيلة). فلا تغدرنّ بذمّتك ولا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلنّ عدوّك، فإنّه لا يجتريء على اللّه إلاّ جاهل شقي. وقد جعل اللّه عهده وذمّته أمنا أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره.
فلا إدغال (أي إفساد) ولا مدالسة (أي خيانة) ولا خداع فيه، ولا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل، ولا تعوّلنّ على لحن قول بعد التّأكيد والتّوثقة. ولا يدعونّك ضيق أمر، لزمك فيه عهد اللّه، إلى طلب انفساخه بغير الحقّ، فإنّ صبرك على ضيق أمر ترجوانفراجه وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط (هذه الجملة معطوفة على تبعته) بك من اللّه فيه طلبة، فلا تستقيل فيها دنياك ولا اخرتك. (الخطبة ٢٩٢، ٤، ٥٣٦)
موقعة الجمل «قرب مدينة البصرة»
مدخل:
ذكرنا سابقا انه بعد مقتل عثمان، هرع الناس الى الامام علي (ع) ليبايعوه على الخلافة فأبى، ولكنهم أصروا عليه لعلمهم بأنه لا يقوم بأمرها غيره، فقبل. وبايعه المسلمون بأجمعهم خلا نفر معدود منهم. وكان أول من بايعه (ع) طلحة والزبير، ثم ما عتما ان نقضا البيعة، لأنهما أرادا أن يكونا شريكين له في الخلافة فرفض. وقاما مع عائشة يوهمون الناس بأن عليّا (ع) قتل عثمان، مع أنه كان أول المدافعين عنه، ولكنهم أرادوا أن يبعدوا تهمة قتله عنهم.
ولقد سار طلحة والزبير الى مكة فلقيا فيها عائشة وقد أمرها اللّه بلزوم بيت النبوة، فسارا بها نحوالبصرة لإثارة الفتنة والحرب، وجمع الرجال والاموال لقتال الامام (ع) ولما أحس علي (ع) بذلك سار بجيش الى البصرة، ونصح الناكثين كثيرا وناشدهم اللّه أن لا يقوموا بفتنة في الاسلام يقتل فيها المسلمون بعضهم بعضا، فلم يجد ذلك نفعا. وطلب الامام أن يجتمع بالزبير بين الصفين، وناجاه مذكرا اياه بقول النبي (ص) له: «تقاتله يا زبير وأنت له ظالم». فما كان من الزبير الا أن اعتزل الجيشين وتركهما يقتتلان، فلما كان في بعض الصحراء لحقه ابن جرموز فقتله. وسميت هذه الموقعة بالجمل لان عائشة كانت تقود الجيش على جمل، والرجال تقاتل من حوله. وكان من نتيجة هذه الحرب مقتل طلحة والزبير، وتشتت جيشهما، وانتصار علي (ع). أمّا عائشة فبعد أن عقر جملها وكادت تهلك، أخذها الامام (ع) وأحسن معاملتها وأرجعها الى بيتها في المدينة، كرامة للنبي (ص).
عائشة بنت أبي بكر
قال الامام علي (ع):
وأمّا فلانة (أي عائشة) فأدركها رأي النّساء، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين (أي الحداد). ولودعيت لتنال من غيري، ما أتت إليّ (أي ما فعلت بي)، لم تفعل (أي ان حقدها كان منصبا على الامام خاصة). ولها بعد حرمتها الأولى، والحساب على اللّه تعالى. (الخطبة ١٥٤، ٢٧٣)
وقال (ع) عن طلحة والزبير واصحاب الجمل: فخرجوا يجرّون حرمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كما تجرّ الأمة عند شرائها، متوجّهين بها (أي عائشة) إلى البصرة. فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لهما ولغيرهما. (الخطبة ١٧٠، ٣٠٧)
وقال (ع) عن موقف عائشة من عثمان قبل موته: وكان من عائشة فيه فلتة غضب (وذلك أن أم المؤمنين أخرجت نعلي رسول اللّه )ص( وقميصه من تحت ستارها، وعثمان على المنبر وقالت: هذان نعلا رسول اللّه وقميصه لم تبل، وقد بدّلت من دينه وغيرت من سنته. وجرى بينهما كلام المخاشنة. فقالت عائشة: أقتلوا نعثلا، تشبهه برجل اسكافي من اليهود كان مشهورا بالضعة). (الخطبة ٢٤٠، ٤٤٢)
من كتاب له (ع) الى عائشة: أمّا بعد فإنّك خرجت من بيتك تطلبين أمرا كان عنك موضوعا، ثمّ تزعمين أنّك تريدين الإصلاح بين النّاس؟ فخبّريني، ما للنّساء وقود العساكر ولعمري إنّ الّذي عرّضك للبلاء وحملك على المعصية، لأعظم ذنبا. وما غضبت حتّى أغضبت، ولا هجت حتّى هيّجت. فاتّقي اللّه وارجعي إلى منزلك، واسبلي عليك سترك، والسّلام. (مستدرك ١١٨)
ومن كتاب له (ع) الى طلحة والزبير وعائشة:... وأنت يا عائشة، فإنّك خرجت من بيتك عاصية للّه ولرسوله، تطلبين أمرا كان عنك موضوعا، وتزعمين أنّك تريدين الإصلاح بين النّاس. فخبّريني، ما للنّساء وقود الجيّوش، والبروز للرّجال. وطلبت على زعمك دم عثمان، وعثمان رجل من بني أميّة، وأنت من تيم. ثمّ أنت بالأمس تقولين في ملإ من أصحاب رسول اللّه اقتلوا نعثلا، قتله اللّه فقد كفر، ثمّ تطلبين اليوم بدمه؟ فاتّقي اللّه وارجعي إلى بيتك، واسبلي عليك سترك، والسّلام. (مستدرك ١٣٦)
طلحة بن عبيد اللّه والزبير بن العوام
لما أشير على الامام (ع) بأن لا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال، قال: واللّه لا أكون كالضّبع، تنام على طول اللّدم، حتّى يصل إليها طالبها، ويختلها راصدها. ولكنّي أضرب بالمقبل إلى الحقّ المدبر عنه، وبالسّامع المطيع العاصي المريب أبدا. حتّى يأتي عليّ يومي. فواللّه ما زلت مدفوعا عن حقّي مستأثرا عليّ منذ قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حتّى يوم النّاس هذا. (الخطبة ٦، ٤٩)
وقال (ع) عن الزبير: يزعم أنه قد بايع بيده، ولم يبايع بقلبه، فقد أقرّ بالبيعة، وادّعى الوليجة (أي الدخيلة) فليأت عليها بأمر يعرف، وإلاّ فليدخل فيما خرج منه. (الخطبة ٨، ٥٠)
وقال (ع) لما انفذ عبد اللّه بن عباس الى الزبير يستفيئه الى طاعته قبل حرب الجمل: لا تلقيّن طلحة، فإنّك إن تلقه تجده كالثّور عاقصا قرنه، يركب الصّعب ويقول هوالذّلول. ولكن الق الزّبير، فإنّه ألين عريكة، فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا ممّا بدا. (الخطبة ٣١، ٨٤)
وقال (ع) في شأن طلحة والزبير وفي البيعة له: واللّه ما أنكروا عليّ منكرا، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا (أي انصافا). وإنّهم ليطلبون حقّا هم تركوه، ودما هم سفكوه. فإن كنت شريكهم فيه، فإنّ لهم نصيبهم منه، وإن كانوا ولّوه دوني فما الطّلبة (أي الاخذ بالثأر) إلاّ قبلهم. وإنّ أوّل عدلهم للحكم على أنفسهم. إنّ معي لبصيرتي ما لبست ولا لبس عليّ. وإنّها للفئة الباغية فيها الحمأ والحمة (يقصد الزبير وعائشة) والشّبهة المغدقة (أي الساترة للحق). وإنّ الأمر لواضح. وقد زاح الباطل عن نصابه، وانقطع لسانه عن شغبه. وأيم اللّه لأفرطنّ لهم حوضا أنا ماتحه (أي ليملأن لهم حوضا للموت هويسقيهم منه)، لا يصدرون عنه بريّ، ولا يعبّون بعده في حسي (أي لا يشربون بعده من حفرة فيها ماء). (الخطبة ١٣٥، ٢٤٨)
ويتابع الامام كلامه عن طلحة والزبير قائلا: اللّهمّ إنّهما قطعاني وظلماني، ونكثا بيعتي، وألّبا النّاس عليّ. فاحلل ما عقدا، ولا تحكم لهما ما أبرما. وأرهما المساءة فيما أمّلا وعملا. ولقد استثبتهما قبل القتال، واستأنيت بهما أمام الوقاع (أي قبل الحرب)، فغمطا النّعمة، وردّا العافية. (الخطبة ١٣٥، ٢٤٩)
وقال (ع) في ذكر طلحة والزبير: كلّ واحد منهما يرجوالأمر له، ويعطفه عليه دون صاحبه. لا يمتّان إلى اللّه بحبل، ولا يمدّان إليه بسبب. كلّ واحد منهما حامل ضبّ (أي حقد) لصاحبه. وعمّا قليل يكشف قناعه به. واللّه لئن أصابوا الّذي يريدون لينتزعنّ هذا نفس هذا، وليأتينّ هذا على هذا. (الخطبة ١٤٦، ٢٦٠)
من كلام له (ع) كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة، وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما: لقد نقمتما يسيرا، وأرجأتما كثيرا. ألا تخبراني، أيّ شيء كان لكما فيه حقّ دفعتكما عنه؟ أم أيّ قسم استأثرت عليكما به؟ أم أيّ حقّ رفعه إليّ أحد من المسلمين ضعفت عنه، أم جهلته، أم أخطأت بابه؟
واللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنّكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها. فلمّا أفضت إليّ نظرت إلى كتاب اللّه وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتّبعته، وما استسنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فاقتديته. فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما، ولا رأي غيركما. ولا وقع حكم جهلته، فأستشيركما وإخواني من المسلمين، ولوكان ذلك لم أرغب عنكما، ولا عن غيركما. وأمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة (أي التسوية في العطاء بين المسلمين) فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي، ولا وليته هوى منّي، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد فرغ منه، فلم أحتج إليكما فيما قد فرغ اللّه من قسمه، وأمضى فيه حكمه فليس لكما واللّه عندي، ولا لغيركما في هذا عتبى. أخذ اللّه بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ، وألهمنا وأيّاكم الصّبر. (الخطبة ٢٠٣، ٣٩٧)
من كتاب له (ع) الى طلحة والزبير (مع عمران بن الحصين الخزاعي) ذكره ابوجعفر الاسكافي في كتاب المقامات في مناقب أمير المؤمنين (ع): أمّا بعد، فقد علمتما، وإن كتمتما، أنّي لم أرد النّاس حتّى أرادوني، ولم أبايعهم حتّى بايعوني، وإنّكما ممّن أرادني وبايعني. وإنّ العامّة لم تبايعني لسلطان غالب، ولا لعرض حاضر (أي طمعا في مال حاضر). فإن كنتما بايعتماني طائعين، فارجعا وتوبا إلى اللّه من قريب. وإن كنتما بايعتماني كارهين، فقد جعلتما لي عليكما السّبيل بإظهاركما الطّاعة، وإسراركما المعصية. ولعمري ما كنتما بأحقّ المهاجرين بالتّقيّة والكتمان، وإنّ دفعكما هذا الأمر (أي الخلافة) من قبل أن تدخلا فيه، كان أوسع عليكما من خروجكما منه، بعد إقراركما به. وقد زعمتما أنّي قتلت عثمان، فبيني وبينكما من تخلّف عنّي وعنكما من أهل المدينة، ثمّ يلزم كلّ امريء بقدر ما احتمل. فارجعا أيّها الشّيخان عن رأيكما، فإنّ الآن أعظم أمركما العار، من قبل أن يتجمّع العار والنّار، والسّلام. (الخطبة ٢٩٣، ٥٤٠)
وقال (ع) وقد قال له طلحة والزبير: نبايعك على أنّا شركاؤك في هذا الامر: لا، ولكنّكما شريكان في القوّة والاستعانة، وعونان على العجز والأود (بلوغ الامر من الانسان مجهوده لشدته وصعوبة احتماله). (٢٠٢ ح، ٦٠٣)
ومن كتاب له (ع) الى معاوية جوابا: وذكرت أنّي قتلت طلحة والزّبير، وشرّدت بعائشة، ونزلت المصرين وذلك أمر غبت عنه فلا عليك، ولا العذر فيه إليك. (الخطبة ٣٠٣، ٥٥١)
بعث (ع) أنس بن مالك، وقد كان بعثه الى طلحة والزبير لما جاء الى البصرة يذكرهما شيئا مما سمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم في معناهما [ يقصد بذلك قول النبي (ص) لطلحة والزبير: انكما تحاربان عليا وأنتما له ظالمان، وقد كان أنس في ذلك المجلس ]، فلوى أنس عن ذلك، فرجع إليه، فقال أنس: إنّي أنسيت ذلك الأمر. فقال عليه السّلام: إن كنت كاذبا فضربك اللّه بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة (فأصابه البرص فيما بعد في وجهه، فكان لا يرى الا مبرقعا). (٣١١ ح، ٦٢٨)
ما زال الزّبير رجلا منّا أهل البيت، حتّى نشأ ابنه المشؤوم عبد اللّه. (٤٥٣ ح، ٦٥٧)
البصرة وأهل البصرة
قال الامام علي (ع):
في ذم أهل البصرة: كنتم جند المرأة، وأتباع البهيمة (الجمل)، رغا فأجبتم، وعقر فهربتم. أخلاقكم دقاق وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق. والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشّاخص عنكم متدارك برحمة من ربّه. كأنّي بمسجدكم كجؤجوء سفينة، قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها. (الخطبة ١٣، ٥٣)
بلادكم أنتن بلاد اللّه تربة: أقربها من الماء وأبعدها من السّماء، وبها تسعة أعشار الشّرّ، المحتبس فيها بذنبه، والخارج بعفواللّه. كأنّي أنظر إلى قريتكم هذه قد طبّقها الماء، حتّى ما يرى منها إلاّ شرف المسجد، كأنّه جؤجؤ طير في لجّة بحر. (الخطبة ١٣، ٥٤)
أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السّماء. خفّت عقولكم، وسفهت حلومكم، فأنتم غرض لنابل، وأكلة لآكل، وفريسة لصائل. (الخطبة ١٤، ٥٤)
فويل لك يا بصرة عند ذلك، من جيش من نقم اللّه لا رهج له ولا حسّ. وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر، والجوع الأغبر. (الخطبة ١٠٠، ١٩٦)
وقال (ع) في وجوب اتباع الحق عند قيام الحجة، وذلك ان قوما من اهل البصرة بعثوا برجل الى الامام (ع) يستعلم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم. فبيّن له (ع) من امره معهم ما علم به انه على الحق. ثم قال له: بايع. فقال: اني رسول قوم ولا أحدث حدثا حتى ارجع اليهم. فقال (ع): أرأيت لوأنّ الّذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث، فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلإ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب، ما كنت صانعا؟ قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلإ والماء. فقال عليه السّلام: فامدد إذا يدك. فقال الرّجل: فواللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجّة عليّ، فبايعته عليه السّلام. (الخطبة ١٦٨، ٣٠٤)
من كتاب له (ع) الى عبد اللّه بن عباس عامله على البصرة، وكان قد اشتد على بني تميم لأنهم كانوا مع طلحة والزبير يوم الجمل: واعلم أنّ البصرة مهبط إبليس، ومغرس الفتن. فحادث أهلها بالإحسان إليهم، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم. وقد بلغني تنمّرك لبني تميم (أي تنكرك) وغلظتك عليهم. وإنّ بني تميم لم يغب لهم نجم إلاّ طلع لهم آخر. وإنّهم لم يسبقوا بوغم (أي حقد) في جاهليّة ولا إسلام.
وإنّ لهم بنا رحما ماسّة وقرابة خاصّة، نحن مأجورون على صلتها، ومأزورون على قطيعتها. فاربع (أي ارفق) أبا العبّاس، رحمك اللّه فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشرّ. فإنّا شريكان في ذلك، وكن عند صالح ظنّي بك. ولا يفيلنّ (أي يضعف) رأيي فيك. والسّلام. (الخطبة ٢٥٧، ٤٥٦)
ومن كتاب له (ع) الى أهل البصرة: وقد كان من انتشار حبلكم (أي تفرقكم) وشقاقكم ما لم تغبوا عنه (أي تجهلوه). فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السّيف عن مدبركم، وقبلت من مقبلكم. فإن خطت بكم الأمور المردية، وسفه الآراء الجائرة، إلى منابذتي وخلافي، فهأنذا قد قرّبت جيادي، ورحلت ركابي. ولئن الجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلاّ كلعقة لاعق. مع أنّي عارف لذي الطّاعة منكم فضله، ولذي النّصيحة حقّه. غيرمتجاوز متّهما إلى بريّ ولا ناكثا إلى وفيّ. (الخطبة ٢٦٨، ٤٧٢)
الكوفة وأهل الكوفة والعراق
قال الامام علي (ع):
ما هي إلاّ الكوفة أقبضها وأبسطها، إن لم تكوني إلاّ أنت تهبّ أعاصيرك، فقبّحك اللّه (أي إن لم يكن لي من الدنيا ملك الا الكوفة ذات الفتن فأبعدها اللّه).
وتمثل بقول الشاعر:
لعمر أبيك الخير يا عمروإنّني ***** على وضر من ذا الإناء قليل (الخطبة ٢٥، ٧٢)
كأنّي بك يا كوفة، تمدّين مدّ الأديم العكاظيّ (كناية عن كثرة الظلم الذي سينزل بها)، تعركين بالنّوازل، وتركبين بالزّلازل. وإنّي لأعلم أنّه ما أراد بك جبّار سوءا إلاّ ابتلاه اللّه بشاغل، ورماه بقاتل. (الخطبة ٤٧، ١٠٤)
أيّها القوم الشّاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلى بهم أمراؤهم. صاحبكم يطيع اللّه وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشّام يعصي اللّه وهم يطيعونه. لوددت واللّه أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدّينار بالدّرهم، فأخذ منّي عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم. يا أهل الكوفة، منيت منكم بثلاث واثنتين:
صمّ ذووأسماع، وبكم ذووكلام، وعمي ذووأبصار. لا أحرار صدق عند اللّقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء تربت أيديكم يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها كلّما جمعت من جانب تفرّقت من آخر، واللّه لكأنّي بكم فيما إخالكم: أن لوحمس الوغى، وحمي الضّراب، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها (عند الولادة أوعند ما يشهر عليها سلاح). وإنّي لعلى بيّنة من ربّي، ومنهاج من نبيّي. وإنّي لعلى الطّريق الواضح ألقطه لقطا. (الخطبة ٩٥، ١٨٩)
قال (ع) يتنبأ بظهور عبد الملك بن مروان: لكأنّي أنظر إلى ضلّيل قد نعق بالشّام، وفحص براياته في ضواحي كوفان... هذا وكم يخرق الكوفة من قاصف، ويمرّ عليها من عاصف.. (الخطبة ٩٩، ١٩٤)
أمّا واللّه ليسلّطنّ عليكم غلام ثقيف (أي الحجاج) الذّيّال الميّال. يأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم. إيه أبا وذحة (وهي الخنفساء، التي لدغته فمات بسببها). (الخطبة ١١٤، ٢٢٥)
ومن كتاب له (ع) الى أهل الكوفة، عند مسيره من المدينة الى البصرة لحرب الجمل: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار، وسنام العرب. أمّا بعد فإنّي أخبركم عن أمر عثمان... واعلموا أنّ دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها. وجاشت جيش المرجل. وقامت الفتنة على القطب. فأسرعوا إلى أميركم، وبادروا جهاد عدوّكم. إن شاء اللّه عزّ وجلّ. (الخطبة ٢٤٠، ٤٤٢)
ومن كتاب له (ع) الى أهل الكوفة بعد فتح البصرة: وجزاكم اللّه من أهل مصر عن أهل بيت نبيّكم، أحسن ما يجزي العاملين بطاعته، والشّاكرين لنعمته. فقد سمعتم وأطعتم، ودعيتم فأجبتم. (الخطبة ٢٤١، ٤٤٣)
.... وليس أهل الشّام بأحرص على الدّنيا، من أهل العراق على الآخرة. (الخطبة ٢٥٦، ٤٥٥)
من كتاب له (ع) الى أهل الكوفة، عند مسيره من المدينة الى البصرة: أمّا بعد، فإنّي خرجت من حيّي هذا: إمّا ظالما وإمّا مظلوما، وإمّا باغيا وإمّا مبغيا عليه. وإنّي أذكّر اللّه من بلغه كتابي هذا، لمّا نفر إليّ (لما بمعنى إلا)، فإن كنت محسنا أعانني، وإن كنت مسيئا استعتبني. (الخطبة ٢٩٦، ٥٤٣)
من كتاب له (ع) الى أبي موسى الاشعري، وهوعامله على الكوفة، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج اليه، لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى عبد اللّه بن قيس. أمّا بعد، فقد بلغني عنك قول هولك وعليك، فإذا قدم رسولي عليك فارفع ذيلك، واشدد مئزرك (كناية عن التشمير للجهاد)، واخرج من جحرك، واندب من معك. فإن حقّقت فانفذ، وإن تفشّلت فابعد (أي ان أخذت بالحق فامض الينا، وان جبنت فابعد عنا) وأيم اللّه لتؤتينّ من حيث أنت، ولا تترك حتّى يخلط زبدك بخاثرك وذائبك بجامدك (كناية عن الحيرة في الامر)، وحتّى تعجل في قعدتك (أي يحال بينك وبين جلستك في الولاية)، وتحذر من أمامك كحذرك من خلفك، وما هي بالهوينا الّتي ترجو، ولكنّها الدّاهية الكبرى، يركب جملها، ويذلّ صعبها، ويسهّل جبلها. فاعقل عقلك، واملك أمرك، وخذ نصيبك وحظّك. فإن كرهت فتنحّ إلى غير رحب ولا في نجاة، فبالحريّ لتكفينّ وأنت نائم (أي انا لنكفيك القتال ونظفر فيه وأنت نائم خامل لا يسأل عنك، نفعل ذلك بالوجه الحري بنا أن نفعله) حتّى لا يقال: أين فلان؟ واللّه إنّه لحقّ مع محقّ، وما أبالي ما صنع الملحدون. والسّلام. (الخطبة ٣٠٢، ٥٤٩)
اصحاب الجمل وموقعة الجمل
من كلام له (ع) في صفة أصحاب الجمل: وقد أرعدوا وأبرقوا، ومع هذين الأمرين الفشل. ولسنا نرعد حتّى نوقع، ولا نسيل حتّى نمطر. (الخطبة ٩، ٥١)
ومن خطبة له (ع): ألا وإنّ الشّيطان قد جمع حزبه، واستجلب خيله ورجله. (الخطبة ١٠، ٥١)
لما اظفر اللّه الامام (ع) بأصحاب الجمل، وقد قال له بعض أصحابه: وددت أن اخي فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك فقال له (ع): أهوى أخيك معنا؟
فقال: نعم. قال: فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرّجال، وأرحام النّساء، سيرعف بهم الزّمان، ويقوى بهم الإيمان. (الخطبة ١٢، ٥٢)
قالوا: أخذ مروان بن الحكم اسيرا يوم الجمل: فاستشفع الحسن والحسين (ع) الى أمير المؤمنين عليه السلام، فكلماه فيه، فخلى سبيله. فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام: أولم يبايعني بعد قتل عثمان لا حاجة لي في بيعته. (الخطبة ٧١، ١٢٨)
من خطبة له (ع) عند مسير اصحاب الجمل الى البصرة: إنّ اللّه بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق وأمر قائم. لا يهلك عنه إلاّ هالك. وإنّ المبتدعات المشبّهات هنّ المهلكات، إلاّ ما حفظ اللّه منها. وإنّ في سلطان اللّه عصمة لأمركم فاعطوه طاعتكم غير ملوّمة ولا مستكره بها. واللّه لتفعلنّ أولينقلنّ اللّه عنكم سلطان الإسلام، ثمّ لا ينقله إليكم أبدا حتّى يأرز الأمر إلى غيركم (أي يرجع). إنّ هؤلاء قد تمالؤوا على سخطة إمارتي. وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم. فإنّهم إن تمّموا على فيالة هذا الرّأي (أي ضعفه) انقطع نظام المسلمين، وإنّما طلبوا هذه الدّنيا حسدا لمن أفاءها اللّه عليه، فأرادوا ردّ الأمور على أدبارها. ولكم علينا العمل بكتاب اللّه تعالى وسيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والقيام بحقّه والنّعش لسنّته. (الخطبة ١٦٧، ٣٠٣)
وقال (ع) في ذكر طلحة والزبير واصحاب الجمل: فخرجوا يجرّون حرمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كما تجرّ الأمة عند شرائها، متوجّهين بها (أي عائشة) إلى البصرة. فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لهما ولغيرهما. في جيش ما منهم رجل إلاّ وقد أعطاني الطّاعة، وسمح لي بالبيعة، طائعا غير مكره. فقدموا على عاملي بها وخزّان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها. فقتلوا طائفة صبرا وطائفة غدرا. فواللّه لولم يصيبوا من المسلمين إلاّ رجلا واحدا معتمدين لقتله، بلا جرم جرّه، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه، إذ حضروه فلم ينكروا، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد. دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة الّتي دخلوا بها عليهم (أي قتلوا بعدد جيشهم). (الخطبة ١٧٠، ٣٠٧)
وقال (ع) في ذكر السائرين الى البصرة لحربه (ع): فقدموا على عمّالي وخزّان بيت مال المسلمين الّذي في يديّ، وعلى أهل مصر، كلّهم في طاعتي وعلى بيعتي. فشتّتوا كلمتهم، وأفسدوا عليّ جماعتهم، ووثبوا على شيعتي، فقتلوا طائفة منهم غدرا، وطائفة عضّوا على أسيافهم، فضاربوا بها حتّى لقوا اللّه صادقين. (الخطبة ٢١٦، ٤١٤)
وقال (ع) لما مرّ بطلحة بن عبد اللّه، وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وهما قتيلان يوم الجمل: لقد أصبح أبومحمّد بهذا المكان غريبا أما واللّه لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب أدركت وتري من بني عبد مناف (يقصد به طلحة وكان طلحة ومروان بن الحكم في عسكر عائشة، فرماه مروان بسهم غيلة انتقاما لعثمان). وأفلتتني أعيان بني جمح (قبيلة عربية كانت مع عائشة). لقد أتلعوا (أي مدّوا) أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله (أي الخلافة) فوقصوا دونه (أي كسرت اعناقهم دون الوصول اليه). (الخطبة ٢١٧، ٤١٤)
وقيل ان الحارث بن حوت أتاه فقال: أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟.
فقال عليه السلام: يا حارث، إنّك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف من أتاه ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه. فقال الحارث: فإني اعتزل مع سعيد بن مالك وعبد اللّه بن عمر، فقال عليه السلام: إنّ سعيدا وعبد اللّه بن عمر لم ينصرا الحقّ ولم يخذلا الباطل. (٢٦٢ ح، ٦١٨)
موقعة صفين «قرب الرقة على نهر الفرات»
مدخل:
بعد أن اندحر رؤوس الفتنة في موقعة الجمل، وانهزم أتباعهم انهزاما بالغا، بعث الامام علي (ع) من الكوفة كتابا الى معاوية يدعوه الى البيعة. فكان ردّ معاوية أن بعث إليه جيشا جرارا من الشام، فأرسل الامام (ع) اليه بجيش آخر من العراق، يزيد تعداده على مائة ألف مقاتل، والتقى الجيشان في أرض صفين قرب الرقة على نهر الفرات.
وقبل ان يبدأ القتال بذل الامام علي (ع) قصارى جهده لحل النزاع سلميا، فبعث الى معاوية الرسل ينصحونه بالعدول عن الحرب، ولكنه أصر على القتال.
وأخيرا اشتعلت الحرب بين الفريقين، وكانت حربا طاحنة وجها لوجه، واستمرت الحرب مائة وعشرة أيام. وكانت أشد ما يمكن في آخر ليلة منها، حيث كان لا يسمع فيها الا وقع الحديد على الحديد وصوت تطاير الرؤوس، وسميت لذلك «ليلة الهرير». وكاد يفنى فيها عسكر معاوية عن بكرة أبيه. عندها لجأ عمروبن العاص الى خدعة رفع المصاحف على رؤوس الرماح. ووقفت الحرب لاجراء التحكيم.
وقد قتل في هذه المعركة الرهيبة بجريرة معاوية، عشرون ألفا من أهل العراق وتسعون ألفا من أهل الشام، فيكون المجموع مائة الف وعشرة الاف كما ذكره المسعودي.
ومما يذكر في هذه الوقعة أن معاوية لما أستولى على مشرعة الفرات منع عسكر الامام علي (ع) من شرب الماء، فلما استولى الامام (ع) على المشرعة بعث الى معاوية أن خذوا حاجتكم من الماء، وقال لأصحابه: «خلوا بينهم وبين الماء، واللّه لا أفعل ما فعله الجاهلون». فانظر الى الفرق بين الحالين.
بنوأمية وفتنة بني أمية
من كلام له (ع) لما بلغه أتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان: أولم ينه بني أميّة علمها بي، عن قرفي (أي عيبي)؟ (الخطبة ٧٣، ١٣٠)
من كلام له (ع) وذلك حين منعه سعيد بن العاص حقه: إنّ بني أميّة ليفوّقونني تراث محمّد صلّى اللّه عليه وآله، تفويقا. واللّه لئن بقيت لهم لأنفضنّهم نفض اللّحّام الوذام التّربة. (الخطبة ٧٥، ١٣١)
حتّى يظنّ الظّانّ أنّ الدّنيا معقولة على بني أميّة، تمنحهم درّها، وتوردهم صفوها، ولا يرفع عن هذه الأمّة سوطها ولا سيفها، وكذب الظّانّ لذلك. بل هي مجّة من لذيذ العيش يتطعّمونها برهة، ثمّ يلفظونها جملة. (الخطبة ٨٥، ١٥٦)
أيّها النّاس، فإنّي فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجتريء عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، واشتدّ كلبها... إنّ الفتن إذا أقبلت شبّهت، وإذا أدبرت نبّهت. ينكرن مقبلات، ويعرفن مدبرات. يحمن حوم الرّياح، يصبن بلدا ويخطئن بلدا. ألا وإنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة، فإنّها فتنة عمياء مظلمة: عمّت خطّتها، وخصّت بليتها واصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها. وأيم اللّه لتجدنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي، كالنّاب الضّروس: تعذم بفيها، وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع درّها، لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا منكم إلاّ نافعا لهم، أوغير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم عنكم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه، والصّاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة، وقطعا جاهليّة، ليس فيها منار هدى، ولا علم يرى. نحن أهل البيت منها بمنجاة، ولسنا فيها بدعاة. ثمّ يفرّجها اللّه عنكم كتفريج الأديم: بمن يسومهم خسفا، ويسوقهم عنفا، ويسقيهم بكأس مصبّرة، لا يعطيهم إلاّ السّيف، ولا يحلسهم إلاّ الخوف (يشير بذلك الى الدولة العباسية). (الخطبة ٩١، ١٨٣)
واللّه لا يزالون حتّى لا يدعوا للّه محرّما إلاّ استحلوه، ولا عقدا إلاّ حلّوه، وحتّى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلاّ دخله ظلمهم، ونبا به سوء رعيهم، وحتّى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه، وحتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم، كنصرة العبد من سيّده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه، وحتّى يكون أعظمكم فيها عناء، أحسنكم باللّه ظنّا. (الخطبة ٩٦، ١٩٠)
وقال (ع) في تهديد بني أمية: فما احلولت لكم الدّنيا في لذّتها، ولا تمكّنتم من رضاع أخلافها، إلاّ من بعد ما صادفتموها، جائلا خطامها، قلقا وضينها (يشبه الدنيا بالناقة، والكلام كناية عن صعوبة القياد)، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السّدر المخضود، وحلالها بعيدا غير موجود، وصادفتموها واللّه، ظلا ممدوا إلى أجل معدود. فالأرض لكم شاغرة وأيديكم فيها مبسوطة، وأيدي القادة عنكم مكفوفة، وسيوفكم عليهم مسلّطة، وسيوفهم عنكم مقبوضة... فأقسم باللّه يا بني أميّة عمّا قليل لتعرفنّها في أيدي غيركم وفي دار عدوّكم (الخطبة ١٠٣، ١٩٩)
راية ضلال قد قامت على قطبها، وتفرّقت بشعبها، تكيلكم بصاعها، وتخبطكم بباعها. قائدها خارج من الملّة، قائم على الضّلّة، فلا يبقى يومئذ منكم إلاّ ثفالة كثفالة القدر، أونفاضة كنفاضة العكم، تعرككم عرك الأديم، وتدوسكم دوس الحصيد، وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطّير الحبّة البطينة من بين هزيل الحبّ... . (الخطبة ١٠٦، ٢٠٦)
فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا وبر، إلاّ وأدخله الظّلمة ترحة، وأولجوا فيه نقمة. فيومئذ لا يبقى لهم في السّماء عاذر، ولا في الأرض ناصر. أصفيتم بالأمر غير أهله، وأوردتموه غير مورده. وسينتقم اللّه ممّن ظلم. مأكلا بمأكل، ومشربا بمشرب، من مطاعم العلقم، ومشارب الصّبر والمقر (أي السم)، ولباس شعار الخوف، ودثار السّيف (يكون السيف دثارا أي لباسا عند ما يكثر اهراق الدم به). وإنّما هم مطايا الخطيئات وزوامل الآثام. فأقسم ثمّ أقسم. لتنخمنّها أميّة من بعدي كما تلفظ النّخامة (وهي ما يخرج من الصدر من مخاط ونحوه)، ثمّ لا تذوقها ولا تطعم بطعمها أبدا، ما كرّ الجديدان. (الخطبة ١٥٦، ٢٧٩)
وقال (ع) عن مصير بني أمية:
افترقوا بعد ألفتهم وتشتّتوا عن أصلهم فمنهم آخذ بغصن أينما مال مال معه. على أنّ اللّه تعالى سيجمعهم لشرّ يوم لبني أميّة، كما تجتمع قزع الخريف، يؤلّف اللّه بينهم، ثمّ يجمعهم ركاما كركام السّحاب. ثمّ يفتح لهم أبوابا يسيلون من مستثارهم كسيل الجنّتين. حيث لم تسلم عليه قارة، ولم تثبت عليه أكمة، ولم يردّ سننه رصّ طود، ولا حداب أرض. يزعزعهم اللّه في بطون أوديته، ثمّ يسلكهم ينابيع في الأرض. يأخذ بهم من قوم حقوق قوم، ويمكّن لقوم في ديار قوم. وأيم اللّه ليذوبنّ ما في أيديهم بعد العلووالتّمكين، كما تذوب الألية على النّار. (الخطبة ١٦٤، ٣٠٠)
... وإنّي لعلى المنهاج الّذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه مكرهين (وذلك ان أبا سفيان ومعاوية لم يسلما الا بعد فتح مكة كرها). (الخطبة ٢٤٩، ٤٥٠)
فوالّذي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة، ما أسلموا ولكن استسلموا. وأسرّوا الكفر. فلمّا وجدوا أعوانا عليه أظهروه. (الخطبة ٢٥٥، ٤٥٤)
ومن كتاب له (ع) يخاطب فيه معاوية: وأمّا قولك: إنّا بنوعبد مناف، فكذلك نحن ولكن ليس أميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطّلب، ولا أبوسفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطّليق، ولا الصّريح كاللّصيق، ولا المحقّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل. ولبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنّم... ولمّا أدخل اللّه العرب في دينه أفواجا، وأسلمت له هذه الأمّة طوعا وكرها، كنتم ممّن دخل في الدّين: إمّا رغبة، وإمّا رهبة... (الخطبة ٢٥٦، ٤٥٥)
من كتاب له (ع) الى معاوية:... لم يمنعنا قديم عزّنا ولا عاديّ طولنا على قومك، أن خلطناكم بأنفسنا، فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء. ولستم هناك وأنّى يكون ذلك، ومنّا النّبيّ ومنكم المكذّب (يعني أبا جهل)، ومنّا أسد اللّه (أي الحمزة) ومنكم أسد الأحلاف (يعني أبا سفيان)، ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة، ومنكم صبيّة النّار (يقصد بهم اولاد مروان بن الحكم، وقد اخبر النبي )ص( بأنهم من اهل النار)، ومنّا خير نساء العالمين، ومنكم حمّالة الحطب (هي عمة معاوية وزوجة أبي لهب). في كثير ممّا لنا وعليكم. (الخطبة ٢٦٧، ٤٦٩)
ومن كتاب له (ع) الى أهل مصر، مع مالك الاشتر لما ولاه إمارتها: إنّي واللّه لولقيتهم واحدا، وهم طلاّع الأرض كلّها، ما باليت ولا استوحشت. وإنّي من ضلالهم الّذي هم فيه، والهدى الّذي أنا عليه، لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربّي. وإنّي إلى لقاء اللّه لمشتاق وحسن ثوابه لمنتظر راج. ولكنّي آسى أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها، فيتّخذوا مال اللّه دولا، وعباده خولا (أي عبيدا)، والصّالحين حربا، والفاسقين حزبا. فإنّ منهم الّذي قد شرب فيكم الحرام (هوعتبة بن أبي سفيان)، وجلد حدّا في الإسلام. وإنّ منهم من لم يسلم حتّى رضخت له على الإسلام الرّضائخ (هوعمروبن العاص شرط على النبي «ص» عطاء حتى يسلم، فلما أعطاه ذلك أسلم). فلولا ذلك ما أكثرت تأليبكم وتأنيبكم، وجمعكم وتحريضكم، ولتركتكم إذ أبيتم وونيتم. (الخطبة ٣٠١، ٥٤٨)
وسئل (ع) عن قريش فقال: وأمّا بنوعبد شمس فأبعدها رأيا، وأمنعها لما وراء ظهورها. وأمّا نحن (أي بني هاشم، وهاشم أخوعبد شمس) فأبذل لما في أيدينا، وأسمح عند الموت بنفوسنا. وهم أكثر وأمكر وأنكر، ونحن أفصح وأنصح وأصبح (١٢٠ ح، ٥٨٧) إنّ لبني أميّة مرودا يجرون فيه، ولوقد اختلفوا فيما بينهم ثمّ كادتهم الضّباع لغلبتهم. (٤٦٤ ح، ٦٥٩)
يتبع .......