بقلم الدكتور حسن الزين [١]
الكلام عن حقوق الانسان في نهج البلاغة يكتس أهميته من كونه يطرح استطراداً موضوموقف النظام الاسلامي من هذه الحقوق.
ومن هذا المنطق يمكن القول إن حديثنا يتصل بما هومطروح في مجال الاعلام العالمي من تناقض ذلك الموقف مع معطيات النظام الديمقراطي.
وبعبارة أضح فإن الإسلام متهم في هذه الأيام من قبل جهات كثيرة من الرأي العام الغربي بانه يحمل نظاماً استبدادياً يخطط للقضاء على الديمقراطية!
وهنا يطرح السؤال : إذا كانت حقيق الإنسان كما فصلتها الشرعة المنسوبة إليها هي الوجه البارز للديمقراطية وللنظم السياسية المنتمية إليها فما هوموقف نهج البلاغة ومن ثم النظام الاسلامي من كل ما ذكرنا؟
جميع دساتير الدول الديمقراطية الحديثة تنص على المساواة بين المواضين دون تمييز في اللون أوالدين أوالطبقة اوالعرق في ظل باب هام حول حقوق الإنسان.
وابرز تلك الحقوق كما تشير هذه الدساتير هي حق الحياة والحق بالحرية الشخصية وحق الملكية الفردية، وهي تشمل حرية الرأي والقول والكتابة والاجتماع وتكوين الجمعيات والحق بالمحاكمة العادلة والوقاية من أي قيد على الحرية الشخصية وعدم الحبس الظالم عن طريق الاعتداء على الحريات وأن لا جريمة ولا عقاب إلا بناء على نص القانون جميع هذه الحقوق لم تقرّ أويتعرف بها إلا في عصور متأخرة من التاريخ الانساني وبعد فترات من الظلم والقهر وبعد ثورات من الشعوب رافقتها إراقة دماء لا حصر لها. فالدستور الأمير كي صدر عام ١٧٨٧ م وأقدم وثيقة لحقوق الانسان في تاريخ أوروبا هي الماغناكارتا التي صدرت عام ١٢١٥ م وكانت في الأساس لحماية حقيق الأشراف واللوردات في انكلترا في مواهة الملك. ولم يشمل هذا العهد الذي يفخر به الانكليز حقوق عامة الشعب أي فلاحي الاقطاع ، فلم ينل المواطن العادي هذه الحقوق إلا بعد خمسة قرون على الأقل من ذلك التاريخ.
ولسوف نحرص على تقصي موقف الأمام علي بن أبي طالب في هذا المحال من خلال ما سُجل في نهج البلاغة من قول وعمل.
١- حق الحياة:
هذا الحق يعني في مفهومنا الحديث أن يصبح الانسان آمناً على حياته من أي تهديد. ويقابله في القرآن قوله تعالى: (من قتل نفساً بغير نفس أوفساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) [٢] أما عند علي بن أبي طالب فيأخذ تفسير الآية بعده الصحيح في ظل تطبيق ينأي به عن تأثير المطامع والعصبيات لأن القاتل يتحمل وزراً كبيراً فتطاله يد العدالة مهما بلغ به النسب والنفوذ، دون أي تمييز.
ولنا في موقفه من مقتل الهرمزان مثال ساطع لأن القاتل هوعبيد الله بن عمر بن الخطاب والقتل تم انتقاماً للخليفة نفسه بعد أن قتله أبولؤلؤة مولى المغيرة بن شعبة، ولكن الهرمزان لا تربطه بالقاتل غير رابطة الدين وهوبريء من دم الخليفة وللقضاء وحده حق الفصل في هذه الجريمة.
وهكذا فانه أصر على تحميل عبيد الله المسؤولية بقوله: «لأقتلنه بالهرمزان» وعندما التقاه في صفين قال له: «أنت تطالب بدم عثمان والله يطالبك بدم الهرمزان» [٣] .
لقد كان يوصي ولاته بحماية «حق الحياة».
بقوله : «إياك والدماء وسفكها بغير حقها ... فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام... ولا عذر لك عند الله وعندي بقتل العمد» [٤] .
وفي جميع حروبه لم يكن يبدأ بقتال وكان يوصي جنوده قائلاً: «لا تقاتلوهم حتى يبداوكم.. ولا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً ولا تجهزوا على جريح». [٥]
ولكن أبرز ما يوضح حرصه على حماية هذا الحق تجلى في موقفه من ابن ملجم قاتله. لقد كان فيه من المصداقية ما ربما عجزت عن تفصيلة جميع متون وشروح القانون . فقد أمر أن لا يقتل إبن ملجم قبل ثبوت جرمة القتل ! «بوفاة الإمام»! وقال: «إن أبق فأنا ولي دني» [٦] .
وفي هذا السياق وحرصاً منه على حماية وعدم مسه بدون وجه حق حمّل وصيته لولبه الإمامين الحسن والحسين (ع) ما يلي: يا بني عبد المطلب لألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي ... انظروا إذا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل ..فانني سمعت رسول الله (ص) يقول: «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور» [٧] .
لقد خاف أن يعتدى على حياة رجل آخر بعد وفاته غير القاتل كما حصل بعد مقتل الخليفة عمر بن الخطاب ما خاف أن يمثل بالقاتل خلافاً لنص حديث الرسول (ص). ولكن في كلامه أيضاً إشارة غلى ضرورة التحقق من سبب الوفاة قبل النزال العقوبة حيث يقول: «إذا مت من ضربته » لأن الوفاة قد تحصل بسبب عامل آخر «كموت الفجاءة»وعندئذ يتغير نوع العقوبة!! ألا يذكرنا ذلك بكل ما يعتمده القضاء في أيامنا هذه في سبيل تقرير العقاب المناسب!
٢- الحق بالحرية الشخصية:
أما مفهومه لحق الانسان بالحرية الشخصية فانه يظهر في الرؤية التي يقدمها نهج البلاغة على درجة كبيرة من الأهمية في عدد من المواقف التي يعبر عنها كلامه بصراحة ووضوح وأبرزها كانت مواقفه من معارضيه من الخوارج ومن محاربيه في موقعة الحمل كما في صفين .
قيل له عن قوم من جند الكوفة هموا باللحاق بالخوارج ففرض التعرض لهم لمنعهم من ترك جيشه والالتحاق بأعدائه .
وتحدّاه ابن الكواء في المسجد وأثناء الصلاة بما يشير إلى تكفيره فلم يتعرض له بأذى، وقيل له عن ذلك الخارجي الذي كان يخطط لقتله ويسبه فقال: «إنما هوسب بسب أوعفوعن ذنب» رغم شدة كلام الفاعل الذي قال: «قاتله الله كافراً ما أفقهه» .[٨]
وهكذا يتأكد من مجريات الأمور في عهده ومن كلامه أنه كان يعتبر لمعارضيه حقوقاً لا تسمح له أحكام الشرع بتجوزها، وضمن هذا المنطق كان موقفه من جيش معاوية في صفين بعد أن قام هذا الأخير بمنع جيش علي (ع) من ورود الماء. وعندما أجلى الإمام جيش معاوية عن الماء بالقوة سمح لهم بوروده. [٩]
في سياق مبدأ الحق بالحرية الشخصية الذي حمى الإمام صحة تطبيقه حتى الرمق الأحير من حياته تندرج وقائق كثيرة نجمت عن تصرفاته وقوله. لقد قيل له إن رجالاً من قبله يتسللون من المدينة إلى معاوية فكتب إلى عامله على المدينة سهل بن حنيف يقول: «فقد بلغني أن رجالاً من قبلك يتسللون إلى معاوية فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم...» [١٠] وقد كان باستطاعته منعهم!
كان يرفض مبدأ التجسس على الناس لما فيه من حد لحريتهم الشخصية.
وعلى سبيل المثال نذكرمما كتبه لواليه على مصر هذا الكلام: « إن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها» [١١]
ونرى ما يشابه هذا التصرف اليوم في قوانين الجزاء الحديثة التي تمنع استعمال نتائج التحسس في وسائل الاثبات أمام المحاكم حماية لمبدأ الحريّة الشخصية!!
ومن هذا المنطلق جاء كلام الإمام إلى واليه: «ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش ولوتشبه بالناصحين» .[١٢]
ويشمل هذا الحث بالحرية الشخصية حرية الرأي والاجتماع. وقد قدمنا في مجال حرية الرأي لجهة حواره مع معارضيه ما يكفي لاثبات تمسك الإمام بهذه الحرية لدرجة مناقشة أخصامه من الخزارج في مسألة تكفيره من قبلهم ! وكذلك الأمر فيما ذكرنا وسوف من حواره مع سائر أخصامه السياسيين، كما أنه لا ينكر أحد أنه سمح للخوارج بتكوين «جمعية» أوأنه أتيح لهم على الأقل حرية الاجتماع كما سنرى في هذا البحث.
٣- حق الملكية الفردية:
أما حق الملكية الفردية فكان لرؤية الإمام فيه ما يمنح له الحماية والالتزام ولكن لهذا الحق حدوداً أوقيوداً تظهر بوضوح كلما تعرضت حقوق الناس الاقتصادية للخطر أوتعرض المجتمع لمواجهة تناقضات الفقر والغنى أوالتخمة والجوع فينعكس ذلك على حق الملكية الفردية إلى درجة تقزيمه كما يبدومن هذا القول: «إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير غلا بما متع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك» .[١٣]
فإذا أضفنا إلى هذا الكلام قولاً مشهوراً لأبي ذر الغفاري يقول فيه: «عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه» أمكن لنا تصور الموقف الاسلامي من حق الملكية الفردية. وهكذا فانه عن وضع مغاير كان يسود بعض مجتمع عاصر الامام يقول مستنكراً: «إضرب بطرفك فهل ترى إلا فقيراً يكابد فقراً أوغنياً بدل نعمة الله كفراً...» [١٤] .
كما يقول: «أترجوأن يعطيك الله وأنت متمرغ في النعيم تمنعه اليتيم والأرملة...». [١٥]
ومما يجدر أن نشير إليه أن حماية حق الملكية الفردية ، كغيره من الحقوق تشمل جميع فئات المجتمع لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم وفي هذا يقول الامام: «ولا تمسن مال أحد من الناس مصلٍّولا معاهد» .[١٦]
إن حماية هذا الحق واجب مفروض على الجميع في نظره .
ولتوضيح ذلك نورد كلاماً قاله عندما بلغه نبأ غزوجيش معاوية للأنبار واعتداءات هذا الجيش على ممتلكات الناس من مسلمين ومعاهدين حيث يقول: «ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقُلبها وقلائدها ورعثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام» ثم نراه يستغرب عدم قيام الناس بواجب التصدي لهذا الاعتداء متابعاً القول: «ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ولا أريق لهم دم». [١٧]
٤- التعددية السياسية أو حق المعارضة السياسية
إن موقف الإمام من مبدأ التعددية السياسية يبدومن خلال نهج البلاغة متناقضاً مع جميع مظاهر الحكم في عصر عثمان لأنه يتخذ شكلاً يتجاوز ذلك العصر من الوجهة الفكرية العملية في اعتباره حقاً طبيعياً لأفراد الرعية عندما يقول:
«لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه» .[١٨]
من منطق هذا الكلام يمكن إلقاء الأضواء المعارضين بحيث يعتبر أنهم يتمتعون بحقوق المواطن كاملة من دون تمييز.
لقد كان يعتبر أخصامه من الخوارج الذين كفروه «طلاب حق ضلوا» ولكن نظرته هذه تبقى هي نفسها بالنسبة لسائر معارضي حكمه من الذين يعتقدون ، عن حسن نية، أنهم مع الحق يحاربون من أجله ويعارضون ، فقد سأله بعض أصحابه في هذا السياق: «ما يكون امر الذين يقتلون في صفوف أعدائه منهم إن كانت حرب؟» فأجاب: «من قاتل وهوصادق النية في نصر الحق مبتغياً وجه الله ورضاه فمصيره مصير الشهداء».
هذه الموضوعية المطلقة في التعامل مع المعارضين جعلت من «المعارضة السياسية» مؤسسة قائمة بالفعل في عصر الإمام.
ومن هذا التجاه وهذا السياق قال (ع) مشيراً إلى مكفِّريه من الخوارج: «لهم عينا ثلاث: أن لا نمنعهم المساجد أن يذكروا الله فيها ، وأن لا نمنعهم الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا وأن لا نقاتلهم حتى يقتلونا». وفي هذا القول ابوعبيد بن سلام: « أفلا ترى أن عليّاً رأى للخوارج في الفيء حقاً ما لم يظهروا الخروج على الناس وهومع ذلك يعلم أنهم يسبونه ويبلغون منه اكثر من السب إلا أنهم كانوا مع المسلمين في أمورهم وحاضرهم تى صاروا إلى الخروج فيما بعد!» لقد استنفد مع جميع أخصامه جميع طرق الحوار المتكافىء لأنه اعترف لهم بحقوقهم خلاله فلم يعتد على أي منها وكان قادراً ، لم يمنع معاوية وجيشه عن الماء ولم يتعرض لأخصامه من جرحى قادة موقعة الجمل حيث كانوا يتداوون، حاور الجميع وما استطاع إلى ذلك سبيلا ولم يبداً أحداً بقتال !
لقد ظهر اعترافه الصريح بحقوق معرضيه منذ بداية حكمه عندما نهى عن «بيع المضطرين» تقيداً بالسنة الشريفة !
طبق الإمام كل هذه المبادىء بمصداقية بعيدة عن أي حقد أو إكراه، فأموال معارضية كانت تتمتع بحماية السلطة مثل أموال الموالين، هذا ما حصل في موقعة الجمل وصفين وفي النهروان فكان المنتصرون من أصحابه يمرون على الذهب والفضة دون أن يكون لهم سبيل في الحصول على شيء منه.
وهنا تجدر الاشارة غلى مسألة التعددية الدينية التي حماها الاسلام لأن لها وجهاً سياسياً في ظل نظام كان يستمد شرائعه من أحكام الدين! ومن هذا المنطق تساوت حماية حقوق غير المسلمين مع حقوق المسلمين ويبدوكلام الإمام معبراً عندما يقول: «دم المسلم كدم الذمي حرام» وعندما يوصي أحد ولاته بقوله: «ولا تمسن مال أحد من الناس مسلم أومعاهد». إلى ما هنالك مما لا يتسع هذا المقام لذكره.
٥- مبدأ المساواة
أما الحق بالمساواة أمام القانون لاسيما أمام المال العام فنكتفي منه أن نذكر بعض كلامه لأحد ولاته «والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد.. واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع»، «... واياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة»، كما نذكر كلامه لصاحبه سهيل بن حنيف عندما اعترض هذا الأخير على مساواته بغيره قائلاً: «هذا غلامي بالامس وقد اعتقته اليوم..» فقال الإمام: « نعطيك كما نعطيه...»وتذكر قوله: «نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد اسمعيل على ولد السحق فضلاً». [١٩]
لقد رفض التمييز في كل أشكاله – استناداً إلى سنة الرسول (ص) – عندما عوتب في المساواة بين أشراف العرب والصحابة والسابقين إلى الاسلام والموالي والمعاهدين وغيرهم فقال: «أما القسم والأسوة فذلك امر لهم أحكم به بادىء ذي بدء وقديماً سبق إلى السلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم رسول الله في القسم ولا آثرهم في السبق ...» . [٢٠]
لقد رفض التمييز بجميع أشكاله في العطاء مهما بلغت أخطاء من شملتهم المساواة، حتى لوكانت بين زان غير محصن من جهة ومؤمن، وقد أيد ذلك بقوله: «إن الرسول (ص) قطع يد السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء.. فأهذهم رسول الله بذنوبهم... ولم يمنعهم سهمهم من الاسلام ولم يخرج أسماءهم من بين أهله... ».
ان شمولية مبدأ المساواة كما تبدومن خلال رؤية الامام، تطال جميع فئات وطبقات المجتمع فالخليفة يتساوى فيها مع أي مواطن آخر في حقه تجاه بيت مال المسلمين كما في سائر الحقوق. ومن هذا المنطق يخسر الإمام دعواه أمام من سرق درعه لأنه لم يتمكن من تقجيم البينة وهي على المدعي والخليفة كغيره من سائرالناس ملزم بتقديم البينة. وغير المسلم يتساوى مع المسلم في الحقوق لاسيما حق الحياة وفي ذلك يقول الامام: «دماؤهم كدمائنا» و«دم المسلم كدم الذمي حرام» .[٢١]
وتتساوى بين الموالين والمعارضين والأشراف والموالي والمعاهدين. وهذا ما تم بعد البيعة مباشرة وبعد وقعة الجملورفض في ذلك أية مساومة لصالح المعارضين عندما قال: «لوكان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله» [٢٢] .
إنه يعرف أن هذا الأمر يرتبط بأحكام الشرع وهومن هذه الناحية حق لا يلغيه التقادم وكل ما وزع من بيت المال خلافاً لاحكامه باطل ويجب أن يستعاد.
وفي هذا السياق جاء قول الإمام: «والله لووجدته قد تزوج به النساء وملك به الاماء لرددته فان في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق» .[٢٣]
وجاء على لسان إبن عباس أن علي بن أبي طالب (ع) خطب في اليوم التالي على تبعته في المدينة فقال: «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من ما الله فهومردود في بيت المال فان الحق القديم لا يبطله شيء...» .[٢٤]
هذا الحق الذي يتمثل في تطبيق مبدأ العدالة والمساواة كان تمسك الامام به شديد الوضوح مهما كانت العقبات!!
وهل كان يهمه من أمر الحكم إلا أن يقيم حقاً؟
قال عبدالله بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين (ع) وهويخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت لا قيمة له ، فقال: «والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أوأدفع باطلاً» .[٢٥]
٦- حق الحماية من العقاب
كان من أبرز ما قدمته نظرية حقوق الانسان في العصور الحديثة مسألة حق الحماية من العقاب، فجاءت مقولة أن لا عقوبة بدون نص وعدم الحكم إلا بعد سماع أقوال الطرفين وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته. وفي هذا المجال يأتي كلام علي ابن أبي طالب (ع) شديد التعبير في قوله لأحد ولاته: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم... ولا يكتفي بأدني فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور». [٢٦]
ومن هذا الاتجاه امتنع عن تسليم معاوية من طلب من قتلة عثمان فأنبأه أنه لا يعرف لعثمان قاتلاً بعينه بعد أن بحث واستقصى وأنه لا يستطيع أن يسلم إليه من اتهمهم لشيء إلا لانه اتهمهم وظن بهم الظنون «لأن أمور الحدود لا تستقيم إلا على المحاجة والمقاضاة وإحضار البينه» [٢٧].
وقد جاء في كتاب له إلى معاوية: «أما ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك فغني نظرت في هذا الأمر فلم اره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك...». [٢٨]
لقد حقق الإمام في مقتل عثمان ولكنه لم يتمكن من إكمال التحقيق بسبب الحرب كما لم يتبين له صحة كون محمد بن أبي بكر صاحبه هوالقاتل وهومتهمم من قبل معاوية. ثبت ذلك من خلال شهادة نائلة زوجة عثمان.
ومن هذا المنطق كان يمتنع عن إنزال العقاب بالخوارج قبل أن يقوموا بما يسمي اليوم في عالم القانون «بدء تنفيذ الجريمة» تطبيقاً لمبدأ براءة المتهم حتى تثبت إدانته.
وفي هذا السياق جاء كلامه لمن أخبره عن شخص يتىمر لقتله «لا أقتل من لم يقتلني» شديد التعبير لأن البينة هي الأساس في أحكام القضاء في نظره، وقبل ظهورها يمتنع إنزال العقاب.
وعندما «خرجت الخوارج من المسجد فحكمت» قيل له: إنهم خارجون عليك فقال: «لا اقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون». [٢٩]
اليس في هذه الحماية من العقاب ما يؤكد تطبيق الامام لمبدأ «براءة المتهم حتى تثبت إدانته» وإقامة الدليل؟! والدليل في هذه الحال هو«بدء التنفيذ» للثورة المسلحة!!
حماية حقوق الانسان
المفكرون الذين واكبوا الثورة الفرنسية الكبرى كانوا يرون في سلطات الدولة خطراً على حقوق الانسان التقليدية في القرون المنصرمة في أوروبا، إنما كانت بالدرجة الأولي للحد من سلطة الدولة، فليس للدولة دون مبر أن تفرض الضرائب أوتعتقل إنساناً أوأن تنتزع ملكيته أوأن تحكم عليه بالاعدام [٣٠] .
فهل يمكن أن نستقرىء موقفاً لعلي بن ابي طالب من كل هذه الأمور عبر قوله وعمله كما يظهران من خلال نهج البلاغة؟
لقد كان (ع) يعتبر أن أعمال السلطة التي يمثلها الخليفة تخضع لسيادة القانون بصورة مطلقة وأنه لا يحق لهذه السلطة أن تتجاوز القانون «أحكام الشرع» قيد أنملة ، وإلا فكيف نستطيع تفسير موقفه من النصائح التي قدمت إليه من أجل تثبيت حكمه وفيها ما يخالف احكام الشرع؟
أما لهجة الضرائب فلم يكن أن بامكانه أن يزيدها أويغير في مضامينها التي حددتها نصوص الشرع وأحكامه ومن هنا كانت وصيته لعماله على الخراج شديدة الوضح في هذا السياق حيث يقول: «ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا تضربن احداً سوطاً في مكان درهم ولا تمسن مال أحد من الناس مصل ولا معاهد».
وعندما يجيبه أحد عماله قائلاً: إذن أعود إليك كما ذهبت يجيبه الإمام: وإن رجعت ويحك إنا أمرنا أن نأخذ منهم العفو!. [٣١]
ويبقي السؤال الآخر حول القيم الفكرية والحقوقية التي ظهرت عبر عصر النهضة في أوروبا ويدور حول «أن ليس للدولة أن تعتقل إنساناً» وهنا يبدوموقف الأمام أشد وضوحاً لأنه بالفعل لم يستطع أن يعتقل إنساناً دون وجه حق وبيِّنة تقوم عليه ومحاكمة صحيحة يواجهها. لقد اعتقد ذلك وطبقه!
ومن هذا المنطق لم يتمكن أولم يرد أن يعتقل الشخص الذي قيل له أنه يخطط لقتله لأن البينة لم تظهر وبدء تنفيذ الجريمة لم يتحقق فكان جوابه لمن أخبره: «لا أقتل من لم يقتلني» ولكنه لم يقدم حتى على اعتقاله عندما له الوشاية.
الأمثلة على ما يشابه هذا الموقف كثيرة سواء في مواجهته للخوارج أولغيرهم من أخصامه ومحاربيه وناكثي بيعته كما سبق القول. أما مسألة عدم تمكن الدولة من انتزاع ملكية أحد للأموال وغيرها، فله في حكم الإمام أمثلة متعددة وإن كان أبرزها منع أصحابه من الاعتداء على أموال وممتلكات محاربيه بعد انتصارهم عليهم في موقعة الجمل ، فقد أمر بجمع كل ما تركوه في ساحة القتال ونقله إلى المسجد يستعيد كل منهم أواله وهكذا كان. [٣٢]
كما أن مسألة الحكم بالعدام على أحد من الناس دون وجه حق كانت أشد ما استدعى اهتمامه، ومن أجل هذا فانه لم يستطع بل لم يقبل الحكم على قاتله بالاعدام قبل توافر البينة على جريمة القتل بوفاة الإمام!! أليس هوالقائل لأحد ولاته محذراً:
«فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام.. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لأن فيه قوَدَ البدن!». [٣٣]
وإذا كان هنا يحرم سفك الدماء خلافاً لأحكام الشرع فان في الاشارة إلى »قَوَد البدن» أي القصاص البدني ما يؤدي إلى تحريم الاعتقال وهوأحد وجوه هذا القصاص!