يلزم علينا أن نتناول كتاب (نهج البلاغة) بالدرس والتحليل مثلما نولي اهتمامنا بشرح كتاب (المكاسب) و(الكفاية) وأمثالهما من كتبنا العلمية المهمة، ونجعل دراسته ضمن المنهج اليومي للحوزة العلمية المباركة، بل كل مدارسنا الأكاديمية والجامعية أيضاً.
فلا يمكن القول: ـ ولا أتصور من يزعم ذلك ـ بأن نهج البلاغة أقل من كتاب المكاسب أو كتب الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة التي تدرس في الجامعات العلمية.
فكما يجلس خمسمائة من الطلبة كل يوم ينهلون من كتاب المكاسب مثلاً عند أحد الأساتذة الأفاضل، يجب أن يجلس عدد أكبر بكثير لدراسة نهج البلاغة عند أستاذ عالم أيضاً، فإن نهج البلاغة أكبر وأهم في المحتوى والتأثير من أي كتاب آخر سوى القرآن الحكيم، وقد وصفه السيد الرضي (قدس الله سره):
بـ «الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي» [١] .
ووصفه الشيخ محمد عبده في مقدمته لشرح نهج البلاغة بقوله:
«…وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً فصل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد الفوز الأجلى…» [٢].
ويقول طه حسين: «إنني لم أسمع أعظم من هذا الكلام».
فكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) يمثل قمة البلاغة وقمة التقدم في مختلف مجالات الحياة، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد:
«انظر إلى البلاغة كيف تنتظم فيها الكلمات…انه يتصرف بها فينظمها كالقلادة والعقد بياناً لبراعته وقوة تأثيره فيها…».
ومن كلام للشيخ الكليني (قدس الله سره) في الكافي:
«لو اجتمعت الجن والإنس على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى به علي(عليه السلام) بأبي وأمي لما قدروا عليه» [٣] .
وهناك أقوال كثيرة وعديدة لعلماء كبار من مختلف المذاهب والقوميات، مسلمين وغير مسلمين، في بيان موقع نهج البلاغة من حياتنا.
ولكن من المؤسف جداًأن الأمّة الإسلامية لم تستفد منه تمام الاستفادة، فاقتصرت معرفته على طبقة معينة من المجتمع الاسلامي، في حين أن عامة الناس قد حرموا من هذا المنهل المبارك الذي هو أصل كل حركة فكرية وتقدمية ومصدر صاف لأفكار الإسلام وإشعاعاته..
فلذلك يجب أن يدرّس نهج البلاغة في حوزاتنا العلمية وكذلك المدارس الأكاديمية، وتنشر مفاهيمه من خلال المنابر الحسينية، وفي مختلف الكتب وعبر الإذاعات والصحف والأقمار الصناعية وما أشبه كي يكون نهج البلاغة نهج الفلاح ونهج النجاح والتقدم للأمة الإسلامية بل البشرية جمعاء كما هو الواقع في ذلك.
كتاب الحقائق الكونية والإنسانية
حينما كنا في الكويت [٤] كان هناك شخص [٥] على مستوى جيد من العلم وكان أستاذاً في جامعة كامبرج في إنجلترا، وقد تسنّم منصباً حكومياً جيداً في الدولة، وله عدة مؤلفات منها: (في بيت فاطمة عليها السلام).
وقد نقل لبعض أصدقائنا: أنه حينما كنا ندرس بجامعة كامبرج دار هناك حديث أستاذنا حول نهج البلاغة، فقال الأستاذ:
«كتاب نهج البلاغة هو كتاب لو أن الدنيا عملت به لساد السلام فيها»..
يعني أن هذه الحروب التي نشهدها اليوم ستزول من الدنيا، ويعم الرفاه وتتحقق السعادة بما لها من معنى..
ثم أخذ يمدح ذلك الأستاذ نهج البلاغة كثيراً..
يقول الدكتور: فقلت لأستاذنا يا أستاذ، إذا كان الأمر هكذا فاللازم دعوة المسلمين للعمل بنهج البلاغة قبل غيرهم.
فقال بامتعاض: اتركهم!!
قلت له: لماذا؟
قال: إنهم لو عملوا بنهج البلاغة فستنتهي سيادتنا، فنحن أسياد العالم ما لم يعمل المسلمون بنهج البلاغة، ولو عمل المسلمون يوماً بنهج البلاغة سيكون ذلك اليوم هو النهاية المحتومة لسيادتنا على العالم.
هذا هو الواقع لأن نهج البلاغة ليس كتاباً عادياً قام بتدوينه شخص عادي، فهو كتاب حقائق كونية تبدأ من معرفة الباري عزوجل وتنتهي بالجنة وما بينهما تشع مشاعل الحياة الحرة الكريمة.
فنهج البلاغة يحث الناس على العدالة والمساواة والصبر والحكمة والتقدم وعدم الخضوع تحت الظلم و…
ويصلح أن يكون كتاباً للحياة.
ونهج البلاغة يقول: لا يسبقكم إلى صناعة الطائرة والصعود إلى القمر غيركم. حيث أشار إلى ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض..» [٦] .
والمراد بطرق السماء أعم من التي تنزل منها الملائكة، وتصعد فيها أعمال العبد، فتشمل ما يمكن للإنسان أن يصعد منها إلى السماء، أو يسير فيها من مكان إلى مكان، كما اكتشف أخيراً أن هناك في طبقات الجو تيارات هوائية وفراغات ممتدة إذا سارت الطائرة في بعضها أصابها العطب..
إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يعلم بطرق السماء جيداً فكيف بالأرض؟
فإن العالم بطرق السماء لابد وأن يعلم بكل شيء في الأرض، وذلك لأن الذي أطلعه على غيوب السماوات وأسرارها أطلعه أيضاً على حقائق الأرض وأسرارها (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً) [٧] .
فالله تعالى هو عالم بكل الغيوب وعلّمها إلى رسله وعلى رأسهم النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وهو الذي علّمها لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأمير المؤمنين علمها للأئمة من بعده..
فعلي (عليه السلام) بيّن الكثير من العلوم للناس بخطبه وأحاديثه ومواعظه التي جمعت في كتابه نهج البلاغة.
فنهج البلاغة لم يدع شيئاً في الأرض ولا في السماء إلا وقد بيّنه لنا ولو بنسبة أو أخرى..
---------------------------------------------
[١] . راجع مقدمة السيد شريف الرضي (قدس سره) لنهج البلاغة تحقيق الدكتور صبحي صالح .
[٢] . مقدمة نهج البلاغة لمحمد عبده.
[٣] . الكافي: ج١ ص١٣٦.
[٤] . الكويت دولة خليجية مساحتها (٣٧٨١٨ كم)، وسكانها ٣مليون نسمة بين مواطن ومقيم، وعاش الإمام الشيرازي (دام ظله) فيها بعدما هاجر من العراق وذلك من سنة (١٩٧١م حتى ١٩٧٩م) = (١٣٩١هـ ـ ١٣٩٩هـ).
[٥] . وهو الدكتور عبد الصمد التركي.
[٦] . نهج البلاغة: الخطبة ١٨٩.
[٧] . سورة الجن: ٢٦و ٢٧.
منقول من كتاب نحن والامام علي عليه السلام