وقال (عليه السلام): النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
خطبة الشقشقية (تحليل لغوي أسلوبي)

المدرس المساعد: حسين محسني

جامعة تربيت مدرس - طهران

الملخص:

اللفظ هو وسيلة لبيان الفكر وكل خصائصه صرفية ونحوية وبلاغية قد يؤثر في المعنى وظلاله ولها إرتباط وثيق بالتلقي ومن هنا كلما كثُر استيلاء المتلقي على خصائص الكلمة، توسّعت لديه دائرة الدلالة.

إذن الفهم الكامل للنص بحاجة ماسة إلى عناية دقيقة بخصائص النصّ الداخليّة، كما تحتاج إلى فهم العوامل الخارجية المؤثّرة في السياق الدلاليّ.

خطبة الشقشقية بما فيها من الخصائص اللغوية والأسلوبية الندرة، تمتلك ميداناً واسعاً من الدلالات في شتى المجالات.

"الشقشقية" بداية من تسميتها حتى جميع خصائصها اللغوية والبلاغية قد تُرشدُ القارئ إلى هموم الإمام علي (عليه السلام) كما تكشف عن الوقائع السياسية والأجتماعية والدينية آنذاك.

والمقال هذا يعالج تحليل النص وبيان بعض خصائصه اللغوية والأسلوبية التي تساعد إلى التبيين الأكثر للمفاهيم عَبر التأمل في ميزات الكلمات حسب حقولها الدلاليّة والجمل ومستوى الخطاب في الخطبة.

 من نتائج هذا البحث هي أنّ «الشقشقيّة» تبتعد عن الاستنهاض خلافاً لسائر الخطب وليس لها غرض إلا بيان ما يجري في ضمير الإمام من الآلام والأسف كما سمّيت «شقشقة هدرت ثمّ قرّت».

المقدمة:

ترتبط اللغة إرتباطاً وثيقاً بتفكير الإنسان ومشاعره الداخلية، وليست اللغة إلا مجموعة متناسقة من العلامات المنظمة في نسق معين.

إذن لا يمكن فهم مكونات اللغة الأساسية إلا بعد تحليل الدلالات الموجودة في مفردات اللغة الداخلة في هذه التراكيب والسياقات المحددة ( عزوز، ص ٥).

مع أن الألفاظ مشتركة بين الأشخاص، لكن دلالة كل منها تختلف من متكلم أو كاتب لآخر حسب تجربته الشعورية الخاصة ومقدرته في بيان ما يجري في ضميره.

إذن لا يمكن للباحث أو القارئ أن يطلع على مكنونات النص الأدبي إطلاعاً كاملاً إلا بعد الإلمام إلى الوظائف الدلالية الكامنة في الدلالة الإيحائية للفظ وكيفية حضوره في التركيب.

على هذا الأساس تفهّم النصوص الأدبية الراقية ومنها خطب أمير البلاغة علي عليه السلام بحاجة ماسة إلى دراسة النص دراسة تحليلية في اللغة والأسلوب.

مع أن كثيراً من الدارسين والشارحين قد بادروا إلى شرح نهج البلاغة شرحاً إعتقادياً وعلمياً وسياسياً و أيضاً أدبياً، لكن لا نرى باحثاً قد إستفاد في شرحه من النظريات الدلالية، اللهم إلا بعض الجهود اليسيرة التي بذلها إبن ميثم البحراني في شرحه الأدبي تحت عنوان «شرح نهج البلاغة» والتي لا تتجاوز بعض التحليلات البلاغيّة والصرفيّة.

فيسعى هذا المقال إلى دراسة خطبة «شقشقيّة» دراسة لغويّة أسلوبيّة.

في الدراسة اللغويّة تُعالج الوحدات المعجميّة حسب حقولها الدلاليّة وفي الدراسة الأسلوبيّة، تدرس ميزات الجمل ومستوى الخطاب في الخطبة، إلّا أنّ اكتفاءنا بدراسة الحقول الدلاليّة والجمل والخطاب في الخطبة دون المستويات الأخرى من التحليل اللغويّ والأسلوبي، لا تعود إلى إغفال وإهمال، وإنّما إلى طبيعة النصّ التي تقتضي ذلك.

نظرية الحقول الدلالية:

الحقل الدلالي يطلق على مجموعة من الوحدات المعجمية التي تشتمل على مفاهيم تندرج تحت مفهوم عام يحدد الحقل.

والتحليل الدلالي لبنية اللغة من الأمور الضرورية لدراسة دلالة الكلمة، سواءاً كانت الدراسة تاريخية أو مقارنية أو تقابلية، والباحثون قد حاولوا كثيراً في البحث عن مناهج تفيد في التحليل الدلالي الوصفي ومن أهم هذه المناهج، نظرية الحقول الدلالية (شلواي، ص ٣٩) التي تصنَّف المدلولات في حقول مفهومية.

سويسر "F.DE SAUSSURE" هو أول من أقرَّ بوجود علاقة دلالية بين عدد ما من مدلولات بعض الألفاظ المستعملة في النص الذي نسميها حقلاً دلالياً واحداً وكلٌّ من هذه الحقول يتكون من جانبين هما: الجانب المعجمي والجانب المفهومي (المرجع السابق، ص ٤٢).

 الألفاظ الدالة على حقل دلالي واحد

الألفاظ الدالة على اللباس

(تَقَمَّصَهَا؛ سدلتُ؛ ثَوْباً؛ عِطفان)

الكلمات الواردة في حقل اللباس مستعملة في الإستعارة والكناية عن الخلافة كما نراه في "تقمصّها فلان" و "سدلتُ دونها ثوباً" و" شُقَّ عِطْفَايَ"، مع بعض الإختلاف في تأويل الأخيرة التي تدلّ على شقِّ القميص على سبيل المجاز.

إذن مفهوم الخلافة عند علي (عليه السلام) ليس إلا قميصاً و لباساً والقميصُ عند الإنسان أكثرُ شىءٍ إحتياجاً إلى التبديل والتغيير ويندرسُ سريعاً مع مضي الزمان ولابدّ للإنسان أن يغير قميصه بعد مدة من الزمان.

فعندما إختارالإمام هذه الكلمة فربما أراد أن يشير إلى أنّ كل حقبة أو مرحلة سياسية تكون دولة بما في الكلمة من المعنى الإنتقالي كما صرّح به القرآن: "تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا" (آل عمران، الآية ٤٣) .

لكن النظرة الثانية على مواضع إستعمال هذه الألفاظ يُشيرُ إلى حقائق لم يُشِر إليها الإمام إلا بالكناية وهي شدة إلتصاق أبي بكر بالخلافة ومبالغته في طلبها مهما يكن ثمنها وقد يقوي الإدعاءَ قوله: ".. ما تشطرا ضرعيها"؛ وقد تعكس هذه النظرة إلى الحكومة والخلافة عند الإمام، لأنه يسدِلُ بينه و بينها ستراً ويقطع النظر والطمع منها.

وأما من حيث اللغوي كلمة "تقمصَّ" لها أيضاً من الدلالات اللفظية الآتية:

الإستعارة مِن تملك الخلافة بالتقمص ووجه الشبه شدة الأخذ والإلتصاق.

إتيان الفعل على وزن "تفعّل" الذى يدل على المطاوعة والتكلّف؛ كما نستفيد فى التّخشع مثلاً. والإشارة إلى عدم تناسب المتقمّص مع ذاك القميص بدليل ما من جهة وتأثير الناس وعدم معرفتهم بالخلافة من جهة أخرى.

الألفاظ الدالة على الحيوانات

الطَّيْرُ؛ كُورِهَا؛ ضَرْعَيْهَا؛ الصَّعْبَةِ؛ الْإِبِلِ؛ خَبط، شِماس، تلون، نافج الحضنين، النثيل، المعتلف، الضَّبُعِ؛ الْغَنَمِ؛ عَنْزٍ أكثر ما يثير الإنتباه في هذا الحقل هو ما يرتبط ب"الناقة".

إبتداءاً يتمثل الإمام بقول الشاعر ويشبه نفسه بالمسافر على "كور الناقة" مع المتاعب والمحن، يعني نصيبه عن ناقة الخطبة هو التعب وعدم الراحة.

ولابد أن لا نغفُلَ عن الدلالة السائحة الموجودة في كلمه "كور"؛ الإستعارة في كونه على كور الناقة يعود إلى زمانه عليه السلام بعد رسول الله (صلى الله عليه و آله)، وخروج الخلافة والحكومة عن مدارها الأصلي أهم ميزات هذه الأيام.

إذن هناك صلة بين دلالات كلمه "كور" والظروف الإجتماعية والدينية آنذاك.

القراءة في دلالات هذه الكلمة يرشدنا إلى مفاهيم عديدة ومنها:

"الكور" تدلّ على نزع الضوء و ذهاب النور (مجمع البحرين، ٣/ ٥٧٨) كما ورد في الكريمة: «إذا الشمسُ كوِّرت» (تكوير، الآية ١). هناك أيام فقدت ضياءها بسبب إنحراف الخلافة عن مسيرها الأصلي و أبتلي الناس في سيرهم بخبطٍ و إعتراض بسبب ذهاب نورهم.

"الكور" بمعنى الرحل أو الرحلُ بأداته. فيه تصوير عن الإمام الذي يشبه حاله برائد يحدث بينه وبين القافلة فاصلة بسبب تغافلهم إياه وتخلفهم عن إرشاداته الحقة وإضطره غربته بين قومه إلى الرحلة عنهم و يدعو الله بتبديله بهم خيراً مهنم: «اللهمَّ إني ملِلتُهم و مَلّوني وسَئمتُهُم وسَئمُوني فأبدلني بِهم خَيراً مِنهُم و أبدِلهم شَرّاً مِنّي» (نهج البلاغة، خطبة ٢٥) .

"الكور" مّما يُذللُ به البعير ويُوطأ (إبن المنظور، ٥/ ١٥٥).

اذن هذه الخلافة أصبحت ذليلاً حينما تولاها جماعة لا يستحقون بها وفقدت جلالة شأنها بعدما جعلوها تحت أقدامهم وإقتسموا الإنتفاع بها كإقتسام ضرعي الناقة.

"كوّرَهُ" يعني صَرَعهُ، ربما تدلُّ على الحق المصروع والمطروح على الأرض.

"كوِّرَت" بمعنى إضمحلّت وذهبت ودُهورَت (نفس المصدر).

إذا يقارن القارئ بين هذه الدلالات وبين الظروف آنذاك لا يشاهد إلا الإعوجاج والإضطراب والأفول و الحرمان الذي يعبَّر عنه الإمام بِـ "طخية عمياء".

ثمّ يواصل الحديث عن الناقة إلى ضرعي ناقة والإنتفاع اللا مشروع منها بين أحدين؛ إذن نصيب الأول و الثاني من الناقة الإنتفاع الذي لا يستحقان بها.

والفقرة الأخيرة في الحديث عن الناقة ترتبط بطبيعةِ خليفة وأخلاقه؛ هناك ناقة صعبة بحاجة ماسة إلى مداراة أحوالها، والإمام هو الذي يتحمل مصاعب مُصاحبَةِ هذا الراكب ليُبعده عن الخطرات في خلافته.

وأما كلمة "الطير"؛  بعد ما يكني الإمام بإنحدار السيل عن علوّ مقامه وعظمة شأنه، يزيد هذا العلوّ بكناية أخرى «إذ ليس كلّ مكان علا بحيث ينحدر عنه السيل وجب أن لا يرقى إليه الطير!»  (البحراني، ١/ ٤٢٦).

«كأنه يقول إني لِعلوِّ منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يَرقى الطيرُ إليها؛ قال أبو الطيب:

فوق السماء و فوق ما طلبوا ***** فإذا أرادوا غاية نزلوا  (ابن أبى الحديد، ١/ ١٥٢) .

وأما الدليل على إستعمال هذه الكلمة قد تعود إلى ميزات الطير الطبيعية ومقدرتها على تشخيص أدق النوافذ والزوايا في عنان الجبل والأماكن المرتفعة.

إذن عدم رقي الطير إلى جبل ما، يشيرُ إلى إرتفاع وعلوٍّ أزيدَ.

ثلاثة من الكلمات الداخلة في حقل الحيوانات ترتبط بثالث القوم: " نافج الحضنين"، "النثيل" و"المعتلف،". وردت هذه الكلمات في كناية وإستعارة عن همِّ الخليفة في الأكل والشرب كالبعير وإستعداده للتوسّع  بأموال المسلمين لأنه نافج الحضنين وهذا أقوى تصوير ترسمه الخطبة عن ثالث القوم للقارئ.

هناك كلمتان في حقل الحيوانات تهدفان إلى بيان ميزات الناس النفسية حين مبايعتهم الإمامَ وهما "عُرف الضبع" و"ربيضة الغنم". لماذا يشبهم الإمامُ الناسَ بهذين؟

الدلالة الأولى في الضبع تعود إلى ماهية هذا الحيوان.

الضبع من أجناس الحيوانات الممسوخة البرية حسب كلام أميرالمؤمنين(أنظر: مستدرك الوسائل: ١٦/ ١٧٠) .

ومن الحيوانات التي لا تؤكل (نفس المصدر: ١٦/ ١٩٤).

علاوة على هذا، الصفات السلبية للضبع معروف ومنها مهانة طبعه، إذن تشبيه « وَاَلنَّاسُ كَعُرْفِ اَلضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ» يوحي جواً منكراً ومتلائماً مع الإكراه أكثر أن يكون دليلاً على الأنس و الطلب.

وأما تشبيه أجتماعهم بـِ "ربيضة الغنم"، فيه دلالتان:

الأول هذا الإجتماع كان حوله عليه السلام ولا تجتمع الغنم إلا في مكان أمن و ظلال، وهذا التصوير يقرب الأذهان من مكانة الأمام من الناس كراعٍ أو كهف لهم.

وأما الدلالة الثانية تعود إلى طبيعة هذا الحيوان وهي عدم البصيرة والخوف.

هاتان الدلالتان في كلمة الغنم يرشد القارئ إلى إضطراب الموجود آنذاك، كما ترشده إلى الجهالة المنتشرة بين الناس وفقدان البصيرة عند المبايعين.

النكتة الهامة في هذا الحقل، الدلالة الموجودة في كلمة "التلوّن". تُشيرُ هذه الكلمة ومفهومها في المخزون الثقافي العربي آنذاك إلى جنس من الشياطين وهو "الغول".

هكذا يصف كعب بن زهير حبيبته وإخلافها الوعدَ:

فَما  تدومُ  على  حالٍ  تكونُ  بِها ***** كما تَلوَّنُ في أثوابِها الغـولُ

وَما تمسَّك بالوصلِ الذي زَعمَت ***** إلا كما تُمسِك الماءَ الغرابيلُ (كعب بن زهير، ٢٨) .

كان العربُ يزعمون أن الغول تغتالهم وأنها تتراءى لهم في الفلوات "على صور مختلفة" و"أشكال متباينة"، فتُضِلّهم عن الطريق.

جدير بالذكر في شدة الإرتباط بين دلالة "الغول" و"التلوُّن" بأن هذا الإرتباط المفهومي أدى إلى الترادف بين فعلَي "تغوَّلَ" و"تلوَّنَ" ويقالُ تغوَّلَتِ المرأةُ إذا تلوَّنت.

هكذا يستفيد أمير البيان في تبيين الجو النفسي والأجتماعي في ذاك اليوم من المخزونات الثقافية والأدبية و الشعبية ويرشده إلى مفاهيم عريقة مع كلمة واحدة.

١-٣ الألفاظ الدالة على الزمن

الْكَبِيرُ؛ الصَّغِيرُ؛ حَيَاتِهِ؛ وَفَاتِهِ؛ طُولِ الْمُدَّةِ؛ مَتَى؛ الْأَوَّلِ؛ الْآخِرَةُ ؛ الْعاقِبَةُ؛

الكبرُ والشَّيب يتبعُهما الهَرَمُ والتخريفُ والحُمقُ وكلُّ هذه المفاهيم يرافقها عدمُ ضبط الأمور وفقدان الرؤية والبصيرة؛ ومن البديهي بأن غرض الإمام من المَهرَمة والمَشيب ليس مجرد دخول الكبير والصغير في كبر السنِّ، فهذا أمر بديهي ولايختص بطخية عمياءَ.

إذن يشير عليه السلام إلى أيام يفقد فيها القوم كلهم بصيرتهم و قوتهم في الإهتداء إلى الرشد والكمال.

الدليل الآخر على هذا القول كلامه هذا:" فَمُنيَ اَلنَّاسُ لَعَمْرُ اَللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَاِعْتِرَاضٍ" فكل الكلمات الأربعة "الخَبط"، "الشماس"، "التلوّن" و"الإعتراض" تستفاد في حركات متعلقة بالأنعام أولاً و ملازماً بالإضطراب وعدم الإستقامة بسبب ضعف البصر ثانياً، مع أن أستعملت هذه الكلمات فيما بعد للإنسان، إثر التوسع الدلالي والمعنوي.

الألفاظ الدالة على الطبيعة

(السّيل، الرّبيع)

السيل في المخزون الثقافي آنذاك يعادل الخير والبركة والرزق والمعروف، وتعريف الإمام نفسه بمنحدَر السيل، يقارنه أيضاً بمظهر آخر من الطبيعة وهو "الجبل": «إِنْ ذُكِرَ الْخَيْرُ كُنْتُمْ أَوَّلَهُ وَأَصْلَهُ وَفَرْعَهُ وَ مَعْدِنَهُ وَمَأْوَاهُ وَمُنْتَهَاه» (المجلسي، ٩٩/ ١٣٢).

وكما لا يخفي دلالة الهداية الموجودة في مُنحدر السيل أعني "الجبل": « بِمُوَالَاتِكُمْ عَلَّمَنَا اللَّهُ مَعَالِمَ دِينِنَا » (نفس المصدر) .

وأما كلمة "الربيع" تحتوي أيضاً دلالة غنية جداً في النص.

حينما يريد الإمام أن يصور كيفية نقب الخليفة وبني أمية في أموال المسلمين والخلافة، يقول: « و قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ».

الأمويون والخلافة وأموال المسلمين في طرف من التشبية والأبل الجائع ونبتة الربيع في طرف آخر.

وما هو وجه الشبه بينهما؟ وما هو دور دلالة "يخضمونَ" في هذا التشبيه؟

«الخضم أكل بكل الفم ..وقيل الخضم أكل الشي‏ء الرطب» (إبن إبي الحديد، ١/ ١٩٧) .

النبات التي تنبت في الربيع هي في بداية حياتها ورشدها وإذا واصلت حياتها تثمر وتنضج.لكن إذا أكلها الإبل بنهم وكامل فمه لا يُبقي لها أصلاً ولا فرعاً.

وإذا دخلنا مفهوم الدين الجديد في هذا التصوير الأدبي، نرى ما نراه مما أصاب هذا الدين اليافع من الفشل و الإنحراف عن مسيره الأصلي وعن وصوله إلى ما أراد النبي (صلى الله عليه و آله) به.

٢- دراسة الجمل في النص

الدراسة في الجمل الواردة في الخطبة ترشد الباحث إلى مفاهيم جديدة.

تسيطر الجمل الماضية على الخطبة سيطرة تامة إذ يبلغ عددها خمسين جملة، في حالةٍ تَعدمُ الخطبةُ الجملَ المضارعة تقريباً، إلا بعض الجملات التي وقعت

حالاً كما نرى مثلاً في " وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ " و" قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ "

أو صفة كما نشاهد في " طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ "  و " حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَيَخْشُنُ مَسُّهَا "

أو في معنى المضي كما ورد في " أَرَى تُرَاثِي نَهْباً " .

بحيث يمكن القول بأن الخطبة مجردة من الدلالة المضارعة تماماً إلا ما ورد في الآية المذكورة.

وسنشير في أساليب الخطاب إلى عدم إلتجاءه إلى أسلوب النداء والخطاب في كلامه.

إذن الخطبة تتحدثُ عن الوقائع وقعت ومضت ولا يذكره الخطيب إلا في بيان عن آلامه المكنونة ولا يقصد منها موعظة أوإجتهاد دون الوصول إلى أي تغيير؛ وكيفية معاملة القوم بعد الإمام مع الحسنين عليهما السلام تدل على عدم إتعاظهم عن الحوادث التي جرت في عهد أمير المؤمنين، والدليل الآخر على هذا القول عدم أجابته عليه السلام دعوة إبن عباس إلى إطّراد الخطبة.

دراسة الخطاب

تغييب الخلافة

مع أن الإمام يلقى هذه الخطبة على منبر الخلافة، وكان ينبغى له أن يستفيد مثلاً عن إسم الإشارة هذه فى الحديث عن الخلافة التى أصبحت له، لكن يتحدث عنها بضمير الغائبة "ها".

الدلالات الموجودة فيها على هذين الوجهين:

أولاً يمكن أن يشير إلى بُعده عليه السلام عن أمكانيات الخلافة الحقة إثر الإنحرافات الحادثة في السنة و العقائد العامة بعد مضى ٢٥ سنة على وفاة الرسول (صلوات الله عليه و آله).

ثانياً يمكن أن يكون حسب إصراره عليه السلام على عدم رغبته في الخلافة إلا بعد قيام الحجّة بوجود الناصر وغيره، الذى نسميه "تغييب الخلافة".

قد ورد هذا الضمير ١٥ مرة في الخطبة، دون أن يذكر له مرجع. كأنه عليه السلام يتعمد في حذف كلمتى الخلافة والحكومة عن كلامه، لأنه لا يطلب الدنيا ولا يحرص على الحكومة إلا لنظم أمور المسلمين و إستقرارالعدل بين الناس، كما يدل على هذا المعنى إستعمال كلمة "الأمر" حينما يقول: "فلما نهضتُ بالأمر...".

حذف المتلقي

ما هو سر سيطرة أسلوب الحديث عن الغائب التي تؤدي إلى "حذف المتلقى" عن الخطبة؟ ولماذا لم يستعمل في الخطبة أسلوب النداء في حالة أن من ميزات الخطبة خطاب المخاطب كما يظهر من إسمها وكما نرى في سائر الخطب كالجهاد؟

إن هذه الظاهرة ربّما تعني تعطل الحوار مع الحاضرين فى المجلس لأنهم ليسوا أهلاً أن يخاطبهم الامام و لا يذكرهم إلا فى الحديث عن الدنيا المنتسبة إليهم "دنياكم هذه"! وفي هذا الصدد لم يُسمَّ الأول والثاني و الثالث إلا بأسماء مبهمة ك "فلان" و "ثالث القوم".

والمعنى الآخر الذي يتبادر إلى ذهن القارئ في هذه الظاهرة أعني "حذف المتلقي" هو أنَّ الإمام يتجاهل الناس كأنهم غيرُ موجودين جسماً في مجلسه كما أنهم كانوا غائبين عن عملية الدفاع عن حقه المغصوب.

كما يمكن أن يكون لها دليل آخر وهو "التجافي" عن خطاياهم و"عدم المؤاخذة" الحاضرين بها وفي هذه تودد إليهم حتى يمكنهم المبادرة إلى الإنابة والرجوع إلى سبيل الحق.

وهذا الإلتفات من الخطاب إلى الغيبة قد ورد في القرآن: « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه‏» (الزمر، الآية ٥٣) إذ ينادي العباد المسرفين وينتسبهم إلى ذاته - جل وعلى- إعداداً للقبول و إطماعاً في النجاة (إبن عاشور،٢٤/ ١١٢) ، ثم يستفيد من الغائب في صلة الموصول، ليبعدَ هذه العباد من السلبية الموجودة في جملة "أسرفوا".

"دنياكم هذه"

وهكذا لا يخاطبهم الإمام ولايستعمل صيغة الخطاب إلا في حديث عن الدنيا وحبها الذي هو رأس كلّ خطيئة.

يمكن الإشارة إلى دليلين في هذا الإلتفات أعني إنتقال الامام من استعمال صيغة الغيبة إلى صيغة الخطاب و إظهار المخاطب المستتر، وهما أولاً إيجاد التقارب بين الدنيا و الناس، وبيان شدة إنتساب الدنيا إلى الناس إثرَ تعريف الدنيا بالإضافة إلى ضمير "كم"، كما يُبعِدُ عليه السلام نفسه وآماله عن الدنيا بحصرها بضمير "كم".

٣-٣ مؤمنٌ لا يعرفه قومه

السجع الموجود في الجمل الثلاثة «أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ‏» يستوجب إتيان كلمة مؤمن معرفة بـِ"ال"، لكن نراه نكرة خلافاً لما نرى في "الكبير" و"الصغير".

لماذا هذا العدول؟ هكذا يستنتج بأن مؤمن ليس إسم جنس للرجل المؤمن كمثل "الكبير" و"الصغير"، بل هو مؤمن واحدٌ ولا يعرفه هذا الناس حق معرفته وما هو إلا هذا الخطيب فوق المنبر! إذن هذا التنكير يلقي بظلال من الإبهام والغربة حول هذا المؤمن.

الذى يُقوّي هذه النظرية هو تكملة الجملة بعبارة "حتى يلقى ربه" وإضافة كلمة "ربّ" إلى ضمير متكلم يعود إلى هذا المؤمن غير المعروف وهذا التقييد بالإضافة يُعمّق الفاصلة الموجودة بين الإمام المؤمن الكادح إلى ربّه وسائر الناس.

وربما سياق الخطبة في بدايتها وكثرة التأكيدات فيها كإبتداءها بادات التنبيه أما والقسم بالله والإتيان باللام التأكيد، قد تتمحور حول هذا المعنى، كأنها توحي جوّاً مليءاً من الترديد والإنكار بين المتقمصين الخلافةَ من جهة وعموم الناس من جهة أخرى والصلة الوثيقة بين جهل الأفراد بالنسبة إلى شيءٍ ما وإنكار ذاك الشيء أمر بديهي وطبيعي.

النتيجة

من أهم النتائج الرئيسة التي حصل عليها المقال هي:

الدلالات الموجودة في حقل اللباس تشيرُ إلى أنَّ كان هناك بُعداً كبيراً بين نظرة الإمام إلى الخلافة و بين الخلفاء الثلاثة قبله. الإنتفاع اللا مشروع عن الحكومة كان الهدف الأصلي لهم، في حين لم يقبل الأمام ذاك إلا وفاءاً لما عاهده الله به. سميناه في المقال "تغييب الخلافة".

كما أخذنا من الدلالات الأسلوبية ومنها تغييب الخلافة مثلاً، مع أنَ غصب الخلافة أدّى إلى متاعب كثيرة في حياة الإمام، لكن السبب الرئيس لتألمه يعود أولاً إلى إنحراف الدين عن مسيره الأصلي وخروجه عن وظيفته الأصلية في إصلاح الأمور، وإبتلاء الناس بالجهالة والضلال في حياتهم وسيرهم إلى الكمال ثانياً.

الدلالات الموجودة في حقل الحيوان والطبيعة تؤكد على حقيقة في كيفية مبايعة الناس، بحيثُ لم يكن هناك فرق يُذكر بين مبايعة الناس إبا بكر ثمّ الثاني والثالث ومبايعتهم علياً عليه السلام وإنثالهم عليه، وما بايعوه عن بصيرة ووعي، وليست هذه المبايعة دليلاً على معرفة الناس إليه.

النكتة المستخرجة من حقل الطبيعة ودلالة كلمة "الربيع" هي أنَّ خروج الخلافة عن مسيره الأصلي قضى عَلى الدين، بحيث لم يستطع أحدٌ أن يعيدَ حياته إليه حتى يومنا الحاضر.

ليست هذه الخطبة بصدد إرشاد الناس، كما لا توجد حتى كلمة واحدة تدل على رغبته عليه السلام في الخلافة.

ومن أهم النتائج الحاصلة من دراسة الخطاب عدم رغبة الإمام في الحديث مع المخاطب أو ظاهرة "حذف المتلقي". فقدان أسلوب النداء والخطاب يؤكد بأنّ كل هذه الخطبة بيانٌ لآلامه وربما تظلم عما ورد به من نكران الشأن وجلالة القدر.

****************************