وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                

Search form

إرسال الی صدیق
دراسات في نهج البلاغة – التاسع

الدرس الحادي عشر (إطلالة على عهد الأشتر)
أهداف الدرس
١- أنْ يتعرَّف الطالب إلى شخصيّة مالك الأشتر.
٢- أنْ يتعرَّف إلى عهد الإمام عليّ عليه السلام إلى مالك الأشتر حين ولّاه مصر.

من هو مالك الأشتر؟
هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث الكوفيّ، المعروف بالأشتر, الوجه المشرق، والبطل الّذي لا يُقَهر، واللّيث الباسل في الحروب، وأصلب صحابة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأثبتهم.
أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهو من ثقاة التابعين. وكان رئيس قومه.
وكان الإمام عليّ عليه السلام يثق به ويعتمد عليه، وطالما كان يُثني على وعيه، وخبرته، وبطولته، وبصيرته، وعظمته، ويفتخر بذلك.
أوّل حضور فاعل له كان في فتح دمشق وحرب اليرموك [١] ، وفيها أُصيبت عينه فاشتُهر بالأشتر [٢].
عاش مالك في الكوفة. وكان طويل القامة، عريض الصدر، عديم المثيل في الفروسيّة. وكان لمزاياه الأخلاقيّة ومروءته ومَنعته وهيبته وأُبّهته وحياته، تأثير عجيب في نفوس الكوفيّين [٣].
نُفي مع عدد من أصحابه إلى حمص في أيّام عثمان بسبب اصطدامه بسعيد بن العاص والي عثمان. ولمّا اشتدّت نبرة المعارضة لعثمان عاد إلى الكوفة، ومنع والي عثمان ـ الّذي كان قد ذهب إلى المدينة آنذاك ـ من دخولها [٤].
واشترك في ثورة المسلمين على عثمان، وتولّى قيادة الكوفيّين الّذين كانوا قد توجّهوا إلى المدينة، وكان له دور حاسم في القضاء على حكومة عثمان [٥].
وكان يُصرّ على خلافة الإمام عليّ عليه السلام بفضل ما كان يتمتّع به من وعي عميق، ومعرفةٍ دقيقة برجال زمانه [٦].
من هنا كان نصير الإمام عليه السلام وعضده المقتدر عند خلافته. وقد امتزجت طاعته وإخلاصه له عليه السلام بروحه ودمه، وكان الإمام عليه السلام أيضاً يحترمه احتراماً خاصّاً، ويُقيم وزناً لآرائه في الأمور.
وعندما كان أبو موسى الأشعريّ يُثبّط الناس عن المسير مع الإمام عليه السلام في حرب الجمل، ذهب مالك إلى الكوفة، وأخرج أبا موسى - الّذي كان قد عزله الإمام عليه السلام - منها، وعبّأ الناس من أجل دعم الإمام عليه السلام والمسير معه في الحرب ضدّ أصحاب الجمل. وكان له دور حاسم في الحرب.

دوره في حرب صفّين
وُلّيَ مالك الجزيرة - وهي تشمل مناطق بين دجلة والفرات - بعد حرب الجمل. وكانت هذه المنطقة قريبة من الشام الّتي كان يحكمها معاوية. واستدعاه الإمام عليه السلام قبل حرب صفّين. وجعله على مقدّمة الجيش في البداية، فهَزم مقدّمة جيش معاوية.
ولمّا استولى جيش معاوية على الماء وأغلق منافذه بوجه جيش الإمام عليه السلام. كان لمالك دور فاعل في فتح تلك المنافذ والسيطرة على الماء، وكان في الحرب مقاتلاً باسلاً مقداماً. وتولّى قيادة الجيش مع الأشعث [٧] ، وكان على خيّالة الكوفة طول الحرب.
وطوال فترة الحرب في صفّين كان له مظهر عجيب في المنازلات الفرديّة للقتال، وعلاج مشاكل الجيش، والنهوض بعبء الحرب، والسير بها قُدماً بأمر الإمام عليه السلام. وتجلّى دوره العظيم "يوم الخميس" و"ليلة الهرير"، إذ خلخل نُظم الجيش الشاميّ، وتقدّم صباح الجمعة حتّى أشرف على خيمة القيادة  [٨].

وصار هلاك العدوّ أمراً محتوماً. وبينما كان الظلم يلفظ أنفاسه الأخيرة، والنصر يلتمع في عيون مالك، تآمر عمرو بن العاص ونشر فخّ مكيدته، فأسرعت جموع من جيش الإمام عليه السلام - وهم الّذين شكّلوا تيّار الخوارج - ومعهم الأشعث إلى قبول فكرته، فازداد الطين بلّة بحماقتهم، وهكذا جعلوا الإمام عليه السلام في وضعٍ حَرِج ليقبل الصلح، ويُرجعَ مالكاً عن موقعه المتقدِّم في ميدان الحرب. وكان طبيعيّاً في تلك اللحظة المصيريّة الحاسمة العجيبة أنْ يرفض مالك، ويرفض معه الإمام عليه السلام أيضاً، لكنْ لمّا بلغه أنّ حياة الإمام في خطر، عاد بروحٍ ملؤها الحزن والألم، فأغمد سيفه، ونجا معاوية الّذي أوشك أنْ يطلب الأمان من موتٍ محقَّق، وخرج من مأزق ضاق به [٩].
وحصل تشاجر بين مالك والخوراج والأشعث. وحين اقترح الإمام عليه السلام عبدَ الله بن عبّاس للتحكيم ورفَضه الخوارج والأشعث، اقترح مالكاً، فرفضوه أيضاً مصرِّين على يمانيّة الحَكَم، في حين كان مالك يمانيّ المحتد، وهذا من عجائب الأمور [١٠] .

ولاية مصر
عاد مالك بعد صفّين إلى مهمّته. ولمّا اضطربت مصر على محمّد بن أبي بكر وصعُب عليه أمرها وتمرّد أهلها، انتدب الإمام عليه السلام مالكاً وولّاه عليها [١١]. وكان قد خَبَر كفاءته، ووعيه، وخبرته في العمل، فكتب إلى أهل مصر كتاباً يُعرّفهم به، وكان ذلك في سنة ٣٨ هـ.

منزلته عند الإمام عليّ عليه السلام
تتبيّن هذه المنزلة من الكتاب الّذي بعثه الإمام عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك وفيه يقول عليه السلام:
"فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيّام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعة الرَّوع، أشدُّ على الفجّار من حريق النار، وهو مالك..." [١٢].
وكانت تعليماته عليه السلام الحكوميّة - المشهورة بـ"عهد مالك الأشتر" - أعظم وأرفع وثيقة للحكومة وإقامة القسط، وهي خالدة على مرِّ التاريخ.
شهادته
كان معاوية قد عقد الأمل على مصر، وحين شعر بأنّ جميع خططه ستخيب بذهاب مالك إليها، قضى عليه قبل وصوله إليه حيث بعث إلى الجايستار (رجل من أهل الخراج) أنّ الأشتر ولّيَ مصر، فإنْ أنت كفيتنيه لم آخذ منك خراجاً ما بقيت، فاحتَلْ له بما قدرت عليه، فخرج الجايستار حتّى أتى القلزم (مدينة السويس حاليّاً) وأقام بها، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلمّا انتهى إلى القلزم استقبله الجايستار، فقال له: هذا منزل وهذا طعام وعلف وأنا رجل من أهل الخراج، فنزل به الأشتر، فأتاه الدهقان بعلف وطعام حتّى إذا طعم أتاه بشربة من عسل قد جعل فيها سمّاً فسقاه إيّاه، فلمّا شربها مات وهكذا استُشهد ليث الوغى، والناصر الفريد لمولاه، بطريقةٍ غادرة، وعرجت روحه المشرقة الطاهرة إلى الملكوت الأعلى [١٣].
ومن هنا الكلمة المشهورة الّتي قالها معاوية حين بلغه موت الأشتر "لله جنود من عسل". أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فإنّه لمّا بلغه استشهاد مالك حزن عليه حزناً شديداً، حتّى عَدَّ موته من مصائب الدهر، وأبّنه في خطاب قال فيه:
"ألا إنّ مالك بن الحارث قد قضى نحبه، وأوفى بعهده، ولقي ربّه، فرحم الله مالكاً. لو كان جبلاً لكان فِنْداً [١٤] ، ولو كان حَجَراً لكان صَلْداً، لله مالك! وما مالك؟ وهل قامت النساء عن مثل مالك؟ وهل موجودٌ كمالِك؟" [١٥].
وطار معاوية فرحاً باستشهاد مالك، ولم يستطع أنْ يُخفي سروره، فقال من فرط فرحه: كان لعليّ بن أبي طالب يدان يُمَنيان، فقُطعت إحداهما يوم صفّين - يعني عمّار بن ياسر - وقُطعت الأخرى اليوم، وهو مالك الأشتر [١٦].

أهداف العهد
قال الإمام عليّ عليه السلام: "هذا ما أمر به عبد الله عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولّاه مصر:
جباية خراجها.
وجهاد عدوّها.
واستصلاح أهلها.
وعمارة بلادها".
هذا العهد هو دليل عملٍ لمالك الأشتر في حكم مصر، ويتضمّن أربعة أهداف:
الدفاع والأمن "جهاد عدوّها".
الإصلاح الاجتماعي "استصلاح أهلها".
التنمية الاقتصادية "عمارة بلادها".
بالإضافة إلى ماليّة الدولة الّتي تُنفق على هذه الأبواب، وتقوم على جباية الخراج وسائر الضرائب الأخرى "جباية خراجها".
وهذه الأهداف لم تجد لها مجالاً للتطبيق العمليّ في مصر نتيجة عمليّة الاغتيال الّتي جرت لمالك الأشتر.

الفئات الاجتماعيّة ووظائفها في العهد
إنّنا ومن خلال النظرة الإجماليّة - لا التفصيليّة - لهذا العهد يُمكن لنا أنْ نطلّ من خلاله على أبرز قضيّة تعرّض لها الإمام عليّ عليه السلام وهي مسألة المجتمع ومكوّناته والّتي نقصد بها الطبقات الاجتماعيّة.
وحينما يُقسِّم الإمام عليه السلام المجتمع إلى طبقات فهذا لا يعني أبداً أنّه يُريد إيجاد تمايز وفوارق طبقيّة في المجتمع، كلّا. فليس هذا مقصوده على الإطلاق، لأنّه من الواضح والمعلوم لدينا أنّ مبدأ التمايز في الإسلام وفي نهج الإمام عليّ عليه السلام بين الناس هو التقوى، وهي المثل الأعلى في الحياة الإنسانيّة.
فالإسلام ألغى فكرة النظام الطبقيّ الّتي كانت موجودة في كلّ المجتمعات، وإن كانت مع الأسف موجودة ومستمرّة. ونحن حينما نستعمل كلمة "طبقات" في سياق الحديث عن الإسلام فإنّما نقصد بذلك الفئات الاجتماعيّة، وليس الطبقات بالمعنى الّذي شاع استعماله في الأدب السياسيّ في العصر الحاضر.
لقد اعترف الإسلام كما اعترف الإمام عليه السلام بالطبقات الاجتماعيّة "الفئات" القائمة على أساس اقتصاديّ أو مهنيّ أو عليهما معاً، وذلك لأنّ وجود هذه الطبقات "الفئات" ضرورة لا غنى عنها ولا مفرّ منه في المجتمع، ولذا قال عليه السلام: "واعلم أنّ الرعيَّة طبقات لا يصلُحُ بعضُها إلّا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض" [١٧] .

فالتقسيم الطبقيّ الّذي ذكره الإمام عليه السلام يقوم بالدرجة الأولى على الوظيفة الاجتماعيّة الّتي تؤدّيها كلّ طبقة، ولا يستتبع حكماً تقويميّاً على الشخص المنتسب إلى طبقة ما يجعله في القمّة أو ينحدر به إلى الحضيض، ولا يُحدِّد قيمة الشخص الاجتماعيّة.
إذاً فترتيب الطبقات في التقسيم لا يعني ترتيبها في القيمة، فالإمام عليه السلام لم يُراع قيمة كلّ طبقة حين قدّمها وأخّرها، وإنّما راعى الخدمات الاجتماعيّة الّتي تقوم بها، أمّا القيمة فلا تُقاس إلّا بالتقوى.
وهذا العهد الّذي كانت ولادته قبل نحو ألف وأربعمائة سنة ركّز الإمام عليه السلام فيه فكرة المجتمع ومكوّناته وفئاته، ورأى أنّ العنصر البشريّ اجتماعيّ بالطبع لا يستغني بعضه عن بعض. وبهذا نستكشف مدى عظمة الإمام عليّ عليه السلام في المسائل الاجتماعيّة، وكونه المعلِّم الأوّل لعلم الاجتماع في العالم، والواضع لقواعد هذا العلم المستمدّ من تعاليم الإسلام، ولنظريّة وظائف المجتمع، وبيان أنواعها.
وفي هذا العهد قسّم عليه السلام ما يتألّف منه المجتمع عادة، وحدّد ما يجب على كلّ طبقة وما يجب لها، وقسّمها إلى ما ينتهي إلى سبع طبقات "فئات".
طبقة الجنود.
طبقة القضاة.
طبقة عمّال الإنصاف والرفق = شرطة الأخلاق والتضامن الاجتماعيّ.
طبقة العامّة = العمّال ونحوهم.
طبقة أهل الجزية من أهل الذمّة، والخراج من المسلمين = وزارة الاقتصاد.
طبقة التجّار وأهل الصناعات.
طبقة أهل المسكنة والحاجة.

الطبقة الأولى: الجنود.
وإليها أشار بقوله عليه السلام: ".. فالجنود بإذن الله حصون الرعيّة، وزين الولاة، وعزّ الدين، وسُبُل الأمن، وليست تقوم الرعيّة إلّا بهم...".
فالجنديّة قطب الرحى في تماسك أيّ مجتمع، ومنها قرار الدولة وبناؤها، وحفظها، والحارس الأمين لكلّ فضيلة، والساعد المتين لقمع كلّ رذيلة، وميزان العدل، ولولا الجنود لانعدم الأمن.

الطبقة الثانية: القضاة.
قال عليه السلام: "ثُمَّ اختر لِلحُكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك، ممّن لا تضيقُ به الأمور، ولا تُمحكُهُ  [١٨] الخصومة، ولا يتمادى في الزَّلّة..". فالسلطة القضائيّة من أعظم سلطات الدولة، بها يُفرق بين الحقّ والباطل، وبها يُنتصف للمظلوم من الظالم. ولأجل ذلك كانت الحيطة من الإمام عليه السلام شديدة في اختيار القضاة، وأرشد واليه إلى ضرورة أنْ يختار للقضاء من الرعيّة أفضلها علماً، وأقومها نفساً، وأجودها فهماً، وأشدّها التزاماً وأمضاها احتضاناً للحقّ، وتثبيتاً له، إلى آخر ما تضمّنه العهد من الصّفات، والمعبَّر عنها في لسان فقهاء الإسلام، بالاجتهاد المطلق في الشريعة المقدّسة والعدالة، أي لا بُدَّ للقاضي أن يكون عارفاً بالشريعة ككلّ عن بحث واجتهاد، لا عالماً ببعضها دون بعضها الآخر.

الطبقة الثالثة: الولاة.
قال عليه السلام: "ثُمَّ انظر في أمور عُمّالك، فاستعمِلْهُم اختِباراً [١٩] ولا تُوَلِّهِم مُحاباةً [٢٠] وَأَثَرةً [٢١] .. وَتَوَخَّ منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة، والقِدَمِ في الإسلام.. ثُمَّ تفقَّد أعمالهم، وابعث العُيُون [٢٢] من أهل الصِّدق والوفاء عليهم.. وتحفّظ من الأعوان..".
هذه الطبقة كانت في أيّامه عليه السلام، تُشرف على الأوقاف، والصّدقات والمصالح العامّة، وما إلى ذلك، كوزارة الأوقاف والداخليّة والماليّة، والمدراء العامّين في زماننا هذا.
وقد اشترط لهذه المناصب الأكفَاء، لا المحاسيب، ومَنْ لا يؤثر إلّا المصلحة الخاصّة. فرجال الإدارة هم أيدي الحاكم الّتي تمتد في أطراف بلاده، والأداة الّتي يستعين بها على تنفيذ أمره وإمضاء ما يُريد إمضاءه من الشؤون. وهم المرآة الّتي ينظر بها الرعيّة إليه، وأعمالهم تُنسب إليه وتُحمل عليه، ويناله خيرها وشرّها.

الطبقة الرابعة: أهل الخراج.
قال عليه السلام: "وتفقَّد أمر الخَرَاجِ بما يُصْلِح أهله، فإنَّ في صَلاحِهِ وصلاحِهم صلاحاً لمن سواهم.. وليكُن نَظَرُك في عِمَارَةِ الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأنّ ذلك لا يُدركُ إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عَمَارةٍ أخْرَبَ البلاد وأهلك العباد...".
الخراج في الدولة الإسلاميّة كان المصدر الرئيس لاقتصاد الدولة في ذلك العهد. ولعلّ من بديهيّات النظريّات الاقتصاديّة في عصرنا الحاضر المعادلة الدقيقة بين الإنتاج والاستهلاك، فرقيّ الاقتصاد في الأمّة متوقّف على إحكام تلك المعادلة، فلذلك أولاه عهد الإمام عليه السلام عناية خاصّة.
والخراج عبارة عن الأُجرة الّتي تتسلّمها الدولة عن الأرض الّتي تدخل في حساب المسلمين، نتيجة جهاد إسلاميّ مشروع. فلمّا كان الانتفاع بسبب تلك الأرض سمّوها أي المنفعة خراجاً. وأُطلق الخراج على الجزيّة أيضاً. ولمّا كانت الأرض هي المصدر الرئيس للدولة، كان صلاحها وصلاح القائمين عليها صلاحاً لمن سواهم من الرعيّة.

الطبقة الخامسة: الأعوان.
قال عليه السلام: "ثُمّ انُظر في حال كُتَّابِك، فَوَلِّ على أمورك خيرهم، واخصُص رسائلك الّتي تُدخلُ فيها مكائدك وأسرارك بأجمعِهِم لوجوه صالح الأخلاق مِمَّن لا تُبطرُهُ الكرامة.. ثُمَّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك [٢٣] واسْتِنَامَتِكَ [٢٤] وحُسْن الظنِّ منك.. ولكنْ اختبرهم بما ولُّوا للصالحين قبلك..".
هذا الفصل من العهد العلويّ، تقسيم وتوزيع للحقائب الوزاريّة، حيث أعطى لها من الحدود ما استبق به الزمن وأعجز العلم.. قال ابن أبي الحديد في شرحه لهذا النصّ:
"واعلم أنّ الكاتب الّذي يشير أمير المؤمنين عليه السلام إليه هو الّذي يُسمّى الآن في الاصطلاح العرفيّ، وزيراً، لأنّه صاحب تدبير حضرة الأمير والنائب عنه في أموره، وإليه تصل مكتوبات العمّال، وعنه تصدر الأجوبة، وإليه العرض على الأمير، وهو المستدرك على العمّال والمهيمن عليهم، وهو على الحقيقة كاتب الكتّاب (أي رئيس الوزراء)، ولهذا يُسمّونه الكاتب المطلق".
وأشار عليه السلام إلى أنّه لا يجوز أنْ يُناط اختيار أفراد هذه الطبقة بالفراسة وحسن الظنّ، فإنّ الرجال يتصنّعون الصلاح، ويتظاهرون بالمقدرة والأمانة، ليظفروا بمثل هذا المنصب، فيخدعون بالفراسة، وينتزعون حسن الظنّ بتصنّعهم، دون أنْ يكونوا على شيء من الصلاح والكفاءة. والاختيار لمثل هؤلاء يتمّ على أساس المعرفة التامّة بمحيطهم، وكفاءتهم، وقدراتهم، وممّن يعرفهم الشعب بالحبّ له، ورعاية مصالحه، والسهر على رفاهيته وسعادته... ويُعرف ذلك كلّه بالنظر إلى سابق ما ولّوه من أعمال الصالحين من الحكّام، هل أحسنوا إدارته؟ وهل كانت للشعب ثقة فيهم؟..

الطبقة السادسة: التجّار والصنّاع.
قال عليه السلام: "ثُمّ استوصِ بالتجّار وذوي الصناعات، وأوصِ بهم خيراً... فإنّهم موادُّ المنافع، وأسباب المرافق.. واعلم - مع ذلك - أنّ في كثيرٍ منهم ضيقاً فاحشاً، وشحَّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكُّماً في المبيعات. وذلك باب مَضّرَّةٍ للعامَّة، وعيب على الولاة فامنع من الإحتكار...".
هذه الطبقة يقوم عليها اقتصاد الدولة، وتلعب الدور الرئيس في تحريك إنتاجها، ومن هنا أولى التشريعُ التجارة اهتماماً خاصّاً.
ولو أنّ اضطراباً ألمّ بنشاط هذه الطبقة لاضطرب المجتمع كلّه، فتحدث المجاعات في بعض الأطراف بينما تتكدّس المواد الغذائيّة في أطراف أخرى.
وأمّا الصنّاع فيجب أنْ نُدخلهم في طبقة التجّار ونفهمهم على أنّهم منها، وذلك لأمرين:
الأوّل: لأنّ لكلٍّ من هؤلاء الصنّاع عملاً خاصّاً مستقلّاً يتّجر به وحده أو يُشاركه فيه غيره فهو يتمتّع بنتيجة عمله، وليس مستخدَماً عند غيره كما هو حال العامل الآن.
الثاني: لأنّ الوجدان الطبقيّ عند التجّار والصنّاع واحد. والميزان في عدِّ طائفتين من الناس طبقة واحدة هو وحدة الوجدان الطبقيّ.

الطبقة السابعة: أهل المسكنة والحاجة.
قال عليه السلام: "ثُمّ الله الله في الطبقة السفلى من الّذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤس [٢٥] والزَّمْنى[٢٦]، فإنّ في هذه الطبقة قانعاً ومُعترَّاً، واحفظ لله ما استحفظك من حقِّه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك... ولا يُشغلنّك عنهم بطر.. فلا تشخص همّك عنهم  [٢٧]، ولا تُصعِّر خدّك لهم، وتفقّد أمور من لا يصِلُ إليك منهم مِمَّن تقتحِمُهُ العيون [٢٨] وتحتقره الرجال.. وتعهّد أهل اليُتْم، وذوي الرِّقَّةِ في السِّنِّ  [٢٩]، مِمَّن لا حيلة له، ولا يَنْصِبُ للمسألة نفسه...".
في هذه الفقرة إشارة إلى طبقة الفقراء ممّن لا يستطيعون عملاً لعاهةٍ فيهم لا يقدرون معها على العمل، أو لا يستطيعونه لكبَر السّن وضعف البنية، أو لا يستطيعونه لصغر السِّنّ كالأيتام الّذين لا كافل لهم، أو يستطيعون ويعملون، ولكنّ عملهم لا يمدّهم بالكفاية.. هذه الطبقة تتألّف من هذه الطوائف. والإمام عليه السلام يضع الدولة أمام مسؤوليّتها تجاههم، لأنّهم إذا لم يلقوا العناية منها ينحرف قويّها إلى طريق الجريمة، ويموت ضعيفها جوعاً. فلا بُدَّ من تدبيرٍ يدفع البؤس عن أفرادها والّذي أرسى الإمام عليّ عليه السلام دعائمه وهو مبدأ التكافل أو الضمان الاجتماعيّ.
كانت هذه إطلالة موجزة على بعض ما ورد في هذا العهد العلويّ لمالك الأشتر والّذي يُمكن أنْ يتوسّع فيه الباحث بشكلٍ تفصيليٍّ ليستخلص منه دستوراً كاملاً للحكم والحكومة العادلة.
ـ مالك الأشتر أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من ثقات التابعين، وكان الإمام عليّ عليه السلام يثق به ويعتمد عليه، وله في الجهاد مع الإمام بطولات، ولّاه عليه السلام ولاية مصر، واستُشهد مسموماً بغدر من معاوية.

من تعاليم الإمام عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر:
١ ـ جباية الخراج وعمارة البلاد (التنمية الاقتصاديّة).
٢ ـ جهاد العدو (الدفاع والأمن).
٣ ـ واستصلاح أهلها (الإصلاح الاجتماعيّ).
ـ قسّم العهد الفئات الاجتماعيّة ـ لا على أساس طبقيّ ـ بل موضوعيّ وجعل لكلّ فئة وظيفتها.
الجنود، القضاة، الولاة، أهل الخراج، الحكّام، التجّار والصنّاع، أهل المسكنة والحاجة .

----------------------------------------------------------------------------
[١] . تاريخ دمشق، ج ٥٦، ص ٣٧٩.
[٢] . تاريخ الإسلام، الذهبي، ج ٣، ص ٥٩٤.
[٣] . تاريخ الطبري، ج ٤، ص ٣٣٢.
[٤] . الشَّتَر: إنقلاب جَفن العين إلى الأسفل.
[٥] . تاريخ الإسلام للذهبي، ج ٣، ص ٤٤٨.
[٦] . تاريخ الطبري، ج ٤، ص ٤٣٣.
[٧] . تاريخ الطبري، ج ٤، ص ٥٦٩.
[٨] . م. ن، ج ٥، ص ٤٧، الكامل في التاريخ، ج ٢، ص ٣٨٥.
[٩] . م. ن، ج ٥، ص ٤٨.
[١٠] . م. ن، ج ٥، ص ٥١ و ٥٢.
[١١] . الأمالي، الشيخ المفيد، ٤٩/٤.
[١٢] . نهج البلاغة، ج ٣، ص ٦٣.
[١٣] . تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٩٥ - ٩٦.
[١٤] . الفِنْد من الجبل: أنفه الخارج منه. وقيل، هو المُنفَرد من الجبال.
[١٥] . الأمالي، المفيد، ج ٨٣، ص ٤.
[١٦] . تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٩٦.
[١٧] . نهج البلاغة، عهد الأشتر.
[١٨] . أي تجعله ماحقاً لجوجاً.
[١٩] . أي لهم دراسة وامتحاناً.
[٢٠] . حاباه، سامحه، أي لا توله لميولك إليه، وحبّك له، تساهلاً في الأمر لاختصاصه بك.
[٢١] . آثره، قدّمه وفضّله.
[٢٢] . العيون، الرقباء.
[٢٣] . الفراسة، قوة الظن وحُسن النظر في الأمور.
[٢٤] . الاستنامة، السكون والثقة.
[٢٥] . البؤس، شدّة الفقر.
[٢٦] . الزمنى، جمع زمين، والزمانة، العاهة.
[٢٧] . لا تشخص همّك، لا تصرف عنايتك واهتمامك عن هؤلاء الفقراء.
[٢٨] . أي تحتقره، فلا تنظر إليه.
[٢٩] . الّذين بلغوا مرحلة الشيخوخة.

انتهى.

منقول( بتصرف) من مركز نون للتأليف والترجمة

 

****************************