الدرس العاشر (القرآن في نهج البلاغة)
تمهيد
النور والفرقان والكتاب المبين وغيرها هي أسماء للقرآن في القرآن، القرآن الّذي هو بحر لا ينزف ومعينٌ لا ينضب وكلّ لا يتجزّأ، وجميع لا يتفرّق؛ يُشكّل بمجموعه الكتاب المبين الّذي يمثّل ﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾.
من هنا شكّل القرآن بستاناً لكلّ متذوّق في العلوم وطالب للمعالي، فنرى بعضا من هؤلاء استفاد منه في تفسير ظواهر كونيّة وآخر في بيان خصائص غذائيّة، وآخر في معرفة أخبار تاريخيّة غير محرّفة، وهكذا..
فلكلّ متفنّن متقنٍ في العلوم نبعٌ اسمه القرآن ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ و﴿شِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ و ﴿مَوْعِظَةً﴾.
وللقرآن عِدلٌ ما فارقوه وما فارقهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض" [١].
والعترة متمثِّلة بأئمّة الهدى وأساطين الحقّ وأنوار الصدق أوّلهم سيف الإسلام وأسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام الّذي نرى في كلماته إشراقات إلهيّة تُبيّن لنا ما في القرآن من خزائن ولطائف ما كان ليطّلع عليها إلا شخص ارتبط بالوحي وتنسّم ريح النبوّة، وإلى بعض هذه الإشراقات سنُشير في فقرات درسنا التالية.
أهل البيت عليهم السلام عِدل القرآن
يقول أمير المؤمنين عليه السلام عن أهل بيت النبوّة عليهم السلام:"فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن. إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يُسبقوا" [٢].
إنّ حديث الثقلين وغيره من الأحاديث والروايات الشريفة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعترة عليهم السلام، تؤكّد على خاصيّة الرابط بين القرآن وأهل البيت عليهم السلام، وخصوصيّة هذه العلاقة.
وإلى هذا الأمر يُشير أمير المؤمنين عليه السلام في حديثه، فأهل البيت عليهم السلام فيهم كرائم القرآن، يعني هم خير القرآن وبركة القرآن ورحمة القرآن وفضل القرآن، كلّ ذلك فيهم وبهم ويجري على أيديهم سلام الله عليهم، وما ذلك على الله عزّ وجلّ بعزيز فهم كنوز رحمته في عباده، وحجّته عليهم، وبركته فيهم، وبدونهم لا يُعرف الإسلام ولا يُعرف القرآن.
وفي الزيارة الجامعة، نقرأ:
"أنتم الصراط الأقوم ، وشهداء دار الفناء ، وشفعاء دار البقاء ، والرحمة الموصولة ، والأمانة المحفوظة ، والباب المبتلى به الناس ، من أتاكم نجى ، ومن لم يأتكم هلك، إلى الله تدعون، وعليه تدلّون، وبه تؤمنون، وله تُسلمون، وبأمره تعملون، وإلى سبيله ترشدون، وبقوله تحكمون".
نحن في صلواتنا اليوميّة نقرأ عشر مرّات ﴿اهدِنــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ فهل هذا الصراط غير صراط محمّد وآل محمّد؟ صراط الله والأنبياء والصادقين والمخلصين.. وبالتالي فمن دلّ على الله وأرشد إلى سبيله، دلّ على القرآن وأرشد إلى هديه.
فأهل البيت عليهم السلام كرائم القرآن وكنوز الرحمن، هم عدل القرآن، حيث إنّ القرآن فيه محكم ومتشابه، فلا بُدَّ من عالم فيه؛ يبيّن محكمه ومتشابهه، يقول تعالى:﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ [٣] .
ثمّ إنّه تعالى قال: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [٤] وقد عُلم أنّ أهل البيت هم من المطهّرين الّذين أذهب الله عنهم الرجس يقول عزّ وجلّ:﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [٥].
فإن كان أحد من الخلق قد أُعطي المعرفة بالقرآن، فأهل البيت عليهم السلام أوّلهم , بتطهير الله لهم وكرامتهم عنده، على أنّ هذا العلم علم إلهيّ يجوز أن يُخفيه الله ويُظهره أنّا شاء.
عن بريد بن معاوية [٦] ، عن أحدهما عليهما السلام في قوله الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [٧] .
"فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الراسخين في العلم، قد علّمه الله عزّ وجلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، والّذين لا يعلمون تأويله(أي المؤمنون) إذا قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم الله بقوله ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ [٨] والقرآن خاصّ وعامّ ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه" [٩].
على أنّ الأحاديث في ذلك كثيرة فليراجع الجزء الثاني من كتاب الكافي للشيخ الكلينيّ (رض) لمزيد من الاطّلاع.
صفة القرآن
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة القرآن: "ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ, نُوراً لَا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ وَسِرَاجاً لَا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَبَحْراً لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَمِنْهَاجاً لَا يُضِلُّ نَهْجُهُ وَشُعَاعاً لَا يُظْلِمُ ضَوْءُهُ وَفُرْقَاناً لَا يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وَتِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَشِفَاءً لَا تُخْشَى أَسْقَامُهُ وَعِزّاً لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وَحَقّاً لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ؛ فَهُوَ مَعْدِنُ الْإِيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَبُحُورُهُ وَرِيَاضُ الْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ وَأَثَافِيُّ الْإِسْلَامِ وَبُنْيَانُهُ وَأَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَغِيطَانُهُ، وَبَحْرٌ لَا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ وَعُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ وَمَنَاهِلُ لَا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ وَمَنَازِلُ لَا يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ وَأَعْلَامٌ لَا يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ وَآكَامٌ لَا يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ.
جَعَلَهُ اللهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ ومَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ وَحَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَمَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ، وَعِزّاً لِمَنْ تَوَلَّاهُ وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَهُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وَفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ وَحَامِلًا لِمَنْ حَمَلَهُ وَمَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى" [١٠].
يقول السيّد أبو القاسم الخوئي رحمه الله شارحاً لهذه الكلمات: وقد استعرَضت هذه الخطبة الشريفة كثيراً من الأمور المهمّة التي يجب الوقوف عليها، والتدبّر في معانيها. فقوله:
"لا يخبو توقّده" خبت النار: خمد لهبها، يُريد بقوله هذا وبكثير من جمل هذه الخطبة أنّ القرآن لا تنتهي معانيه، وأنّه غضٌّ جديد إلى يوم القيامة. فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قوم، ولكنّها لا تختصّ بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القوم، فهي عامّة المعنى.
عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ القرآن حيّ لم يمت، وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار ، وكما تجري الشمس والقمر ، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا" [١١].
"ومنهاجا لا يضلّ نهجه" يُريد به: أنّ القرآن طريق لا يضلّ سالكه، فقد أنزله الله تعالى هداية لخلقه ، فهو حافظ لمن اتبعه عن الضلال.
"وتبياناً لا تُهدم أركانه" المحتمل في المراد من هذه الجملة أحد وجهين:
الأوّل: أنّ أركان القرآن في معارفه وتعاليمه، وجميع ما فيه من الحقائق محكمة لا تقبل التضعضع والانهدام.
الثاني: أنّ القرآن بألفاظه لا يتسرّب إليه الخلل والنقصان، فيكون فيها إيماءً إلى حفظ القرآن عن التحريف.
"ورياض العدل وغدرانه " [١٢] أي أنّ العدل بجميع نواحيه من الاستقامة في العقيدة والعمل والأخلاق قد اجتمع في الكتاب العزيز، فهو مجمع العدالة وملتقى متفرّقاتها.
"وأثافي [١٣] الإسلام" ومعنى ذلك: أنّ استقامة الإسلام وثباته بالقرآن كما أنّ استقامة القِدر على وضعه الخاصّ تكون بسبب الأثافي.
" وأودية الحقّ وغيطانه" يُريد بذلك: أنّ القرآن منابت الحقّ، وفى الجملة تشبيه القرآن بالأرض الواسعة المطمئنّة، وتشبيه الحقّ بالنبات النابت فيها. وفي ذلك دلالة على أنّ المتمسّك بغير القرآن لا يُمكن أن يُصيب الحقّ، لأنّ القرآن هو منبت الحقّ، ولا حقّ في غيره.
"وبحر لا ينزفه المنتزفون " [١٤] وفيها أنّ المتصدّين لفهم معاني القرآن لا يصلون إلى منتهاه، لأنّه غير متناهي المعاني، بل وفيها دلالة على أنّ معاني القرآن لا تنقص أصلاً، كما لا تنضب العيون الجارية بالسقاية منها.
"وآكام [١٥] لا يجوز عنها القاصدون...إلخ" والمراد أنّ القاصدين لا يصلون إلى أعالي الكتاب ليتجاوزوها. وفي هذا القول إشارة إلى أنّ للقرآن بواطن لا تصل إليها أفهام أولي الأفهام.
وقد يكون المراد أنّ القاصدين إذا وصلوا إلى أعاليه وقفوا عندها ولم يطلبوا غيرها، لأنّهم يجدون مقاصدهم عندها على الوجه الأتمّ [١٦].
أحسن الحديث
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وَتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ وَأَحْسِنُوا تِلَاوَتَه, فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ. وَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ وَهُوَ عِنْدَ اللهِ أَلْوَمُ" [١٧] .
جمع أمير المؤمنين عليه السلام في هذه العبارات آيات عديدة من المصحف تشير إلى صفة القرآن وقيمته، فالقرآن أحسن الحديث لقوله تعالى:
﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [١٨] .
وفيه الشفاء والرحمة:﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [١٩].
وفيه الموعظة وشفاء الصدور:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [٢٠] .
وهو أحسن القصص: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [٢١].
ويقول الإمام عليه السلام: "وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ ﴿ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [٢٢] وَفِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ. وَذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ ﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ [٢٣] وَإِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَلَا تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ وَلَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِهِ" [٢٤] .
فالله أحصى كلّ شيء في القرآن ففيه تبيان كلّ شيء، لكن لا يمسّه إلّا المطهّرون. فكيف ينبغي أن يكون تعاملنا مع القرآن؟
يقول أمير المؤمنين عليه السلام فيما أورده الشريف الرضي رض عنه عليه السلام في النهج: "وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ وَالْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى، فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ, فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَيُّ وَالضَّلَالُ. فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ وَلَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ. إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللهَ تَعَالَى بِمِثْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ" [٢٥].
فإذا كان أحدنا مريضاً فعليه بالقرآن وإن كان به شدّة فعليه بالقرآن، وكذا يُتوجّه به إلى الله في الحوائج، وتُرجى شفاعته يوم القيامة، ومن أراد أن يعرف الصحيح من السقيم، والهدى من الضلال، فما له غير القرآن دليلاً وهادياً ومرشداً.
ويقول عليه السلام: "وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيى لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعزّ لا تهزم أعوانه" [٢٦].
وهنا الإمام يطلب منّا التمسّك بالكتاب الإلهيّ فبه يكون السؤدد والعزّ والغلبة، والعكس صحيح فلو تركنا القرآن وخلّفناه وراء ظهورنا وهجرناه فلا شكّ أنّ الذلّ والفقر والحرمان سيطرق أبوابنا، وسنخسر الدنيا والآخرة.
القرآن في آخر الزمان
يخبرنا الإمام عليّ عليه السلام عن زمان يأتي على أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تترك فيه القرآن وتتخلّى عنه وتجعله سلعة وزينة لا أكثر، لا تُقيم الحقّ الّذي فيه ولا تُبطل ما أبطله، ففي نهج البلاغة روي عن الإمام عليه السلام قوله:
" وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ, وَلَا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَ لَا فِي الْبِلَادِ شَيْءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ. فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ لَا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ.
فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ وَمَعَهُمْ وَ لَيْسَا مَعَهُمْ, لِأَنَّ الضَّلَالَةَ لَا تُوَافِقُ الْهُدَى وَإِنِ اجْتَمَعَا. فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ وَافْتَرَقُوا عَلَى الْجَمَاعَةِ, كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا اسْمُهُ وَلَا يَعْرِفُونَ إِلَّا خَطَّهُ وَزَبْرَهُ [٢٧] " [٢٨] .
ولا شكّ أنّ من أعظم النعم علينا نعمة القرآن، فهل أدّينا حقّ هذه النعمة، أم هجرناها وتركناها؟ فما نالنا من ذلك إلّا الخسران. وسنكون موضعاً لشكوى الرسول يوم القيامة حيث يقول تعالى:﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [٢٩] .
فينبغي لنا أن نعمل بالقرآن للدنيا والآخرة ونجعله إمامنا وقائدنا نعمل به ونهتدي بهداه، وذلك كما أوصى أمير المؤمنين عليه السلام في آخر لحظات حياته حيث قال لأبناءه عليهم السلام: "والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم" [٣٠].
أهل القرآن
في صفة المتّقين يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ. فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ" [٣١].
فالمؤمنون المتّقون هم أهل القرآن لا يسبقهم بالعمل به أحد، لهم أذن واعية، إن مرّوا على القرآن لم يمرّوا مرور الكرام بل جعلوه منارة هَدي ورشاد، يستذكرون به أحوالهم ويُحاسبون به أنفسهم، ويرغبون في عطاء الله، ويسألونه العفو والنجاة من العذاب.
سمعوا القرآن وسمعوا به، وأبصروه وتبصّروا به، فهم معه وهو معهم، كروح واحدة لأنّ القرآن طريق العبد إلى معبوده، وهنا يقول الأمير عليه السلام: "كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، لا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله" [٣٢] .
ويقول عليه السلام في صفة عباد الله المخلصين: "قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه. يحلّ حيث حلّ ثقله وينزل حيث كان منزله" [٣٣] .
-----------------------------------------------------------------------------------
[١] . مسند أحمد، ج٣، ص١٤.
[٢] . نهج البلاغة، ج٢، ص٤٤.
[٣] . سورة آل عمران، الآية: ٧.
[٤] . سورة الواقعة، الآيات: ٧٧-٧٩.
[٥] . سورة الأحزاب الآية: ٣٣.
[٦] . وهو من حواريّي الإمامين الصادق والباقر عليهما السلام.
[٧] . سورة آل عمران، الآية: ٧.
[٨] . سورة آل عمران، الآية: ٧.
[٩] . الكافي, الشيخ الكليني, ج ١, ص ٢١٣.
[١٠] . نهج البلاغة, ج ٢, ص ١٧٧.
[١١] . بحار الأنوار، المجلسي، ج٣٥، ص٤٠٤.
[١٢] . الرياض جمع روضة، وهي الأرض الخضرة بحسن النبات. والغدران جمع غدير وهو الماء الذي تغدره السيول. والعدل الاستقامة.
[١٣] . الأثافي كأماني جمع أثفية, بالضم والكسر, وهي الحجارة التي يوضع عليها القدر .
[١٤] . نزف ماء البئر : نزح كله .
[١٥] . والآكام جمع أكم ، كقصب ، وهو جمع أكمة ، كقصبة ، وهي التلّ .
[١٦] . البيان في تفسير القرآن ، السيّد الخوئي قدس سره، ص٢١-٢٤، بتصرّف.
[١٧] . نهج البلاغة, ج ١, ص ٢١٦.
[١٨] . سورة الزمر، الآية: ٢٣.
[١٩] . سورة الإسراء، الآية: ٨٢.
[٢٠] . سورة يونس، الآيات: ٥٧- ٥٨.
[٢١] . سورة يوسف، الآية: ٣.
[٢٢] . سورة الأنعام، الآية: ٣٨.
[٢٣] . سورة النساء، الآية: ٨٥.
[٢٤] . نهج البلاغة, ج ١, ص ٥٥.
[٢٥] . نهج البلاغة, ج ٢, ص ٩١ - ٩٢.
[٢٦] . م. ن, ج ٢, ص ١٦.
[٢٧] . أي كتابته.
[٢٨] . نهج البلاغة, ج ٢, ص ٣٠ - ٣١.
[٢٩] . سورة الفرقان, الآية: ٣٠.
[٣٠] . نهج البلاغة، الخطبة ٢٨٦.
[٣١] . م. ن, ج ٢, ص ١٦١ - ١٦٢.
[٣٢] . م. ن, ج ٢, ص ١٧.
[٣٣] . م. ن, ج ١, ص ١٥٣.
يتبع ....