الدرس الخامس (منهج الإصلاح والعدالة في نهج البلاغة)
أهداف الدرس
١- أنْ يتعرّف الطالب إلى وجود الانحراف عن العدالة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
٢- أنْ يعدِّد عوامل الانحراف في جسم الأمّة الإسلاميّة.
٣- أنْ يتعرّف إلى منهج الإمام عليّ عليه السلام في إصلاح الانحراف وتطبيق العدالة.
العدل في الإسلام
من المبادئ الإنسانيّة الّتي قام عليها الإسلام من خلال رسالته وتعاليمه هي تحقيق العدل بين الناس، والقضاء على الظلم والجور، لهذا نجد أنّ جميع نواحي التشريع الإسلاميّ قد ارتبطت بشكلٍ مباشر بالعدالة والمساواة.
وإنّ أرقى مهمّة حمل لواءها ورفع شعارها الأنبياء والمرسلون عليهم السلامهي العمل على تربية المجتمعات البشريّة، وإنقاذ الناس من الجهل والظلم، والعمل على إصلاح النوع الإنسانيّ، وإلغاء الامتيازات، فكان العمل لأجل تحقيق العدالة الاجتماعيّة أعظم هدفٍ من أهداف بعثة الأنبياءعليهم السلام، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [١].
وهذا ما سعى من أجله النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الّذي أرسى قواعد العدالة، وشيَّد أركان المساواة بين جميع الخلق، وجعل المبدأ أنّه لا ميزة ولا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلّا بالتقوى، وقدّم للبشريّة أرفع التعاليم والآداب على مستوى العدالة الإنسانية.
ومن بعده صلى الله عليه وآله وسلم جاء الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ليُكمل هذه المسيرة المباركة ويُحافظ على مبادئ العدل بين الناس، ويرفض كلّ أشكال الانحراف والتعدّي على الحقوق، ومهادنة الباطل على حساب الحقّ، ويأبى إلّا أنْ يكون الناس سواسية في دولته العادلة، ما أزعج الكثيرين من النفعيّين والوصوليّين فراحوا يكيدون له المكائد وينصبون له الأفخاخ، والإمام عليّعليه السلامماضٍ في نهجه لا يخشى أحداً منهم.
الانحراف عن سياسية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
دلّت الأحداث التاريخيّة بعد عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على مدى الاستغلال الواضح لشريعته السمحاء، فما لبثت الأمّة الإسلاميّة بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن تحوّلت عن مسارها الصحيح لتُصبح وسيلة لتحقيق المصالح الشخصيّة، والانتقام من صاحب الرسالة الّذي دمّر عروش الظالمين والمستبدّين. وتجلّى ذلك في وصول بني أميّة إلى المواقع الأساسيّة في الحكم فأمعنوا في الانحراف، والتحكّم بمقدّرات الأمّة وإمكاناتها، وكلّ همّهم الملذّات والشهوات. وفي وصفه لهذه المرحلة التاريخيّة، والحالة الّتي وصل إليها الأمويّون في سياستهم يقول الإمام عليّ عليه السلام:
"والله لا يزالون حتّى لا يدعوا لله مُحرّماً إلّا استحلّوه، ولا عقداً إلّا حلّوه، وحتّى لا يبقى بيتُ مَدَر ولا وَبَر إلّا دخله ظلمهم، ونَبا به سوءُ رعيهم، وحتّى يقوم الباكيان يبكيان: باكٍ يبكي لدينه، وباكٍ يبكي لدنياه.." [٢].
ومن هنا فقد واجه الإمام عليه السلام لدى تسلّمه زمام الحكم مشاكل عديدة مثل الفقر المدقع والغنى الفاحش، وتعامل الولاة مع الإنسان على أساس نسبه وعشيرته دون مراعاة المقاييس الدينيّة والاجتماعيّة، وعدم المساواة في التوزيع الماليّ والاقتصاديّ.
هذا ما دفع الإمام عليّاً عليه السلام إلى رفع شعاره الأساس لمرحلة ولايته وحكمه، وهو تحقيق منهج الإصلاح والعدالة، وأعلن ذلك بقوله: "... وأيمُ الله لأُنصِفنَّ المظلوم من ظالمه، ولأقودَنّ الظالم بخزامته، حتّى أورِدَهُ منهل الحقّ وإن كان كارهاً" [٣].
عوامل الانحراف في الأمّة الإسلاميّة
حدّد الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة الأسباب الرئيسة لانحراف الأمّة عن خطّ النبوّة والرسالة، وأرجع جميع الأسباب إلى أصلٍ واحد وهو انحراف الحاكم، يقول عليه السلام: "وقد علمتم أنّه لا ينبغي أنْ يكون الوالي على الفروج والدِّماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمتهُ [٤]، ولا الجاهل فيضلّهُم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف [٥] للِدُّولِ [٦] فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المُرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع [٧] ، ولا المُعطِّل للِسُّنّة فيُهلِكَ الأمَّة" [٨].
هذه الصفات العامّة السلبيّة الّتي ذكرها الإمام عليه السلام كانت الطابع الّذي تميّز به الولاة والحكّام في تلك الفترة. ويُمكن إيجاز أهمّ الممارسات المنحرفة الّتي قاموا بها بالأمور التالية:
١- العطاء غير العادل
خلافاً لسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسياسته في التسوية بين الناس في العطاء، وعدم تفضيل أحدٍ منهم على أحد، فقد جرى الخليفة الثاني على خلاف ذلك، وفضّل السابقين على غيرهم، وفضّل المهاجرين على الأنصار، والعرب على العجم... [٩] ولم يكن ذلك على أساس التقوى والعمل الصالح، ما أعاد الروح القبليّة والجاهليّة من جديد.
٢ - توزيع المال على الأقرباء
فقد خصّص عثمان آله وذويه وغيرهم من أعيان قريش بالهبات الضخمة، ما أثار اعتراض الناس، وفي ذلك يقول عليه السلام: "إلى أنْ قام ثالث القوم... وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع" [١٠] .
٣ - نشوء أصحاب الأموال
وذلك بسبب ترك الأغنياء دفع الزكاة (بغطاء من الخليفة الثالث)، وتدفّق الثروات على المدينة ومكّة واستئثار الخواصّ بها، فانتشر في المدينة أنواع اللهو وأوجد الخليفة الثالث طبقتين من الشعب:
الأولى: طبقة الارستقراطيّين، وهم أصحاب الثروات الضخمة.
الثانية: طبقة الفقراء والمحرومين.
يقول المسعوديّ: "وفي أيّام عثمان.. بلغت ثروة الزبير خمسين ألف دينار وألف فرس، وألف عبد... وكانت غِلّة طلحة من العراق كلّ يوم ألف دينار. وحين مات زيد بن ثابت خلّف من الذهب والفضّة ما كان يُكسّر بالفؤوس..." [١١].
٤- الولاة المعادون للإسلام
ففي عهد عثمان وصل إلى الحُكم مجموعة من الناس عُرِفت بعدائها للإسلام. ومن الطبيعيّ أنْ ينعكس ذلك على كلّ مظاهر العدالة، فقد ولّى عثمان - كما قال ابن أبي الحديد - أمور المسلمين من لا يصلح لذلك ولا يؤتمن عليه، ومن ظهر منه الفسق والفساد، ومن لا علم له عنده، مراعاةً منه لحرمةِ القرابة... [١٢]
نتائج السياسة الحاكمة
تمخّضت السياسة العثمانيّة في المال والإدارة عن نقمةٍ شعبيّة عارمةٍ. وكان موقف الإمام عليه السلام من هذه السياسة واضحاً حيث استنكرها واعتبرها مخالفة للشريعة الإسلاميّة وعدالتها.
وهذا ما دعا الإمام عليه السلام إلى القبول باستلام الخلافة وزمام الأمور. ومن غير شكّ فإنّ الهدف الأساس للإمام عليه السلام من وراء الموافقة على تسلّم الحكم هو الإصلاح والتغيير لكلّ ظواهر الانحراف في المجتمع الإسلاميّ، لا سيّما إرساء قواعد العدالة بين الناس والمساواة بينهم، وهذا ما سيتّضح لنا في الفقرة التالية.
الإمام عليّ عليه السلام رائد الإصلاح في مواجهة الانحراف
سعى الإمام عليه السلام من اللحظات الأولى لوصوله إلى الحكم نحو ترسيخ أُسس العدالة، وإصلاح ما فسد في الأمّة الإسلاميّة، فساوى في العطاء، وأمر أصحاب الثروات بدفع ما عليهم من حقوق، وعَزَل الولاة، وحاسب بعضهم، وطبّق مبادئ عظيمة من قبيل "من أين لك هذا".
وحدّد الأهداف الأساس الّتي جعلته يقبل بالتصدّي للخلافة بقوله:
"اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان مِنّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيءٍ من فضول الحُطام، ولكنْ لِنرِدَّ المعالم من دينك ونُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عِبادك وتُقام المُعطّلةُ من حُدودِك" [١٣].
وكان شعاره في الحُكم دائماً القضاء على الظلم حيث يقول عليه السلام:
"والله لئنْ أبيتُ على حسك [١٤] السعدان [١٥] مسهّداً [١٦]، أو أُجرَّ في الأغلال مُصفّداً، أحبُّ إليَّ من أنْ ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحُطام، وكيف أظلِمُ أحداً لنفسٍ يُسرِعُ إلى البلى قُفُولها [١٧]، ويطول في الثّرى [١٨] حُلُولها؟" [١٩].
وسلك الإمام عليه السلام منهجاً مدروساً من أجل تحقيق الأهداف السامية، والقضاء على الظواهر المَرَضيّة الّتي حلّت في الدولة الإسلاميّة وكانت سبباً في انحراف الأمّة، وكان من أهمّ الظواهر الّتي سعى للقضاء عليها واقتلاعها من جذورها على ضوء ما ورد في نهج البلاغة ما يلي:
١ - ظاهرة الانحراف عن كتاب الله وسنّة نبيّه:
فتوجّه عليه السلام إلى رأس السلطة الّذي أمات السُنَنَ، وأحيا البدع، وانحرف عن الكتاب بقوله: "فاعلم أنّ أفضل عباد الله إمامٌ عادل، هُديَ وهدى، فأقام سُنّة معلومة، وأمات بدعةً مجهولة، وإنّ البِدَع لظاهرة، لها أعلام، وإنّ شرّ الناس عند الله إمامٌ جائر ضلّ وضُلّ به، فأمات سُنّةً مأخوذة، وأحيا بدعةً متروكة.." [٢٠].
٢ - ظاهرة تعظيم الخليفة
اعتاد بعض أصحاب المصالح أنْ يُعظِّموا موقعيّة الحاكم وخلافته بين الناس، ولكنّ الإمام عليه السلام أراد أنْ يكون الخليفة كواحدٍ من الناس، لا أنْ يكون كالملوك والسلاطين، يقول عليه السلام:
"... وإنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أنْ يظنّ بهم حبَّ الفخر، ويُوضَعَ أمرَهُم على الكِبْر، وقد كرهت أنْ يكون جَالَ في ظنِّكم أنّي أُحبُّ الإطراء، واستماع الثناء، ولست بحمد الله كذلك. لا تكلّموني بما تُكلّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يُتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تُخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظامٍ لنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أنْ يُقال له أو العدل أنْ يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقّ أو مشورةٍ بعدلٍ..." [٢١].
٣- ظاهرة اهتمام الخليفة بحياته الخاصّة
رسم الإمام عليه السلام أجمل وأعظم قانون للنظام الاجتماعيّ في الإسلام، حيث حدّد مبادئ التكافل والتساوي الاجتماعيّ بين الحاكم والرعيّة، وكيف يجب أنْ يتأسّى الحاكم بأضعف رعيّته، ويشعر بآلامهم ومشاكلهم، وأنْ لا يستغلّ الخلافة لإشباع شهواته ورغباته، يقول عليه السلام:
"ألا وإنّ لكلِّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه. ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه... فوالله ما كنزتُ من دنياكم تبراً ولا ادخّرتُ من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً، ولا حزتُ من أرضها شبراً.. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مُصَفّى هذا العسل، ولُباب هذا القمح... ولكنْ هيهات أنْ يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القُرص، ولا عهد له بالشبع، أوَأبيتُ مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى، وأكبادٌ حرّى؟! أوَأكون كما قال القائل:
وحسبُك داءً أنْ تبيت ببطنةٍ وحولَكَ أكبادٌ تحِنُّ إلى القدِّ
أأقنع من نفسي بأنْ يُقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون لهم أُسوةً في جشوبة العيش؟" [٢٢].
٤- ظاهرة تفضيل القربى
وهي من الظواهر الّتي تغلغلت في جسم الخلافة لدى وصول عثمان إلى الحُكم، فقد وصل معه التغلغل الأمويّ في جسم الخلافة إلى أبعد الحدود، وسيطروا على مقاليد وزمام الأمور وذلك بسبب قرابتهم من الخليفة الثالث.
مبادئ تحقيق العدالة
بعد جهاد الإمام عليه السلام ومحاربته لكلّ أنواع الظلم والفساد، وقضائه على كلّ أشكال ومظاهر الانحراف من خلال منهجه الإصلاحيّ الرائد، اتبع ذلك بخطوات عملية تمثّلت بتطبيق بعض المبادئ الّتي تكفل تحقيق العدل والمساواة وهي:
أوّلاً: في المجال الإداريّ
أ- تبديل الولاة والحكّام:
نشأ الفساد في الأجهزة الإداريّة بسبب فساد معظم الولاة، فقام عليه السلام بعزل الولاة السابقين، وولّى رجالاً من أهل الدين والعِفّة، فولّى على البصرة عثمان بن حنيف، وعلى الشام سهل بن حنيف، وعلى مصر قيس بن سعد.. وفي هذا المجال يقول عليه السلام:
"فليست تصلح الرّعية إلّا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلّا باستقامة الرعيّة" [٢٣] .
وأمّا في شأن هؤلاء الولاة الّذين تحدّثنا عنهم فيقول عليه السلام:
"ولكنّني آسى أنْ يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها، فيتّخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً، فإنّ منهم الّذي قد شرب فيكم الحرام، وجُلِدَ حدّاً في الإسلام، وإنّ منهم من لم يُسلِم حتّى رُضِخَت له على الإسلام الرضائخ" [٢٤].
ب - تنظيم جهاز المحاسبة والرقابة:
لم يكتفِ الإمام عليه السلام بعزل الولاة السابقين، بل إنّه عمل على الحفاظ والسهر على شؤون الأمّة من خلال مراقبة الولاة الجدد، وإرسال الكتب إليهم الّتي يذكر لهم فيها مبادئه، ومثالاً على ذلك رسالته إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة.
"أمّا بعد: يا بن حُنيف، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرةِ قد دعاك إلى مأدبةٍ فأسرعت إليها، تُستطاب لك الألوان، وتُنْقَلُ إليك الجفان، وما ظننت أنّك تُجيبُ إلى طعام قومٍ عائلهم مجفوّ، وغَنيّهم مدعوّ..." [٢٥].
وفي كتاب له إلى زياد بن أبيه يقول:
"وإنّي أُقسِمُ بالله قسماً صادقاً، لئن بَلَغَني أنّك خُنت من فيءِ المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشُدَّنَّ عليك شَدَّةً تَدَعُكَ قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر والسلام" [٢٦].
ج - السؤال عن مصدر الثروة:
من جملة الأمور الّتي كان الإمام عليّ عليه السلام يُتابع من خلالها مراقبة الولاة وأعمالهم، هو سؤالهم عن مصادر أموالهم وثرواتهم. ففي كتاب له إلى بعض عمّاله يقول عليه السلام:
"أمّا بعد فقد بلغني عنك أمرٌ إنْ كنت فعلتَهُ، فقد أسخطت ربّك وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك! بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك وأكلت ما تحت يديك فارفع ليّ حسابك. واعلم أنّ حساب الله أعظم من حساب الناس... كأنّك - لا أبا لغيرك - حدرتَ إلى أهلك تراثك من أبيك وأمّك، فسبحان الله! أما تؤمن بالمعاد، أوَما تخاف نقاش الحساب؟ أيّها المعدود كان عندنا من أولي الألباب، كيف تُسيغ شراباً وطعاماً، وأنت تعلم أنّك تأكل حراماً، وتشرب حراماً، وتبتاع الإماء، وتنكح النساء من أموال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الّذين أفاء الله عليهم هذه الأموال، وأحرز بهم هذه البلاد؟..." [٢٧].
ثانياً: في المجال الاقتصاديّ
أ- المساواة في توزيع المال:
فقد افتتح عليه السلام عهده بإعلان شعاره: المساواة في العطاء:
"ولا يتخلّفنّ أحدٌ منكم عربيّ ولا عجميّ، كان من أهل العطاء أم لم يكن، إلّا حضر.." [٢٨].
وفي خطبةٍ له عليه السلام يؤكّد نهجه في مبدأ التسوية في العطاء، يقول عليه السلام:
"فأمّا هذا الفيء فليس لأحدٍ على أحد فيه إثرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبيِّنا بين أظهرنا فمن لم يرضَ به فليتولّ كيف شاء" [٢٩].
ب - مصادرة أموال الطبقة الارستقراطيّة التي أخذوها ظلماً:
فقد أعلن في بداية عهده حكمه بمصادرة جميع ما أقطعه الخلفاء من القطائع، وما وهبوه من الأموال العظيمة للطبقة الأرستقراطيّة، وفي هذا يقول عليه السلام:
"أيّها الناس إنّي رجل منكم، لي ما لكّم وعليَّ ما عليكم، وإنّي حامِلُكُم على منهج نبيِّكم، ومُنَفِّذٌ فيكم ما أمر به، ألا وإنّ كلّ قطيعةٍ أقطعها عثمان، وكلّ مالٍ أعطاه من مال الله فهو مردودٌ في بيت المالِ، فإنّ الحقّ لا يُبطِلُه شيءٌ، ولو وَجدْتُهُ قد تُزوِّج به النساء، ومُلِكَ به الإماء، وفُرِّق في البلدان لَردَدتُهُ، فإنّ في العدل سعةً، ومن ضاق عليه العدلُ فالجور عليه أضيقٌ" [٣٠].
ج - التكافل الاجتماعي ومواساة الآخرين:
من الأمور الواضحة في سياسته عليه السلام أنّه لم يكن بعيداً عن تطبيق مبادئه على نفسه، حيث كان عليه السلام يعيش كما يعيش أضعف رعيّته فيواسيهم في فقرهم وحرمانهم، ويأبى إلّا أنْ يكون كواحدٍ منهم، انطلاقاً من رفضه لكلِّ أشكال التمايز الطبقيّ. ففي وصيّةٍ له لأحد ولاته يقول عليه السلام:
"إضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تُبصر إلّا فقيراً يُكابد فقراً، أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً؟..." [٣١].
-------------------------------------------------------------------------------
[١] . سورة الحديد، الآية: ٢٥.
[٢] . نهج البلاغة، الخطبة ٩٦.
[٣] . نهج البلاغة، الكتاب ١٣٦.
[٤] . النهمة، بفتح النون وسكون الهاء، إفراط الشهوة والمبالغة في الحرص.
[٥] . الحائف، من الحَيْف، أي الظلم والجور.
[٦] . الدُوَل، جمع دُولة بالضم، وهي المال، لأنّه يُتدَاول أي يُنقل من يدٍ ليد، والمراد من يحيف في تقسيم الأموال فيفضِّل قوماً في العطاء على قومٍ بلا موجب للتفضيل.
[٧] . المقاطع، الحدود التي عيّنها الله لها.
[٨] . نهج البلاغة، الكتاب ١٣١.
[٩] . شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج٨، ص١١.
[١٠] . نهج البلاغة، الخطبة ٣.
[١١] . مروج الذهب، المسعودي، ج ٢، ص ٣٤١- ٣٤٣.
[١٢] . شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ٣، ص ١١.
[١٣] . نهج البلاغة، الخطبة ١٢٩.
[١٤] . الحسك، الشوك.
[١٥] . السعدان، نبت ترعاه الإبل له شوكة.
[١٦] . المُسهّد، من سهّده إذا سهّره.
[١٧] . قُفُولها، رجوعها.
[١٨] . الثرى، التراب.
[١٩] . نهج البلاغة، الكتاب ٢٢٤.
[٢٠] . نهج البلاغة، الخطبة ١٦٤.
[٢١] . م. ن، الخطبة ٢١٦.
[٢٢] . نهج البلاغة، الكتاب ٤٥.
[٢٣] . نهج البلاغة، الخطبة ٢١٦ .
[٢٤] . م. ن، الكتاب ٦٢.
[٢٥] . نهج البلاغة، الكتاب ٤٥.
[٢٦] . م. ن، الكتاب ٢٠.
[٢٧] . م. ن، الكتاب ٤١.
[٢٨] . شرح النهج، ج ٧، ص ٣٧.
[٢٩] . م. ن، ج ٧، ص٤٠.
[٣٠] . م. ن، ج ١، ص ٢٦٩, ٢٧٠.
[٣١] . نهج البلاغة، الخطبة ٢١٩.
يتبع ....