وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                

Search form

إرسال الی صدیق
دراسات في نهج البلاغة – السابع

التحرّكات القتاليّة
يقول عليه السلام في توجيهاته لقادة جيشه: "فإذا نزلتم بعدوٍّ أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبيل الأشراف أو سفاح الجبال [١] ، أو أثناء النهار كيما يكون لكم ردءاً ودونكم مردّاً. ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين، واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال [٢] ومناكب الهضاب, لئلّا يأتيكم العدّو من مكان مخافة أو أمن. واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم. وإيّاكم والتفرّق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعا، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً، ولا تذوقوا النوم إلّا غِراراً أو مضمضة" [٣].
يتحدّث الإمام عليه السلام في هذا التوجيه عن مكان المعركة واستقرار الجيش حيث لهذا المكان خواصّ لا بُدَّ من توافرها، من حيث تأمين ظهر الجيش بالجبال، واستقراره نهاراً بحيث يتمّ التأكّد من خلوّ المكان من الكمائن المعادية، ثُمَّ يتعرّض عليه السلام لناحية تكتيكيّة مهمّة في المعركة، حيث يكون القتال من جهة واحدة أو جهتين بحسب طبيعة المعركة لا من جميع الجهات كيما يُصيب الجند بعضهم البعض بنبالهم، على أنّ ظروف المعارك قد اختلفت في هذا الزمان ويبقى تشخيص الأمر للقائد الماهر.
ويذكر الإمام عليه السلام فئة مهمّة في الجيش وهي الاستطلاع، حيث لا بُدَّ من تواجدهم في النقاط المشرفة على المعركة كي لا يغدر العدوّ بالمقاتلين، كما ويذكر مسألة النوم والاحتياطات المتعلّقة بها ويقول عليه السلام: "إنّ أخا الحرب الأرق، ومن نام لم يُنم عنه" ، ووحدة الجند وعدم تفرّقهم، وهي كلّها مسائل لا بُدَّ من رعايتها.

الدرس التاسع (العبادة هدف الخلق)
أهداف الدرس
١- أنْ يتعرَّف الطالب إلى أهميّة العبادة وكونها هدف خلق الإنسان.
٢- أنْ يتعرَّف إلى العبادة- من خلال نهج البلاغة - آثارها وأقسامها ومراتبها.
تمهيد
العبادة هي تلك الحالة الّتي يتوجّه فيها الإنسان باطنيّاً نحو الحقيقة المطلقة، والقوّة المُبدِعة الّتي أوجدته وأبدعته، بحيث يرى نفسه في قبضة قدرتها وملكوتها، ويشعر بأنّه محتاج إليها في كلّ زمان ومكان. فهي في الواقع سير الإنسان من الخلق إلى الخالق ليُجسِّد من خلالها أعظم لون من ألوان العلاقة المُظهِرة للخضوع والشكر للبارئ الخالق المصوِّر.
هذا اللون من الارتباط الّذي لا يستطيع الإنسان أنْ يُقيمه إلّا مع ربّه وخالقه أكّد عليه القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته؛ حيث اعتبر أنّ العبادة والخضوع لا يجوز أنْ يكونا لغير الله تعالى، ونهى عن عبادة غيره، ولا يوجد ذنب أعظم من الشرك بالله.
قال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾ [٤].
وفي إحدى وصاياه يقول الإمام عليّ عليه السلام: "فاعتصم بالّذي خلقك ورزقك وسوّاك، وليكن له تعبُّدك، وإليه رغبتك، ومنه شفقتك، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً" [٥].
ويكفي في بيان عظمة العبادة وجليل آثارها وخصائصها في حياة البشر أنّ الله تعالى جعلها الغاية الكبرى من خلقهم وإيجادهم حيث قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [٦].
والله تبارك وتعالى غنيّ عن العالمين، ولا تنفعه طاعة المطيعين وعبادتهم، ولا تضرّه معصية العصاة وتمرّدهم، وإنّما فرض عبادته على الناس لينتفعوا بخصائصها وآثارها الموجبة لتكاملهم وسعادتهم.
وهذه الحقيقة الهامّة عبّر عنها الإمام عليه السلام في وصفه للمتّقين بقوله: "فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلقَ حين خلقَهُم غنيّاً عن طاعتهم، آمناً من معصيتهم، لأنّه لا تضرّه معصيةُ من عصاه، ولا تنفعه طاعةُ من أطاعه.." [٧] .

حقيقة العبادة
تُعتبر العبادة في الإسلام من المظاهر الأساس لإبراز الخضوع لله تبارك وتعالى، ولهذا اقترنت رسالات الأنبياء عليهم السلام بالدعوة إلى الله تعالى وعبادته. ومظهر العبادة وحقيقتها يتجلّى في الإنسان الّذي يتوجّه إلى الله بعبادته إذ لا يرجو غيره، ويدعوه ولا يدعو غيره, ويطيعه ولا يعصيه كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "العبادة الخالصة أن لا يرجو الرجل إلّا ربّه ولا يخاف إلّا ذنبه"  [٨].
وهذا يعني أنّ العبادة ليست مجرّد سلسلة من المراسيم والطقوس والتقاليد والعادات والآداب المنفصلة عن حركة الإنسان في الحياة.
فمقياس العبادة وميزانها ليس فقط بأداء المناسك وترديد بعض الأذكار، بل هي في انعكاس هذه الأعمال على سلوك الإنسان ليجلو قلبه، ويصفو ويطهر.
فالصلاة مثلاً الّتي هي أحد أبرز مظاهر العبادة والعلاقة بالله تعالى إذا لم تنهَ عن الفحشاء والمنكر، وإذا لم تَحمِل الإنسان على صدقِ الحديث وأداء الأمانة تفقد قدسيّتها وثوابها، بل إنّها تتحوّل إلى كذبٍ على الله تعالى.
ولهذا اعتبر الإسلام كلّ عمل يقوم به الإنسان بدافعٍ من أمرِ الله عبادةً، ومن ذلك طلب العلم والكسب الحلال وخدمة الناس. ومع ذلك فقد شرّع تعاليم خاصّة للعبادة بالمعنى الأخصّ كالصلاة والصوم والحجّ.

العبادة في نهج البلاغة
يقول الشهيد المطهّري في مقاربته لحقيقة العبادة في نهج البلاغة: "إنّ صورة العبادة في نهج البلاغة من نوع عبادة العارفين بالله تعالى، بل نقول: إنّ منبع الإلهام لتصوّر العارفين بالله من العبادة في الإسلام - بعد القرآن الكريم وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - هو كلام الإمام عليه السلام" [٩].

فالإمام عليّ عليه السلام إمام العارفين والسالكين الّذي تذوّق طعم العبادة وحلاوتها، ومارسها بأبهى صورها، وكان مثالاً يُحتذى به في عبادته لربّه. اعتبر في النصوص الواردة عنه حول العبادة أنّها عالمٌ آخر مليء باللذّات الروحيّة، وأنّ العبادة الحقّة هي نوع من الانتقال من هذا العالم المادّيّ إلى عالَم آخر مليء بالحركة والنشاط والخواطر القلبيّة واللذّات الروحيّة. وقد جاء في نهج البلاغة صورٌ كثيرة عن أهل العبادة. عن سهر لياليهم، وعن خوفهم وخشيتهم، وعن شوقهم ولذّتهم، وعن حرقتهم والتهابهم، وعن أنّاتهم وآهاتهم، وعن زفراتهم وحسراتهم، كما جاء في النهج شرح لبعض نتائج العبادة، ومنها تلك العنايات الإلهيّة الغيبيّة الّتي يحصلون عليها بالمراقبة وجهاد النفس، وتلك الآثار الحميدة في طرد الذنوب وأدرانها، وفي علاج الأمراض النفسيّة والخُلقيّة.
يقول عليه السلام: "فاتّقوا الله عباد الله، تقيّة ذي لُبٍّ، شَغَل التفكُّرُ قلبَهُ، وأنصَبَ الخوفُ بدَنَهُ، وأسهَرَ التهجُّدُ غِرار نومه، وأظمأَ الرجاءُ هوَاجِرَ يومِهِ، وَظَلفَ الزهدُ شهواتِهِ، وأوجَفَ الذِّكْرُ بلسانه، وقَدَّم الخَوْفَ لأمانِهِ"  [١٠].

وصف عبادة الإمام عليه السلام
لقد كانت العبادة بالنسبة للإمام عليّ عليه السلام المنطلق الأساس لكلّ ما قام به وجاهد من أجله، ففي الوقت الّذي كان فيه أوّل المسلمين والمجاهدين، نراه - كما وصفه أحد أصحابه واسمه ضرار بن ضمرة الضبابيّ عند دخوله على معاوية ومسألته له عن أمير المؤمنين، قال: "فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وهو قائم في محرابه قابض على لحيته، يتململ تململ السليم [١١] ، ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا يا دنيا إليك عنّي، أبي تعرضت، أم إليّ تشوّقت: لا حان حينك هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلّة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد" [١٢].
ويقول شارح النهج ابن أبي الحديد المعتزليّ في وصفه لعبادة الإمام عليّ عليه السلام: "وأمّا العبادة فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد، وقيام النافلة. وما ظنُّكَ برجلٍ يبلغ في محافظته على وردِهِ أنْ يُبْسَط له نِطعٌ [١٣] بين الصفّين ليلة الهرير؟ وما ظنُّكَ برجلٍ كانت جبهته كثفنةِ البعير لطول سجوده؟ وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته، ووقفت على ما فيها من تعظيمٍ لله سبحانه وإجلاله وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته والخشوع لعزّته، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أيّ قلبٍ خرجت، وعلى أيّ لسانٍ جرت.." [١٤].
وقد أخرج الإمام عليّ عليه السلام مفهوم العبادة من الإطار الضيّق ليشمل كثيراً من جوانب الحياة وتصرّفات الإنسان، ومن ذلك ما ورد عنه عليه السلام:
"من قضى حقّ من لا يُقضى حقّه فقد عَبَدَهُ" [١٥].
و"من لم يختلف سرّه وعلانيته وفعله ومقالته فقد أدّى الأمانة وأخلص العبادة" [١٦].
وفي نصوصٍ كثيرة نجد أنّه عليه السلام يُشير إلى أنّ نِعمَ العبادة التفكُّر في آلاء الله يقول عليه السلام: "التفكّر في آلاء الله نعم العبادة" [١٧] ، وكذلك التفكّر في صُنعِ الله تعالى، وأنّ من العبادة لين الكلام وإفشاء السلام.. إلى غير ذلك من النصوص الواردة في نهج البلاغة الّتي تُوسِّع معنى العبادة ولا تحصرها في تلك العبارات، بل في كُلِّ فعلٍ أخلاقيّ، وكلِّ عملٍ صالح، وكلِّ قولٍ فيه رضى لله تعالى.

آثار العبادة في نهج البلاغة
أولاً: نور القلب وصفاؤه
إنّ واحدةً من أبرز وأهمّ آثار العبادة هي تلك النورانيّة الّتي تحصل للقلب، والصفاء والخضوع والتذلُّل الّذي يعيشه المتعبّد تجاه الله تعالى. ويُبصر عبره بقلبه فضلاً عن بصره. وعن التأثير الخاصّ للعبادة على القلب يقول عليه السلام:
"إنّ الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمعُ به بعد الوَقْرَةِ وتُبصِرُ به بعد العَشوَةِ [١٨] وتنقادُ به بعد المُعانَدَةِ، وما برِحَ لله ـ عزّت آلاؤهُ ـ في البُرهة بعد البُرهة وفي أزمان الفترات عبادٌ ناجاهم في فكرهم وكلّمَهُم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار والأسماع والأفئدة" [١٩] .
يقول الشهيد مطهّريّ تعليقاً على هذا النص العلويّ:
"وقد بيّن الإمام عليه السلام في هذا الكلام الأثر الغريب لذكر الله في القلوب، حتّى إنّها قد تستعدّ بذلك لتلقّي الإلهام من الله سبحانه والكلام معه" [٢٠].
وأيضاً فإنّ للعبادة أثراً في الترقّي بالإنسان نحو الكمال، والانتقال إلى حالات ومقامات معنويّة خاصّة كما يقول عليه السلام:
"قد حفَّت بهم الملائكة وتنزَّلت عليهم السكينةُ، وفُتِحت لهم أبوابُ السماء، وأُعِدَّت لهم مقاعدُ الكرامات، في مقامٍ اطّلع الله عليهم فيه فَرَضِيَ سعيهم، وحَمِدَ مقامَهُم، يَتَنَسَّمون بدُعائِهِ روح التجاوز" [٢١].
وإنّ من أهمّ موجبات جلاء القلب وصفاء النفس وتطهير الروح ذكر الله تعالى، لأنّ المداومة على ذكر الله تجعل العبد يُدرك أنّه مُراقَب دائماً من الله، يسمعه ويراه. ولهذا يوصي عليه السلام: "أفيضوا في ذكر الله، فإنّه أحسن الذّكر. وارغبوا فيما وعد المتّقين.." [٢٢].
ثانياً: الأُنس بالله، والّلذة في الحياة
عالَم العبادة في منظور الإمام عليّ عليه السلام وفقاً لنصوصه في نهج البلاغة هو عالَم آخر يختلف عن عالمنا. ودنيا العبادة ليست كالدنيا الّتي نعيش فيها، وموجبات السعادة فيها وكذلك موجبات الأُنس واللذّة فيها ليست هي نفسها في هذا العالم المادّيّ.
فالملذّات الدنيويّة هي تلك الأمور المادّيّة الّتي يحصل عليها الإنسان، أمّا الملذّات في دنيا العبادة فهي عبارة عن تحصيل وسائل القرب الإلهيّ، والسير والسفر إلى الله تعالى، وهو ليس سفراً ماديّاً كالسفر في الدنيا إلى العراق أو الشامّ أو... بل سفر في عالم روحانيّ يُضيء للإنسان طريقه إلى الهداية وإلى الصراط المستقيم.
فالعابد في سيره الروحيّ همّه رضى الله تعالى والفوز به، فإذا ما حصل له ذلك كان في أرقى حالات السعادة في دنياه. يقول الإمام عليه السلام:
"طوبى لنفسٍ أدّت إلى ربِّها فَرْضَها، وعَرَكَت بجَنْبها بُؤسَها، وهَجَرَت في الليل غُمْضَها، حتّى إذا غَلَبَ الكَرى عليها افتَرَشَت أرضَها وتوسَّدت كَفَّها، في مَعْشرٍ أسهَرَ عُيُونَهم خوفُ معَادِهِم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبُهُم، وهمهمت بذكر ربِّهم شِفاهُهُم، وتقشَّعَت بطول استغفارهم ذنُوبُهم، أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون" [٢٣].
وفي موضعٍ آخر يعتبر الإمام عليه السلام أنّ الذكر لله تعالى هو العِوض لأهله عن كلّ ملذّات الدنيا، وذلك للشعور الخاص الّذي يكتنفهم من هذه العبادة، يقول عليه السلام: "وإنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً" [٢٤].
ولكي يُحافظ الإنسان على هذه اللذّة والأُنس من العبادة لا بُدَّ من الالتفات إلى ضرورة التوازن بين إقبال النفس عليها وعشقها لها في بعض الأوقات، وعدم رغبتها في العبادة في حالات معيّنة، ولذا يقول عليه السلام: "وخادع نفسك في العبادة وارفُق بها ولا تقهرْها وخُذْ عَفْوها ونشاطَها، إلّا ما كانَ مكتوباً عليك من الفريضة، فإنّه لا بُدَّ من قضائِها وتعاهُدِها عِند مَحَلِّها" [٢٥].
ويقول عليه السلام: "إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل وإذا أدبرت فاقتصِروا بها على الفرائض" [٢٦].
ثالثاً: غفران الذنوب
إنّ للعبادة وذكر الله أثراً في تربية الوجدان الدينيّ للإنسان، فتكثر فيه الرغبة إلى الخيرات والعمل الصالح، وتقلُّ فيه الرغبة إلى الشرّ والفساد والذنوب. بينما نرى أنّ للذنوب أثراً مظلماً على القلب، تقلّ فيه معها رغبة المذنب إلى الخيرات والأعمال الصالحات، وتكثر فيه الرغبة إلى الذنوب. فتكون وظيفة العبادة إزالة الظلمات والكدورات الناتجة عن الذنوب وتبديلها إلى الخير والبرّ والعمل الصالح، لذلك قال سبحانه عن الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾ [٢٧].
وعن هذا الأثر العظيم للعبادات فإنّ الإمام عليه السلام وفي خطبة له في الصلاة وأداء الأمانة، يقول بعد تأكيده الشديد على الصلاة: "وإنّها لتحتُّ الذنوب، وتُطلِقُها إِطلاقَ الرِّبَقِ. وشبَّهها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحِمَّة [٢٨] تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرّات، فما عسى أن يبقى عليه من الدَّرَن؟!.." [٢٩].
رابعاً: التحلّي بالأخلاق الفاضلة
إنّ للعبادة انعكاساً هامّاً على سلوكيّات الإنسان حيث تكون باعثاً ومحرِّكاً للإنسان نحو التسامي والتحلِّي بالأخلاق الفاضلة. وما لم يكن هذا الأثر موجوداً لدى العابد فإنّ عبادته تكون خالية من مضمونها الّذي أراده الله تعالى.
فالعبادة تدفع بالإنسان نحو العدل والإحسان واحترام الآخرين، وتردعه عن الغيبة والظلم والتكبّر وقطع الرحم.. يقول عليه السلام:
"وعن ذلك ما حَرَس الله عبادَهُ المؤمنين بالصلاة والزكوات، ومُجاهدة الصِّيام في الأيّام المفروضات، تسكيناً لأطرافِهم، وتخشيعاً لأبصارهم، وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم، وإذهاباً للِخُيلاء عنهم. ولما في ذلك من تعفير عِتَاقِ الوجوه بالتراب تواضعاً، والتصاق كرائِم الجوارح بالأرض تصاغراً، ولُحُوق البطون بالمُتُون من الصيام تَذلُّلاً.." [٣٠].

أقسام العبادة ومراتبها
في نظر الإمام عليّ عليه السلام أنّ لكلّ عبادة روحاً ومضموناً وكذلك صورة ظاهريّة. وهذا ما يجعل لها أقساماً ومراتب. فالعبادة هي علاقة العبد بربِّه. والناس لا يستوون في فهم هذه العلاقة، فمنهم من يأتي بها بروحها ومضمونها، ومنهم من يكتفي بظاهرها وصورتها. لذلك قسَّم الإمام عليّ عليه السلام الناس من حيث عبادتهم إلى ثلاثة أنواع:
١ - الّذين يعتبرون العبادة سلعة يطلبون العِوَض والثمن والربح، وهذه عبادة التجّار.
٢ - الّذين يقومون بالعبادة منفّذين لأوامر الله، خوفاً ممّا يترتّب على مخالفتها من جزاء وعقاب، وهذه عبادة العبيد.
٣ - الّذين يعبدون الله لمعرفتهم إيّاه وتقديرهم لعظمته، وأنّه أهل للعبادة، سواءأثاب أم لا، وعاقب على تركها أم لا، وهذه عبادة الأحرار. وهي درجة العارف بالله، الّذي يتّخذ العبادة معراجاً إلى ذات الله. وفي هذه الدرجة تكون العبادة تربية روحيّة ورياضة للقوى الإنسانيّة، وحالة إشراقيّة لانتصار الروح على البدن، وتعالياً عن المادّة، وصعوداً إلى مشارق أنوار الوجود. وفي بيانه لمراتب العبادة يقول الإمام عليّ عليه السلام:
"إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار. وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد. وإنّ قوماً عبدوا الله شُكراً فتلك عبادة الأحرار" [٣١].
وفي نصٍّ آخر بنفس المضمون يقول عليه السلام: "إلهي ما عبدتُك خوفاً من نارك ولا طَمَعاً في جنّتك، ولكنْ وجدتك أهلاً للعبادة فعبَدتُك" [٣٢].
كانت هذه إطلالة موجزة على عالم العبادة في نهج البلاغة، وما هي إلّا غيض من فيض أمام ما قدّمه أمير المؤمنين عليه السلام عن هذا العالم الكبير في نهجه العظيم.

------------------------------------------------------------------------------
[١] . أي قدّام الجبال وأسفلها.
[٢] . أعاليها.
[٣] . م، ن, ج ٣, ص ١٢.
[٤] . سورة الأعراف, الآية:٥٩.
[٥] . نهج البلاغة، الرسالة ٣١.
[٦] . سورة الذاريات، الآيات، ٥٦- ٥٨، وهنا نشير إلى أنّ الهدف من الحياة هو العبادة كما هو مضمون الآية الكريمة, ثمّ إنّ للعبادة مراتب أعلاها اليقين، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.
[٧] . نهج البلاغة، الخطبة ١٩١.
[٨] . ميزان الحكمة، الريشهري، ج ١، ص ٧٥٨.
[٩] . في رحاب نهج البلاغة، مرتضى المطهري، ص ٦٥، الدار الإسلاميّة، بيروت، ط١، ١٤٣١هـ, ١٩٩٢ م.
[١٠] . نهج البلاغة، الخطبة ٨١.
[١١] . أي الملسوع.
[١٢] . نهج البلاغة, ج٤، ص١٦ ـ ١٧.
[١٣] . بساط من جلد.
[١٤] . شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، ج١، ص٢٧.
[١٥] . نهج البلاغة، الحكمة ١٦٤.
[١٦] . م. ن، الكتاب ٢٦.
[١٧] . مستدرك الوسائل، الميرزا النوريّ، ج١١، ص١٨٥.
[١٨] . الوقرة ثقلٌ في السمع والعشوة ضعف البصر.
[١٩] . نهج البلاغة، الخطبة ٢٢٢.
[٢٠] . في رحاب نهج البلاغة، ص ٦٧.
[٢١] . نهج البلاغة، الخطبة ٢٢٢.
[٢٢] . نهج البلاغة، الخطبة ١٠٨.
[٢٣] . م. ن، الخطبة ٤٥.
[٢٤] . م. ن، الخطبة ٢٢٢.
[٢٥] . نهج البلاغة، الرسالة ٦٩.
[٢٦] . م. ن، الحكمة ٣١٢.
[٢٧] . سورة العنكبوت، الآية: ٤٥.
[٢٨] . النبعة الحارة، أو الحمئة.
[٢٩] . نهج البلاغة، الخطبة ١٩٧.
[٣٠] . م. ن، الخطبة ١٩٠.
[٣١] . نهج البلاغة، الحكمة ٢٣٧.
[٣٢] . بحار الأنوار، المجلسيّ، ج ٤١، ص ١٤.

يتبع ....

****************************