وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                

Search form

إرسال الی صدیق
دعوات وشبهات أثارها البعض حول نهج البلاغة – الرابع

الشيخ عبـد الرسول الغفاري

أمّا الشكّ الرابع :
وهو اعتراض البعض على أنّ في النهج إنباء بالغيب ، كإخباره بملك الأمويّين وقيام دولتهم ، وبعدها دولة بني العبّاس ، وكإخباره في ظهور الفتن والثورات ، كثورة الزنج وظهور التتار . [١]

أقول :
ردّ هذا الاعتراض من وجوه :
أوّلاً :
إنّ الإمام (عليه السلام) لم يدّعِ هذا الغيب ، بل نفاه عنه في تصريح منه للرجل الكلبي في كلام وقع منه في وصف الأتراك فقال للرجل وكان كلبيّاً : « يا أخا كليب ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم وإنّما علم الغيب علم الساعة ، وما عدّده الله سبحانه بقوله ( إنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ ) [٢] .
ثانياً : إنّ الغيب من الأمور المختصّة بالله سبحانه ولكنّه تعالى يجوز له أن يُطْلِعَ من يشاء من عباده عليه وذلك قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول )  [٣] .
ثالثاً : الجميع يعلم أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) تربّى في حجر النبيّ منذ نعومة أظافره ، وعنه أخذ علومه ، وكان هو مؤدّبه ومعلّمه وموضع سرّه ، وكثرت المناجاة بينهما حتّى قال (عليه السلام) : « علّمني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من العلم ألف باب يفتح لي من كلّ باب ألف باب » [٤] .
وكما قال في حقّه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها » [٥] ، وأحاديث من هذا كثير ، إذن علمه (عليه السلام) بتعليم من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسديد من الله سبحانه .
رابعاً : إنّ كتب الصحاح قد أفردت باباً خاصّاً في تلك المغيّبات وذلك تحت عنوان : كتاب الفتن وأشراط الساعة وجلّها تتضمّن أنباء الغيب من ذلك في صحيح مسلم والبخاري : باب الخسف بالجيش الذي يتوجّه إلى بيت الله الحرام  [٦] ، باب فتح القسطنطينية وخروج الدجّال ونزول عيسى بن مريم [٧] ، باب تقوم الساعة والروم أكثر الناس [٨] ، باب إقبال الروم وحربهم للمسلمين عدّة مرّات  [٩]
، باب الآيات التي تكون قبل قيام الساعة  [١٠] ، باب لا تقوم الساعة حتّى تخرج نار من أرض الحجاز [١١] ، باب لا تقوم الساعة حتّى تقاتلوا قوماً كأنّ وجوههم المجان المطرقة ، ونعالهم الشعر وهم قوم صغار الأعين ذلف الأنوف حمر الوجوه ،وهم من الترك [١٢] وهكذا تجد أغلب هذه الأنباء في صحيح البخاري [١٣] .

أمّا الشكّ الخامس :
فإنّ المعترض يعجب من كلمة وصيّ والوصاية التي وردت في بعض كلامهِ (عليه السلام) [١٤] .
أقول :
والردّ على الگيلاني صاحب هذا الاعتراض من وجوه :
أوّلاً : إنّ حديث الدار يكفي ويغني عن كلّ جواب ، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا جمع عمومته وزعماء قريش وهم يومئذ أربعون رجلاً : « فأيّكم يؤازرني على أمري هذا على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟ فأحجم القوم ، ولم يجبه أحد إلاّ الإمام عليّ (عليه السلام) فقال مخاطباً للجمع : « إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا »  [١٥] .
أقول :
وهناك أحاديث كثيرة صدرت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وردت فيها كلمة الوصيّ وقد أراد بها (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عقده للإمام عليّ في كونه وصيّاً على الأمة من بعده .
ثانياً : ما ردّده الشعراء وما جرى على ألسِنة الناس :
قال جرير بن عبـد الله البجلي [١٦] :
 

وصيّ رسول الله من دون أهله ***** ووارثه بعد العموم الأكابر
 

وقال حجر بن عدي الكندي الشهيد [١٧] :
 

فإنّه كان لنا وليّاً ***** ثمّ ارتضاه بعده وصيّاً
 

وقال المغيرة بن الحرث بن عبـد المطّلب [١٨] :
 

فيكم وصيّ رسول الله قائدكم ***** وأهله وكتاب الله قد نشرا
 

وقال عبـد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي [١٩] :
 

يقودهم الوصيّ اليك حتّى ***** يردّك عن غواتك وارتياب
 

وقال بريدة الأسلمي [٢٠] :
 

أمر النبيّ معاشراً ***** هم أُسرة ولها ذم
أن يدخلوا ويسلّموا ***** تسليم مَن هو عالم
أنّ الوصيّ له الإما ***** مة بعده والقائم

وقال الصحابي الجليل خزيمة بن ثابت ( ذو الشهادتين ) يعاتب عائشة لمّا خرجت إلى حرب أمير المؤمنين(عليه السلام) في البصرة [٢١] :

أعائشُ خلّي عن عليّ وعيبه ***** وصيّ رسول الله من دون أهله
بماليس فيه إنّما انتِ والده ***** وأنتِ على ماكان من ذاك شاهده

 

وقال الصحابي الجليل أبو الهيثم بن التيهان يعرّض بطلحة والزبير وعائشة الذين نكثوا بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) [٢٢] :
 

قل للزبير وقل لطلحة إنّنا ***** نحن الذين شعارنا الأنصارُ
نحن الذين رأت قريش فعلنا ***** يوم القليب أُولئك الكفّارُ
كنّا شعار نبيِّنا ودثاره ***** يفديه منّا الروح والأبصار
إنّ الوصيّ إمامنا ووليّنا ***** برح الخفاءُ وباحتِ الأسرار

 

وفي المناقب : « مرّ ابن عبّاس بنفر يسبّون عليّاً (عليه السلام) فقال : أيّكم السابّ الله ؟ فأنكروا ، قال : أيّكم السابّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . . ؟ فأنكروا ، قال : فيكم السابّ لعليٍّ (عليه السلام) ؟ قالوا : فهذا نعم ، قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ يقول : من سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله ، ومن سبّ الله فقد كفر ثمّ التفت إلى ابنه فقال : قل فيهم ، فقال [٢٣] :
 

نظروا إليك بأعين محمرّة ***** نظر التيوس إلى شفار الجازر
غزر الحواجب خاضعي أعناقهم ***** نظر الذليل إلى العزيز القاهر
سبّوا الإله وكذّبوا بمحمّـد ***** المرتضى ذاك الوصيّ الطاهر
أحياؤهم عار على أمواتهم ***** والميّتون فضيحة للغابرِ

 

وقال حسّان بن ثابت يمدح عليّاً (عليه السلام) بلسان الأنصار [٢٤] :

حفظت رسول الله فينا وعهده ***** إليك ومن أولى به منك من ومن
ألست أخاه في الهدى ووصيّه ***** وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن

وقال أبو الأسود الدؤلي [٢٥] :

أُحبّ محمّـداً حبّاً شديداً ***** وعبّاساً وحمزة والوصيّا
أُحبّهم لحبّ الله حتّى ***** أجيءُ اِذا بعثت على هويّا
هوئ أعطيته منذ استدارت ***** رحى الإسلام لم يعدل سويّا
يقول الأرذلون بنو قشير ***** طوال الدهر ماتنسى عليّا؟

وفي هذا المقام يجدر بي أن أذكر حديث أُم سلمة :
« عن أم سلمة في معرض حديثها مع مولى لها كان يبغض عليّاً (عليه السلام)قالت له : أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يومي وإنّما كان نصيبي في تسعة أيّام يوماً واحداً ، فدخل النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتخلّل أصابعه في أصابع عليٍّ (عليه السلام)واضعاً يده عليه ، فقال : يا أُم سلمة أخرجي من البيت وأخليه لنا ، فخرجت وأقبلا يتناجيان وأسمع الكلام ولا أدري ما يقولان ، حتّى إذا قلت : قد انتصف النهار وأقبلت وقلت : السلام عليكم ، ألج ؟
فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تلجي وارجعي مكانك ثمّ تناحيا طويلا ، حتّى قام عمود الظهر فقلت ذهب يومي وشغله عليّ فأقبلت أمشي حتّى وقفت على الباب فقلت : السلام عليكم ألج ؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تلجي ، فرجعت وجلست مكاني حتّى إذا أنا قلت قد زالت الشمس ألآن يخرج إلى الصلاة فيذهب يومي ، ولم أر قط أطول منه : أقبلت أمشي حتّى وقفت على باب الدار فقلت : السلام عليكم ألج ؟ فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : نعم فلُجي ، فدخلت وعليّ (عليه السلام) واضع يده على رُكْبتَي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أدنى فاه في أذن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وفم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على أذن عليٍّ يتسارّان ، وعليُّ يقول : أفأمضي وأفعل ؟
والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : نعم .
فدخلت وعليّ معرض وجهه حتّى دخلت وخرج ، فأخذني النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقعدني ، ثمّ قال : يا أم سلمة لا تلوميني فإنّ جبرئيل أتاني بأمر من الله تعالى يأمرني أن أوصي به عليّاً من بعدي ، وكنت بين جبرئيل وعليٍّ ; جبرئيل عن يميني وعليّ عن شمالي ، فأمرني جبرئيل أن آمر عليّاً بما هو كائن بعدي فاعذريني ولا تلوميني ، إنّ الله اختار من كلّ أمّة نبيّاً ، واختار لكلّ نبيّ وصيّاً فأنا نبيّ هذه الأمّة ، وعليٌّ وصيّي في عترتي وأهل بيتي وأمّتي من بعدي » [٢٦] .
وختاماً لهذه الفقرة نذكر ما ورد عن المستنصر العبّاسي :
« خرج المستنصر يوماً إلى زيارة قبر سلمان الفارسي (رضي الله عنه) ومعه السيّد محمّـد بن علي الأقاسي فقال له المستنصر وهما في الطريق : إنّ من الأكاذيب ما يرويه غلاة الشيعة من مجيء عليّ بن أبي طالب من المدينة إلى المدائن لمّا توفـّي سلمان الفارسي ، وتغسيله إيّاه ورجوعه من ليلته ، فأجابه السيِّد المذكور بقول أبي الفضل التيمي في ردّ من أنكر ذلك :
 

أنكرت ليلة اِذ سار الوصيّ بها ***** إلى المدائن لمّا أن لها طلبا
وغسّل الطهر سلماناً وعاد إلى ***** عراص يثرب والإصباح ما وجبا
وقلت ذلك من قول الغلاة وما ***** ذنب الغلاة اِذا لم يذكروا كذبا
فآصف قبل ردّ الطرف من سبأ ***** بعرش بلقيس وافى يخرق الحجبا
فأنت في آصف لم تغلُ فيه ، بلى ***** في حيدر أنا غال إنّ ذا عجبا
اِن كان أحمد خير المرسلين فذا ***** خير الوصيّين أوكلّ الحديث هبا » .

أمّا الشكّ السادس :
إنّ في النهج إشارة إلى الزهد والموت وهذا ناتج من تأثير المسلمين بالنصارى . . .
هذا القول في غاية الوهن والضعف والتردّي ، وصاحبه في غاية البلادة والسذاجة إن لم نقل عنه في غاية البغض والعداوة لأمير المؤمنين (عليه السلام) .
إنّ زهد الإمام (عليه السلام) هو الذي ندب إليه القرآن الكريم وحثّت عليه الآيات البيّنات ، فكم من آية جاءت الدنيا فيها مذمومة . . ؟
قال تعالى : ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) [٢٧] وقوله تعالى : ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) [٢٨] وقوله تعالى : ( . . تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ) [٢٩] وقوله تعالى : ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ . . . ) [٣٠] وقوله تعالى : ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) [٣١] وقوله تعالى : ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاْخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [٣٢] وقوله تعالى : ( ذَلِكُم بأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُواً وَغَـرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) [٣٣] وقوله تعالى : ( فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى )  [٣٤] .
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَاز عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ ) [٣٥] وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَد وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [٣٦] وقال تعالى :( إنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) [٣٧] .
وقال تعالى : ( إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الأَيَاتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) [٣٨] وقال تعالى : ( اعْلَمُوا أَ نَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْث أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ )  [٣٩] .
هذه وآيات عديدة أُخر تصف ( الدنيا وما فيها ) بمثابة متعة ليس إلاّ ، فهي زائلة ، وليس من ركن إليها بممدوح ، إنّها الدنيا التي ذمّتها الآيات وزهّدنا فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) ، لكن ليس الزهد ـ كما فهمه البعض ـ أن لا تملك فيها شيئاً ، وليس من الزهد أن تلبس المسوح وتنأى عن المجتمع وتترك العيال كلاًّ على غيرك ، بل يكفيك من الدنيا ما تصون به ماء وجهك وعرضك .
قال تعالى : ( وَابْتَغِ فِيَما آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الأَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) [٤٠] .
وبمثل ذلك جاءت نصائح أمير المؤمنين (عليه السلام) ، إذ هو الذي وبّخ عاصم بن زياد الحارثي حين سمع عنه أنّه لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا فدعاه (عليه السلام) فلمّا رأى ما هو عليه قال :
« يا عديّ نفسه لقد استهام بك الخبيث ـ أي الشيطان ـ أما رحمت أهلك وولدك ؟ أترى الله أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أن تنالها ؟ أنت أهون على الله من ذلك .
قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك ، وجشوبة مأكلك ؟
قال : ويحك إنّ الله فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقره » [٤١] .
رُوي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « إنّ الناس في الدنيا ضيف وما في أيديهم عارية وأنّ الضيف راحل ، وأنّ العارية مردودة ، ألا وإنّ الدنيا عرض حاضر يأكل منه البرّ والفاجر والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل قاهر فرحم الله من نظر لنفسه ومهّد لرمسه وحبله على عاتقه ملقىً قبل أن ينفذ أجله وينقطع أمله ولا ينفع الندم »  [٤٢].
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى : ( وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) [٤٣] .
قال : لا تنس صحّتك وقوّتك وشبابك وغناك ونشاطك أن تطلب الآخرة » [٤٤] .
وعليه أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) نهى عن الركون إلى الدنيا والتهالك عليها ، ولم ينه عمّا يصلح الإنسان شأنه ويقيم أوده .
وربّ سائل أن يقول : وهل نعيم الدنيا محرّم على المؤمن ؟
أقول :
لا تذهب بك الأوهام ، إنّما المؤمن أحقّ من غيره بنعيم الدنيا .
قال تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً )  [٤٥]
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوّاتِ الشَّيْطانِ ) [٤٦] وقال تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) [٤٧] وقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )  [٤٨] وقال تعالى : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ )  [٤٩] .
إذا كانت هذه الشهوات من الوجهة الحلال فلا بأس بها إلاّ أنّ الاعتدال وعدم التهالك عليها هو المحبّذ وهو الأقرب إلى التقوى .
أمّا قوله تعالى : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ ) [٥٠] فهي الدنيا المذمومة التي ذمّها أمير المؤمنين (عليه السلام) وحذّر منها ، فكم له (عليه السلام) من كلام في ذمّ تلك الزينة التي تقود إلى الغفلة والضياع ونسيان الآخرة . . ؟ !
هذا قوله لمّا دخل بيت المال في البصرة بعد انتصاره على أهل الجمل : نظر إلى الذهب والفضّة ثمّ قال مخاطباً هذه الدنيا الفانية : طلّقتك ثلاث . . . وهو الذي خاطب تلك الأموال بقوله غرّي غيري . . .
وأمّا ما ذكروه في شأن الموت والفناء ، فإنّ ما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) له في القرآن أسوة من ذلك : قولـه تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَر مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ )  [٥١] وقال تعالى : ( كُلُّ نَفْس ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) [٥٢] وقال تعالى : ( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَة ) [٥٣] .
وقال تعالى : ( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) [٥٤] وقال تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) [٥٥] .
وقال تعالى : ( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا . . . ) [٥٦] .
وقال تعالى : ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ ) [٥٧] .
وآيات أخر عديدة ، إنّ السرّ في الحثّ على الموت سواء في القرآن الكريم أم في نهج البلاغة ، هو الاعتصام بحبل الله والنظر إلى ما عند الله من النعيم الأبدي الذي لا يفنى ، ثمّ إنّ الذاكر للموت سوف يعيش ساعات اللقاء في أيّ لحظة كانت فلا يسأم ولا يندم ، فهو الحقّ ، وهكذا من كان ذاكراً للموت مستعدّاً له يعيش حياة الإيمان والتقوى والعبادة والعمل الصالح ، فهو أبداً شجاع لا يرهب سلطاناً .
ولا يكون جباناً ، ولا يكون حريصاً على مال أو لذّة ، فهو دوماً شكور صابر ، عزيز غير ذليل ، نقيّ السريرة ، طاهر الأردان ، و . . .
وعليه يذكّرنا الحديث الشريف : « أكثروا من هادم اللذات » [٥٨] ذلك البعد المعنوي في ارتقاء الروح وسموّها إلى عالم الفضيلة .
إذن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وذكره للموت هو جرياً لما جاء في القرآن الكريم .

--------------------------------------------------------
[١] . انظر : أثر التشيّع في الأدب العربي : ٥٧ .
[٢] . سورة لقمان ٣١ : ٣٤ .
[٣] . سورة الجن ٧٢ : ٢٦ ـ ٢٧ .
[٤] . نظم درر السمطين : ١١٣ ، ينابيع المودّة ١ / ٢٣١ ، فرائد السمطين ١ / ١٠١ حديث ٧٠ ، الأربعون حديثاً : ٧ ، المناظرات في الإمامة : ٥٤٥ ، شرح مائة كلمة : ٥٦ .
[٥] . المستدرك للحاكم ٣ / ١٢٦ ، كنز العمّال ٦ / ١٥٢ حديث ٢٥٠٨ ، ينابيع المودّة : ٧٢ .
[٦] . صحيح مسلم ٨ / ١٦٦ .
[٧] . صحيح مسلم ٨ / ١٦٦ .
[٨] . صحيح مسلم ٨ / ١٧٥ .
[٩] . صحيح مسلم ٨ / ١٧٦ .
[١٠] . صحيح مسلم ٨ / ١٧٦ .
[١١] . صحيح مسلم ٨ / ١٧٦ .
[١٢] . صحيح مسلم ٨ / ١٧٦ .
[١٣] . صحيح البخاري ٩ / ٣٩ ـ ٤٧ .
[١٤] . المعترض هو الجيلاني في كتابه أثر التشيع في الأدب العربي : ٦٦ .
[١٥] . رواه أهل الصحاح والسنن ، فراجع على سبيل المثال مسند أحمد بن حنبل ١ / ١١١ و١٥٩ وللتفصيل انظر المراجعات لشرف الدين : ١١٨ ، المراجعة ٢٠ .
[١٦] . وقعة صفّين لابن مزاحم المنقري : ١٣٧ .
[١٧] . وقعة صفّين لابن مزاحم المنقري : ١٣٧ .
[١٨] . وقعة صفّين لابن مزاحم المنقري : ٣٨١ .
[١٩] . وقعة صفّين لابن مزاحم المنقري : ٣٨٥ .
[٢٠] . وقعة صفّين لابن مزاحم المنقري : ٣٨٢ .
[٢١] . الصراط المستقيم ٣ / ١١٠ ، تقريب المعارف : ١٩٤ .
[٢٢] . نسمة السحر ٢ / ٢٤٠ ، الأوائل : ٩٩ ، أخبار شعراء الشيعة : ٥٨ .
[٢٣] . شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ـ ١ / ١٤٣ ، الفتوح ٢ / ٣٠٧ ، الدرجات الرفيعة : ٣٢٢ .
[٢٤] . مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٢١ نقلا عن الولاية للطبري والإبانة للعكبري .
[٢٥] . شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ـ ٢ / ١٥ نقلاً عن الموفّقيات للزبير بن بكّار .
[٢٦] . الكامل للمبرد ٢ / ١٣٠ .
[٢٧] . مناقب الخوارزمي : ٨٧ .
[٢٨] . سورة البقرة ٢ : ٢١٢ .
[٢٩] . سورة النساء ٤ : ٧٧ .
[٣٠] . سورة النساء ٤ : ٩٤ .
[٣١] . سورة الانعام ٦ : ٧٠ .
[٣٢] . سورة هود ١١ : ١٥ ـ ١٦ .
[٣٣] . سورة الجاثية ٤٥ : ٣٥ .
[٣٤] . سورة النازعات ٧٩ : ٣٧ ـ ٣٩ .
[٣٥] . سورة لقمان ٣١ : ٣٣ .
[٣٦] . سورة الحشر ٥٩ : ١٨ .
[٣٧] . سورة يونس ١٠ : ٧ .
[٣٨] . سورة يونس ١٠ : ٢٤ .
[٣٩] . سورة الحديد ٥٧ : ٢٠ .
[٤٠] . سورة القصص ٢٨ : ٧٧ .
[٤١] . انظر : نهج البلاغة ٢ / ٢١٣ .
[٤٢] . ارشاد القلوب : ٢٤ .
[٤٣] . سورة القصص ٢٨ : ٧٧ .
[٤٤] . إرشاد القلوب : ٢٧ .
[٤٥] . سورة الأعراف ٧ : ٣٢ .
[٤٦] . سورة البقرة ٢ : ١٦٨ .
[٤٧] . سورة المائدة ٥ : ٨٧ ـ ٨٨ .
[٤٨] . سورة الأنفال ٨ : ٦٩ .
[٤٩] . سورة آل عمران ٣ : ١٤ .
[٥٠] . سورة الحديد ٥٧ : ٢٠ .
[٥١] . سورة الأنبياء ٢١ : ٣٤ .
[٥٢] . سورة آل عمران ٣ : ١٨٥ .
[٥٣] . سورة النساء ٤ : ٧٨ .
[٥٤] . سورة الواقعة ٥٦ : ٦٠ .
[٥٥] . سورة الملك ٦٧ : ٢ .
[٥٦] . سورة الزُّمر ٣٩ : ٤٢ .
[٥٧] . سورة الرحمن ٥٥ : ٢٦ ـ ٢٧ .
[٥٨] . كتاب الدعوات : ٢٣٨ ، وسائل الشيعة ٢ / ٦٤٩ حديث ٥ ، كشف اللثام ١ / ١٠٧ ، عيون أخبار الرضا ١ / ٧٥ حديث ٣٢٥ .

يتبع .....

****************************