علي حسين الخباز
لاشك ان العنونة أصبحت جزءاً لايتجزأ من الشبكة الدلالية لأي منجز ابداعي، ومن الواضح والمعروف انها بؤرة تجمع فيها الدلالات النصية، يقول الشريف الرضي: وكنت قد بوبته ابوابا وفصلته فصولا ورأيت كلامه (ع) يدور على اقطاب ثلاثة: (الخطب والأوامر) و(الكتب والرسائل) و(الحكم والمواعظ)، ورأيت أن أسميه نهج البلاغة، ويؤكد الشيخ محمد عبدة: لا اعلم اسما أليق بالدلالة على معناه ...
ونجد عناوين متفرعة كثيرة يذهب بعضها الى رحاب الغيبيات الوعظية التي يذكر فيها ابتداء خلق السماء والارض وعن صفات رب العزة والكمال وخلق آدم عليه السلام وصفة خلق آدم: ( كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء الا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة) الحدث الإبداء: أي هو موجود لا عن إبداء وإيجاد موجد فهو غير مسبوق الوجود بالعدم، والمزايلة بالمفارقة والمبيانة ...
ولاشك ان دراسة العنونة دراسة ألسنية تأخذنا باتجاهين أولهما: الاتجاه التاريخي حيث تنطوي البنية اللغوية للعنوان على مميزات تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي العام، ولذلك كانت بعض العناوين تحمل وقائع تاريخية مهمة مثل موقعة الجمل، وكثيرة هي الخطب التي تحمل اخبار الجمل وصفين وعملية التحكيم: ( أما بعد فأن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة والندامة فقد كنتُ امرتكم في هذه الحكومة أمري ونخلتُ لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصير أمر) والحكومة: هي حكومة الحكمين عمرو بن العاص وابي موسى الاشعري والقصة معروفة، ونخل: أي أخلص رأيه في الحكومة أولا وآخراً، واسم النهروان أثناء المسير وعند الحرب وما بعدها فعند عزمه للمسير الى الخوارج، قال له احد جنده: أخشى عليك إن سرت في هذه الساعة ان لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم، فقال عليه السلام: (أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بحر او بر فأنها تدعو إلى الكهانة والمنجم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار) وطلب العلم علم الهيئة الفلكية وسير النجوم وحركاتها للاهتداء بها وإنما ينهى عما يسمى علم التنجيم وهو العلم المبني على الاعتقاد بروحانية الكواكب وان لتلك الروحانية العلوية سلطانا على العوالم العنصرية، وأن من يتصل بأرواحها بنوع من الاستعداد ومعاونة من الرياضة الكاشفة من أسرار الحال والاستقبال .. الكاهن من يدعي كشف الغيب وكلام أمير المؤمنين حجة حاسمة لخيالات المعتقدين بالرمل والتنجيم وما شاكلتها ودليل واضح على عدم صحتها ...
وهناك ما شملت عناوينها البيعة وما جرى لها من غرائب الامور في عدد من الخطب ...و ذم أصحابه أو ذم أهل الكوفة أو ذم أهل البصرة، ومنها تحمل اسماء الشخصيات السلبية والايجابية كالزبير وأيضا كلامه (ع) لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه راية يوم الجمل والى الاشعث بن قيس ولابن عباس وهناك رسائل وخطب كثيرة من هذا النوع وجهت الى معقلة بن هبيرة الشيباني بعد هروبه الى معاوية ولمحمد بن ابي بكر عندما قلده مصر ولمروان بن الحكم بالبصرة ولعمرو بن العاص .. والى بعض القضاة ككتابه الى شريح والى بعض الامراء ومنها رسائله الى معاوية .
والاتجاه الثاني في مسار العنونة: هو المحور الفني الجمالي وفيه تبرز اهمية العنوان اللغوية في وعي المعد وارتباطاته بالمؤشرات الثقافية فالعنونة تشكل المفتاح للولوج الى النص ويمكن عن طريقه الولوج الى اعماق تكوينية واستجلاء الدلالات التعبيرية وتحديد الرؤية لكل مفردة أو عبارة لها واقعها التركيبي العام (لفظية أو دلالية) مثلا ورود بعض العناوين الخاصة مثل: الشقشقية وسبب التسمية: إنه وبينما كان يخطب بالناس هذه الخطبة التي بين فيها مظلوميته قام إليه رجل وناوله كتابا فاقبل (ع) ينظر فيه فقال له أبن عباس: يا أمير المؤمنين لو اطردت في خطبتك حيث أفضيت، فقال: هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرت، والشقشقة شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه اذا هاج وصوته هدير، وخطبة أخرى حملت أسم: (الغراء) واعتبرها النقاد من الخطب العجيبة وفي الخبر انه عليه السلام لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود وبكيت العيون ورجفت القلوب فسميت بالغراء، وخطبة حملت عنوانها: (الأشباح) وسببها: إن رجلا سأل الامام عليه السلام ان يصف الله حتى كأنه يراه عيانا فغضب عليه السلام لذلك، والخطبة (الملحمية) وهي من الملاحم واخرى سميت بخطبة (الاستسقاء) .ومنها ماأختص في التوصيف ككلمته في عجيب خلق الطاووس وفي المكاييل والاوزان ومنها ما يصف اخلاق المتقين واخرى يصف اخلاق المنافقين وبعضها تفسيرية تتناول تفسير بعض آيات القران الحكيم .
وقد انشغل النقاد في عملية وضع العنونة قبل أو بعد التأليف يرى الدكتور (عبد الله الغذامي): ان العنوان في اي منجز هو آخر ما يكتب منه وانما العنوان هو الذي يتولد منه واما ماهية هذه العناوين لابد ان تدرك بنوع التراكيب المعروضة وارتباطها بالواقع ولابد لكل عنوان قصة فالعنونة في نهج البلاغة تمثلت لواقع قائم موضحة البنية القصدية لكل خطاب مقربة المعنى للاذهان منذ المفتتح الاول للمنجز .