وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                

Search form

إرسال الی صدیق
دلالة الأبنية النادرة في نهج البلاغة

المدرس المساعد : ميثم مهدي صالح الحمامي          

كلية التربية الأساسية - جامعة الكوفة                   

المدرس المساعد : عباس علي الفحام

كلية الآداب - جامعة الكوفة

المقدمة

شهدت السنوات السابقة إقبالا ملحوظا من الجامعات العراقية على دراسة نهج البلاغة في بحوث الماجستير والدكتوراه ، وما زال هذا الأثر الخالد معطاء للباحثين ، وما زال قعره بعيد الغور صعب المنال لما امتاز به من دقة في التعبير ،وبراعة في الصياغة ،وإمكانات كبيرة في تفجير الطاقات التعبيرية للمفردات والتراكيب ، الأمر الذي جعل من نهج البلاغة يسمو سموا كبيرا على كل النتاجات الأدبية الأخر.

وهذا البحث محاولة لدراسة جانب امتاز به التعبير الفني في كلام أمير المؤمنين المجموع في نهج البلاغة وهو بعنوان (دلالة الأبنية النادرة في نهج البلاغة) ، محاولة في إظهار بعض من الإمكانيات اللغوية للإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام ، أمير البلاغة والبيان ، وربيب مدرسة القرآن الكريم، المعجزة التي جعلت من اللغة محلا للتحدي وإعجاز الخصوم . 

وقد اشتملت خطة البحث على تمهيد درس فيه المقصود بالبنية النادرة ، ثم انطوى البحث على دلالات هذه الأبنية وانحصرت بأربعة أغراض هي :

١- النوعية . 

٢- الهيأة  

٣- التكثير والمبالغة  

٤- التوازن .

هذا وقد اعتمد البحث على محاولة أسلوب التحليل والوقوف المتأني على النص المعروف بثرائه في نهج البلاغة، ومن هنا كانت شروحات هذا الكتاب ومصادر النقد واللغة والبلاغة مما استند إليه البحث في رحلته العلمية، التي نرجو أن نوفق فيها في إضافة شيء جديد إلى الدراسات التي عرضت إلى هذا الأثر الخالد ، ومن الله تعالى التوفيق

الباحثان

التمهيد

الأبنية النادرة وسماتها

ليس ثمة تعريف محدد للصيغ النادرة ، وإنما هي استنتاج واستقراء لأساليب استعمالها بألفاظ نادرة ، وهي تشير إلى القدرة على إدارة اللغة وإجالة مفرداتها ، وانتخاب استعمالها بشكل يحقق مطابقة تامة بين الأداء والمضمون في سياقاتها التعبيرية ، وليس بالضرورة أن تكون الصيغ نادرة بل قد تكون بعض الألفاظ في أوزان تلك الصيغ مما يقل في الكلام العربي ، وقلتها لا تعني عيبا باللفظ النادر وإنما هو القصور عن إمكان اكتشاف الدر في بحر اللغة الذي لا يدرك قعره ، ومن هنا يتميز المبدع من غيره في بعث مثل هذه الصيغ وتسخيرها مادة لمعانيه.

ولكن ما معايير الندرة ، بحيث نطلق على هذا البناء وصف النادر وذاك غير نادر ؟

يمكن تحديد الإجابة بالمعايير الآتية :

أولا: قلة الاستعمال 

ويمكن الرجوع إلى مصادر اللغة لتحديد مديات استعمال الأبنية ، وإن بدا على بعض المعجمات قصورا واضحا في طبيعة تحديد هذه القلة، كونها تهتم بلملمة المفردات العربية وحصرها وتبيان معانيها المختلفة ، بينما الذي يحدد قلة الاستعمال من غيره هي المعجمات السياقية التي يندر وجودها في المكتبة العربية كمعجم ( أساس البلاغة ) للزمخشري .

وكما ذكرنا ، إن قلة استعمال المفردات أكسبها ندرة لا بسبب خلل ذاتي في هذه الصيغ ، بل يعزى السبب إلى عدم سعة المتكلم بالإحاطة الكاملة بأسرار المفردة العربية ومعرفة مكامنها. 

ثانيا : الغرابة 

في الحقيقة قد تأتي الغرابة من قلة الاستعمال ، كون الأذن لم تألف سماعها من قبل ، وربما تأتي من طبيعة تأليف الأصوات داخل هذا البناء أو ذاك ، أو ربما تأتي من طريقة استعمالها في التركيب الجملي مثل نقل اللفظة من مكانها المعتاد في الاستعمال إلى تركيب جديد يسبغ عليها حلة جديدة ويعطيها زخما جديدا من الحياة .

ويبقى ضابط ذلك كله هو استقراء الكلام العربي في المراجعة المتأنية للمصادر التي جمعت خطب العرب ومصادر اللغة المختلفة، والوقوف المتفحص لدواوين الشعر العربي ، وإن كان الكلام العربي في نثره غيره في شعره ، ولكننا نعتقد أن الإبداع في الخطابة العربية تمثل في القدرة على إذابة روح الشعر في النثر ، أو ما يسميه النقد المعاصر بالشعرية  .

ومن هنا تميزت الخطابة النبوية والحديث الشريف عن غيره ، إلى الدرجة التي استطاع بها النبي(ص) من ابتكار صيغ وتراكيب في الكلام العربي غير معهودة من قبل كما يذكرها الجاحظ .

وهنا – أيضا – نسجل تميزا غاية في الإبداع لابن عم النبي(ص) علي بن أبي طالب(ع) وربيبه في القدرة على صياغة المعاني الصعبة (الحقيقية ) التي يصعب في العادة التعبير عنها تعبيرا فنيا ، ولا سيما التعبير بالأبنية النادرة على غيره.

دلالة الأبنية النادرة

ورد في نهج البلاغة استعمالات عديدة لبعض الصيغ يمكن للباحثين وسمها بالأبنية النادرة في استعمالاتها عند الإمام, أو أنها صيغ يمكننا القول أنها كانت غاية الإتقان في التعبير عن المعاني, وقد هدف البحث للكشف عن بعض دلالاتها  وتمثلت بما يأتي :

أولا : النوعية

وردت في نهج البلاغة مجموعة من المصادر نادرة الاستعمال لفظا ومعنى، حملت دلالة النوع والتميز في سياق التعبير، نحو قوله عليه السلام يصف الدنيا ويحذر منها : ((وَ أُحَذِّرُكُمُ اَلدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ وَ لَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا وَغَرَّتْ بِزِينَتِهَا))  .

فقد استعمل الإمام (قُلْعَةٍ ونُجْعَةٍ) وهما على صيغة فعلة، و(فُعلة) بضم الفاء وسكون العين , تأتي مصدرا للفعل الثلاثي َ إذا دلّ على لون وكان صحيحا  فتقول حمرة ، وخضرة , وزرقة , في حمر وخضر وزرق .  وقد ذكر اللغويون معاني أخر لهذه الصيغة منها أنها تدل على العيب وهو قليل , والفضلة من الشيء , وموضع الفعل من الجسد  .

ويرى الرضي أن فعلة بسكون العين جاءت كثيرا بمعنى المفعول والفاعل, وكلاهما للمبالغة ، والمعنى أن الإمام صور الدنيا بالمنزل الذي لا يستقر بأهله ولا يثبت ، فما إن يحل به النازلون حتى يقلع بهم فهو ((ليس بمستوطن كأنه يقلع ساكنه))  .

 إنه – إذن- ليس كأي منزل مما عرفه الناس من حيث الاستقرار والأمن والثبات ، بل نوع خاص مميز من المنازل ينطبق أيما انطباق على صفات الدنيا الموسومة بسمات هذا المنزل الذي ذكره الإمام ، يقول ابن أبي الحديد : " قوله (ع) فإنها منزل قلعة بضم القاف وسكون اللام أي ليست بمستوطنة و يقال هذا مجلس قلعة إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة ويقال هم على قلعة أي على رحلة ومن هذا الباب قولهم فلان قلعة إذا كان ينقلع عن سرجه ولا يثبت في البطش والصراع والقلعة أيضا المال العارية وفي الحديث بئس المال القلعة" .

وأصل القلعة ((النخلة التي تُجْتَثُّ من أَصلها قَلْعاً أَو قَطعاً عن أَبي حنيفة وقُلِعَ الوالي قَلْعاً وقُلْعةً فانْقَلَعَ عُزِلَ والمَقْلُوعُ الأَميرُ المَعْزُولُ والدنيا دار قُلْعَةٍ أَي انْقِلاعٍ ومنزلنا منزل قُلْعَةٍ بالضم أَي لا نملكه ومجلس قُلْعَةٍ إِذا كان صاحبه يحتاج إِلى أَن يقوم مرة بعد مرة وهذا منزل قُلْعةٍ أَي ليس بِمُسْتَوْطَنٍ ويقال هم على قُلْعةٍ أَي على رِحْلةٍ))  .

وكذا الأمر في لفظة (النجعة) حين قيد بها (الدار) أي لا يطلب المراد منها ، فالنجعة طلب الكلأ من موضعه .

وهذا ملمح جديد وجميل لان الإنسان يغادرها عنوة  .

وفيما تقدم نقول : لما كان مبدأ عدم بقاء الدنيا وزوالها من المعاني الإسلامية الجديدة على العرب، فإننا لم نجدهم قد وصفوا الدنيا بأنها قلعة، وإنما وصفوا الأماكن  بذلك، وقد نقل الإمام هذه الصفة إلى الدنيا مرتجلا لها بما سمت له قريحته الصافية وتعمق فكره بالمعاني الإسلامية الجديدة على العرب، وندر أن توصف الدنيا ذما بالقلعة، مبالغة في صفة زوالها وعدم بقاء الإنسان فيها.

ويبدو أن ثمة دواع لاستعمال الإمام لهذه الصيغة منها :

  • اختزال المعاني والصور للحياة الدنيا بهذه الصيغة المعروفة عند العرب ولكنه نقلها لوصف الدنيا , وهذه الصورة نجدها في توضيح المعنى لهذه الكلمة. لأن للألفاظ خزين هائل من التجارب البشرية فهي ((كالقماقم أغلقت سداداتها على شحنة من تجارب لا حصر لها اختزنها فيها الإنسان على كر العصور))  .
  • أنها أكثر الصيغ انطباقا على حقيقة الدنيا التي هي مرحلة في رحلة الإنسان ورحلة في مرحلة .
  • اصطباغ الكلام بالصبغة الفنية العلية التي أطردت في كلامه عليه السلام واعني التوازن الإيقاعي أو لنقل الشعرية كمصطلح حديث, تهيئة للصيغة المماثلة (نجعة).
  • التأثر البين لكلامه عليه السلام بالقرآن الكريم ، وهذا ((يدل على قوة حضور النص القرآني في ذهن الإمام على عليه السلام , إذ لا يجد صعوبة في التعبير الفني عن أي معنى يشاء , لأن ما عنده من خزين الصيغ القرآنية يمكنه من تشكيل المعاني الصعبة الجديدة كمعاني التوحيد والعالم الآخر في صور تقريبية لأذهان الناس , وتلك ميزة انفرد بها الإمام عليه السلام , لأنه يحيى حياة القرآن في أدق معاني هذه الكلمة)) .

وفي مثال آخر لهذه الصيغة ما جاء في شرح نهج البلاغة عن قوله عليه السلام  ينصح ولده الحسن: ((وَ اِعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلْآخِرَةِ لاَ لِلدُّنْيَا وَ لِلْفَنَاءِ لاَ لِلْبَقَاءِ وَ لِلْمَوْتِ لاَ لِلْحَيَاةِ وَ أَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَةٍ وَ دَارِ بُلْغَةٍ وَ طَرِيقٍ إِلَى اَلْآخِرَةِ )).   

 والـ(بلغة ) هو القدر اليسير من العيش الذي لا يبقى منه زيادة، وكما جاء في المعجم (( ما يُتَبَلَّغُ به من العيش .. ولا فَضْلَ فيه))  . ودار بلغة : أي الدنيا دار يبلغ منها إلى الآخرة.

وكلام الإمام هذا تكرر في غير موضع باللفظة ذاتها نحو قوله عليه السلام في صفة الدنيا: (( قلعتها أحظى من طمأنينتها، وبلغتها أزكى من ثروتها )) . 

ومما جاء على هذه الصيغة أيضا لفظة(أُكْلَةٌ) فيما قاله عليه السلام لأهل البصرة بعد واقعة الجمل : ((أَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ اَلْمَاءِ بَعِيدَةٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ خَفَّتْ عُقُولُكُمْ وَسَفِهَتْ حُلُومُكُمْ فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ وَأُكْلَةٌ لآِكِلٍ وَ فَرِيسَةٌ لِصَائِلٍ ))  .

ولا تبين المصادر اللغوية الفرق الواضح لهذا المصدر بين الأكلة بالفتح والأكلة بالضم فقد جاء في اللسان: ((والأُكْلة اسم للُّقْمة وقال اللحياني الأَكْلة والأُكْلة كاللَّقْمة واللُّقْمة يُعْنَى بها جميعاً المأْكولُ ...وتقول أَكَلْت أُكْلة واحدة أَي لُقْمة وهي القُرْصة أَيضاً وأَكَلْت أَكلة إِذا أَكَل حتى يَشْبَع وهذا الشيء أُكلة لك أَي طُعْمة لك)) .

ويقول ابن أبي الحديد ((والأكلة بضم الهمزة المأكول))  ، بينما ليس كل مأكول يقال عنه أكلة بالضم .

واستعمال الإمام لهذه الصيغة من مادة أكل غاية في الدقة، إذ أن الإنسان ليس بطعام مقصود يقتاته حي , لذا لم يقل أكلة بفتح الهمزة,وإنما قال أكلة بالضم لأنه هنا قد جعل من نفسه أُكْلة يأخذ منها الآكل ويتركها , وهنا يفهم الاستصغار لشأن المأكول واستحقاره .         

ومما جاء على هذه الصيغة كلمة ،(عرجة) في قوله عليه السلام من كلام له  كان كثيرا ما ينادي به أصحابه : ((تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اَللَّهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ وَأَقِلُّوا اَلْعُرْجَةَ عَلَى اَلدُّنْيَا )) .

والعرج في أصل اللغة الصعود ، ومنه المعراج إلى السماء، وسمي الأعرج بذلك لأنه يصعد بإحدى رجليه عن الأخرى .     

والعرجة التباطؤ في المشي استعاره الإمام لهذا النوع من المشي وأمر بالإقلال منه تزهيدا بالمكث فيها والالتفات إليها، إذ لما كان العرج يبطئ المشي أو انه خلل في المشي يؤدي إلى التباطؤ , فقد استعار الإمام هذه الصورة إلى الإنسان، الذي قد يتباطأ أو يصر على التباطؤ طلبا للمكوث الأطول فيها ، ودعاه إلى تركها لما في ذلك من إظهار لحقيقة الدنيا, وليس كالإمام احد أحق بهذا الوصف والنصح من المسلمين كونه قد تلبس بالمثل الإسلامية قولا ومضمونا وهو ابن المدرسة القرآنية المحمدية.

ومن الصيغ التي تحمل دلالة النوعية قوله ناصحا : ((..وَ خُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَ لَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ }  ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً  فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } ، فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ ، وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ ، اسْتَنْصَرَكُمْ وَلَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ {وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }  ، وَاسْتَقْرَضَكُمْ وَ لَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ ، وَ {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ))  .

والقرض كناية عن قهر النفس على طاعة الله في العمل والإنفاق في سبيله  ، ووصف القرض بالحسن لأجل الترغيب في العمل للآخرة وتعظيم استحقاقها  . 

والقرض الحسن هو((الإنفاق في سبيله ، شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز لأنه إذا أعطى ماله لوجهه فكأنه أقرضه إياه ))   .

وفائدة إجراء الكلام على طريقة الاستفهام لأن الترغيب في الدعاء إلى الفعل يكون أقرب من ظاهر الأمر في الإقبال عليه  .

ومحل الشاهد هو (قل) فهو مصدر من القلة والقليل فهو أورده الإمام ليس من أجل مقابلته إيقاعيا بـ( ذل) فحسب ، بل من أراد به نوعا من القلة لأن ((القل من الشيء : أقله))   .

وجاء في الحديث النبوي الشريف عن الربا : ((إنه وإن كثر فهو إلى قل )) أي هو ممحوق البركة ولو كثر .

والغريب أن ابن فارس في معجمه ذهب إلى أن المقصود بالقلة ليست نزارة الشيء بل ((ما أقله الإنسان من جرة أو حب))   .

ومما جاء على هذه الصيغة في مصادر اللغة قولهم: ((هو قل بن قل ، إذا كان لا يعرف هو ولا أبواه))   .

واستعمل هذا المصدر (قل) في موضع آخر من نهج البلاغة في قوله عليه السلام وقد سئل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم " غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود " فقال عليه السلام : إنما قال صلى الله عليه وآله ذلك والدين قل ، فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار)).  

فالمقصود بالقلة في الدين قلة في ضعف كون الإسلام طري العود بعد ن ويؤيده قوله الأخير في زيادة قوة الدين واتساع نطاقه.

ومن صيغ المصادر النادرة الاستعمال الدالة على النوعية قوله عليه السلام في وصف الفتنة بأنها: (( تبدأ في مدارج خفية ، وتؤول إلى فظاعة جلية . شبابها كشباب الغلام ))  .

فشباب بكسر أوله مصدر توخى منه نوعا من الشباب الموحي بالبدء والحماسة والقوة.

ثانيا : الهيأة

وهي دلالة ثانية للصيغ النادرة الاستعمال في نهج البلاغة ، وقد جاءت في مواضع قليلة وعلى وزن واحد هو ( فعلة ) بكسر الفاء، وصيغة المصدر (فِعلَة) يؤتى بها للهيأة، كقتلة إذا كانت قتلة سوء أو ما شابه وضربة وغيرها , فتكون موصوفة أو دالة على صفة مذكورة أو معلومة بقرينة الحال .

فيصاغ من الثلاثي المجرد (فِعلَة) مصدرا للهيأة  فتقول: ( وِقفة , جِلسة , رِكبة )  .

ولا يوجد نظير هذا الوزن للدلالة على الهيأة في جميع اللغات السامية كما يذكر الدارسون.

وجاءت فعلة صيغة للجمع في ألفاظ سمعت من العرب , ولعدم اطرادها في الجمع جعلت اسم جمع ,نحو شيخ وشيخة , جار وجيرة , ثور وثيرة , وقاع وقيعة.

ومما ورد منها : 

لفظة( نِبتة، خِضمة)

كقوله عليه السلام: ((إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ اَلْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ )).  

والشاهد في استعماله (خضمة و نبتة)، وقد أراد بها الإمام الشكل والهيأة ، لأن السياق صور أحوال هؤلاء المنهومين على السلطة بأنهم يأكلون بنهم بكل الفم بدلالة الفعل (خضم) التي تعني الأكل بكل الأضراس التي تتناقض مع الفعل (قضم) التي تعني الأكل بأطراف الأسنان، وهو فعل حاد عنه الإمام، لأنه لا يلبي المعنى الذي ينشده في تصوير التكالب على أكل مال المسلمين الذي سماه ((بمال الله تعبيرا عن شدة حرمته , وصور طريقة أكله بطريقة أكل البهائم الجائعة لنبتة الربيع بعد شدة القحط.

لذلك أسند إلى الخضم الأكل الرطب ، وإلى القضم الأكل اليابس ، لذلك اسند الإمام إلى الخضم لفظة النبتة .  كما أن لفظة (نبتة ) أوردها الإمام قاصدا بها الهيأة ، وهي ما يتناسب وصورة الإسلام الغض الطري العود ، قال أبو ذر رضي الله عنه: (( ..إن بني أمية يخضمون و نقضم و الموعد لله ))   .

وهو مأخوذ من قول النبي (ص): ((يخضمون و نقضم والموعد لله)) . 

وهكذا نجد أن الإمام قد استغل الألفاظ والصيغ أيما استغلال مفجرا لطاقاتها التعبيرية ليصور دنيء فعل القوم وبشاعته ((وما أحسن وألطف تشبيهه عليه السلام صنيع بني أمية في مال الله بخضم الإبل أو هضمه نبت الربيع، حيث يستفاد من الخضم أنهم كانوا يأكلون مال الله بملء أفواههم فيفرغون في بطونهم بلا مهلة، إذ نبت الربيع لرقته ولينة لا فصل بين وضعه في الفم وبلعه))  .

لقد استغل الإمام الطاقة التعبيرية لصيغة فعلة لتعضيد الصورة السابقة لأن خضمة دلت على نوع الخضم وهيأته سيما بعد أن أضيفت إلى ما بعدها , وكذلك نبتة يستشف منها نوع النبات الربيعي الذي يتصف برقته وطراوته لذا فالحيوان يأكل بكل فيه وكأنه يبتلعه لا يمضغه سيما وأن نبات الربيع جاء بعد أن محلت الأرض من الشتاء اظهارا للهفة . 

لفظة( قِعْدَة )

ووقعت هذه اللفظة في نهج البلاغة مرة واحدة على هذه الصيغة ، وذلك في كتاب للإمام عليه السلام إلى أبي موسى الأشعري عامله على الكوفة وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل: ((...وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَتُؤْتَيَنَّ مِنْ حَيْثُ أَنْتَ وَ لاَ تُتْرَكُ، حَتَّى يُخْلَطَ زُبْدُكَ بِخَاثِرِكَ وَ ذَائِبُكَ بِجَامِدِكَ، وَحَتَّى تُعْجَلُ عَنْ قِعْدَتِكَ..))  .

وقد استعمل الإمام عليه السلام (قعدة) على وزن فعلة بكسر الفاء ، ليدل بها على هيأة ما لقعود أبي موسى , ويرى ابن أبي الحديد أن قول الإمام (وليعجلنك الأمر عن هيئة قعودك) وصفا لشدة الأمر وصعوبته   .

ويبدو للباحث أن استعمال الهيأة هنا جاء للدلالة على التهكم من أداء عامله على الكوفة في مثل هذه الأجواء التي عاشتها الأمة الإسلامية .

ثالثا : التكثير والمبالغة

وأعني بها الصيغ القليلة الاستعمال في مصادر الوزن (تفعال ) بفتح التاء وأخرى بكسرها ، ومن الأول جاءت في خمسة مصادر ( تهمام ، تركاض ، تجوال ، ترحال ، تلعابة) , ويؤتى بهذه الصيغة المصدرية لتكثير المصدر .

وفيما يأتي شرحها مفصلا .

قال الإمام (ع) من خطبة حث فيها على الجهاد وذم المتقاعسين (( ... قَاتَلَكُمُ اَللَّهُ لَقَدْ مَلاَتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وَ شَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وَ جَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ اَلتَّهْمَامِ أَنْفَاساً..)) ، وفي اللسان : ((الهَمُّ من الحُزْن والهَمُّ مَصْدَرُ هَمَّ الشَّحمَ يَهُمُّه إِذا أَذابَه والهَمُّ مصدر هَمَمْت بالشيء هَمّاً والهِمُّ الشيخ البالي)) , ولما كان التهمام بهذه الخطبة بمعنى الهم كما ذكر , فلماذا جاء الإمام بهذه الصيغة  ولم يقل نغب الهم ؟, والجواب واضح فيما ذكره أهل اللغة من أن المصدر يؤتى به على هذه الصيغة لغرض التكثير لفعل المصدر لإظهار مقدار الألم الذي ألحقوه بالإمام علي , ولا ننسى القول أن استعمال هذه الصيغة من المصدر آنف الذكر نادر والمتتبع للمعجم العربي يجد ذلك .

وعلى هذه الصيغة جاء المصدر( تركاض وتجوال) في نهج البلاغة في كتابه إلى أخيه عقيل:(( فدع عنك قريشا و خلهم و تركاضهم في الضلال و تجوالهم في الشقاق)) , وقد عدل الإمام إلى هذه الصيغة ليدلل على تكالب القوم وتسابقهم على قتاله , مستغلا الطاقة التعبيرية لهذه الصيغة, التي وضح من خلالها كيف تكالب القوم عليه متسارعين  ومضطربين في ذلك , ومذ أن نادى به النبي (ص) وليا وإماما ,كل ذلك يستلهم من صيغة تفعال في البنيتين.

ومما جاء على صيغة تفعال (الترحال) في قوله عليه السلام: ((ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا ، وأقبل منها ما كان مدبرا ، وأزمع الترحال عباد الله الأخيار ، وباعوا قليلا من الدنيا لا يبقى ، بكثير من الآخرة لا يفنى !))  , مشيرا إلى اقتراب الساعة , ومحضا أهلها على الاستعداد للرحيل إلى دار الآخرة , ذاماً من تمسك بها وباع قليلها الذي لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ,وقد ورد الحديث عن(أزمع الترحال ) ((أي ثبت عزمهم عليه ، يقال : أزمعت الأمر ، ولا يقال : أزمعت على الأمر ، هكذا يقول الكسائي ، وأجازه الخليل والفراء))  .

من دون أن نجد حديثا عن المصدر الترحال ودلالته وطاقته التعبيرية التي تفوق طاقة المصدر الرحيل , لأن الإمام عليه السلام أراد أن يعبر عن رحيل الدنيا بأقصى طاقة تعبيرية ممكنة انسجاما مع ما يناسب المقال.

وفي صيغة أخرى قوله عليه السلام من خطبة له في ذكر عمرو بن العاص: ((عجبا لابن النابغة، يزعم لأهل الشام أن فيّ دعابة،وأني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس، لقد قال باطلا ونطق آثما))  .

والنابغة المشهورة من النساء فيما لا يليق، والشاهد فيه ( تلعابة ) وتعني الكثير اللعب ،والمصدر منه ( تَلعاب) ينطق أوله بالفتح.

وهي (( صيغة تدل على التكثير))   .

ومن العجيب حقا أن يتجرأ هؤلاء على الإمام بهذه التهم الرخيصة التي تنم عن حقارة الطبع وقدرة الافتراء التي نبه إليها الإمام بقوله بدءا(يزعم) التي تدل على القول المدعى بلا تحقيق. وقد رد المأثور العربي ذلك ،فأصبح يقال: ((هو في السلم تلعابة ، وفي الحرب ترعابة))   .

واستعملت صيغة (تفعال ) بكسر أوله مرة واحدة في نهج البلاغة ، وذلك في لفظة(تبيان)، وقيل : ((كلُّ ما ورَدَ عن العرب من المصادر على تَفعال فهو بفتح التّاءِ إِلاّ لفظتينِ : تِبْيَان وتِلْقَاء .

وقال أَبو جعفر النّحّاسُ في شرح المُعلّقَات : ليس في كلام العرب اسمٌ على تِفعالٍ إِلاّ أَربعة أَسماءٍ وخامسٌ مختلَف فيه يقال تِبْيَان ولقِلادةِ المرأَةِ : تِقْصَارُ وتِعْشَارٌ وتِبْرَاك مَوضعانِ والخامس تِمساح)) .

وهي لا شك لفظة قرآنية استعملها الإمام من شدة ذوبانه في التعبير القرآني على الجملة.

قال أميرالمؤمنين عليه السلام في وصفه لكتاب الله عز وجلّ : "ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقده ، وبحرا لا يدرك قعره ، ومنهاجا لا يضل نهجه ، وشعاعا لا يظلم ضوؤه ، وفرقانا لا يخمد برهانه ، وتبيانا لا تهدم أركانه وشفاء لا تخشى أسقامه ... ))  .

فقد استعمل للدلالة على معنى البيان , متأثرا بقوله تعالى : ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )) .

ترى لماذا وردت لفظة التبيان بهذه الصيغة في الآية المباركة , وفي نص الإمام عليه السلام, ولماذا لم يستعمل المصدر بيان بدلا عنه ؟ نرى أن بعض اللغويين وبعض المفسرين لم يقولوا بالفرق بين الصيغتين فقد ((روى الواحدي بإسناده عن الزجاج أنه قال تبياناً في معنى اسم البيان ومثل التبيان التلقاء وروى ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أنهم قالوا لم يأت من المصادر على تفعل إلا حرفان تبياناً وتلقاء وإذا تركت هذين اللفظين استوى لك القياس فقلت في كل مصدر تفعال بفتح التاء مثل تسيار وتذكار وتكرار وقلت في كل اسم تفعال بكسر التاء مثل تقصار وتمثال))  , يعني أن تبيان اسم للمصدر بيان , لا يختلف عنه في الدلالة , يقول الطوسي والتبيان والبيان واحد .كما أقر بذلك الطبرسي متبعا ما ذكره الأزهري إذ قال : العرب تقول بينت الشيء تبيينا و تبيانا .

إذا كان الأمر سيان كما تقدم , فإن استعمال صيغة بدل الأخرى ترجيح بلا مرجح , مع ((إن التعبير القرآني تعبير فني مقصود . كل لفظة بل كل حرف فيه وُضع وضعا فنيا مقصودا , ولم تُراع في هذا الوضع الآية وحدها ولا السورة وحدها بل رُوعي في هذا الوضع التعبير القرآني كله)) ،إلا أن سيبويه يرى أن التبيان ((ليس ببناء مبالغة ، وإلا انفتح تاؤه ، بل هو اسم أقيم مقام مصدر بين ، كما أقيم غاره وهي اسم مقام إغارة في قولهم : أغرت غارة ، ونبات موضع إنبات ، وعطاء موضع إعطاء ، في قولهم : أنبت نباتا ، وأعطى عطاء قالوا : ولم يجئ تفعال - بكسر التاء - إلا ستة عشر اسما : اثنان بمعنى المصدر ، وهما التبيان والتلقاء)) .

وإذا لم يرد في التبيان معنى المبالغة مثلما أريد بصيغ تَفعال فلماذا لم يستعمل المصدر بيان وهو أكثر اختصارا ؟ وتأسيسا على قاعدة أن  الزيادة في المبنى تؤدي إلى زيادة في المعنى , فلا بد من أن تكون زيادة في هذه الصيغة  لغرض التعظيم والمبالغة , لذلك نجد أن الزمخشري قد لمح لها حين فسر هذه الكلمة في الآية آنفة الذكر إذ قال : (( (تِبْيَانًا)  بياناً بليغاً ونظير))  , أو لغرض الاستمرارية في البيان , ولتوضيح ذلك نقول:ما لغرض التعظيم والمبالغة فلأن (تِفعال) و(تَفعال) واحد أي إنهما مصدران , وذلك لكون ندرة الصيغة بكسر التاء واطرادها بفتح التاء , يضاف إلى ذلك ما ذكره الزبيدي من أنه ((لا قائل في تبيان انه اسم مصدر)) فالقول بأنه مصدر دل على المبالغة , وأما لغرض الاستمرارية في البيان فلأن اسم المصدر إذا قلنا أنه اسم مصدر أو اسم عين , لأن الأسماء تدل على الاستمرارية كما هو معلوم .

واسم الاسم أكثر استمرارا من  الاسم , وان كنا نرى أن الجمع أولى لعدم تعارضه ولانسجامه مع سياق الآية المباركة , ولهذا نجد أن الإمام قد كان واعيا لهذا المعنى .

وكذا لفظ ( الفرقان ) فقد جاءت وصفا للكتاب العزيز للمبالغة في شدة تفريقه بين الحق والباطل. وهي أيضا من ألفاظ القرآن الكريم نحو قوله تعالى:(( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً))  . ومن صيغ المبالغة قوله عليه السلام في وصف الفتن : ((مرعاد مبراق ، كاشفة عن ساق ))   .

فهذه مصادر تدل على المبالغة في الشدة والكثرة في الرعد والفتن ، وقوله الأخير كناية عن الهول والشدة. وهي من قوله تعالى: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ))   . 

رابعا : التوازن

هو سمة ايقاعية في نهج البلاغة يتوخاه التعبير الفني فيه ، ولاسيما حين يأتي نتاجا ثانويا عن المعنى ، نتيجة للشاعرية التي عرف بها الإمام (ع) في كلامه.

ودلالة التوازن تحقق سمات التأثير في المتلقي ورسوخ الفكرة في الذهن ، وله أساليب كثيرة في نهج البلاغة مثل التقابل وتوازن الفقرات السجعية وغير السجعية ، ولكن هذه المرة جرى من خلال الأبنية النادرة بأسلوب المصادر الميمية، فما المصادر الميمية؟ وما أساليب استعمالها؟

لو رجعنا إلى ما قاله الصرفيون في الفرق بين المصدر والمصدرالميمي , فإننا لا نكاد نجد أنهم قد فرقوا في المعنى بينهما , ((وإنما تجدهم يفسرون الأخير بمعنى الأول , والمعروف أن العرب لم تكن لتزيد في بنية الكلمة شيئا إن لم يكن هناك معنى زائد على الأصل)) .

ولما كان المصدر عند الصرفيين اسما يدل على الحدث مجردا  ,أما المصدر الميمي فهو مصدر متلبس بذات في الغالب , وهو في كثير من التعبيرات يحمل معنى لا يحمله المصدر غير الميمي , فإن هذا يعني أن هناك فرقا بينهما في المعنى .

إن المصدر الميمي أكثر ما يكون شبها باسم المصدر , ((إذ مدلول المصدر الحدث , ومدلول اسم المصدر لفظ المصدر من حيث معناه , حتى أُطلق على اسم المصدر لفظ (اسم العين) فالعطاء ليس كمثل إعطاء , إذ يحمل في معناه ذاتا معطاة))  .

وإن كان هناك من فرق بين اسم العين واسم المصدر .

وفي نهج البلاغة ثمة أسلوب مطرد في التعبير بالمصادر الميمية ، إذ غالبا ما يأتي لالتماس التوازن بين الفقرات في الكلام، مما يسبغ عليه مزيدا من المؤثرات الفنية ولاسيما الإيقاعية التي تستلذها النفس وتميل إليها، وتقبل عليها الأسماع أكثر ، الأمر الذي يحقق غايتين : الإبلاغ والتأثير وهما غاية الخطيب ، فالخطابة تعني فن الإقناع  وهو لا يكون بدونهما.           

والأمثلة على ذلك كثيرة ، نحو قوله عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية: ((يا بني إني أخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه، فإن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل))   .

فما بين (منقصة ومدهشة) توازن موسيقي محبوب بين الفقرات لافت للانتباه .

وقوله: ((عباد الله ، إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك ، ولا فيما نهى عنه من الشر مرغب ))  .

ومترك ومرغب مصدران ميميان أسبغا على الكلام ثراء إيقاعيا يستسيغه السامعون ، لاسيما حين يأتي في الأسلوب الخطابي المباشر الذي تشير إليه جملة النداء ( عباد الله ) .

ومثله قوله عليه السلام ناصحا: (( واعلموا أن يسير الرياء شرك، ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان . ومحضرة للشيطان . جانبوا الكذب فإنه مجانب للإيمان . الصادق على شرف منجاة وكرامة . والكاذب على شفا مهواة ومهانة))   .

ففضلا عن ثبات المعنى في المصادر المبتدئة بحرف الميم ، نلحظ سيادة الشاعرية باستعمال هذا الأسلوب الفني العفوي الذي يدل على احتراف منقطع النظير لاستعمالات اللغة ومعرفة الإفادة من مكامن طاقتها. فقد وازن بين ( منسأة و محضرة) وبين ( منجاة ومهواة) .

وهو أيضا يجيء ضمن الخطاب الشفاهي وأعني به الخطب لما له من تأثير بين على السامعين ومن هنا يفهم توخيه لأن الغاية من ذلك كله ليست الإيقاع النغمي بل الإقناع .

ومن خطبة له عليه السلام جاء قوله عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم من الماء: (( قد استطعموكم القتال، فقروا على مذلة ، وتأخير محلة))    .

فهذا اللون من التعبير الفني أدعى إلى إلهاب الحمية في النفس وبث الحماسة فيها. ولاحظ كيف يستفز الإمام فيهم ما ذكرنا بقوله بأسلوب الأمر المجازي ( فقروا ) .

وقد يعمد الإمام في تعبيراته بهذا الأسلوب إلى الميل إلى بناء الفعل على وزن ( مفعل ومفعلة ) وجمعهما لتحقيق مزيد من الثراء الموسيقي اللافت للانتباه، وهو ثراء ناتج عن المعنى بشكل لصيق كما نؤكد دائما، مثل قوله في ذكر الرسول صلى الله عليه وآله: (( مستقره خير مستقر . ومنبته أشرف منبت . في معادن الكرامة ، ومماهد السلامة))    .

فقد جاء بالجمع ( معادن ومماهد ) التماسا للتوازن على الرغم من أن هذا الجمع(مماهد ) ليس مفرده ممهد .

ومن خطبة له عليه السلام قال: (( واتقوا مدارج الشيطان ومهابط العدوان))  .

وقال في موضع آخر : ((وأحمد الله وأستعينه على مداحر الشيطان ومزاجره))  .

وقوله: ((ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبر من قلوبهم ، وإسكانا للتذلل في نفوسهم)) .

فالألفاظ ( مدارج ، مهابط ، مداحر ، مزاجر ، مجاهد ) كلها صيغ لمصادر ميمية على وزن( مفعل ومفعلة ) جمعت بأوزان واحدة، وحققت موازنات نغمية ميزت كلام أمير المؤمنين عليه السلام كثيرا عن غيره في أسلوب الخطابة بشكل خاص.

وهو أسلوب يأتي بشكل منساب، لا قهر فيه للمعاني على الألفاظ ، يتخذ منه الإمام وسيلة للإقناع حتى في احتجاجاته فمن ((كلام له عليه السلام كلم به بعض العرب، وقد أرسله قوم من أهل البصرة لما قرب عليه السلام منها، ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل، لتزول الشبهة من نفوسهم، فبين له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنه على الحق ، ثم قال له: بايع ، فقال: إني رسول قوم ولا أحدث حدثا حتى أرجع إليهم .

فقال عليه السلام : أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعا ؟ قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء . فقال عليه السلام فامدد إذا يدك . فقال الرجل: فو الله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة علي ، فبايعته عليه السلام . والرجل يعرف بكليب الجرمي)).

فهذه قدرة فطرية على التصرف باللغة بتحويل الفعل إلى مصدر ميمي، ثم جمعه في عمليات ذهنية آنية سريعة لصناعة جمل فنية ( مساقط الغيث ، المعاطش والمجادب ) وغيرها الكثير من الأدوات والتقنيات اللغوية الفنية.

الخلاصة والنتائج

بان مما سبق من البحث أن للإمام علي(ع) أسلوبه المميز في استعمال الأبنية النادرة من المصادر ، لتوخي أربع دلالات في تعبيراته بها هي : النوعية والهيأة والتكثير والتوازن .

ويمكن حصر النتائج التي توصل إليها البحث بما يأتي :

أولا :  أن تحديد ألفاظ المصادر النادرة خضع إلى معايير القلة والندرة في الاستعمال العربي بحسب ما أكدته المصادر اللغوية والاستعمال العربي.

ثانيا : إن تحديد دلالة الأبنية النادرة تم على اساس أربعة أهداف هي النوعية والهيأة والتكثير والمبالغة .

ثالثا :اتسم أسلوب الإمام في التماس التوازن الإيقاعي في تعبيراته باستعمال المصادر الميمية وجمعها على وزن مفعل ومفعلة ، وهو أسلوب شمل الفن الخطابي بشكل خاص كونه يعتمد على السماع والتأثير.

****************************