وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                
وقال (عليه السلام): لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.                

Search form

إرسال الی صدیق
دلالة العدول في نصوص نهج البلاغة

الاستاذ الدكتور المدرس المساعد : صباح عباس عنوز

حوراء مهدي الكوفي

جامعة الكوفة – كلية الفقه

المبحث الأول

العدول في المنظور النقدي

تقود محاولة تتبع مضامين كلمة العدول في المعجمات اللغوية إلى الاستنتاج الذي مفاده ، أنّ المادّة اللغوية التي تتألف منها هذه اللفظة وهي (العين ، والدال ، واللام) ، وما يمكن أن يشتق منها محصورة بين الدلالة الأولى والمتمثلة بالأنصاف وإحقاق الحقوق في الحكم ، وهذا ما ورد في معجمات اللغة ، إذ أن " العدل : كالعدالة والعدول والمعدِلة والمعدَلة وعدل يعدل فهو عادلٌ من عدول بلفظ الواحد ".

وبين الدّلالة الثانية والتي تهمنا في موضوع بحثنا وهي كما جاء عن ابن منظور ( ت:٧١١هـ) : " عدل عن الشيء يعدلُ عدلاً وعدولاً حاد وعن الطريق جار ، وعدل إليه عدولاُ رجع وماله معدلٌ ولا معدول أي مصرف ، ومنه قول أبي خراش :

على أنني ، إذا ذكرتُ فراقهم ***** تضييق عليّ الأرض ذات المعادل

أراد ذات السعة يعدل فيهم يميناً وشمالاً من سعتها ، والعدل أن تعدل الشيء عن وجهه ، تقول : عدلتُ فلاناً عن طريقه وعدلتُ الدابة إلى موضع كذا ".

ويبدو لنا من مفهوم ابن منظور (ت:٧١١هـ) للعدول الدلالة الفنية له ، واللغوية حينما نتحسس به عناصر الجمال ، ونستطيع الوصول إلى مفهوم العدول في الاصطلاح ، من خلال تعريفنا له بعده إجراء يلحق الصياغة لأغراض فنية عامة ، استحسنها العربي اللغوي بذوقه المرهف وحسِّه الراقي ، وهذه الظاهرة واسعة الاستعمال في الدرس اللغوي ، إذ نجد العربي في كلامه يعدل عن استعمال صيغة إلى صيغة أخرى لأغراضٍ مختلفة ، فقد يعدل عن استعمال صيغة اسم الفاعل إلى الصفة المشبهة ، أو من صيغة الفعل إلى الاسم ، أو بالعكس ، وكل ذلك باستقراء كلام العرب ، فضلاً عن ذلك ليبين أنه قادرٌ على الخروج عن القواعد الأصلية والتي انبنى عليها النظام اللغوي() واستحسان قواعد وجد فيها ضالته ، يقول ابن جني (ت:٣٩٢هـ) في ذلك : " إن العربي إذا قويت فصاحته تصرف وارتجل ما لم يسبق إليه أحد من قبل ".

لذا يتضح لنا مما تقدم أن مفهوم العدول في اللغة هو الميل من صياغة إلى صياغة أخرى أكثر وضوحاً وإيحائية في الكلام ، بحيث حينما يسمعها المتلقي يكون لها جرساً وقوةً في التعبير.

والعدول كأية ظاهرة تناولتها ألسنة البلاغيين واللغويين والنحويين والنقاد ، وسنقتصر في بحثنا هذا على مفهومه في المنظور النقدي مقتصرين على بعض العلماء من القدامى والمحدثين.  

وعند القدامى ذكره أبو الفتح ابن جني (ت:٣٩٢هـ) في أثناء حديثه عن المجاز بقوله : " وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاث وهي الاتساع والتوكيد والتشبيه ، فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة() " ، ومفاد كلام ابن جني أن المجاز إذا كثُر لحق بالحقيقة ، وقد استخلص علماء اللغة على أثر ذلك نتيجة في غاية البراعة هي أن المجاز قد يصير ويعدل إلى الحقيقة ، وبخلاف ذلك قد تصير الحقيقة مجازاً ، وذلك متى قل استعمال الحقيقة صارت مجازاً عرفاً ، والمجاز متى ما كثر استعماله صار حقيقة عرفاً().ويبدو لنا أنّ الحقيقة لا تصير مجازاً ؛ لأنها الأصل الذي نعرف فيه اللفظ الحقيقي ،فهي الأساس الذي يبنى عليه المجاز ، فلا شأن للاستعمال في عدّها مجازاً.

فالاتساع والتوكيد والتشبيه كلّها أدوات نعدل عن الحقيقة إلى المجاز ويظهر ذلك جلياً في أمثلة كثيرة استشهد بها العربي بذوقه المرهف عن ذلك ، ويمكن أن نلحظ الصياغة الواردة في القرآن الكريم نحو قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (فاطر:١).

فموضع الشاهد هنا (مثنى،وثلاث،ورباع) ألفاظٌ معدولة عن أصولها بـ (اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة) ، فهذه ألفاظ دالة على تكرر العدد ، فتكون هذه الأسماء غير منصرفة ؛ لأنها معدولة عن أصولها وأيضاً أنها معدولة عن تكررها.

فاستحسن العدل في هذه الآية المباركة فيما يبدو لنا لعدم تكرار اللفظ مرتين فيفقد السياق جمالية بعيدة عمّا أريد من النص ، إلا أنّ هذا ليس بعيداً عن السر الجمالي الذي تميز به القرآن العظيم ، وإيضاحه لمعانيه بكلِّ سهولة ويسر والله أعلم.

وقد ورد مصطلح العدول عند عبد القاهر الجرجاني (ت: ٤٧١هـ) للدلالة على ترك طريقة في الصياغة إلى أخرى ، أحسن وأفضل في التعبير عن المعنى ، وذلك في سياق حديثه عن الإظهار ، والإضمار ، والدواعي الفنية لكليهما ، وقد أصاب الجرجاني الحقيقة في فهمه هذا للعدول ؛ لأن العدول انحراف في دلالة اللفظ الأصلية تؤثر في إعطاء دلالة أخرى من انتظام اللفظ بالسياق ، إذ تظهر الصورة والدلالة معنى وهو ما يسمى اليوم بـ(شعرية القول) ، وهذا الانحراف في الدلالة يسهم في تحريك التأمل والتفكر ويمنح العقل مجالاً للتدبر في إيحاء الدلالة.

 وقد قال الجرجاني تعليقاً على قول الخريمي :

ولو شِئْتُ أن أبكي دماً لبكيتُهُ ***** عليه ولكن ساحةُ الصبرِ أوْسعُ

فقياس كلام الشاعر لو كان على حدِّ قوله تعالى﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ (الأنعام: من الآية٣٥) ،لو شئتُ لبكيتُ دماً ،ولكنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى هذه ؛ لأنها أليق وأحسن في هذا الكلام ولاسيما ، وسبب حسنه أنه كأنه بدعٌ عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دماً فلما كان الأولى به أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع ويؤنسه به ، لجأ إلى ذلك.

وبعض من القدامى لم يسم (العدول) وإنما سمّوه باسم آخر ، وكان مقصدهم في ذلك (ظاهرة العدول) ؛ لأن بعض المفاهيم تتشابه فيما بينها ، ثم ما تلبث وتأخذ بالتداول بين الناس وتصير لغة قائمة برأسها ، وسنوضح ذلك بشكل مختصر فيما بعد.

لذا سُمي (العدول) بمسميات أخرى ومنها (اللحن ، والغلط ، والتجاوز ، والمخالفة) ، فهذه المصطلحات قريبة جداً من مفهوم العدول ، فما تعريف (اللحن) إلا هو الميل في الكلام إلى نحو من الأنحاء ، والذي تتغير صياغة اللفظة أو الجملة من حال إلى آخر ، فقد ذهب جار الله محمود الزمخشري (ت:٥٣٨هـ) في تفسيره الآية المباركة ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾(محمد:٣٠) إلى ما يُعمق الإحساس بالدلالة الفنية لهذا المصطلح بقوله : " ﴿فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ يعني : في نحوه وأسلوبه ، وقيل : اللحن أن تلحن بكلامك أي تميل إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية ، قال : ولقد لحنتُ لكم لكيما تفقهوا ، واللحن يعرفه ذو الألباب ، وقيل : للمخطئ لاحن ؛ لأنه يعدل بالكلام عن الصواب " ، فلو أنعمنا النظر في كلام الزمخشري نلحظه أشار إلى أن اللحن هو العدول في الكلام الصواب إلى الخطأ ، ويبدو لنا أن سبب العدول في الكلام هو استحسان العربي لذلك ليدل على براعته وقدرته في رفع النمطية عن الجملة ، ولتكسب إيحائية أخرى تكون أليق في الكلام من الأولى.

ولاشك أن ورود هذا المصطلح بالمعنى الأسلوبي عند الزمخشري يؤكد التفطن لظلاله الأسلوبية والتي تستوجب نمطاً إجرائياً متميزاً. ويفهم هذا الأمر من خلال حينما " قيل للمخطئ لاحن ، إن اللحن بمعنى الخطأ معنى طارئ على المعنى الأصلي الذي يقدح الألباب للغوص على المعنى وكشفه ".

نلتمس مما تقدم في مفهوم العدول عند القدامى ، أن العربي اللغوي اصطنع لنفسه نظاماً خاصاً ليضيف على كلامه بعض الجمالية بما يحمله النص من قوةٍ مؤثرة وإيحائية لها أثرها في أذن السامع.

أما المحدثون فلم يخرجوا عمّا تناوله القدامى في مصطلح العدول ، إلا أن أكثرهم سموه (الانزياح) ترجمة لمفهوم أجنبي (Lecart) ويقصد به إبراز سمة الجدة من حيث هو متصور إجرائي طارئ على التأليف في اللغة العربية() ، وقد تعددت تسمياته لدى المحدثون فقد سُمي بـ (الانحراف) لسبتزر ، و (الاختلال) لويلك ، و(المخالفة) لتيري ، و(الشناعة) ليارت ، و(الانتهاك) لكوهن ، و(التحريف) لجماعة مو() ، إلا انه وعلى الرغم من تعدد تسمياته التي أطلقها العلماء فقد استقر مصطلح الانزياح بوصفه وظيفة شعرية في الكلام ، وتتحقق باختيار المتحدث لأداته التعبيرية والشعورية المخزونة في ذاكرته.

المبحث الثاني

العدول والدلالة الإيحائية

إن الذي يستنطق أقوال الإمام علي في نهج البلاغة ، يجد العدول أخذ دوره الفاعل في إنتاج الدلالة الإيحائية ، وهذه الأخيرة لها سطوتها في إقناع المتلقي (السامع) ؛ لأن الدلالة الإيحائية نتاج عمليات الفعل الإبداعي داخل إطار النص ، ومن هنا فأن الدلالة الإيحائية بحد ذاتها دالاً ؛ لأنها معنية بإيصال المعنى كونها " نتاج لما يستوطن النص من أبنية لغوية وصرفية ونحوية وبلاغية بيانية كانت أم معنوية أم بديعية ، فضلاً عن الأفكار التي تسهم في تيسير هذه الصياغة الأدبية ، لأن الإبداع يبدو في خصوصية الصياغة أو الأسلوب الذي يقوم عليه النص ".

لذا تمتاز نصوص الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بأنها من أكثر النصوص العربية إنتاجاً للدلالة الإيحائية ، فإذا تأملت وحدة النص في أقوال الإمام علي(عليه السلام) ، لوجدت الوحدة العضوية مفتاحاً للومضة الدلالية عند المتلقي ، فضلاً عن أن قصدية القول لم تأتِ اعتباطاً وإنما كانت متجلية في وحدة عضوية تكاملت فيها أركان الخطاب ، فانعكس هذا الأمر على الوحدة الموضوعية فظهرت تلك الوحدة بنية متكاملة لتصبح معياراً دلالياً متأسساً على الوحدة العضوية.

فعملية التكوين الإبداعي لنصوص نهج البلاغة مبنيةٌ على تأمل وتدبر وتفكر لدى الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)حينما يريد أن يعالج قضية ما ، فضلاً عن ذلك لوحدة الصراع أي موقف الإمام علي(عليه السلام) من الوجود دور مهم ينعكس على عملية التكوين الإبداعي ،ولهذا تعد نصوص أمير المؤمنين مبنية عن خبرة وتجربة يوظفها الإمام علي(عليه السلام) في نصوصه وصولاً إلى إقناع المتلقي وشد انتباهه ، إذ تطور هذا  الأمر ليصبح كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) ومولى الموحدين مثلاً يُحتذى به ويصلح في كلِّ زمان ومكان ، إذ تتحد وحدة الموضوع مع وحدات الفعل الإبداعي ، الأمر الذي ينعكس على تكثيف النص فيتسامى ويصبح ومضة دلالية إيحائية ؛ لأن تجربة الإمام علي(عليه السلام) ونظرته للواقع مع الاستحضار الذهني الخارقي للكلام ، هو الذي أنتج عبارة لغوية مكثفة مكتنزة بالدال والمدلول معاً ، وكلما تكثفت العبارة كلما كانت الوحدة العضوية لنصوصه هي الومضة الدلالية ، إذ تعد هذه النصوص التي تنتج ومضة دلالية من أكثر النصوص قدرة على احتواء العدول ، وتكوين الدلالة الإيحائية ، إذ تصبح الأخيرة عند إمام المتقين مبنية عن التجربة والدُّربة في القول والمران في التدبر وسعة الاطلاع والموقف من الوجود ، فما ضمّه نهج البلاغة من أقوال والتي احتوت على أسمى معاني البلاغة والفصاحة ، وحسن التأليف التي بلغت أوجها في القوة والحجة ، فكل ذلك يدل على عبقرية هذا العملاق العربي ، فلا يستطيع خطيب أن يحوي في ثنايا كلامه من الدّقة والإبداع في الجوانب التي تناولها الإمام علي(عليه السلام) صياغةً ، وتركيباً ، وتحليلاً ، وتعليلاً ، فنجد اللغة المعبرة ، والمشاعر الراقية ، والأخلاق السامية ، فلا عجب أن نحصل على هذا الشيء من نصوصه ، فمجموع خطبه كانت عن تجربة إنسان خبر الحياة بقلبه الكبير وعقله الراجح ، لذا كان سفره الأدبي بما " يتضمن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه عليه السلام ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ. ومع ذلك فقد سبق وقصروا وقد تقدّم وتأخروا ؛ لأنّ كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي ".

ولو تصفحنا نهج البلاغة لوجدنا إحساس هذا العملاق العربي بما قاله ، أو فكره ، أو تأمله في هدوئه وغضبه ينمُّ عن براعته وقدرته في مسك زمام كلامه ، لذلك كانت لظاهرة العدول في أقواله ولاسيما القصار منها متميزة ومتجسدة بشكلٍ دقيق ومركز دالاً عن عمق المعرفة التي يمتلكها أمير المؤمنين(عليه السلام).

المبحث الثالث

العدول والتكثيف الدِّلالي

حينما تقرأ نصوص نهج البلاغة تلحظ أنك في عالم واقعي قد عشت تجربته التي عاشها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فيجعلك النص تنشد إليه وتستلهم العبر منه ، وحتى يتبين لك الدوافع النفسية المكبوتة في نفس الإمام علي(عليه السلام): ثم الطابع الاجتماعي للكلام والذي طغى على أقواله القصار ، فكأن سفره الأدبي الرائع هو رسالة بين المتكلم والمتلقي لكلِّ زمان ومكان وفي الوقت نفسه ، يخضع لزمن إنتاجه وزمن تلقيه ،وسنوضح بعض الأقوال التي حصل فيها العدول واتسعت بما فيها من تكثيف دلالي.

قال الإمام علي(عليه السلام)  : " اعتصموا بالذمم في أوتادها ".

لذا جاء النص مكتنزاً بطاقته الإيحائية ، ومرتوياً بالدلالة ، فقد توطنت المعاني نصوصه فأفاضت بها ايحائيات اللفظ وحملت معه وظائف الإقناع لدى المتلقي ، فالكثافة الشعرية حضرت بكلِّ مقوماتها و اتكأت جماليات التعبير على معنى دلالي مقنع ، ذاك هو أن الذمة يجب أن تربط في مكانها الصحيح ولا يعطي الإنسان أشياءه الخاصة إلا لمن يكون أهلاً للحفاظ على تلك الأشياء بحيث تكون الذمة في مستقرها الصحيح ، ومما يحمد لتعبير الإمام علي وجود وحدة الموضوع والوحدة الحيوية أي الموقف الشعوري من القائل والمتلقي ، فضلاً عن وحدة الصراع أي الموقف من الوجود ، فالإنسان دائماً بحاجة إلى أن يطمئن على أسراره ، لذلك فالموقف من الوجود واضح هنا إذ عبرت عنه عملية التجسيم ،فجعل الذمة بمقام الدابة ولكي يؤمن عليها يجب أن تكون في منأى عمّا نتعرض له من مخاطر.

فالعدول أوجد طاقة إيحائية تعبيرية حملت وظيفة اقناعية لدى المتلقي وأفصحت عن حال المتكلم في وقت واحد.

فالتكثيف الدلالي مصاحبٌ للعدول في أقوال الإمام علي(عليه السلام)  وكلّما قصرت العبارة يعني أن تكثيفاً دلالياً حصل بأقصى طاقته  ، وأن عدولاً مصاحباً للدلالة الإيحائية قد حصل من جهة أخرى ، وأن إقناعاً واستسلاماً من لدن المتلقي قد رافقه كما هو الحال في قوله (عليه السلام): " التُّقى رئيس الأخلاق " ، فكانت شبكات المعنى في هذا القول على وفق ما حمله بناء النص ، فنجد المسند والمسند إليه المقيّد ، ثم ما كونته الوحدة العضوية من ومضة دلالية. 

أفادت أن القمة تكون للتقي الذي يتسيد هرم الأخلاق  فارتقي هذا التكثيف الدلالي عبر العدول سلم الاقناع حتى جعل الكلام أو القول بمصاف المثل ، إذ يمكن أن يكون هذا المثل لكلِّ زمان أو مكان ولمتلقين مختلفين زمانياً ومكانياً ، بمعنى أن التكثيف الدلالي عبر العدول حقق حجة اقناعية لدى المتلقي كانت الدلالة الإيحائية حاضرة فيه ، فحصل توافق بين العدول والدِّلالة الإيحائية ووظيفة الكلام ، ونجد الإمام علي(عليه السلام)  يهتم في نصوصه بترابط أجزاء القول وهي خصيصة يمتاز بها أسلوبه ، وتتبين أكثر حينما يذهب كلامه إلى الموعظة المتكئة على تكثيف الدلالة المستندة على التجارب الإنسانية بإطار صوري بياني جاذب للسامع ، فالخبرة من تجارب الحياة تحقق موقفاً من الوجود أي ما يحمله المنشئ من نظرة تجاه ذلك الواقع ، فلذلك كلما قصرت العبارة في نهج البلاغة كلما تكاثفت دلالياً وأصبح القول يرتقي إلى مستوى المثل، وهذا منتشرٌ في أقوال الإمام علي(عليه السلام) فهي تصلح أن تكون مثلاً في الوقت الذي تكون مكتنزة بمختلف الدلالات الايحائية والمستويات الفنية ، مثال ذلك قوله (عليه السلام): " سعة الصدر آلة الرياسة" ، وقد حصل في هذه العبارة التي ظهر فيه أسلوب التشبيه البليغ عدولاً مصاحباً التكثيف الدلالي المبني على الخبرة ؛ لأن سعة الصدر هي الفضاء الذي يحتوي الرياسة، وهي الطريق الموصل أيضاً إلى إتقان تلك الرياسة أو عملية تلك الرياسة، وهذا الأمر ينطبق على كلِّ رئيسٍ يستطيع أن يسوس معيته بخبرة ومران وحذق ، فلابدّ من أن تتسع آفاقه وتمرن رؤى نظره على الأشياء ، وفي الوقت نفسه تنفتح فضاءات تفكيره لكي يصل إلى مراد معيته ويكون محتوياً لهم  كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿ولَوْ كنتَ فظّاً غليظَ القلبِ لانفظُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران من الآية ١٥٩) ، فأن الذي حملته الدلالة الإيحائية حقق قصد القول وارتقي بالكلام إلى مستوى المثل.

فالعدول هو مصدر الدلالة الإيحائية وقد وجدناه في نصوص نهج البلاغة مبنياً على القصدية ، التي تخرج من أطواء كلام الإمام علي(عليه السلام)  مقصودة لذاتها متشحة بالحكمة ، والحكمةُ هي مفتاح من مفاتيح الخبرة وهذه الأخيرة هي التي تأخذ القول لأن يكون مثلاً ، وكلما كان النص حاملاً لقصديته كان صادقاً وحاملاً لجمالية متكاملة وهذا نلحظه في السفر العجيب الذي تتساوى فيه الصور الذهنية مع الصور الحسية  بتحقيق وحدة عضوية مترابطة الأجزاء ، الأمر الذي جعلها مثلاً يحتذى به فمثلاً قوله (عليه السلام): " تعطروا بالاستغفار كي لا تفضحكم روائح الذنوب" ، فالعدول هنا تحقق عبر الاستعارة المبنية على الإضافة (روائح الذنوب) وكذلك عبر الاستعارة المكنية في (تعطروا بالاستغفار) (تفضحكم روائح الذنوب)، وهنا نجد من الملفت للنظرإن الإمام علي(عليه السلام)يستعمل العدول بأعلى مراحله عبر أساليب البيان المختلفة، فلا نجد بوناً بين أسلوب بياني وآخر في الوصول إلى إيحائية القول، فسواء كان الأمر في التشبيه أو الاستعارة ؛ لأن الأمرين لا يخرجان في النهاية من أن يكون ذلك الإيحاء الدلالي داخل أطار الوظيفة النفعية لدى المتلقي ، وهذه الوظيفة تحقق أعلى غاياتها عند إقناع المتلقي فليس هناك من متلقٍ لا يخضع فكرياً إلى حقيقة تلك الحجة الاقناعية، بل يسلم لها ويعدها أساً في واقعه الاجتماعي بمعنى إن علاقة بين نصوص الإمام علي(عليه السلام) وواقع الفرد الاجتماعي وهذه الخصيصة تمنح النص ـ فضلاً عن الخصيصتين السابقتين التكثيف الدلالي والمثل – وتمنحه ألتصاقاً بالمتلقي فهي من جانب احتوت على فنية القول ومن جانب آخر حملت وظيفة إرشادية ومن جانب ثالث أسهمت في تعميق أواصر المتلقي بعمل الخير في مجتمعه ، والملاحظ إن الإنسان إذا ركز على قضايا المجتمع ضعفت لديه الفنية بسبب إمعانه في إعمال العقل، لكننا نجد العكس تماماً في نصوص نهج البلاغة فكلما أوغل الإمام علي(عليه السلام)  في إنتاج الكلام المرتبط اجتماعياً فأن ذلك لا يقصر من فنيته ، فمثلاً في قوله (عليه السلام): " الطمع رقٌ مؤبدٌ" فقد تأسس النص على مستوى التشبيه، وضم إليه فنية ورؤية اجتماعية حتى استوى النص مثلاً اجتماعياً.

كما في قوله(عليه السلام)  أيضاً : " كفى بالأجل حارساً " ففي هذه العبارة التي ظهرت فيها الاستعارة المكنية طريقاً موصلاً إلى الدلالة ، وقد أسهمت في إعطاء المعني لوحدة عضوية لا تقبل الانفصام ، إذ ساعدت الاستعارة على شد بناء النص المعتمد على الجملة الفعلية المتصلة بالماضي ، فتولد التكثيف الدلالي الذي ساعد هو الآخر على إيضاح وحدة الموضوع ، وهذا الأمر المستند على التجربة أفضى إلى حقيقة أن الأجل حارس الإنسان معه، وهذا تعبيرٌ بياني معتمد على الصورة الاستعارية ساعد على وجود نواة وهي الوحدة العضوية التي شعت بطاقتها الإيحائية وبأقصى دلالاتها ، فكانت الدلالة الإيحائية هي الوحدة الموضوعية التي استندت على التكثيف الدلالي الذي اعتمده الإمام علي .

إذن حقق العدول في نصوص نهج البلاغة دلالةً إيحائية كانت اطاراً لضم الاعتبارات التي أشرنا إليها في النص وهذه الخصائص التعبيرية في أقوال نهج البلاغة تنبئ عن قدرة معرفية بأنظمة السياق ، فثمة سياق ظاهري ومعنى تولّد بتقنية عقلية وأدبية معاً وهذا الأمر لا يقوى إلا من خبر مكامن القول وسلك سبله وسبر أغواره وعرف بأحوال النفس الإنسانية، وتثقف بخبرات الحياة، هكذا كانت أقوال الإمام علي تتسم بهذه الخصائص فكان كلامه قريباً من النفس مقنعاً محمولاً بفنية عالية فأصبح بموجبها العدول توأماً للوظيفة الاقناعية لدى المتلقي، وبذلك أرتقى مستوى الدلالة الإيحائية إلى الفهم والإفهام.

خلاصة البحث ونتائجه

بعد أن أرسى البحث رحلته القصيرة في تلك الرحاب الثرة لأقوال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة ، نقف وقفة استرجاع وتقرير لتلك الشذرات التي استقطبناها من هذا البحث لنقول بالنتائج التي توصلنا إليها وهي :

  • تجلى لنا أن العدول قد أخذ دوره الفاعل في إنتاج الدلالة الإيحائية ، وهذه الأخيرة لها سطوتها في إقناع المتلقي (السامع) ؛ لأن الدلالة الإيحائية ما هي إلا نتاج عمليات الفعل الإبداعي داخل أطار النص ، ومن هنا فأن الدلالة الإيحائية بحد ذاتها دالاً ، لأنها معنية بإيصال المعنى.
  • وجدنا أن الإمام علي(عليه السلام)  في سفره الأدبي الرائع قد عدل من صيغة إلى أخرى ومن تركيب إلى آخر ، وكان غرضه على وفق فنية واقعية تمثلت به ورسمت ملامح أدائه الإبداعي الخاص في تكوين النص.
  • ظهر من خلال البحث أن لظاهرة العدول تكثيفاً دلالياً ولاسيما في المفردات اللغوية التي منحت معنى الكلام دقة ورصانة وقوة ، وهذا يدل عن مدى قدرة الإمام علي في مسك زمام كلامه ، وكل قول قد قاله يعبر عن التجربة الخالدة التي عاشها أمير المؤمنين (عليه السلام).
  • ووجدنا أن هناك دوافع نفسية لهذه الأقوال ، إذ تلحظ حينما تقرأ أو تسمع أقوال الإمام علي(عليه السلام)  أن هناك رسالة بين المتكلم والمتلقي ، تبين الطابع الاجتماعي للكلام ، وهذا كله يخضع لزمن إنتاجه وزمن تلقيه ، كما يخضع لمكان إنتاجه وتلقيه أيضاً.
  • توصلنا إلى أن العدول هو مصدرٌ الدلالة الإيحائية وهو مبنيٌّ في نصوص نهج البلاغة على القصدية التي تخرج من اطواء كلام الإمام علي(عليه السلام) مقصودة لذاتها ومتشحة بالحكمة التي هي مفتاحٌ من مفاتيح الخبرة.
  • سارت أقوال الإمام علي(عليه السلام)  مسار المثل ، فضلاً عن الخصيصتين اللتين تميزت بهما وهما التكثيف الدلالي ومخاطبة الواقع الاجتماعي.

والحمد لله رب العالمين

****************************