الدكتور عباس علي الفحام
لا ريب في أن البحث في هذا الموضوع واسع وشائك فضلا عن الكتابة فيه بمقال يكاد لا يصل إلى بدايات شواطئه ،ولكن لا بأس من مساس نقطة معينة تكون مرتكزا لهذه الأسرار،وسنجعل من بعض التساؤلات منطلق المحاولة في هذا الكشف، فمتى يمكن للأديب أن يبدع ؟ وكيف يتميز على الرغم من أن اللغة موروث مشترك ؟
ببساطة تتركز مادة الإبداع اللغوي في ثلاثة عناصر لا انفصال بينها البتة هي : المعاني والألفاظ وأدوات التأثير اللغوية ، ومن حسن الإجادة في تركيب هذه العناصر يتميز الكلام المبدع عن الكلام الاعتيادي فيغدوفنا .
من هذا المدخل ، ما حصة الإمام علي(ع) من هذا الإبداع ؟ وكيف تمكن من الفرادة عن غيره من أبناء زمانه ، على الرغم من امتلاكهم لكثير من نواصي اللغة بخاصة وهم في لباب الفطرة السليمة للغة ، أين يكمن السر ؟
كان أكثر ما انماز به الإمام في كلامه هوحضور النص القرآني في ذهنه وقدرته على اجتلاب صوره وتمثل معانيه ، وليس ذلك بالأمر الهين اليسير ، لأن المعاني القرآنية جديدة كل الجدة على العقلية العربية والثقافة السائدة وقتذاك مثل موضوع الذات المقدسة وصفاتها وقضايا المعاد والثواب والعقاب والعالم الآخر والجنة والنار وقضايا التشريع الأخرى ، ولست أشك في أنها تشغل ذهن المتكلم الذي ينشد الفن والتأثير لأنها ليست ذائبة في نفسه ولا يستطيع تمثلها بالنفس القرآني ذاته ،ولأنه لا يزال بعد منشدا إلى الثقافة الجاهلية القديمة والتي هي بالوقت نفسه ليست ببعيدة العهد عنه ، فمشكلة الأديب في عصر النبوة وما تلاه أنه أراد تأدية المعاني الإسلامية الجديدة تأدية فنية بالموروثات اللغوية الجاهلية ذاتها التي أجاد بها في الطلل وبكاء الحبيبة والتغني بالبطولة والحماسة ، وهنا كمن سر إخفاق الأديب العربي في هذه المدة من عمر الإبداع اللغوي غير المتناسب وعظمة التأثير القرآني ، وهنا أيضا بان سر عظيم من القدرة الإبداعية المتميزة لكلام أمير المؤمنين عليه السلام .
لم يستطع الأديب العربي في عصر النبوة شاعرا أوناثرا أن يصل بالفن الأدبي إلى مستوى يبذ به العصر الذي سبقه أويساويه على الأقل بسبب عدم القدرة على تمثل التعبير القرآني صياغة ودلالة ، وأعني به عدم اقتفاء البناء اللغوي المتكامل للنص القرآني القائم على نظام من العلاقات التركيبية التي تعمقت فيها الدلالة بوسائط لغوية انمزج فيها الصوت بالصورة من غير أن يسمى شعرا .
وإذا كنا نلتمس للأديب العربي المنشئ بعض العذر في كون الدعوة الجديدة بكل مفاهيمها العظيمة لازالت بكرا على العقل العربي ، وأنها لابد أن تصدم الثقافة العربية بشيء من الذهول أوالتوقف لاستيعاب هذا البناء اللغوي المعجز وهضمه وتمثله – أقول إذا كنا نلتمس له العذر في كل ذلك – فما التبرير لأن ينكفئ الأدب مرة أخرى ويعود جاهليا بأشد مما كانت عليه الجاهلية ذاتها في العصر الأموي فتكثر الوقفات الجاهلية وأسماء مواضع الطلل ورحلات الصيد الموغلة بالابتعاد عن لغة القرآن متناسين عمدا أوسهوا اللغة الجديدة التي نزل بها القرآن الكريم والتي كان يمكن لوأمعن النقاد والشعراء معا في الوقوف عليها واحتذائها ولفت الانتباه إليها ابتكار معلقات إسلامية ـ إذا صح الكلام ـ في عصر صدر الإسلام وما بعده بدلا من تقليد الموروث الجاهلي بأشد مما عليه الجاهليون أنفسهم ، لأن الفرصة كانت مواتية والفطرة السليمة لازالت بكرا في فهم النص القرآني المعجز والاقتداء به وحل رموز علاقاته التركيبية ، يقول الأستاذ المرحوم طه أحمد إبراهيم :(( ولوأنهم تمعنوه لوجدوا فيه أساليب من القول ، وضروبا من الفن الأدبي ، كان يسيرا عليهم أن يحتذوها . في القرآن مثلا الأسلوب القصصي ، وتاريخ الأقدمين ، وقصص الأنبياء ، وتلك أمور تزيد في روحية الأدب وتمد الشعراء بالأخيلة والإلهام ))([١])، وكان يمكن أن يكون النص القرآني مثالهم للانفلات من أسر تقليد النص الجاهلي ،
لذلك لم نر أديبا في العصر النبوي وما تلاه أجاد في المعاني الإسلامية الجديدة إجادة الأديب الجاهلي لمعانيه، لأنه لا يمكن التعبير فنيا عن المعنى الإسلامي الجديد بلغة الجاهلية القديمة، فعليه التخلي عن الثقافة اللغوية الموروثة القديمة والانصهار في الثقافة القرآنية الجديدة ، فقد وفرت الصياغات القرآنية زخما عاليا من الثراء اللغوي وكان على الأديب في عصر النبوة التنبه إليه واقتفاء أثره واستثماره بشكل كلي وليس الوقوف عند حد اقتباس اللفظة أوالجملة من القرآن .
بلى ، كان التأثير الحقيقي للإبداع اللغوي القرآني المعجز في الكلام العربي يتمثل في النبي الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وابن عمه علي بن أبي طالب (ع) في الخطابة والإيجاز بشهادة كل الدارسين للبلاغة العربية ، وكلامهما ـ لاشك ـ أرفع من صفة الأدباء ، لذلك كانت خطب الرسول(ص) ـ على الرغم من قلة ما وصل إلينا منها ـ وأحاديثه وابتكاره لأوضاع تركيبية جديدة في الكلام العربي([٢]) وخطب الإمام علي ورسائله وأقواله العلامة الفارقة في جبين الأدب العربي فكان أن انتظمت شروحا مميزة ينتهل منها الأدباء قديما وحديثا مثل كتاب ( المجازات النبوية ) مثلا للحديث النبوي الشريف ، و( نهج البلاغة ) الذي جمع فيه الشريف الرضي مختارات من كلام الإمام علي (ع) وهما مثل للمصنفات القديمة ، وكتاب (الإعجاز القرآني والبلاغة النبوية) للرافعي مثلا للمصنفات الحديثة .
وكل ذلك تأتى من فهم طبيعة اللغة القرآنية التي يدركها العربي بفطرته ولكنه لا يحسن التعبير عنها لجدة مضامينها ولأن عليه الانصهار بروح القرآن والذوبان في مضامينه لتغدواللغة حينئذ صورة سريعة للمعنى فلا ينشغل الذهن في أدائه ولا يكد في استجلاب الألفاظ المناسبة لتجليته .
ولـذلك كـان الإمام علـي (ع) أول من عالج فن الخطابة معالجة الأديب ، وأول من أضفى عليـها صبغة الإنشاء الذي يقتدى به في الأساليب كما يقول العقاد .
لقد كان الأثر الحقيقي المبكر للقرآن في الكلام العربي على لسان علي (ع) فما وصلنا من كلامه المجموع في ( نهج البلاغة ) يعد من أظهر تجليات الأثر القرآني في الأدب العربي لسبب واضح هوأن المعاني الإسلامية ذائبة في نفس علي (ع) وهي بعد جديدة على غيره فقد كان (( مما انعم الله على علي بن أبي طالب (ع) أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام )) ([٣]) ، إذ رباه الرسول (ص) بعد أن مست الضراء بيت أبيه أبي طالب إثر القحط الذي ضرب قريشا ، فاستخلصه النبي(ص) لنفسه وكانت تلك بداية علاقة الإمام(ع) بالقرآن لأنه كان لا يفارق ابن عمه حتى في تأملاته في غار حراء، وقد صور الإمام علي (ع) نفسه هذه المرحـلة من حياته مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال من خطبة له : (( ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ ، فَأَرَاهُ ولَا يَرَاهُ غَيْرِي ، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ ،غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ (ص) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا ،أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّة )) ([٤]) . لهذا نشأ الإمام (ع) حافظا للقرآن واعيا لآياته يعرف باطنها مثلما يعرف ظاهرها وهوما أكده النبي(ص) بأحاديثه في فضل علي(ع) ([٥]) .
قال ابن أبي الحديد (ت٦٥٦هـ): (( وقد اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد الرسول صلى الله عليه وآله ولم يكن غيره يحفظه، ثم هوأول من جمعه ))([٦]).
إذن فقد كان النص القرآني حاضرا في ذهن الإمام يستدعيه من ذاكرته كيفما يشاء فكان قوله وسلوكه تعبيرا حقيقيا عن روح القرآن ولغته ، وكان يسعى إلى وجوب إحلال هذه الثقافة في النفوس واستبدال البناء اللغوي الجاهلي بآخر جديد معجز في بنائه حتى في المعاني التي كان العربي يعتقد أن الشعر الموروث وحده القادر على التعبير عنها والإجادة فيها مثل التعبير عن الطلل وعبر الذكريات ، فقد جاء في كتاب ( وقعة صفين ) أن الإمام عليا (ع) لما سار بجيشه إلى صفين مر بمدينة بهرسير ([٧]) ، وإذا رجل من أصحابه يقال له حر بن سهم بن طريف من بني ربيعة بن مالك ينظر إلى آثار كسرى ويتمثل بقول الشاعر الجاهلي الأسود بن يعفر ([٨]) :
جرت الرياح على محل ديارهم ***** فكأنهم كانوا على ميعاد
فقال له (ع) :(( أفلا قلت : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ *وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ }([٩]) إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا مورثين ، ولم يشكروا النعمة ، فسلبوا دنياهم بالمعصية ، إياكم وكفر النعم لا تحل بكم النقم ، انزلوا بهذه النجوة )) ([١٠]) .
وعلى الرغم من أن الإمام(ع) إنما نهى عن ذكر هذا الشاعر خاصة لأنه من كبار شعراء قريش الذين عارضوا الإسلام وأعلنوا وثنيتهم كما في قوله([١١]) :
أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيــى ***** وكيف حياة أصداء وهام
ألا من مبلغ الرحمــــــن عني ***** بأني تارك شهـر الصيام
فقل لله يمنعنــي شرابــــــــي ***** وقل لله يمنعنــــي طعامي
بيد أن التطابق الجديد بين الأداء والمضمون على أروع ما تكون صورته ، فهذا التخير للشاهد القرآني في مثل هذه المعاني لم يألفه العربي من قبل وربما لم يتصور أن غير الشعر يمكن أن يؤثر فيه ، ولا ريب في أن إيرادها يعد تطبيقا حيا ينقل النظرية إلى التطبيق ويوحي بوجوب الإفادة من الوقوف على آثار الماضين وهوكله ينبئ عن ذوبان الإمام (ع) في القرآن ، ولذلك نجد في كلامه (ع) ما يشبه الإحجام عن ثقافة الشعر الجاهلي فليس في كلامه ظلالها ، فهومقل على كثرة خطبه ورسائله من الاستشهاد بالشعر الجاهلي ، وإن تمثل ببيت منه فهويتخيره من الحكم التي تجري أمثالا سائرة ، ولا يمكن تفسير قلة تمثل الإمام (ع) بالشعر الجاهلي بعدم معرفته به أوخلوحافظته منه ، بل يدل استشهاده وتخيره لأبيات منه على دراية واسعة بمضامينه ومناسباتها وقائليها ، وهذا التخير يعني أنه يحفظه ويحسن استثماره في كلامه ، ولكنه لم يتأثر به أسلوبا ولم يتبع صياغاته أويستعر صوره ولم يتفق معه إلا من خلال الأبيات التي تجري مجرى المثل السائر ، فجل عدد الأبيات التي تمثل بها في كلامه الواصل إلينا في ( نهج البلاغة ) أثنا عشر بيتا أكثرها من أنصاف الأبيات([١٢]) .
أليس ذلك دليلا على عدم تأثره بالأدب الجاهلي على علو كعبه ؟ .
وماذا يصنع علي (ع) بأدب لا يمس قيمه ولا يمثل الفكر الذي آمن به ؟ ، ولا يعني ذلك غضا من شأن الشعر الجاهلي ولكنه (ع) متأثر بشكل كلي بأدب القرآن وصوره وأساليبه ، ومن(( قصد البحر استقل السواقيا )) كما يقول المتنبي .
إذن الإمام (ع) انبعث في سلوكه من ثقافة قرآنية وعاها وذاب في معانيها فجسدها في عمله مثلما جرت على لسانه بيانا وإبداعا ، لأن لغة الإمام تطابق صادق بين الإيمان والعمل وبين المعنى والأداء اللفظي ، وهذا سر بلاغته وتفرده عن أبناء عصره .