لبيب بيضون
الشورى الاجماع على الخلافة
قال الامام علي (ع):
في الخطبة الشقشقية: حتّى إذا مضى (أي عمر) لسبيله، جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيا للّه وللشّورى. متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم، حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر (يقصد بالجماعة الستة وهم: علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص). لكنّي أسففت إذ أسفّوا وطرت إذ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن. (الخطبة ٣، ٤١)
أيّها النّاس، إنّ أحقّ النّاس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر اللّه فيه. فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل. ولعمري، لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى يحضرها عامّة النّاس، فما إلى ذلك سبيل. ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشّاهد أن يرجع، ولا للغائب أن يختار. (الخطبة ١٧١، ٣٠٨)
ومن كتاب له (ع) الى معاوية:... وإنّما الشّورى للمهاجرين والأنصار. فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماما كان ذلك للّه رضا. فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أوبدعة ردّوه إلى ما خرج منه. فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين. وولاّه اللّه ما تولّى. (الخطبة ٢٤٥، ٤٤٦)
وقال (ع) واعجباه أن تكون الخلافة بالصّحابة ولا تكون بالصّحابة والقرابة؟. قال الشريف الرضي: وروي له شعر في هذا المعنى (يخاطب به أبا بكر).
فإن كنت بالشّورى ملكت أمورهم ***** فكيف بهذا والمشيرون غيّب
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم ***** فغيرك أولى بالنّبيّ وأقرب (١٦٠ ح، ٦٠١)
الامام علي والخلافة
الخطبة الشقشقية
من خطبة للامام علي (ع) وهي المعروفة بالشّقشقية، وتشمل على الشكوى من أمر الخلافة والخلفاء، يقول فيها:
أما واللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى. ينحدر عنّي السّيل، ولا يرقى إليّ الطّير. فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا (كناية عن الجوع، أي أنه عليه السلام مال عن الخلافة. وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء (أي مقطوعة وهوكناية عن عدم القدرة)، أوأصبر على طخية (أي ظلمة) عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصّغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه (يقصد بذلك الفترة ما بين وفاة النبي (ص) وتولي الامام (ع) الخلافة، وهي المدة التي تذرع فيها الامام بالصبر. وقد كانت من طولها بحيث يشيب فيها من كان صغيرا...) فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى (أي أقرب الى العقل). فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا.
حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده (ثم تمثل بقول الاعشى):
شتّان ما يومي على كورها ***** ويوم حيّان أخي جابر
(أي ما أبعد الشبه بين الحالة التي استلم فيها عمر الخلافة، وقد كان كل شيء مستتبا على ما يرام، وبين الحالة التي تسلم فيها الامام علي الخلافة، وقد انتقض الامر فيها عروة عروة، فمسؤوليات الامام علي تجاه الوضع لا تقارن بعمر).
فيا عجبا بينا هويستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته (أي أن من كان يطلب الاقالة من الخلافة وهوأبوبكر لقوله: أقيلوني فلست بخيركم، ليس يجدر به أن يجعل الخلافة لشخص آخر ويلزم الناس بخلافته من بعده، بل كان الاجدر به أن يترك الامر شورى). لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (أي ان الخليفة الاول والثاني اجتمعا على امر الخلافة كالمجتمعين على ضرعي ناقة، ينال كل واحد منهما ضرعا بالتساوي).
فصيّرها (أي أبوبكر) في حوزة خشناء (أي عمر بن الخطاب، وهذا بيان لما كان عليه من القسوة التي تجور على العدل) يغلظ كلمها، ويخشن مسّها (أي اذا مسها شخص تؤذيه وتضره، واذا جرحته كان جرحها غليظا أي عميقا) ويكثر العثار فيها والإعتذار منها (هذه حال من تصعب معاملته، فالمرء يتعثر كثيرا في السير معه، وهولشدة جهله كلما أخطأ اعتذر) فصاحبها (أي الخلافة) كراكب الصّعبة (أي الناقة غير الذلول) إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم (أي لا يجد طريقة في تسيير هذه الناقة، لا بأن يشد لها الزمام ولا بأن يرخيه). فمني النّاس لعمر اللّه (أي أصيبوا)، بخبط وشماس، وتلوّن واعتراض (صفات سيئة للناقة الشموس التي لا تسير على طريق مستقيم). فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة.
حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيا للّه وللشّورى متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم، حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر لكنّي أسففت إذ أسفّوا (أسفّ الطائر: دنا من الارض)، وطرت إذ طاروا (يريد بذلك عدم مخالفته لهم). فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن.
توضيح قصة الشورى:
(فأما الذي صغى لضغنه فهوطلحة، وانما مال الى عثمان لعداوته لعلي «ع»، باعتبار أنه تيمي وابن عم أبي بكر، فتحرك في نفسه الضغن الذي بين تيم وهاشم لأجل الخلافة.
وأما الذي مال الى صهره فهوعبد الرحمن بن عوف كان صهرا لعثمان. ومجمل قصة الشورى أنه بعد وفاة عمر اجتمع الصحابة الستة الذين عينهم عمر وهم: علي بن أبي طالب «ع» وعثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف. وتشاوروا في امر الخلافة فاختلفوا، فوهب طلحة حقه في الشورى لعثمان، حيث تحرك ضغنه على بني هاشم، وأعطى الزبير حقه لعلي (ع) لقرابته من علي (ع) فهوابن عمته صفية، وأعطى سعد حقه لابن عمه عبد الرحمن لأنهما من قبيلة زهرة. لكن عبد الرحمن ما لبث أن أخرج نفسه من الخلافة لعلمه بأن قبيلته زهرة لا ترقى الى الخلافة.
فبقى في الحلبة علي (ع) وعثمان. ولما كان عمر قد أعطى عبد الرحمن حق الفصل في حال تعادل الاصوات، توجه عبد الرحمن بن عوف الى الامام علي (ع) وقال له: أمدد يدك أبايعك على كتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فقال (ع): بل أبايع على كتاب اللّه وسنة رسوله ومبلغ علمي واجتهادي. فتحول عبد الرحمن الى صهره عثمان، فبايعه عثمان على ما يريد، وانتهت قصة الشورى، بين فلان يميل لبغضه من فلان، وفلان يميل الى قرابته من فلان. ثم يطلقون عليها اسم الشورى، والشورى منها براء، وانما هي شورى الهنات والخصومات والمصالح والغايات).
إلى أن قام ثالث القوم نافجا حصنيئه بين نثيله ومعتلفه (النثيل: الروث، والمعنى أن همه الأكل). وقام معه بنوأبيه (أي بني أمية) يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الرّبيع.
إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته (أي أهلكه جشعه واسرافه في الشبع).
فما راعني إلاّ والنّاس كعرف الضّبع إليّ، ينثالون عليّ من كلّ جانب، حتّى لقد وطيء الحسنان (أي الحسن والحسين عليهما السلام)، وشقّ عطفاي. مجتمعين حولي كربيضة الغنم (كناية عن ازدحام الناس الذين تواردوا لمبايعة الامام علي عليه السلام). فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة (أي أصحاب الجمل وعلى رأسهم طلحة والزبير وعائشة) ومرقت أخرى (أي أصحاب النهروان وهم الخوارج) وقسط آخرون (أي اصحاب صفين وهم أهل الشام وعلى رأسهم معاوية وعمروبن العاص، والقسط هوالفسوق والخروج عن الطاعة). كأنّهم لم يسمعوا اللّه سبحانه يقول تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُريدُونَ عُلُوُّاً فِي الأَرْضِ ولاَ فَسَاداً والعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بلى واللّه، لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها (أي زينتها). أما والّذي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود النّاصر أي ان اجتماع الانصار حول الامام عليه السلام هوحجة عليه في أن يقوم بالامر، مما لم يحصل له عند وفاة النبي «ص»، وما أخذ اللّه على العلماء، أن لا يقارّوا (أي لا يوافقوا مقرّين) على كظّة ظالم (الكظة: الثقل الناتج عن تخمة الطعام) ولا سغب مظلوم (السغب: شدة الجوع)،لألقيت حبلها (أي حبل الخلافة) على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها،ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (أي عطسة عنزة وهي ليست بذات قيمة).
قالوا: وقام الى الامام (ع) رجل من أهل السواد عند بلوغه الى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتابا (قيل أن فيه مسائل كان يريد الاجابة عنها)، فأقبل (ع) ينظر فيه (فلما فرغ من قراءته) قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين، لواطّردت خطبتك من حيث افضيت.
فقال: هيهات يا ابن عبّاس تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت (الشّقشقة ما يخرجه البعير من فمه اذا هاج، ولذلك سميت هذه الخطبة بالشقشقية). (الخطبة ٣، ٣٩)
من خطبة له (ع) لما قبض الرسول (ص) وخاطبه العباس وأبوسفيان في أن يبايعا له بالخلافة (وذلك بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في السقيفة)، يقول «ع»: أيّها النّاس:
شقّوا أمواج الفتن بسفن النّجاة، وعرّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة.
أفلح من نهض بجناح (أي بناصر)، أواستسلم فأراح. هذا (أي الخلافة) ماء آجن، ولقمة يغصّ بها آكلها. ومجتني الثّمرة لغير وقت ايناعها كالزّارع بغير أرضه.
فإن أقل يقولوا: حرص على الملك. وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت. هيهات بعد اللّتيّا والّتي، واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه. بل اندمجت على مكنون علم لوبحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية (أي الحبال) في الطّويّ البعيدة (أي الآبار العميقة). (الخطبة ٥، ٤٧)
لما انتهت الى أمير المؤمنين (ع) انباء سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة رسول اللّه (ص).
قال (ع): ما قالت الانصار؟ قالوا: قالت: منا أمير ومنكم أمير. قال (ع): فهلاّ احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وصّى بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؟ قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟
فقال (ع): لوكانت الإمامة فيهم لم تكن الوصيّة بهم. ثم قال (ع): فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. فقال عليه السلام: احتجّوا بالشّجرة، وأضاعوا الثّمرة «يريد بالثمرة آل بيت النبي (ص)». (الخطبة ٦٥، ١٢٢)
من كلام له (ع) لما عزموا على بيعة عثمان:
لقد علمتم أنّي أحقّ النّاس بها من غيري، وواللّه لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة، التماسا لأجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه. (الخطبة ٧٢، ١٢٩)
وقال (ع) لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وانتم أحق به. فقال: يا أخا بني أسد، إنّك لقلق الوضين (الوضين: الحبل الذي يشد به الرحل على ظهر الدابة الى تحت بطنها، وهوكناية عن الاضطراب في الكلام). ترسل في غير سدد، ولك بعد ذمامة الصّهر وحقّ المسألة، وقد استعلمت فاعلم: أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا، والأشدّون برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نوطا (أي تعلقا)، فإنّها كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين. والحكم اللّه، والمعود إليه القيامة.
ودع عنك نهبا صيح في حجراته وهلمّ (أي اذكر) الخطب في ابن أبي سفيان. فلقد أضحكني الدّهر بعد إبكائه.
ولا غروواللّه، فيا له خطبا يستفرغ العجب، ويكثر الأود حاول القوم إطفاء نور اللّه من مصباحه، وسدّ فوّاره من ينبوعه، وجدحوا (أي خلطوا) بيني وبينهم شربا وبيئا. فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى، أحملهم من الحقّ على محضه. وإن تكن الأخرى فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، إنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. (الخطبة ١٦٠، ٢٨٧)
وقد قال قائل: إنّك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص. فقلت: بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد، وأنّا أخصّ وأقرب. وإنّما طلبت حقّا لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه. فلمّا قرّعته بالحجّة في الملأ الحاضرين هبّ (أي صاح كالتيس) كأنّه بهت لا يدري ما يجيبني به اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش ومن أعانهم. فإنّهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هولي. ثمّ قالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحقّ أن تتركه. (الخطبة ١٧٠، ٣٠٦)
قال (ع) لمعاوية: وزعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت وعلى كلّهم بغيت. فإن يكن ذلك كذلك، فليست الجناية عليك، فيكون العذر إليك. وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وقلت: إنّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش (أي في أنفه خشبة يقاد منها) حتّى أبايع. ولعمر اللّه لقد أردت أن تذمّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما، ما لم يكن شاكّا في دينه، ولا مرتابا بيقينه وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها (أي أن معاوية ليس له حق في الخلافة أصلا، فاحتجاج الامام ليس موجه له) ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها.
ثمّ ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان... وما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا (أي بدعا) فإن كان الذّنب إليه إرشادي وهدايتي له، فربّ ملوم لا ذنب له. وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح وما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت. وما توفيقي إلاّ باللّه، عليه توكّلت وإليه أنيب. (الخطبة ٢٦٧، ٤٧٠)
من كتاب له (ع) الى أهل مصر، مع مالك الاشتر لما ولاه امارتها: أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نذيرا للعالمين، ومهيمنا على المرسلين. فلمّا مضى عليه السّلام تنازع المسلمون الأمر من بعده. فواللّه ما كان يلقى في روعي (أي قلبي) ولا يخطر ببالي، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن أهل بيته، ولا أنّهم منحّوه عنّي من بعده فما راعني إلاّ انثيال النّاس على فلان (أي انصبابهم على ابي بكر) يبايعونه. فأمسكت يدي، حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام (يقصد بهم أهل الردة كمسيلمة الكذاب وسجاح وطليحة بن خويلد(، يدعون إلى محق دين محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أوهدما، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب، أوكما يتقشّع السّحاب. فنهضت في تلك الأحداث، حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه. (الخطبة ٣٠١، ٥٤٧)
نقد الامام للخلفاء الذين سبقوه
لا ينكر أن الامام (ع) انتقد الخلفاء السابقين له، ولكن نقده لم يكن نقدا عاطفيا، وانما كان نقدا منطقيا، وهذا هوالذي يمنحه أهمية عظمى. وينقسم هذا النقد في نهج البلاغة الى قسمين:
قسم عام: يشتمل على توجّده من الخلفاء لاغتصابهم حقه القطعي المسلّم به.
قسم خاص: يشتمل على نقده لشخصية كل خليفة وبيان نقاط ضعفه.
نقد أبي بكر الصديق
تركز نقد الامام علي (ع) للخليفة الاول على ثلاثة أمور:
الاول: انه أخذ الخلافة وهويعلم أن الامام (ع) أولى بها منه ومن غيره. يقول (ع): «أما واللّه لقد تقمّصها (ابن أبي قحافة)، وإنّه ليعلم محلّي منها محلّ القطب من الرّحى».
الثاني: كان أبوبكر كثيرا ما يطلب إقالته من الخلافة لشعوره بأنه غير أهل لها، ومن ذلك قوله الصريح: «أقيلوني أقيلوني، فلست بخيركم».
فكيف بمن كان يقرّ بعدم أهليته للخلافة، يجوز له أن يعين أيضا غيره للخلافة.
الثالث: أنكر الخليفة الاول أن يكون النبي (ص) قد أوصى بالخلافة لأحد، وزعم أنه تركها شورى بين المسلمين. لكنه ما لبث أن ضرب بالشورى عرض الحائط، حين أوصى بالخلافة لشخص معين. فكأن الشورى عنده وسيلة للوصول الى الغاية، ينفيها حيث يريد، ويثبتها حيث يشاء.
نقد عمر بن الخطاب
وأما الخليفة الثاني فان الامام (ع) ينتقده اضافة لما سبق من غصبه حقه في الخلافة، في ثلاثة أمور:
ألاول: خشونته المفرطة، وهوفي ذلك عكس أبي بكر. وفي المثل: «درة عمر أهيب من سيف الحجاج». وقد ضرب بها أم فروة أخت أبي بكر لأنها ناحت عليه.
الثاني: أنه كان يفتي بالحكم ثم ينقضه ويفتي بخلافه. حتى قال: «من أراد أن يتقحّم جراثيم جهنّم فليقل في الجد برأيه». ومسألة الجد هي مسألة في الارث عرضت له عدة مرات في خلافته، فأفتى كل مرة فيها بخلاف الاخرى. واذا ما تسنى له الرجوع الى الامام علي فيكتشف خطأه كان يقول: «لولا عليّ لهلك عمر».
الثالث: أنه جعل نفسه وصيا على الامة الاسلامية، ضاربا عرض الحائط بمبدأ الشورى، الذي تمسك به في السقيفة. ثم هويعطي نفسه صلاحيات ليست له، فحين طعن عيّن ستة من الصحابة ذكر أنهم الوحيدون الذين توفي النبي (ص) وهوراض عنهم، وحين دعاهم بيّن رأيه في كل واحد منهم وأنه غير أهل للخلافة. فمن الذي أعطاه الحق في حصر الخلافة في أفراد معدودين يمدحهم تارة ويذمهم تارة أخرى؟
وحتى هذه اللحظة وعمر لم يقرّ للامام علي (ع) بأهليته للخلافة، ولا بأفضليته على الستة، وإلا لعينه من بعده خليفة دونما حاجة الى هذه الشورى التي لعبت فيها الاهواء والمصالح، وكان نتيجة ذلك ما كان من فتن.
وفي هذا الصدد يرد الامام (ع) على عمر بلهجة حادة حيث يقول: «فيا للّه وللشّورى، متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم، حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر«. فحق الامام (ع) مقدم على الخليفة الاول أصلا، فكيف بهؤلاء الخمسة؟.
أما ما ورد في الخطبة (٢٢٦) من كلمات فيها ثناء على شخص مكنى عنه بكلمة (فلان) فقد اختلف الشرّاح في المراد بهذا الرجل، وقال كثير منهم أنه (عمر بن الخطاب).
ومن هذا الكلام قوله: للّه بلاء فلان، فلقد قوّم الأود، وداوى العمد، وأقام السّنّة، وخلّف الفتنة ذهب نقيّ الثّوب، قليل العيب....
قال الطبري: لما مات عمر بكته النساء، فقالت ابنة ابي حثمة: «واعمراه أقام الأود، وأبرأ العمد. أمات الفتن، وأحيا السّنن. خرج نقيّ الثوب، بريئا من العيب».
قال الطبري: روى صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة، قال: لما دفن عمر، أتيت عليا (ع) وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئا. فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل، وهو ملتحف بثوب، لا يشك أن الامر يصير اليه فقال: رحم اللّه ابن الخطاب لقد صدقت ابنة أبي حثمة: «ذهب بخيرها ونجا من شرّها أما واللّه ما قالت ولكن قوّلت».
فالظاهر مما سبق أن هذه الكلمات ليست من إنشاء الامام (ع) وانما رددها على لسانه لغاية معينة. فيكون الشريف الرضي قد توهم في نسبتها اليه.
نقد عثمان بن عفان
أما عثمان بن عفان فقد جاء ذكره في نهج البلاغة أكثر من سابقيه. وقد توجه اليه الامام (ع) بعدة انتقادات أساسية، منها أنه كان ضعيف الارادة، يقنعه الامام (ع) بالحق، فلا يلبث أن يدخل عليه مروان بن الحكم فيقنعه بخلاف ذلك. ثم ان بطانته الفاسدة ألحقت به أضرارا كبيرة.
والمتحصل من كلام الامام (ع) في النهج أنه كان له نقد شديد على سيرة عثمان، فلذلك فهويرى أن الثوار الذين قاموا عليه كانوا على حق. ولكنه مع ذلك كان يرى أن قتله وهوخليفة بيد الثوار مما لا يتفق مع المصالح العامة للاسلام والمسلمين.
ولقد نصحه الامام (ع) كثيرا وحذره من عواقب الامور، فلم يفلح. وكان أمله الوحيد أن تتحقق المطالب المشروعة للثوار المسلمين، دون سفك دماء. ولذلك فقد نقد (ع) الطرفين المتنازعين فقال: «استأثر فأساء الأثرة وجزعتم فأسأتم الجزع».
وفي حين كان الامام (ع) في موقف حرج بين عثمان وأعدائه، كان عثمان يتهم الامام (ع) بممالأة الثوار ضده. وكان يقف منه موقفا مترددا. فتارة يطلب من الامام (ع) الجلاء عن المدينة الى عين ماء له ب (ينبع) بحجة أن وجوده يزيد في هياج الثوار، ثم لا يلبث أن يبعث اليه بالقدوم لعلمه بأنه الوحيد الذي يستطيع أن يفيده بتهدئة الثوار ضده. ولقد تألم الامام (ع) كثيرا من هذه التصرفات حتى قال لابن عمه: «يا ابن عبّاس ما يريد عثمان إلاّ أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب. أقبل وأدبر بعث إليّ أن أخرج، ثمّ بعث إليّ أن أقدم، ثمّ هوالآن يبعث إليّ أن أخرج واللّه لقد دفعت عنه حتّى خشيت أن أكون آثما».
ابو بكر الصديق وخلافته
قال الامام علي (ع):
في الخطبة الشقشقية: أما واللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى. ينحدر عنّي السّيل ولا يرقى إليّ الطّير... حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده.. فيا عجبا بينا هويستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (أي أخذ كل واحد منهما ضرعا من الخلافة، أي اقتسماها بالتساوي)... حتّى إذا مضى لسبيله (أي عمر) جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيا للّه وللشّورى، متّى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم (أي أبي بكر) حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر. (الخطبة ٣، ٣٩)
ومن كلام له (ع) في أمر البيعة، وفيه يعرّض بخلافة ابي بكر: لم تكن بيعتكم إيّاي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا. إنّي أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم. أيّها النّاس، أعينوني على أنفسكم. وأيم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظّالم بخزامته، حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارها. (الخطبة ١٣٤، ٢٤٧)
وقال (ع) يخاطب عثمان: وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطّاب بأولى بعمل الحقّ منك، وأنت أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وشيجة رحم منهما. وقد نلت من صهره ما لم ينالا. (الخطبة ١٦٢، ٢٩١)
ومن كتاب له (ع) الى معاوية جوابا: وزعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان وفلان، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه، وإن نقص لم يلحقك ثلمه. (الخطبة ٢٦٧، ٤٦٧)
ومن كتاب الى واليه على البصرة عثمان بن حنيف يشير فيه الى اغتصاب (فدك) منه: بلى كانت في أيدينا فدك، من كلّ ما أظلّته السّماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم اللّه. (الخطبة ٢٨٤، ٥٠٦)
أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا (ص) نذيرا للعالمين ومهيمنا على المرسلين. فلمّا مضى صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، تنازع المسلمون الأمر من بعده. فواللّه ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده (ص) عن أهل بيته، ولا أنّهم منحّوه عنّي من بعده فما راعني إلاّ انثيال النّاس على (فلان)
يبايعونه، فأمسكت يدي (أي امتنعت عن مبايعته) حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام.(الخطبة ٣٠١، ٥٤٧)
عمر بن الخطاب وخلافته
قال الامام علي (ع):
في الخطبة الشقشقية: حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى (ابن الخطاب) بعده... فيا عجبا بينا هويستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها فصيّرها في حوزة خشناء، يغلظ كلامها، ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها. فصاحبها كراكب الصّعبة (أي الناقة غير الذلول)، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم (أي لا يستطيع راكب هذه الناقة، لا ان يشد حبل لجامها فيخرم أنفها، ولا أن يرخي لها الحبل فترميه في الهلكة). فمني النّاس لعمر اللّه، بخبط وشماس، وتلوّن وإعتراض.. حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيا للّه وللشّورى متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم، حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر. (الخطبة ٣، ٤٠)
ومن كلام له (ع) وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج الى غزوالروم بنفسه:
إنّك متى تسر إلى هذا العدوبنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة (أي عاصمة يلجؤون اليها) دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه. فابعث إليهم رجلا محربا، واحفز معه أهل البلاء والنّصيحة. فإن أظهر اللّه فذاك ما تحبّ، وإن تكن الأخرى كنت ردءا للنّاس، ومثابة للمسلمين. (الخطبة ١٣٢، ٢٤٦)
ومن كلام له (ع) وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه: إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة. وهودين اللّه الّذي أظهره، وجنده الّذي أعدّه وأمدّه، حتّى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع. ونحن على موعود من اللّه. واللّه منجز وعده، وناصر جنده. ومكان القيّم بالأمر مكان النّظام (أي السلك) من الخرز، يجمعه ويضمّه. فان انقطع النّظام تفرّق الخرز وذهب، ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا. والعرب اليوم وإن كانوا قليلا، فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالإجتماع. فكن قطبا، واستدر الرّحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب فإنّك إن شخصت من هذه الأرض، انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك، وطمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإنّ اللّه سبحانه، هوأكره لمسيرهم منك، وهوأقدر على تغيير ما يكره. وأمّا ما ذكرت من عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنّما كنّا نقاتل بالنّصر والمعونة. (الخطبة ١٤٤، ٢٥٧)
وقال (ع) يخاطب عثمان: وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطّاب بأولى بعمل الحقّ منك، وأنت أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وشيجة رحم منهما. وقد نلت من صهره ما لم ينالا. (الخطبة ١٦٢، ٢٩١)
للّه بلاء فلان (يريد عمر بن الخطاب) فلقد قوّم الأود (أي الاعوجاج)، وداوى العمد، وأقام السّنّة، وخلّف الفتنة ذهب نقيّ الثّوب، قليل العيب. أصاب خيرها، وسبق شرّها. أدّى إلى اللّه طاعته، واتّقاه بحقّه. رحل وتركهم في طرق متشعّبة، لا يهتدي بها الضّالّ، ولا يستيقن المهتدي. (الخطبة ٢٢٦، ٤٣٠)
وروي انه ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حلي الكعبة وكثرته، فقال قوم: لوأخذته فجهزت به جيوش المسلمين لكان أعظم للاجر، وما تصنع الكعبة بالحلي؟ فهمّ عمر بذلك، وسأل أمير المؤمنين علي (ع) فقال عليه السلام: إنّ القرآن أنزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، والأموال أربعة... وكان حلي الكعبة فيها يومئذ، فتركه اللّه على حاله. ولم يتركه نسيانا، ولم يخف عليه مكانا. فأقرّه حيث أقرّه اللّه ورسوله. فقال له عمر: لولاك لافتضحنا. وترك الحلي بحاله. (٢٧٠ ح، ٦٢٠)
عثمان بن عفان وخلافته
قال الامام علي (ع):
في الخطبة الشقشقية: إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه، بين نثيله ومعتلفه. وقام معه بنوأبيه (أي بنوأمية)، يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الرّبيع. إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته. (الخطبة ٣، ٤٢)
وقال (ع) فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان: واللّه لووجدته تزوّج به النّساء، وملك به الإماء، لرددته، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق. (الخطبة ١٥، ٥٥)
وقال (ع) عن عثمان: وأنا جامع لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة. (الخطبة ٣٠، ٨٤)
وقال (ع) يصف حاله في خلافة عثمان: فقمت بالأمر (أي الامر بالمعروف) حين فشلوا، وتطلّعت حين تقبّعوا، ونطقت حين تعتعوا، ومضيت بنور اللّه حين وقفوا. وكنت أخفضهم صوتا وأعلاهم فوتا، فطرت بعنانها واستبددت برهانها. (الخطبة ٣٧، ٩٥)
إنّه قد كان على الأمّة وال أحدث أحداثا، وأوجد للنّاس مقالا، فقالوا: ثمّ نقموا فغيّروا. (الخطبة ٤٣، ١٠١)
من كلام له (ع) لأبي ذر لما أخرجه عثمان الى الربذة: يا أبا ذرّ، إنّك غضبت للّه، فارج من غضبت له. إنّ القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في إيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه. فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عمّا منعوك وستعلم من الرّابح غدا، والأكثر حسّدا. ولوأنّ السّموات
والأرضين كانتا على عبد رتقا، ثمّ اتّقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا. لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل. فلوقبلت دنياهم لأحبّوك، ولوقرضت منها لأمّنوك. (الخطبة ١٢٨، ٢٤١)
وقال (ع) لما اجتمع الناس اليه وشكوا ما نقموه على عثمان، وسألوه مخاطبته عنهم واستعتابه لهم، فدخل عليه فقال: إنّ النّاس ورائي وقد استسفروني بينك وبينهم (أي جعلوني سفيرا).
وواللّه ما أدري ما أقول لك؟ ما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه. إنّك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه. وقد رأيت كما رأينا وسمعت كما سمعنا. وصحبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كما صحبنا.
وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطّاب بأولى بعمل الحقّ منك. وأنت أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وشيجة رحم منهما. وقد نلت من صهره ما لم ينالا. فاللّه اللّه في نفسك فإنّك واللّه ما تبصّر من عمى،
ولا تعلّم من جهل. وإنّ الطّرق لواضحة، وإنّ أعلام الدّين لقائمة.
فاعلم أنّ أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل، هدي وهدى. فأقام سنّة معلومة وأمات بدعة مجهولة. وإنّ السّنن لنيّرة، لها أعلام. وإنّ البدع لظاهرة لها أعلام. وإنّ شرّ النّاس عند اللّه إمام جائر ضلّ وضلّ به. فأمات سنّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة.
وإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول: «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في نار جهنّم، فيدور فيها كما تدور الرّحى، ثمّ يرتبط في قعرها». وإنّي أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأمّة المقتول فإنّه كان يقال: يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويبثّ الفتن فيها، فلا يبصرون الحقّ من الباطل. يموجون فيها موجا، ويمرجون فيها مرجا. فلا تكوننّ لمروان سيّقة، يسوقك حيث شاء، بعد جلال السّنّ وتقضّي العمر. فقال له عثمان رضي اللّه عنه: كلّم الناس في أن يؤجّلوني، حتّى أخرج إليهم من مظالمهم. فقال عليه السّلام: ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه. (الخطبة ١٦٢، ٢٩١)
من كلام قاله (ع) لعبد اللّه بن عبّاس، وقد بعث عثمان معه رسالة يطلب فيها من الإمام علي (ع) ان يغادر المدينة، ليقل هتف الناس باسمه للخلافة. قال «ع»: يا بن عبّاس، ما يريد عثمان إلاّ أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب (أي كالجمل الذي يخرج الماء بالدلوالكبيرة): أقبل وأدبر. بعث إليّ أن أخرج، ثمّ بعث إليّ أن أقدم، ثمّ هوالآن يبعث إليّ أن أخرج واللّه لقد دفعت عنه حتّى خشيت أن أكون آثما. (الخطبة ٢٣٨، ٤٤٠)
دور معاوية في مقتل عثمان
مدخل:
كان معاوية والي عثمان على الشام، وكانت تجمعه مع عثمان القرابة الاموية. بيد أن الخصومة بين أبناء العم على المنصب واردة، لا سيما من شخص كمعاوية ليس له من هدف في الحياة غير المادة. وكان يبيح لنفسه للوصول الى ذلك كل وسيلة.
وقد كان معاوية يرى أن مقتل عثمان يفيده في أمرين:
أولا: يفتح له المجال للوصول الى الخلافة.
ثانيا: يتهم عليا (ع) بدمه فيكون ذلك ذريعة له لحربه والتخلص منه.
والحقيقة ان معاوية أجرى بدهائه حلفا سريا مع صديقه عثمان، بأنه يحميه اذا ما تعرض الى أي خطر، مقابل تركه على ولاية الشام.. وحين ثارت ثائرة الثوار على عثمان، وجاؤوا من مصر الى المدينة وأحاطوا ببيته، بعث الى معاوية يطلب منه تنفيذ الاتفاق السري. فبعث معاوية جيشا الى المدينة، وأوصاهم بعدم دخولها إلاّ حين يبلغهم مقتل عثمان. فعسكر جيش معاوية في ظاهر المدينة يتربص الاخبار، حتى اذا علم بذبح عثمان، دخل المدينة مدّعيا تأخره في الوصول لنجدة الخليفة المظلوم.
وهذا يفسر لنا لماذا كان عثمان يتعفف عن قبول نصرة الامام علي (ع) حين عرضها عليه للدفاع عنه، لكنه (ع) رغم ذلك بعث بابنيه الحسن والحسين (ع) ليكونا في صفوف الحامية التي وقفت تدافع على بابه. فقد كان عثمان ينتظر نجدة معاوية، متأكدا من قدرتها على حمايته في الوقت المناسب، ولكن خانه الحظ ممن نصب له فخ الغدر والهلاك.
يظهر من هذا أن معاوية كان من أكبر عوامل مقتل عثمان. لكنه حتى يزيح التهمة والشك عن نفسه، قام يلصق تهمة القتل بالامام علي (ع) ويصمه بعد توليه الخلافة بعدم ملاحقة قتلة عثمان، علما بأن معاوية حين استتب له الحكم لم يفعل ذلك.
النصوص:
قال الامام علي (ع):
في رده على كتاب لمعاوية يتهمه فيه باشتراكه في مقتل عثمان، فيجيبه (ع): ثمّ ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه. فأيّنا كان أعدى له، وأهدى إلى مقاتله: أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه؟ أم من استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه، حتّى أتى قدره عليه؟. كلاّ واللّه ل قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوّقينَ مِنْكُمْ والْقَائلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا، ولاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلاَّ قَليلاً.
وما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذّنب إليه إرشادي وهدايتي له، فربّ ملوم لا ذنب له. «وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح» وما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلاّ باللّه، عليه توكّلت وإليه أنيب. (الخطبة ٢٦٧، ٤٧٠)
ومن كتاب له (ع) الى معاوية: فسبحان اللّه ما أشدّ لزومك للأهواء المبتدعة، والحيرة المتعبة، مع تضييع الحقائق واطّراح الوثائق، الّتي هي للّه طلبة، وعلى عباده حجّة. فأمّا إكثارك الحجاج على عثمان وقتلته، فإنّك إنّما نصرت عثمان حيث كان النّصر لك (أي حيث كان الانتصار له فائدة لك) وخذلته حيث كان النّصر له (أي خذلته حيث كان النصر يفيده) والسّلام. (الخطبة ٢٧٦، ٤٩٥)
يتبع ......