علي (علیه السلام) في ساحة الوحدة
فلمّا لحق رسول الله (صلی الله علیه وآله) إلی الرفیق الأعلی أقام قوم أمراً کان الله قضاه ورسوله أبرمه. کما قال أمیر المؤمنین:
«أَمَّا الِاسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ وَنَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً وَالْأَشَدُّونَ بِالرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله) نَوْطاً فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ وَالْحَكَمُ اللَّهُ، وَالْمَعْوَدُ إِلَيْهِ الْقِيَامَةُ»[١].
لمّا انتهت إلی أمیرالمؤمنین (علیه السلام) أنباء السّقیفة بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، قال (علیه السلام): ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منّا امیر ومنکم أمیر؛ قال (علیه السلام):
«فَهَلاَّ اِحْتَجَجْتُمْ عَلَیْهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ (صلی الله علیه وآله وسلم) وَصَّى بِأَنْ یُحْسَنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ وَ یُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِیئِهِمْ؟».
قالوا: وما في هذا من الحجّة علیهم؟ فقال (علیه السلام):
«لو کانت الإمامَةُ فیهم لَم تَکُن الوصیّة بهم».
ثمّ قال (علیه السلام): «فماذا قالت قریش؟».
قالوا: احتجّت بأنّها شجرة الرسول، (صلی الله علیه وآله وسلم).
فقال (علیه السلام): «احْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ وأَضَاعُوا الثَّمَرَةَ»[٢].
بعد أن تمت البیعة في السقیفة لأبي بکر، خاطبه العبّاس وأبو سفیان بن حرب في أن یبایعا له بالخلافة، خطب وقال: «أَيُّها النَّاسُ، شُقُّوا أَمْوَاجَ الفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ، وَعَرِّجُوا عَنْ طَريقِ الـمُنَافَرَةِ، وَضَعُوا تِيجَانَ الـمُفَاخَرَةِ. أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاح، أوِ اسْتَسْلَمَ فَأَراحَ، هذا مَاءٌ آجِنٌ، وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا، وَمُجْتَنِي الَّثمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كالزَّارعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ.
فَإِنْ أقُلْ يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى الـمُلْكِ، وَإنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا: جَزعَ مِنَ المَوْتِ! هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي! وَاللهِ لاَبْنُ أَبي طَالِب آنَسُ بالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْم لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الاَْرْشِيَةِ في الطَّوِيِّ البَعِيدَةِ!»[٣].
قام الإمام (علیه السلام) بعد الرسول (صلی الله علیه وآله)، لحفظ وحدة المسلمین، واطمینان الدّین: «فِي الْعَيْنِ قَذىً، وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا»، وحقّه مغتصب، کما یکتب (علیه السلام) في کتاب إلی أهل مصر:
أمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم)، نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَ مُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ. فَلَمَّا مَضَى ( عليه السلام ) تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ. فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي، وَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ ( صلى الله عليه وآله وسلم)، عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَ لَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ! فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً؛ تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ؛ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَ زَهَقَ، وَ اطْمَأَنَّ الدِّينُ وَ تَنَهْنَهَ»[٤].
أبعدوا الإمام عن حقّه، ولکنّ الإمام بقي وثبت في ساحة المجتمع الإسلامي، بایع الخلفاء، وکان لهم مشیراً أمیناً وهادیاً إلی الرشد ولصالح المجتمع الإسلامي؛ شاوره عمر بن الخطّاب في الخروج إلی غزو الروم بنفسه منعه وقال له:
«إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ، فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ، لاَ تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَانِفَةٌ دُونَ أَقْصَى بِلاَدِهِمْ. لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلاً مِحْرَباً، وَاحْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ الْبَلاَءِ وَالنَّصِيحَةِ، فَإِنْ أَظْهَرَ اللهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ، وَإِنْ تَكُنِ الأخْرَى، كُنْتَ رِدْءاً للنَّاسِ وَمَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ»[٥].
وهکذا کان مشیراَ أمیناً لعثمان بن عفّان، ولکن عثمان اختار جمیع ولاته وعمّاله وأیادیه ومشاوریه من أقربائه من بني أمیة، وهم یمقتون علي بن أبي طالب وکانوا یقولون لعثمان: إنّ علیاً ینافسک في السلطان وما یقوله للنّاس فهو لصالح نفسه؛ ویحسب عثمان أنّهم صدقوا وکان یظنّ عليّاً ظنّ السوء؛ ولکنّ بعد أن نقم النّاس علی عثمان واجتمعوا في المدينة وعظم أمرهم، نهض علي لاصلاح أمر الأمّة ونصح عثمان کرارً وبالغ في النصیحة، وخاف أن تنشر الفتن العمیاء في الأمّة، وتشتعل نار الفوضویة، وحذّر عثمان من أعمال تدفعه إلی موقف لا مردّ له، وبیّن دواء دائه، والطریق الّذي سلك کي ترضی عنه الأمّة؛ وعثمان کان یتقبل في کلّ مرّة ولکن بعد إعلان رأیه لمروان کان یدفعه لنکث العهد والرجوع إلی موقفه الأوّل. وقال (علیه السلام) له:
«إِنَّ النَّاسَ وَرَائي، وَقَدِ اسْتَسْفَرُوني بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ، وَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَمْر لاَ تَعْرِفُهُ. إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ، مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْء فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ... وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَلاَ ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْكَ... فَاللهَ اللهَ فِي نَفْسِكَ! فَإِنَّكَ ـ وَاللهِ ـ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمىً، وَلاَ تُعَلّمُ مِنْ جَهْل، وَإِنَّ الْطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ، وَإِنَّ أَعْلاَمَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ... وَإِني أَنْشُدُكَ اللهَ ألا تَكُونَ إِمَامَ هذِهِ الأمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: يُقْتَلُ فِي هذِهِ الأمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلى يَوْمِ الْقُيَامَةِ، وَيَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا، وَيَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا، فَلاَ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ؛ يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً، وَيَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً. فَلاَ تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلاَلَ السِّنِّ وَتَقَضِّي الْعُمُرِ ...»[٦].
یقصّ الإمام (علیه السلام) ما جری علیه في هذه الفترة ویقول:
«وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ!
فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً، وَفي الحَلْقِ شَجاً»[٧].
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْش ومن أعانهم: فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَأُوا إِنَائِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وَقَالُوا: أَلاَ إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً، أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً. فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي؛ فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذى، وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الغَيْظِ عَلى أَمَرَّ مِنَ العَلْقَمِ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ خَزِّ الشِّفَارِ»[٨].
فسایرهم الإمام إلی غایة الحقّ، معتصماً بحبل الله لکي لا ینتهي الأمر إلی الفرقة واختلاف الکلمة، ولکنّهم ساروا إلی غایتهم وفعلوا ما فعلوا. یقول الإمام للشّوری:
«فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الِْمحْنَةِ؛ حَتَّى إِذا مَضَى لِسَبِيلِهِ[٩] جَعَلَهَا[١٠] في جَمَاعَة زَعَمَ أَنَّي أَحَدُهُمْ، فَيَاللهِ وَلِلشُّورَى! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الاَْوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هذِهِ النَّظَائِرِ! لكِنِّي أَسفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْا طَارُوا، فَصَغَا رَجُلُ مِنْهُمْ لِضِغْنِه، وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرهِ، مَعَ هَن وَهَن...»[١١].
وقال لاعضاء الشّوری حجّةً علیهم وتحذیراً من العاقبة:
«لَنْ يُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَى دَعْوَةِ حَقٍّ، وَصِلَةِ رَحِم، وَعَائِدَةِ كَرَم؛ فَاسْمَعُوا قَوْلي وَعُوا مَنْطِقِي؛ عَسَى أَنْ تَرَوْا هذَا الأمْرَ مِنْ بَعْدِ هذَا الْيَوْمِ تُنْتَضَى فِيهِ السُّيُوفُ، وَتُخَانُ فِيهِ الْعُهُودُ، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُكُمْ أَئِمَّةً لأهْلِ الضَّلاَلَةِ، وَشِيعَةً لأهْلِ الْجَهَالَةِ»[١٢].
وموقف الإمام في هذا کلّه، موقف الإرشاد واتمام الحجّة وبیان الحقّ! والإعلام والتفهیم للعامّة:
«وَقد قَالَ قَائِلٌ: إِنَّكَ عَلَى هذَا الاَْمْرِ يابْنَ أبِي طَالِب لَحَرِيصٌ؛ فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتُمْ وَاللهِ، لأحْرَصُ وَأَبْعَدُ، وَأَنَا أَخَصُّ وَأَقْرَبُ، وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي، وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَتَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ. فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي الْملاءِ الْحَاضِرِينَ هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لاَ يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ!»[١٣].
صبر الإمام واستقام علی طول المدة الّتي کانت کأنّها دهر طویل وأمد بعید، لأن لا ینتکت فیها فتل الأمّة، وحبل النظام، ولکنّ بني أمیّة عزموا علی هدم بیت الإسلام، وأن یتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً، إنّ ما دفع الإمام إلی أيّ سکون وأيّ حرکة هو نظام الإسلام واصلاح أمر الأمّة فحسب.
کان للإمام من تقوی الله بصیرة أن یری ما یأتي علی الأمّة الإسلامیة جلیّاً؛ یکتب إلی أهل مصر سبب اتّخاذ الموقف:
«وَإِنِّي إِلَى لِقَاءِ اللهِ لَمُشْتَاقٌ، وَحُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاج؛ وَلكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هذِهِ الأمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَفُجَّارُهَا؛ فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللهِ دُوَلاً، وَعِبَادَهُ خَوَلاً، وَالصَّالِحِينَ حَرْباً، وَالْفَاسِقِينَ حِزْباً»[١٤].
اتخذ سفهاء بني أمیّة وفجّارها مال الله دولاً وعباد الله خوَلاً، ولکنّ الناس استیقظوا وتنبّهوا من الغفلة، وأثاروهم عمّال عثمان ودفعوهم إلی أعمال فیها خسارات عظیمة وکسر عظم الأمّة لا یجبر. وقال:
«إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ نَافِجَاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللهِ خَضْمَة الإبِل نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ!»[١٥].
جمع أمیر المؤمنین أمر عثمان في کلمتین:
«اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الأثَرَةَ، وَجَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الجَزَعَ. وَللهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ في المُسْتَأْثِرِ وَالجَازعِ»[١٦].
وبعد هذا الجزع انتبهوا من الغفلة، ووجدوا سبیلاً ترکوه منذ خمس وعشرین سنة، فهاجموا إلیه، واستدعوه أن یأخذ زمام أمر الأمة، ولکنّ الإمام رفض دعوتهم وقال: «دَعُوني وَالْـتَمِسُوا غَيْرِي؛ فإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ؛ لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْـمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ! وَاعْلَمُوا أَنِّي إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ؛ وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!»[١٧].
ولکنّ النّاس الحوا وأصرّوا ولن یرضوا أحداً لتولیة الأمر، وأجابهم الإمام بالقبول لأمرین:
«أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ؛ وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لاََلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلاََلفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز»[١٨].
ویقول في وصف بیعته بالخلافة في کتاب أو کلام:
«وَبَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا، وَمَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا، ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكَّ الاِْبِلِ الْهِيمِ عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، حَتَّى انْقَطَعَتِ النَّعْلُ، وَسَقَطَ الرِّدَاءُ، وَوُطِىءَ الضَّعِيفُ، وَبَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّايَ أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِيرُ، وَهَدَجَ إِلَيْهَا الْكَبِيرُ، وَتَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِيلُ، وَحَسَرَتْ إِلَيْهَا الْكِعَابُ»[١٩].
وهذا کان إقبال العامّة والّذین ماکان یربطهم إلی الدنیا وزبرجها حبّ المال أو الرّیاسة او غیرهما؛ ولکنّ الخاصّة اندفعت وراء الناس وطفت علی أمواج الناس إلی الإمام، وبایعوه کراهةً، ولکن اضمروا کراهتهم وما اظهروه لیوم ما، اعتناماً للفرصة لکي یصلوا بسبب تظارهم هذا إلی الغایة، فلمّا رأوا أنّ عليّاً ما کان الّذي طمحوا وتوقعوا، ما استقاموا علی بیعتهم وساروا إلی وصول هدفهم وحفظ مصالحهم:
«فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وَقسط آخَرُونَ؛ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَاِ للَّذِينَ لاَ يُريدُونَ عُلُوّاً في الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) بَلَى! وَاللهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتَ الدُّنْيَا في أَعْيُنِهمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا!»[٢٠].
عليّ (علیه السلام) في ساحة العدالة
بعد ما قام الإمام بأمر الولایة فرح المستضعفون من النّاس وحذر الّذين یأکلون أموال النّاس دولاً ویأخذون عبادالله خولاً، ویطمعون أن یحتفظوا بما کان في أیدیهم، ولکنّ الإمام صرّح بأنّه لن یبقی علی شیءٍ ما کان في الزمن الماضي. خطب لمّا بویع بالمدینة وتحدث عن الظروف الاجتماعیة الراهنة، وطرق علاجها.
«ذِمَّتي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ، وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ:
إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ العِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ المَثُلاتِ، حَجَزَهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ.
أَلاَ وَإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلّم).
وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ، لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ القِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ، وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ، وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا!»[٢١].
وأعلن فیما ردّه علی المسلمین من قطائع عثمان:
«وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الإمَاءُ لَرَدَدْتُهُ! فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!»[٢٢].
الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في عصر رسول الله وزهدوا عن الدنیا، مالوا إلی الدنیا فلمّا مالت إلیهم في زمن الخلیفة الثّاني لکثرة الغنائم وتقسیمها علیهم أثرةً، بعد ما کان تقسیمها أسوة في زمني رسول الله وخلیفته الأوّل أبي بکر، ثمَّ غرقوا في الترف وغرّتهم الدّنیا بثروتها وقدرتها وراقم زبرجها في زمن عثمان بن عفّان، فطمع الطلحة والزبیر الشرکة في أمر الخلافة والتمتع ممّا کانا متمتعان بما سبق، ولکنّ الإمام لا یعرف لهما ولأيّ مسلم أو إنسان آخر میزّة او أثرة أبداً. فلمّا قال له طلحة والزبیر: «نبایعك علی أنا شرکاؤک في هذا الأمر» قال (علیه السلام):
«لاَ، وَلكِنَّكُمَا شَرِيكَانِ فِي الْقُّوَّةَ وَالإسْتَعَانَةِ، وَعَوْنَانِ عَلَى الْعَجْزِ وَالأوَدِ»[٢٣].
فلمّا عتبا علیه من ترك مشورتهما، والاستعانة في الأمور بهما، وعدم تفضیلهما في العطاء، قال (علیه السلام) لهما:
«وَاللهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلاَفَةِ رَغْبَةٌ، وَلاَ فِي الْوِلاَيَةِ إِرْبَةٌ، وَلكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا، وَحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَمَا وَضَعَ لَنَا، وَأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ، وَمَا استسنَّ ]اسْتَسَنَّ[ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَاقْتَدَيْتُهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا، وَلاَ رَأْيِ غَيْرِكُمَا، وَلاَ وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ، فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَوْ كَانَ ذلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا، وَلاَ عَنْ غَيْرِكُمَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الأسْوَةِ ، فَإِنَّ ذلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي وَلاَ وَلِيتُهُ هَوىً مِنِّي، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأَنْتُما مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلّم)، قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيَما قَدْ فَرَغَ اللهُ مِنْ قَسْمِهِ، وَأَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ؛ فَلَيْسَ لَكُمَا، وَاللهِ، عِنْدِي وَلاَ لِغَيْرِكُمَا فِي هذَا عُتْبَى . أَخَذَ اللهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وَإِيَّاكُمْ الصَّبْرَ»[٢٤].
فلمّا رأیا أن لا یستطیعا مسایرة أمیرالمؤمنین وحمله علی قبول رأیهما في قسم المال علی سنتي عمر وعثمان وإشرکهما في الأمر، استأذنا في العمرة، فأذن لهما، فلحقا بمکة.
وعائشة خرجت إلی مکّة وعثمان محصورٌ، «ولما انتهت إلی سرف راجعة في طریقها إلی مکّة، لقیها عبد بن أمّ کلاب، فقالت: له: مَهیم؟ قال: قتلوا عثمان عنه فمکثوا ثمانیاً؛ قالت: ثمّ صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدینة بالاجتماع، فجازت بهم الأمور إلی خیر مجاز؛ اجتمعوا علی عليّ بن أبی طالب. فقالت: والله لیت أنّ هذه ]السماء[ انطبقت إلی هذه ]الأرض[ إن تمّ الأمر لصاحبك! رُدُّوني رُدُّوني. فانصرفت إلی مکّة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبنّ بدمه. فقال لها ابن أم کلاب: ولم؟ فوالله إنَّ اول من أمال حرفه لأنت! ولقد کنت تقولین: اقتلوا نعثلاً فقد کفر؛ قالت: إنهم استتابوه ثمّ قَتَلوه، وقد قلتُ وقالوا، وقولي الأخیر خیرٌ من قولي الأوّل»[٢٥].
حرب الجمل
فبینا الإمام واصحابه کانوا یهیّؤون لحرب معاویة وأهل الشام إذ جاء الخبر عن أهل مکّة بسیر عائشة وطلحة والزبیر وجماعة من بني أمیه والعثمانیّین نحو البصرة، فقام أمیرالمؤمنین فیهم وقال:
«إنَّ هؤُلاَءِ قَدْ تَمَالؤوا عَلَى سَخْطَةِ إمَارَتِى، وَسَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَى جَمَاعَتِكُمْ؛ فَإنَّهُمْ إنْ تَمَّمُوا عَلَى فَيَالَةِ هذَا الرَّأْي انْقَطَعَ نِظَامُ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإنَّمَا طَلَبُوا هذِهِ الدُّنْيَا حَسَداً لِمَنْ أَفَاءَهَا اللهُ عَلَيْهِ، فَأَرَادُوا رَدَّ الاُْمُورِ عَلَى أَدْبَارِهَا. وَلَكُمْ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِكِتَابِ اللهِ تعالی وَسِيرَةِ رَسُول الله (صلّی الله علیه وآله)، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَالْنَّعْشُ لِسُنَّتِهِ»[٢٦].
یصف الإمام (علیه السلام) سیرهم إلی البصرة وأعمالهم فیها:
«فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، كَمَا تُجَرُّ الأمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا، مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَحَبَسَا نِسَاءَ هُمَا فِي بُيُوتِهِمَا، وَأَبْرَزَا حَبِيس رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا، فِي جَيْش مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَقَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ، وَسَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ، طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَه، فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا وَخُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً، وَطَائِفَةً غَدْراً. فَوَاللهِ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ رَجُلاً وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ، بِلاَ جُرْم جَرَّهُ، لَحَلَّ لي قَتْلُ ذلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ، إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا، وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَان وَلاَ بيَد؛ دَعْ مَا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ!»[٢٧].
وخرج الإمام من المدینة إلی البصرة مع عدّة قلیلة لکي یفیئهم إلی الطاعة ویصرفهم عن إیجاد الفرقة والخلاف بین المسلمین، «فأمر علی المدینة تمام بن العبّاس، وبعث إلی مکَة قُثم بن العباس... فاستبان له بالربذة أن قد فاتوه»[٢٨]، وأشیر علیه بألا یتبع طلحة والزبیر ولا یرصد لهما القتال، فأجاب (علیه السلام):
«وَاللهِ لاَ أَكُونُ كالضَّبُعِ: تَنَامُ عَلى طُولِ اللَّدْمِ، حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا، وَيَخْتِلَهَا رَاصِدُها؛ وَلكِنِّي أَضْرِبُ بِالمُقْبِلِ إِلَى الحَقِّ المُدْبِرَ عَنْهُ، وَبِالسَّامِعِ المُطِيعِ العَاصِيَ المُريبَ أَبَداً، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي فَوَاللهِ مَا زِلتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي، مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ، مُنْذُ قَبَضَ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلّم) حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ هذَا»[٢٩].
کتب الامام (علیه السلام) کتباً من الربذة إلی أهل الکوفة وإلی سایر البلاد واعلمهم بما جری فی المدینة من قتل عثمان بن عفان وبیعته بعده، ونکث بیعته من طلحة والزبیر وخروجهما وخروج عایشة، ودعوهم إلی نصرته. وخرج أمیرالمؤمنین في أهل المدینة وأهل الکوفة «ورایة عليّ مع ابنه محمد بن الحنفیّة، وعلی میمنته الحسن، وعلی میسرته الحسین، وعلی الخیل عمّار بن یاسر، وعلی الرّجالة محمد بن أبی بکر، وعلی المقدمة عبدالله بن العباس. فالتقوا بموضع قصر عبیدالله بن زیاد، في النّصف من جمادي الآخرة یوم الخمیس. وکانت الوقعة یوم الجمعة»[٣٠].
أرسل أمیرالمؤمنین إلی طلحة والزبیر أن یردّهما عن الحرب، لقي الإمام الزّبیر ونبّهه بأمر انصرف الزبیر منه.
وقتل طلحة في الواقعة، وقتل من الجیشین ناسٌ کثیر، وکانت عائشة في هودج علی جمل. فلمّا رآها أصحاب الجمل، استمرّ القتال حتی عقروا أصحاب عليّ الجمل. ونادی منادي عليّ یوم الجمل یقول: «لا یُسلبن قتیل، ولا يُتبع مدبر، ولا یجهز علی جریح»[٣١].
«فجهز علي عایشة باحسن الجهاز وبعث معها أربعین امرأة ـ وقال بعضهم: سبعین امرأة ـ حتی قدمت المدینة»[٣٢].
فلمّا انتهت الحرب دخل الإمام (علیه السلام) البصرة وقال:
«كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ، وَأَتْبَاعَ البَهِيمَةِ، رَغَا فَأَجَبْتُم، وَعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ. أَخْلاَقُكُمْ دِقَاقٌ، وَعَهْدُكُمْ شِقَاقٌ، وَدِيْنُكُمْ نِفَاقٌ، وَمَاؤُكُمْ زُعَاقٌ، وَالمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ، وَالشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمة مِنْ رَبِّهِ»[٣٣].
علي (علیه السلام) في الکوفة
قالوا: ولما بایع علي أهل البصرة؛ أراد الشخوص إلی الکوفة؛ فاستخلف عبدالله بن العبّاس علی البصرة؛ وخطب فأمر أهلها بالسمع والطاعة له، وضمّ إلیه زیاد بن أبي سفیان کاتباًف وکان یقال له یومئذ: زیاد بن عبید، وسار مع علي وجوه أهل البصرة فشیعوه إلی موقوع، وهو موضع قریب من البصرة، منه یرجع المشیعون، ثمّ رجعوا[٣٤].
المدائني عن عوانة قال: قال علي: «سرتُ في أهل البصرة سیرة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلّم) في أهل مکة».
وقال أبو مخنف: قدم علي من البصرة إلی الکوفة في رجب سنة ستّ وثلاثین. وقال غیره: في رمضان سنة ستّ وثلاثین[٣٥].
وفي هذه السنة بعث علي بن أبي طالب علی مصر قیس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ فقال له:
«سر إلی مصر فقد ولیتکها، واخرج إلی رحلك، واجمع إلیك ثقاتك ومن أحببت أن یصبحك حتی تأتیها ومعك جندٌ، فإنَّ ذلك أرعب لعدوك وأعزُّ لوليّك. فإذا أنت قدمتها إن شاء الله، فأحسن إلی المُحسن، واشتد علی المُریب، وارفق بالعامة والخاصَّة، فإن الرفق یمنٌ»[٣٦].
وکتب إلی معاویة:
«مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيّ أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ:
أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ عَلِمْتَ إِعْذَارِي فِيكُمْ وَإِعْرَاضِي عَنْكُمْ، حَتَّى كَانَ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ وَلاَ دَفْعَ لَهُ، وَالْحَدِيثُ طَوِيلٌ، وَالْكَلاَمُ كَثِرٌ؛ وَقَدْ أَدْبَرَ مَا أَدْبَرَ، وَأَقْبَلَ مَا أَقْبَلَ. فَبَايِعْ مَنْ قِبَلَكَ، وَأَقْبِلْ إِلَيَّ فِي وَفْد مِنْ أَصْحَابِكَ. وَالسَّلاَمُ»[٣٧].
ولکن معاویة امتنع عن البیعة واحتجّ بحجج باطلة وعمد إلی المماطلة، وسأل عن قتلة عثمان ودفعهم إلیه. «فکتب أمیرالمؤمنین (علیه السلام)، إلی جریر بن عبدالله البجلّي، وکان جریر عاملاً لعثمان علی ثغر همدان... ثمّ أقبل جریرٌ سائراً من ثغر همدان حتّی ورد علی علي (علیه السلام)، بالکوفة، فبایعه ودخل فیما دخل فیه النّاس، من طاعة علي، اللزوم لأمره. فأراد علي أن یبعث إلی معاویة رسولاً. فقال له جریر: إبعثني إلی معاویة فإنه لم یزل لي مستنصحاً وودّاً، فآتیه فأدعوه علی أن یسلِّم لك هذا الأمر، ویجامعك علی الحقَّ، علی أن یکون أمیراً من أمرائك، وعاملاً من عمالك ما عمل بطاعة الله، اتبع ما في کتاب الله؛ وأدعوا أهل الشام إلی طاعتك وولایتك، وجلّهم قومي وأهل بلادي، وقد رجوت ألّا یعصوني. فبعثه علي (علیه السلام)، وقال له حین أراد أن یبعثه: «ایت معاویة بکتابي. فإن دخل فیما دخل فیه المسلمون وإلّا فانبذ إلیه، وأعلمه أني لا أرضی به أمیراً، وأنَّ العامّة لا ترضی به خلیفة.» فانطلق جریر حتی أتی الشام ونزل بمعاویة، ودفع إلیه کتاب علي بن أبي طالب، وفیه[٣٨].
«بسم الله الرحمان الرَّحیم. أمّا بعدُ، فإن بیعتي بالمدینة لزمتك وأنت بالشام لِـ[ إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَعُثْمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وَإنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُل وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لله رِضىً، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْن أَوْبِدْعَة رَدُّوهُ إِلَى مَاخَرَجَ منه، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلاَّهُ اللهُ مَا تَوَلَّى. ]ویصلیه جهنم وساءت مصیراً. وإنَّ طلحة والزبیر بایعاني ثمَّ نقضا بیعتي، وکان نقضهما کردَّهما، فجاهدتهما علی ذلك حتی جاء الحقَّ وظهر أمر الله وهم کارهون. فادخل فیما دخل فیه المسلمون؛ فإنَّ أحبَّ الأمور إليِّ فیك العافیة، إلّا أن تتعرض للبلاء. فإن تعرضت لهُ قاتلتك واستعنت الله علیك. وقد أکثرت في قتلة عثمان، فادخل فیما دخل فیه المسلمون، ثُمَّ حاکم القوم إليَّ أحملك وإیّاهم علی کتاب الله. فأمّا تلك التی تریدها فخدعة الصَّبيَّ عن اللَّبن.[
وَلَعَمْرِي، يَا مُعَاوِيَةُ، لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَلَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَة عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ تَتَجَنَّى؛ فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ! ]واعلم أنّك من الطلّقاء الذین لا تحل لهم الخلافة، ولا تعرض فیهم الشوری. وقد أرسلت إلیك وإلی من قبلك جریر بن عبدالله، وهو من أهل الإیمان والهجرة فبایع ولا قُوَّة إلّا بالله[ وَالسَّلاَمُ»[٣٩].
فلمّا تأخّر معاویة عن جواب صریح، کتب الإمام إلی جریر:
«أَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْفَصْلِ، وَخُذْهُ بَالأمْرِ الْجَزْمِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْب مُجْلِيَة أَوْ سِلْم مُخْزِيَة، فَإِنِ اخْتَارَ الْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ، وَإِنِ اخْتَارَ السِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ، وَالسَّلاَمُ»[٤٠].
أبطأ معاویة في جواب علي وأرسل إلی عمرو بن العاص، فلمّا أتاه أعطاه مصر طعمة وشرط علیه طاعة وکتب له کتاباً: «علی أن لا ینقض شرطٌ طاعةً» وکتب عمرو: «علی ألّا تنقض طاعةٌ شرطاً». ودعا رؤسا بعض القبایل وتهیّأ للحرب. ولمّا سمع الامام (علیه السلام) هذه الأنباء قال في عمرو بن العاص وفي أمر معاوی:
«وَلَمْ يُبَايعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهِ عَلَى البَيْعَةِ ثَمَناً، فَلاَ ظَفِرَتْ يَدُ البايِعِ، وخَزِيَتْ أَمَانَةُ المُبْتَاعِ؛ فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا، وَأعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا، فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا، وَعَلاَ سَنَاهَا ، وَاسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ، فَإِنَّهُ أحْزَمُ النَّصْرِ»[٤١].