وقعة صفّين
وعندما طال الانتظار علی أصحابه المستعدين لقتال أهل الشام، اجتمعوا علی الإمام وأستأذنوه للحرب، قال أمیرالمؤمنین (علیه السلام):
«فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الإبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا ، قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا، وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا؛ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِليَّ، أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْض لَدَيَّ، وَقَدْ قلَّبْتُ هذَا الأمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ؛ فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعْني إِلاَّ قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ، وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الآخِرَةِ»[١].
ولما أراد علی المسیرإلی أهل الشَام دعا إلیه من کان معه من المهاجرین والأنصار، فحمدالله وأثنی علیه وقال:
«أمّا بعد، فإنکم میامینُ الرأيّ، مراجیح الحلم، مقاویل بالحقَّ، مبارکوا الفعل والأمر. وقد أردنا المسیر إلی عَدوَّنا وعدوکم فأشیروا علینا برأیکم»[٢].
فأجابوه بأحسن الجواب. ثم کتب (علیه السلام) إلی عمّاله وأمراء الأجناد وأمراء جیشه وحرَض النّاس علی الجهاد؛ ثمّ عسکر بالنخیلة وخطب بها عند المسیر إلی الشام وقال:
«الْحَمْدُ للهِ كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وَغَسَقَ، وَالْحَمْدُ للهِ كُلَّمَا لاَحَ نَجْمٌ وَخَفَقَ، والْحَمْدُ للهِ غَيْرَ مَفْقُودِ الاِْنْعَام، وَلاَ مُكَافَاَ الاِْفْضَالِ. أَمّا بَعْدُ، فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدِّمَتِي، وَأَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ هذَا المِلْطَاطِ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرِي، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْطَعَ هذِهِ الْنُّطْفَةَ إِلَى شِرْذِمَة مِنْكُمْ، مُوَطِّنِينَ أَكْنَافَ دَجْلَةَ، فَأُنْهِضَهُمْ مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ، وَأَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدَادِ الْقُوَّةِ لَكُمْ»[٣].
وکان شخوص امیرالمؤمنین علي (علیه السلام) من عسکره بالنخیلة إلی الشام لخمس مضین من شوال سنة ستّ وثلاثین یوم الأربعاء.
«استعمل علي (علیه السلام) علی مقدمته الأشتر بن الحارث النخعي، واستعمل معاویة علی مقدمته سفیان بن عمرو: أبا الأعور السلمي. فأتی الأشتُر صاحب مقدمة المعاویة وقد سبقه إلی المعسکر علی الماء وکان الأشتر في أربعة آلاف من متبصِّري أهل العراق، فأزالوا أبا الاعور عن معسکره، وأقبل معاویة في جمیع الفلیق. فلمّا رأی ذلک الأشتر انحاز إلی علي (علیه السلام)، وغلب معاویة علی الماء، وحال بین أهل العراق وبینه. وأقبل علي (علیه السلام) حتّی إذا أراد المعسکر إذا القوم قد حالوا بینه وبین الماء»[٤] فخطب وقال:
«قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّة، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّة؛ أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ؛ فَالمَوْتُ في حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ في مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ. أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاة،ِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ»[٥].
فترجَّل الأشعث والأشتر وذوُوا البصائر من أصحاب علي، وترجل معما اثنا عشر ألفاً، فحملوا علی عمرو ومن معه من أهل الشام فأزالوهم عن الماء حتّی غمست خیل علي سنابکها في الماء»[٦].
فلمّا غلب علي علی الماء فطرد عنه أهل الشام بعثّ إلی معاویة: «إنّا لا نکافیك بصنعك، هلَّم إلی الماء فنحن وانتم فیه سواء»[٧].
فلمّا حلّت الأشهر الحُرُم تداعَی النّاسُ أن یکفَّ بعضُهم عن بعض إلی أن تنقضي الأشهر الحرم، لعلّ الله یُجري صلحاً واجتماعاً. فکفَ الناس بعضهم عن بعض. ولما توادع علي (علیه السلام) ومعاویة بصفین اختلفت الرُّسل فیما بینهما رجاء الصُّلح. ولکنّ معاویة ما اراد الصلح وإصلاح امر المسلمین بل اراد الفتنة والوصول فیها إلی امنیته، ففشل کلّ ما بذل امیرالمؤمنین من الجهود. فلمّا «انسلخ المحرّم أمر علي (علیه السلام) مرثد بن الحارث الجشمي فنادی عند غروب الشمس: یا أهل الشّام، ألا إنَّ أمیرالمؤمنین یقول لکم: إنّي قد استدمتکم واستأنیتُ بکم لتراجعوا الحقَّ وتنیبوا إلیه، واحتججت علیکم بکتاب الله ودعوتکم إلیه، فلم تتناهوا عن طغیان، ولم تجیبوا إلی حقّ. وإنِّي قد نبذتُ إلیکم علی سواء، إنَّ الله لا یحبُّ الخائنین»[٨].
فثار النّاس إلی أمرائهم وروؤسائهم. وخرج معاویة وعمرو بن العاص یکتِّبان الکتائب ویعبیان العساکر، وبات علي (علیه السلام) لیلته کلَّها یعبِّي النَّاس، ویکتِّب الکتائب، ویدور في النّاس یحرّضهم، وقال (علیه السلام) لعسکره قبل لقاء العدو بصفّین:
«لاَ تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ، فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللهِ عَلَى حُجَّة، وَتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ. فَإذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإذْنِ اللهِ فَلاَ تَقْتُلُوا مُدْبِراً، وَلاَ تُصيِبُوا مُعْوِراً، وَلاَ تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيح، ولاَ تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ؛ فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى وَالأنْفُسِ وَالْعُقُولِ؛ إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ؛ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفِهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ»[٩].
تقاتل العسکران فرادی وجماعات وکتائب، حتّی أمر أمیرالمؤمنین عساکره وقال: «حتی متی لا نناهض القوم بأجمعنا»[١٠].
فاشتدّ القتال بین أهل العراق وأهل الشام. إنّ الفیلقین التقیا بصفّین واضطربوا بالسُّیوف لیس معهم غیرها إلی نصف اللّیل.
«قال زیاد بن النضر الحارثي، وکان علی مقدّمة علي، قال: شهدتُ مع علي بصفّين، فاقتتلنا ثلاثة أیّامٍ وثلاث لیال، حتّی تکسرت الرماح ونفدَت السهام، ثم صرنا إلی المسابقة فاجتلدنا بها إلی نصف اللَّیل، حتّی صرنا نحنُ وأهل الشّام في الیوم الثالث یعانقُ بعضنا بعضاً...فلمّا کان نصف اللیل من اللیلة الثالثة انحاز معاویةُ وخیلُه من الصف، وغلب علي (علیه السلام) علی القتلی في تلك اللیلة، وأقبل علی أصحاب محمّد (صلّی الله علیه وأصحابه، فدفنهم، وقد قُتِلَ کثیرٌ منهم، وقد قُتِلَ من أصحاب معاویة أکثر»[١١].
المشهور أنّه (علیه السلام) قال لأصحابه لیلة الهریر:
«مَعَاشِرَ اَلْمُسْلِمِينَ: اِسْتَشْعِرُوا اَلْخَشْيَةَ، وَ تَجَلْبَبُوا اَلسَّكِينَةَ، وَعَضُّوا عَلَى اَلنَّوَاجِذِ، فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ اَلْهَامِ، وَأَكْمِلُوا اَللاَّمَةَ، وَقَلْقِلُوا اَلسُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا. وَاِلْحَظُوا اَلْخَزْرَ وَاُطْعُنُوا اَلشَّزْرَ، وَ نَافِحُوا بِالظُّبَى وَصِلُوا اَلسُّيُوفَ بِالْخُطَا وَاِعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اَللَّهِ، وَمَعَ اِبْنِ عَمِّ رَسُولِ اَللَّهِ. فَعَاوِدُوا اَلْكَرَّ، وَاِسْتَحْيُوا مِنَ اَلْفَرِّ، فَإِنَّهُ عَارٌ فِي اَلْأَعْقَابِ، وَنَارٌ يَوْمَ اَلْحِسَابِ. وَطِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً، وَاِمْشُوا إِلَى اَلْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً، وَعَلَيْكُمْ بِهَذَا اَلسَّوَادِ اَلْأَعْظَمِ، وَاَلرِّوَاقِ اَلْمُطَنَّبِ، فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ، فَإِنَّ اَلشَّيْطَانَ كَامِنٌ فِي كِسْرِهِ، وَقَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً، وَأَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رَجُلاً. فَصَمْداً صَمْداً! حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ اَلْحَقِّ، وَأَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَ اَللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ»[١٢].
«فاجتلدوا بالسّیوف وعمد الحدید من صلاة الغداة إلى نصف اللّیل، لم یصلّو اللّه صلاة. فلم یزل یفعل ذلك الاشتر بالنّاس حتّى أصبح و المعركة خلف ظهره. وافترقوا عن سبعین ألف قتیل فی ذلك الیوم و تلك اللیلة، و هی «لیلة الهریر» وكان الأشتر فی میمنة النّاس، و ابن عبّاس فی المیسرة، وعليّ فی القلب، والنّاس یقتتلون[١٣]»[١٤].
«فثار أهل الشام فنادوا في سواد اللّيل: يا أهل العراق، من لذرارينا إن قتلتمونا ومن لذراريكم إن قتلناكم؟ الله الله في البقية. فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح وقلّدوها الخيل، والنّاس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه، ورُفع مصحف دمشق الأعظمُ تحمله عشرة رجال على رؤوس الرماح ونادوا: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم...»[١٥] اختلفوا اصحاب علي (علیه السلام) في الاجابة لأهل الشام، عدي بن حاتم والأشتر النخعي وعمرو بن الحِمَق قالوا باستمرار القتال وقرع الحدید بالحدید، ولکن الأشعث بن قیس قال: یا أمیرالمؤمنین: أجب القومَ إلی کتاب الله فإنّك أحقَّ به منهم. وقد أحبّ النّاسُ البقاء وکرهوا القتال. فقال علي (علیه السلام): «إنَّ هذا أمرٌ یُنظرُ فیه»[١٦].
فلمّا اختلف اصحاب علي في استمرار القتال او الموادعة ماج الناس وقالوا: أکلتنا الحربُ وقُتلت الرجال. وقال قوم: نقاتل القومَ علی ما قاتلناهم علیه أمس، ولم یقل هذا إلّا قلیلٌ من الناس، ثمّ رجعوا عن قولهم مع الجماعة، وثارت الجماعة بالموادعة.
وقال أمیرالمؤمنین (علیه السلام) لمّا اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْري مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ، حَتَّى نَهَكَتْكُمُ الْحَرْبُ، وَقَدْ، وَاللهِ، أَخَذَتْ مِنْكُمْ وَتَرَكَتْ، وَهِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ.
لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً! وَكُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً! وَقَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ، وَلَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ!»[١٧].
«فجاءه زهاء عشرين ألفاً مقنّعين في الحديد شاكي السَّلاح، سيوفُهم على عواتقهم، وقد اسودَّت جباهُهم من السُّجود، يتقدمهم مِسعر بن فدكيّ، وزيد بن حصين، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعدُ، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا عليّ ...إبعث إلی الأشتر لیأتیك. وقد کان الأشتر صبیحة لیل الهریر قد أشرف علی عسکر معاویة لیدخله»[١٨].
فعند ذلك بطلتُ الحربُ ووضعت أوزارها.
مهزلة التحکیم
«وقال النّاس: قد رضینا بحکم القرآن.. فلمّا رضي أهل الشام بعمرو بن العاص، ورضي أهل العراق بأبي موسی، أخذوا في کتاب الموادعة، ورضوا بالحکم حکم القرآن»[١٩].
وبعد ما تجادل أهل العراق کثیراً مع الإمام (علیه السلام) لاختیار الحُکم، حمّلوا علیه أبا موسی حکمَّا کما حمّلوه التحکیم. وکتبوا وثیقة التحکیم «یوم الاربعاء لثلاث عشرة لیلة بقیت من صفر سنة سبع وثلاثین»[٢٠].
«خرج الأشعث في الناس بذلك الکتاب یقرؤه علی صفوف أهل الشام، ثم مرَّ به علی صفوف أهل العراق. فلمّا قرأه الأشعث برایات عنزة من أهل العراق، قال فتیان منهم: لا حُکم إلّا لله! ثمّ حملا علی أهل الشام بسیوفهما فقاتلا حتی قُتلا علی باب رواق معاویة، وهما أوَّل من حکَّم. ثم حکَّموا أشخاصا آخرین من أهل العراق...فما راع الإمام إلّا نداءُ الناس من کلّ جهة وفي کلَّ ناحیة: لا حکم إلّا لله، الحکم لله یا علي لا لك، لا نرضی بأن یحکم الرِّجال في دین الله. وقد کانت منَّا زلّة حین رضینا بالحکمین، فرجعنا وتبنا، فارجع أنت یا علي کما رجعنا، وتُب إلی الله کما تُبنا، وإلّا برئنا منك؛ فأبی علي أن یرجع، وأبت الخوارج إلّا تضلیل التحکیم والطعن فیه، وبرئت من عليّ (علیه السلام) وبریء منهم»[٢١].
فرجع أمیرالمؤمنین (علیه السلام) من صفّین إلی الکوفة وکتب إلی أهل الأمصار، یقصّ فیه ماجری بینه و بین أهل صفّین:
«وَكَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا وَالْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ، وَنَبِيَّنَا وَاحِدٌ، وَدَعْوَتَنَا فِي الاِْسْلاَمِ وَاحِدَةٌ، وَلاَ نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الإِيمَانِ باللهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله)، وَلاَ يَسْتَزِيدُونَنَا؛ الأَمْرُ وَاحِدٌ، إِلاَّ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَنَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ! فَقُلْنَا: تَعَالَوْا نُدَاوِ مَا لاَ يُدْرَكُ الْيَوْمَ بِإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ، وَتَسْكِينِ الْعَامَّةِ، حَتَّى يَشْتَدَّ الاَْمْرُ وَيَسْتَجْمِعَ، فَنَقْوَى عَلَى وَضْعِ الْحَقِّ مَوَاضِعَهُ. فَقَالُوا: بَلْ نُدَاوِيهِ بِالْمُكَابَرَةِ! فَأَبَوْا حَتَّى جَنَحَتِ الْحَرْبُ وَرَكَدَتْ، وَوَقَدَتْ نِيرَانُهَا وَحَمِشَتْ . فَلَمَّا ضَرَّسَتْنَا وَإِيَّاهُمْ، وَوَضَعَتْ مَخَالِبَهَا فِينَا وَفِيهِمْ، أَجَابُوا عِنْدَ ذلِكَ إِلَى الَّذي دَعَوْنَاهُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَبْنَاهُمْ إِلَى مَا دَعَوْا، وَسَارَعْنَاهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، حَتَّى اسْتَبَانَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمُ الْمَعْذِرَةُ. فَمَنْ تَمَّ عَلَى ذلِكَ مِنْهُمْ فَهُوَ الَّذِي أَنْقَذَهُ اللهُ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَمَنْ لَجَّ وَتَمَادَى فَهُوَ الرَّاكِسُ الَّذِي رَانَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَصَارَتْ دَائِرَةُ السَّوْءِ عَلَى رَأْسِهِ»[٢٢].
أهلُ النَّهروان ورأیهم في الحَکَمیَّة
لمّا قدم علي الکوفة فارقته المحکّمة ونزلوا بقریة قریبة من الکوفة یُقال لها الحروراء، وبها سموا الحروریة، فبعث أمیرالمؤمنین (علیه السلام) عبدالله بن العبّاس للإحتجاج علی الخوارج وأوصاه:
«لاَ تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوه، تَقُولُ وَيَقُولُونَ، وَلكِنْ حاجّهُمْ بالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً»[٢٣].
ولکنّ ابن عبّاس حاججهم بالقرآن وما استطاع أن یحملهم علی الرجوع إلی الحق، حتّی ذهب أمیرالمؤمنین بنفسه وحاججهم بالسنّة وأدخلهم في الحقّ، ولکنّ رؤساؤهم بثّوا الفتن فیهم، وما لبثوا أن هتفوا بشعار التحکیم، ولما سمع (علیه السلام) قول الخوارج: «لا حكم إلاّ لله» قال (عليه السلام): كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلاَّ للهِ، ولكِنَّ هؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ، إلّا لله، وإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الاَْجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر»[٢٤].
بینا هو (علیه السلام) یجادل الخوارج وقع التحکیم وبلغه ما حدث من أمر الحکمین، فحمد الله علی بلائه وبیّن سبب البلوی:
«الْحَمْدُ للهِ وَإنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ، وَالْحَدَثِ الْجَلِيلِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ لا شریك له، لَيْسَ مَعَهُ إِلهٌ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (صلى الله عليه وآله).
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الُْمجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ، وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ، وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ في هذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخزُونَ رَأْيِي، لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِير أَمْرٌ! فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الُْمخَالِفِينَ الْجُفَاةِ، وَالمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ، حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ، وَضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ؛ فَكُنْتُ وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ :
أَمَرْتُكُمُ أَمْري بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى |
|
فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلاَّ ضُحَى الْغَدِ[٢٥] |
«قالوا: خرج علي إلی حروراء فکلّمهم وحاجّهم، وذلك بعد بعثته إبن عبّاس إلیهم، فدخلوا جمیعاً إلی الکوفة، وکان الرجل منهم یذکر القضیة فیخرج فیحکّم، وکان علي یقول: إنّا لا نمنعهم الفیء ولا نحول بینهم وبین دخول مساجد الله، ولا نهیجهم مالم یسفکوا دما ومالم ینالوا مُحرمّاَ»[٢٦].
ثمّ إنّهم مضوا إلی النَهروان.
واجمع علي علی إتیان صفّین، وبلغ معاویة فسار حتی أتی صفّین.
وكتب عَلَى إِلَى الخوارج بالنهروان: «أمّا بعد فقد جاءكم ما كنتم تريدون قد تفرَّق الحكمان عَلَى غير حكومةٍ وَلا اتّفاقٍ؛ فارجعوا إِلَى مَا كنتم عَلَيْهِ فإني أريد المسير إِلَى الشَّام». فأجابوه أنه لا يجوز لنا أن نتخذك إماماً، وقد كفرت حَتَّى تشهد عَلَى نفسك بالكفر وتتوب كما تبنا، فإنَك لم تغضب لله، إنّما غضبت لنفسك»[٢٧]. فقال (علیه السلام):
«أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ، وَلاَ بَقِيَ مِنْكُمْ آبرٌ، أَبَعْدَ إِيمَاني بِاللهِ وَجِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ! (لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)![٢٨] فَأُوبُوا شَرَّ مَآب، وَارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الاَْعْقَابِ، أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلاًّ شَامِلاً، وَسَيْفاً قَاطِعاً، وَأَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمونَ فِيكُمْ سُنَّةً.[٢٩]
فلمّا بلغ خبر الجرائم الّتي ارتکبها الخوارج، من قتل ابن خبّاب وامرأته ورسول علي الحارث بن مرّة العبدي ونفراً آخر، علیاً ومن معه؛ قالوا له: ما ترکنا هؤلاء وراءنا یخلفونا في أموالنا وعیالاتنا بما نکره، سر بنا إلیهم فإذا فرغنا منهم سرنا إلی عدّونا من أهل المغرب، فإنَّ هؤلاء أحضر عداوةً وأنکی حدّاً... ثمَ أتی علي النهروان فبعث إلی الخوارج أن أسلموا لنا قتلة ابن خباب ورسولي والنسوة لأقتلهم ثمّ أنا تارککم إلی فراغي من أمر أهل المغرب فلعل الله یقبل بقلوبکم ویردکم إلی ما هو خیر لکم وأملك بکم. فبعثوا إلیه أنّه لیس بیننا وبینك إلّا السیف إلّا أن تقرّ بالکفر وتتوب کما تبنا!»[٣٠] وقال لهم علي (علیه السلام):
«فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هذَا النَّهَرِ، وَبِأَهْضَامِ هذَا الْغَائِطِ، عَلَى غَيْرِ بَيِّنَة مِنْ رَبِّكُمْ، وَلاَ سُلْطَان مُبِين مَعَكُمْ...»[٣١].
«فلم یزل یعظهم ویدعهم فلمّا لم یر عندهم انفیاداً ـ وکان في أربعة عشر ألفاً ـ عبّأ الناس... ثمَ بسط لهم علي الأمان ودعاهم إلی الطاعة»[٣٢] فرجعت طائفة منهم متفرقین إلی الکوفة والبلاد، وخرجت طائفة منهم الی علي فاقاموا معه، واعتزلوا بعض الأمراء منهم حتی بقی ابن وهب الراسبي وزید بن حصین وعبدالله بن شجرة ونفر آخر في ألف وثمانمائة أو اربعة آلاف من الخیل والرجّالة. وقال علي لأصحابه: «کُفّوا عنهم حتَّی یبدؤکم»[٣٣] «وتنادي الحروریة: الرواح إلی الّجنة معاشر المخبتین، فشدّوا علی أصحاب علي شدّة واحدة؛ ونهض علي إلیهم فما لبثوا أن أهمدوا في ساعة... ولم یقتل من أصحاب علي إلا عشرة نفر أو أقل»[٣٤] لأنَه قال لمّا عزم علی حربهم، وقیل له: إن القوم عبروا جسر النهروان:
«مَصَارِعُهُمْ دُونَ اَلنُّطْفَةِ؛ وَ اَللَّهِ لاَ یُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ، وَ لاَ یَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ»[٣٥].
ولمّا قتل الخوارج فقیل له: یا أمیرالمؤمنین، هلك القوم بأجمعهم، قال (علیه السلام): «کلاّ والله إنّهم نُطَف في أصْلاب الرجال، وقرارات النِّساء کُلّما نَجَم منْهم قرنٌ قُطِع حتّي يَکون آخرهم لُصوصاً سَلاّبين!»[٣٦].
وَ قَدْ مَرَّ بِقَتْلَى فقال (علیه السلام): «بُؤْساً لَكُمْ لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ» فَقِيلَ لَهُ مَنْ غَرَّهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ «الشَّيْطَانُ الْمُضِلُّ وَ الْأَنْفُسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، غَرَّتْهُمْ بِالْأَمَانِيِّ، وَ فَسَحَتْ لَهُمْ بِالْمَعَاصِى، وَ وَعَدَتْهُمُ الْإِظْهَارَ، فَاقْتَحَمَتْ بِهِمُ النَّارَ»[٣٧].
«وکان مقتل أهل النهروان لتسع خلون من صفر سنة ثمان وثلاثین»[٣٨].