وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ .                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                

Search form

إرسال الی صدیق
شخصية الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة

تمهيد

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "أمّا فضائله عليه السلام، فإنّها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغاً يسمج معه التعرُّض لذكرها، والتصدّي لتفصيلها... وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يُمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنّه استولى بنو أميّة على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكلّ حيلة في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعّدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمّن له فضيلة، أو يرفع له ذكراً، حتّى حظروا أن يُسمّى أحدٌ باسمه، فما زاده ذلك إلّا رفعةً وسموّاً، وكان كالمسك كلّما سُتر انتشر عُرفه، وكلّما كُتم تضوّع نشره، وكالشمس لا تُستر بالراح، وكضوء النهار إن حُجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيرة!"  [١] .
سنحاول في هذا الدرس التعرّف على بعض الصفات الّتي تحلّى بها أمير المؤمنين عليه السلام، عسى أن نبلغ بعضاً من هذه الصفات والمزايا، وهو الّذي لا يرقى إليه الطير ولا يبلغه السيل.

إيمان الإمام عليّ عليه السلام بالله ورسوله
كان أمير المؤمنين أوّل الناس إيماناً بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يحذو حذو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كلّ أفعاله وخُطاه، وأنّه عليه السلام لم يُشرك بالله لحظة واحدة، ولم يسجد لصنم قطّ، ولذلك نجد أتباع مدرسة الخلفاء كلّما ذكروا اسمه عليه السلام أتبعوه بلفظ "كرّم الله وجهه" إشارة إلى هذه الكرامة، ومرادهم عدم سجوده لصنم أو عبادة غير الله تعالى.
يقول ابن أبي الحديد: "وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى، وآمن بالله وعبده، وكلّ من في الأرض يعبد الحجر، ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلّا السابق إلى كلّ خير، محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وذهب أكثر أهل الحديث إلى أنّه عليه السلام أوّل الناس اتّباعا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإيماناً به، ولم يُخالف في ذلك إلّا الأقلّون". وقد قال هو عليه السلام: "أنا الصدّيق الأكبر، وأنا الفاروق الأوّل، أسلمت قبل إسلام الناس، وصلّيت قبل صلاتهم" [٢].
وقال عليه السلام أيضا: "وإنّي لعلى يقين من ربّي، وغير شبهة من ديني" [٣] .
وكيف لا يكون عليه السلام كما قال، وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتلميذه الأوّل ووصيّه الأوحد، وقد قال عليه السلام في خطبته القاصعة [٤] عن ملازمته للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ علماً وَيَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ" [٥].
أمّا إسلام أمير المؤمنين عليه السلام فيكفي فيه قول الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم: "أنت أوّل الناس إسلاماً وأوّل الناس إيماناً وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى" [٦]  ، كما مدحته الصحابة بذلك، وهم أبصر من غيرهم يوم كانوا يغترفون من مستقى العلم ومنبع الدِّين، وعلى هذا الأساس تضافر الثناء عليه من العلماء والمؤلّفين والشعراء وسائر طبقات الأمّة بأنّه أوّل من أسلم، إلّا أنّ بعض الناس حاول نسبة فضيلة السبق في الإسلام إلى غيره, بادّعاء أنّه كان أوّل من أسلم من الصبيان، وبالتّالي لم يكن مكلّفاً ولم يكن واعياً ومدرِكاً لأهميّة الإسلام وحقيقة التديّن. وما حصل منه ليس سوى انجرار عاطفيّ خلف ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
غير أنّ الكثير من الروايات وأقوال العلماء فيه عليه السلام تؤكّد أنّه كان أوّل الناس إسلاماً، ولكن لو تنازلنا عن جميع ذلك، فمن قال إنّ الوعي والإدراك لا يكون في الصبيّ غير البالغ شرعاً، ثمّ إنّنا لا نحتاج في صحّة الإسلام إلى البلوغ بل يكفينا التمييز ويقبل إسلام المميّز، وهذا مسلَّم به للإمام عليّ عليه السلام، فكم من صبيّ غير بالغ شرعاً هو في مستوى عالٍ من الفهم والإدراك، ثُمَّ من أين علمنا أنّ اشتراط البلوغ في التكليف كان مشروعاً في أوّل البعثة؟ فلعلّه كبقيّة الأحكام التدريجيّة نزل الوحي به فيما بعد، ولقد حُكي عن بعض أعلام مدرسة الصحابة أنّ اشتراط الأحكام بالبلوغ نزل الوحي به بعد معركة أُحد، ففي السيرة الحلبيّة، باب أنّه أوّل الناس إيماناً: كان الصبيان مكلّفون وإنّما رفع القلم عن الصبيّ عام خيبر، وعن البيهقيّ أنّ الأحكام إنّما تعلّقت بالبلوغ في عام الخندق أو الحُديبيّة، وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز [٧] .

عصمة الإمام عليّ عليه السلام
من المسائل الأساس في العقائد الإماميّة عصمة الإمام ونزاهته عن الخطأ والنسيان والسهو والذنب، بحيث إنّ أفعاله وسكناته وإشاراته وتنبيهاته لا تحيد عن رضى الله سبحانه، والدليل على ذلك عقليّ ونقليّ، فالعقل الّذي يحكم بنزاهة النبيّ يحكم أيضاً ولنفس العلّة والسبب بنزاهة وعصمة الإمام عن كلّ قبيح وذلك لغرض هداية الناس، فكيف يهدي من لا يمتلك الهداية ولا يتّصف بها.
يقول تعالى:﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [٨] .
وفي علّة العصمة نقل عن ابن أبي عمير قوله: "ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم [٩] في طول صحبتي له شيئاً أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام فإنّي سألته يوماً عن الإمام أهو معصوم؟ فقال نعم، قلت له فما صفة العصمة فيه وبأيّ شيء تُعرف؟
فقال إنّ جميع الذنوب لها أربعة أوجه ولا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة فهذه منفيّة عنه.
لا يجوز أن يكون حريصاً على هذه الدنيا وهي تحت خاتمه لأنّه خازن المسلمين فعلى ماذا يحرص؟!
ولا يجوز أن يكون حسوداً لأنّ الإنسان إنّما يحسد من فوقه وليس فوقه أحد فكيف يحسد من هو دونه؟!
ولا يجوز أن يغضب لشيء من أمور الدنيا إلّا أن يكون غضبه لله عزّ وجلّ فإنّ الله فرض عليه إقامة الحدود وأن لا تأخذه في الله لومة لايم، ولا رأفة في دينه حتّى يُقيم حدود الله.
ولا يجوز له أن يتّبع الشهوات ويؤثر الدنيا على الآخرة لأنّ الله عزّ وجلّ قد حبّب إليه الآخرة كما حبّب إلينا الدنيا، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا. فهل رأيت أحداً ترك وجهاً حسناً لوجه قبيح، وطعاماً طيّباً لطعام مرّ، وثوباً ليّناً لثوب خشن، ونعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية؟" [١٠].
وأمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام نبراس هداية وحجّة لله عزّ وجلّ على الناس، عارفون بالله وبكتابه ومبلّغون لشرائعه، يقول أمير المؤمنين عليه السلام:"واعذروا من لا حجّة لكم عليه. وأنا هو. ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر ( أي القرآن ) وأترك فيكم الثقل الأصغر(أي الحسن والحسين عليهما السلام). وركزت فيكم راية الإيمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام" [١١].
وعنه صلوات الله عليه قال: "إنّ الله تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه، وحجّته في أرضه، و جعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا، لا نُفارقه ولا يُفارقنا" [١٢].

علم الإمام عليه السلام وقضاؤه وحسن رأيه
من أبرز العلوم، علم الفقه، والإمام عليه السلام أصله وأساسه، وكلّ من أراد الفقه في الإسلام رجع إليه، واستفاد من فقهه، وقد عُرف رجوع عمر بن الخطّاب إليه في كثير من المسائل الّتي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرّة: "لولا عليّ لهلك عمر"، وقوله: "لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن". وقوله: "لا يُفتينّ أحد في المسجد وعليّ حاضر". وقد روت العامّة والخاصّة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أقضاكم عليّ"، والقضاء هو الفقه، فهو إذاً أفقههم [١٣] .
وقد عُرف في الإمام أجوبته المسكتة وردوده السريعة، من قبيل سؤال بعضهم له عليه السلام عن المسافة ما بين المشرق والمغرب فقال عليه السلام: "مسيرة يوم للشمس" [١٤].
وقيل له عليه السلام لو سدّ على رجل باب بيته وترك فيه من أين كان يأتيه رزقه؟ فقال عليه السلام: "من حيث يأتيه أجله" [١٥].
وسُئل عليه السلام: كم بين السماء والأرض؟ فقال: "دعوة مستجابة" [١٦] .
والنماذج على ذلك كثيرة، وهذا ليس غريباً على أمير الكلام عليه السلام وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب" [١٧] ، وشبيه هذا الحديث عن لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير.
وقد نقل عنه عليه السلام قوله:"وليس كلّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان يسأله ويستفهمه حتّى أنّهم كانوا ليحبّون أن يجيئ الأعرابي والطارئ فيسأله عليه السلام حتّى يسمعوا. وكان لا يمرّ بي من ذلك شيء إلّا سألته عنه وحفظته" [١٨].
وقد أخبر أكثر من مرّة عن بعض المغيّبات والأحداث المستقبليّة والفتن الّتي ستكون بعده وخاصّة فتنة بني أميّة، فقال عليه السلام فيها:"حتّى يظنّ الظانّ أنّ الدنيا معقولة على بني أميّة تمنحهم درّها. وتوردهم صفوها. ولا يرفع عن هذه الأمّة سوطها ولا سيفها. وكذب الظانّ لذلك، بل هي مجّة من لذيذ العيش يتطعّمونها برهة ثُمَّ يلفظونها جملة" [١٩] وكأنّه يُنبئ بزوال الدولة الأمويّة سريعاً.
وقال عليه السلام مخاطباً أهل البصرة:"كأنّي بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها" [٢٠].
وقد قال له بعض أصحابه: لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين عليه السلام علم الغيب، فضحك عليه السلام، وقال: "ليس هو بعلم غيب، وإنّما هو تعلّم من ذي علم. وإنّما علم الغيب علم الساعة وما عدّد الله سبحانه بقوله ﴿إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ [٢١]، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، وقبيح أو جميل، وسخيّ أو بخيل، وشقيّ أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنبيّين مرافقاً. فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلّا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيّه فعلّمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمّ [٢٢] عليه جوانحي" [٢٣].
وقد ثبت أنّه عليه السلام قال: "فاسألوني قبل أن تفقدوني. فوالّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلّا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحطّ رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً، ويموت منهم موتاً. ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور وحوازب الخطوب [٢٤] لأطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤولين. وذلك إذا قلصت [٢٥] حربكم وشمّرت عن ساق، وضاقت الدنيا عليكم ضيقاً تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم حتّى يفتح الله لبقيّة الأبرار منكم" [٢٦].
ومن يُراجع سِيَر التاريخ يجد أنّ ما من أحد حاول مشابهته في هذه المقولة إلّا فضحه الله".
يقول ابن أبي الحديد: "واعلم أنّه عليه السلام قد أقسم في هذا الفصل بالله الّذي نفسه بيده، أنّهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين القيامة إلّا أخبرهم به، وأنّه ما صحّ من طائفة من الناس يهتدى بها مائة وتضلّ بها مائة، إلّا وهو مخبر لهم - إن سألوه - برعاتها، وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها، ومن يُقتل منها قتلاً، ومن يموت منها موتاً، وهذه الدعوى ليست منه عليه السلام ادعاء الربوبيّة، ولا ادعاء النبوّة، ولكنّه كان يقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بذلك، ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة، كإخباره عن الضربة الّتي يُضرب بها في رأسه فتُخضب لحيته، وإخباره عن قتل الحسين ابنه عليهما السلام، وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها، وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده، وإخباره عن الحجّاج، وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان، وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم، وصلب من يصلب، وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وإخباره بعدّة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص عليه السلام إلى البصرة لحرب أهلها...." [٢٧].

عبادته عليه السلام
يقول ابن أبي الحديد: "وأمّا العبادة، فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل، وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع(بساط) بين الصفّين ليلة الهرير، فيُصلّي عليه ورده، والسهام تقع بين يديه وتمرّ على صماخيه(أذنيه) يميناً وشمالاً، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته! وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده. وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزّته، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أيّ قلب خَرَجَتْ، وعلى أيّ لسان جَرَتْ!" [٢٨].

الإمام عليه السلام صوت العدالة الإنسانيّة
كانت إقامة العدالة شعار الإمام ونهجه وخطّه الثابت الّذي ما حاد عنه وما ابتغى غيره وهو القائل:
"الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له. والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه" [٢٩].
وروي أنّه وقبل شهادته كان يوصي بقاتله ويوصي بالأمّة ويأمر بالعدل وعدم التشفّي، حيث يقول عليه السلام: "يا بني عبد المطّلب لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قُتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلنّ بي إلّا قاتلي. انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمثّل بالرجل فإنّّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور" [٣٠].

جهاد الإمام عليه السلام وشجاعته
يقول ابن أبي الحديد: "وأمّا الشجاعة: فإنّه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة تُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الّذي ما فرّ قطّ، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلّا قتله، ولا ضرب ضربة قطّ فاحتاجت الأولى إلى ثانية، وفي الحديث "كانت ضرباته وتراً"، ولمّا دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو بن العاص: لقد أنصفك، فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلّا اليوم! أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي! [٣١]
وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، فأمّا قتلاه فافتخار رهطهم بأنّه عليه السلام قتلَهم أظهر وأكثر، قالت أخت عمرو بن عبد ودّ ترثيه:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله ***** بكيته أبداً ما دمت في الأبد
لكنّ قاتله من لا نظير له ***** وكان يُدعى أبوه بيضة البلد [٣٢]

(أي ليس مثله في الشرف)

وأمّا جهاده فهو سيّد المجاهدين ويكفيه شرفاً قول جبرائيل عليه السلام بين السماء والأرض لمّا ثبت عليه السلام بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أُحد:

لا سيف إلّا ذو الفقار ***** ولا فتى إلّا علي

وفي كلام له عليه السلام في حبّ الشهادة: "إنّ أكرم الموت القتل. والّذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على الفراش" [٣٣].

تواضع الإمام عليه السلام وزهده
يقول عليه السلام في رسالته لعامله على البصرة: "أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ. أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ، فَوَاللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً "[٣٤] , [٣٥] .
وقد ثبت من زهده أنّه لم يحفل بالدنيا ولا الرياسة فيها حيث عكف على تغسيل رسول الله وتجهيزه والقوم مشغولون في سقيفة بني ساعدة. وقد شهد النبي ّصلى الله عليه وآله وسلم بزهده ففي حديث عمّار: "يا عليّ، إنّ الله قد زيّنك بزينة لم يُزيّن العباد بزينة أحبّ إلى الله منها، زيّنك بالزهد في الدنيا، وجعلك لا ترزأ منها شيئاً، ولا ترزأ [٣٦] منك شيئاً، ووهب لك حبّ المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً، ويرضون بك إماماً، فطوبى لمن أحبّك وصدّق فيك" . [٣٧]
وروي عن الإمام عليّ عليه السلام حين مدحه قوم في وجهه: "اللّهمّ إنّك أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللّهمّ اجعلنا خيراً ممّا يظنون، واغفر لنا ما لا يعلمون" [٣٨].

محبّة الإمام عليّ عليه السلام
دلّت الأخبار الشريفة على أنّ محبّة عليّ عليه السلام جزء من الإيمان وأنّه لا يُحبّه إلّا مؤمن ولا يُبغضه إلّا منافق، ويقول أيضاً عليه السلام:"لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يُبغضني ما أبغضني. ولو صببت الدنيا بجمانها على المنافق على أن يُحبّني ما أحبّني. وذلك أنّه قضى فانقضى على لسان
النبيّ الأمي ّصلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يا عليّ لا يُبغضك مؤمن ولا يُحبّك منافق" [٣٩].
وكان في علم الإمام عليه السلام أنّ بعض الناس سوف يُحبّونه حبّاً زائداً حتّى يعبدوه، بينما بعضهم الآخر سيُبغضونه حتّى يسبّوه، فأمر عليه السلام شيعته أن يسلكوا الطريق الوسط في محبّته حتّى لا يهلكوا.
يقول عليه السلام: "وسيهلك فيَّ صنفان: محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ، وخير الناس فيَّ حالاً النمط الأوسط، فالزموه" [٤٠].
------------------------------------------------------

[١] . شرح نهج البلاغة, ابن أبي الحديد, ج ١, ص ١٦، ١٧.

[٢] . شرح نهج البلاغة, ابن أبي الحديد, ج ١, ص ٣٠.

[٣] . نهج البلاغة, خطب الإمام علي عليه السلام, ج ١, ص ٦٠.

[٤] . من قصع فلان فلاناً: أي حقّره لأنه عليه السلام حقّر فيها حال المتكبّرين، أو من قصع الماء عطشه إذا أزاله، لأنّ سامعها لو كان متكبّرا ذهب تأثيرها بكبره كما يذهب الماء بالعطش.

[٥] . نهج البلاغة, ج ٢, ص ١٥٧.

[٦] . كنز العمال، المتّقي الهنديّ، ج١٣، ص١٢٤، وكذا ذكر ابن الأثير في أسد الغابة أنّ عليّاً عليه السلام أوّل الناس إسلاماً، ج٤، ص ١٦.

[٧] . السيرة الحلبيّة، ج١، ص ٤٣٤.

[٨] . سورة يونس، الآية: ٣٥.

[٩] . هشام بن الحكم من خواص الإمامين الصادق والكاظم عليهم السلام،وقد عدّه المفيد رحمه الله, في رسالته العدديّة، من الأعلام الرؤساء، المأخوذ عنهم الحلال والحرام،والفُتيا والأحكام، الذين لامطعن عليهم، ولاطريق إلى ذمّ واحد منهم.

[١٠] . علل الشرائع، الصدوق، ج٤، ص ٢٠٤.

[١١] . نهج البلاغة, ج ١, ص ١٥٤.

[١٢] . الكافي, الشيخ الكليني, ج ١, ص ١٩١.

[١٣] . راجع شرح نهج البلاغة, ابن أبي الحديد, ج ١, ص ١٨.

[١٤] . نهج البلاغة, ج ٤, ص ٧١.

[١٥] . م. ن, ج ٤, ص ٨٣.

[١٦] . بحار الأنوار, العلامة المجلسي, ج ١٠, ص ٨٤.

[١٧] . الفصول المختارة، السيد المرتضى، ص ٢٢٠.

[١٨] . شرح نهج البلاغة, ابن أبي الحديد, ج ١١, ص ٣٩.

[١٩] . نهج البلاغة, ج ١, ص ١٥٥.

[٢٠] . نهج البلاغة, ج ١, ص ٤٥.

[٢١] . سورة السجدة، الآية: ٣٤.

[٢٢] . تضطمّ: أي تنضم عليه جوانحي.

[٢٣] . نهج البلاغة, ج ٢, ص ١٠, ١١.

[٢٤] . الخطب: الأمر الشديد.

[٢٥] . تمادت.

[٢٦] . م. ن, ج ١, ص ١٨٢, ١٨٣.

[٢٧] . راجع: شرح نهج البلاغة, ابن أبي الحديد, ج ٧, ص ٤٨.

[٢٨] . م. س، شرح نهج البلاغة, ج ١, ص ٢٧.

[٢٩] . م. ن, ج ١, ص ٨٩.

[٣٠] . نهج البلاغة, ج ٣, ص ٧٧- ٧٨.

[٣١] . راجع: شرح نهج البلاغة, ابن أبي الحديد, ج ١, ص ٢٠, ٢١.

[٣٢] . راجع: تاريخ الطبري، ج٢، ص ١٩٧.

[٣٣] . نهج البلاغة, ج ٢, ص ٢.

[٣٤] . الطمر: الثوب القديم.

[٣٥] . نهج البلاغة, ج ٣, ص ٧٠ - ٧١.

[٣٦] . أي لا تأخذ ولا تنال.

[٣٧] . الأمالي، الطوسي، ص ١٨١.

[٣٨] . نهج البلاغة, ج ٤, ص ٢٢.

[٣٩] . م. س، النهج, ج ٤, ص ١٣.

[٤٠] . م. ن, ج ٢, ص ٨ .

****************************