د. عبد الكريم حسين السعداوي
■ المبحث الخامس؛ ضيق المجال الدلالي :
المعنيّ بهذا هو : الألفاظ التي يستعملها فئة من الناس، محدودة العدد، أو المصطلحات العلمية والفنية. وقلّة العدد، هي : الحكم هنا للتمييز بين هذا النوع وبين الغريب القليل .
فلفظة (الأجسام القُرنفلية)، أو (الهُديبات القُرنفلية)، لا يمكن إلّا أنْ تكون غريبة، إلّا عند الأطباء بل أطباء العيون خاصة، بل قد لا يعرفها منهم إلّا المتخصصون بعلاج شبكية العين.
وهذه الجُسيمات ؛ هي عبارة عن آلاف المخروطات الصغار، تصطفُّ بنظام على شبكية العين، وتكون وسيلة لنقل المرئيات إلى أعصاب البصر. ولون هذه الهُديبات (قُرنفلي داكن)، فإذا نظرت إليها بمنظار فحص قاع العين، رأيتَها أقرب إلى السواد، فإذا تقدَّم العمر بالإنسان ابيضَّ قسمٌ من هذه الجُسيمات، كما يبيضُّ شعر الإنسان، وكُثْر البياض فيها متناسباً مع علوِّ السنّ.
وهذا ما يسميه أطباء العيون بـ(شيب العين) [١] ، وهو أيضاً من المصطلحات التي يصدق عليها هذا الحديث. وكذلك مصطلح (رأرأة العين) وهي :اهتزاز مقلة العين .
وممّا استُعمل في نطاق ضيق, لفظة (ياسر) في قول الإمام في (النهج): «كالْيَاسِرِ الفَالِج، يَنْتظِرُ أَوَّلَ فَوْزهِ مِنْ قِدَاحِه...» [٢] وهذا الكلام وجدته مقطوعاً ـ في غير هذا الموضع ـ من خطبة رقم (٢٣) رواها ابن أبي الحديد في شرح (النهج) [٣] .
وفي هذه الخطبة ؛ تمام العبارة وهي الآتية : «فإنَّ المَرْءَ المُسلم مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً، تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لها إذا ذُكِرَتْ ويُغْرى بها لِئامُ النَّاسِ كان كالفَالِج اليَاسرِ، الذي يَنْتَظِرُ أوَّلَ فَوْزهِ مِن قِداحِهِ، تُوجِبُ له المَغْنَم ...» [٤] .
قيّد هذا الكلام علماءُ (الغريب) وغيرُهم وضبطوه إلى الإمام لا إلى غيره [٥] .
فقد وقفتُ على ما يربي على مئة نسخة من (نهج البلاغة) مابين (مخطوط) و(مطبوع) حتى ممِّن روى هذه الخطبة قبل الرضي وبعده ـ ولم تطل اليد إلى كل من أورد هذه الخطبة, لشحّة المصادر التي وصلت إلينا ـ رأيت في باب( كلامه الغريب المحتاج إلى تفسير )؛ العبارة (الياسر الفالج) وفي الخطبة ـ كما بينا ـ (الفالج الياسر) ولعلَّ الرضي قدَّم (الياسر على الفالج) في الباب المذكور سهواً، وجلّ من لا يسهو فالأصل هو ما في الخطبة (الفالج الياسر).
فالفالج : الظافر، الفائز من (فلج يفلج) و(الفالج الياسر)؛ فيه تقديم وتأخير، وتقديره : (كالياسر الفالج)، أي كاللاعب بالقداح المحظوظ منها، وهو من باب تقديم الصفة على الموصوف، كقوله تعالى:(( وَغَرابِيبُ سُودٌ)) [٦], وحَسَّن الإمام ذلك هاهنا؛ أن اللفظتين صفتان، وإن كانت إحداهما مرتّبة على الأخرى .
غرابة لفظة (ياسر) جاء ت في معنى النصِّ، الذي هو أنّ المسلم بين خيرتين ؛ أمّا أن يصير إلى ما يحب من الدنيا, فهو بمنزلة صاحب القِدْح المُعلّى، وهو أوفرها حظاً، أو يموت فما عند الله خيرٌ وأبقى للأبرار، فهو معنىً جديد للمسلم الذي يفوز في الدنيا بالسهم الأوفر منها أو يموت ويدخل الجنة، فليختر واحدة من اثنتين.
وفسّر الرضي غريب لفظة (الياسر) بقوله (الياسرون هم الذين يتضاربون بالقداح على الجزر... والفالج: القاهر الغالب...) [٧] غير أنّ الشارح ـ ابن أبي الحديد ـ خطّأ الرضي، فذكر أنّ الرضي لا يعني بقوله : الفالج : القامر الغالب ؛ لأن الياسر، كيف ينتظر وقد غلب، فلا حاجة له بالانتظار، وفسّر (الفالج) بالميمون النقيبة، الذي له عادة مطّردة في الغلبة، وقلّ أن يكون مقهوراً [٨].
قلتُ؛ إنّ النقيبة، هي: الناقة العظيمة الضرع [٩]، فهي مبروكة ـ ميمونة ـ لإعطائها لبناً كثيراً لا غير، فكيف تغلب ؟ وبماذا تغلب؟ فهل تغلب في ميسر ؟ فإذا كان كذلك، عاد معنى( الياسر) إلى ما قاله الرضي. وإن كانت تغلب في عراك ! فهذا غير معهود من النوق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ الغالب القامر، إذا فاز لِمَ لا ينتظر؟فهو يطلب المزيد من الربح المتأتي من فوزه، فلا أوافق الشارح في ما ذهب إليه .
فالياسر من (الميسر)، وهو القمار الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، ولِمنْعه نزل قوله تعالى: ((إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ)) [١٠] .
وقد ذهب أبو زيد الأنصاري، وأبو عبيد القاسم بن سلاّم، والجوهري، والزمخشري، وابن الأثير، وابن منظور، والفيروزآبادي، والزبيدي إلى أنّ (الياسر) هي لفظة، تُستعمل في (المقامرة), ولكنَّهم اضطربوا في تحديد الدلالة المعنوية لها [١١] ؛ لأنّها لفظة غريبة.
وقد وردت في كتب (النوادر) [١٢] وكتب (الغريب)، غير أنّ استعمالها في (النهج) جاء بمعنى (المقامر), وهو معنى لم تألفه كتب (غريب الحديث) الذي جاء معناه فيها؛ (المساهلة و المساعدة)، فقد قال الرسول (ص) : «مَنْ أطاعَ الإمامِ، وأنْفَقَ الكريمة، وياسَرَ الشريك ؛ فإنّ نوْمَه، ونُبْهَهُ أجرٌ كلُّه، وَمَنْ غَزَا فخراً ورِيَاءاً فإنَّهُ لا يرجع بالكَفافِ» [١٣] فـ (ياسر الشريك) ساعده وساهله.
فالياسر الذي يلعب بالقداح على الجزور، واليسر مثله، والجمع أيسار قال: سدوس بن ضباب :
«إنِّي إلى كُــــلّ أيْسَــارٍ ونـاديـــةٍ ***** أدْعو حُبيشاً كما تَدعى ابنةُ الجَبَلِ» [١٤]
وأخلص من هذا كلّه إلى أنّ لفظة (الياسر) محدودة الاستعمال بالمقامرين والقمار، وهي لا تُستعمل في هذا المجال على إطلاقها، بل تُستعمل في نوعٍ بعينه من المقامرة، وهو : الاستقسام بالأزلام، وهذا مايسمى بـ(رَمْي القِداح), و(القِدح) هو؛ السهم الذي يُقامر به، فإذا أُلقيت السهام، وظهرت نتائج المقامرة, فاز منها (القِدح المعلَّى) بالنصيب الأوفر، ثم تأتي بعده بقية القِداح التي تسمّى أيضاً بـ(المياسر)، فالذي يخرج له القِدح المعلّى هو (الياسر)، أي: الرابح في هذا النوع من المقامرة، فأنظر إلى ضيق المجال في استعمال هذه اللفظة.
فلفظة (ياسر) تعني :السهل، والجازر، الذي يلي قسمة الجزور الخاصة بالميسر، والضارب بالقداح ... فكلـّها (ياسر), لكنّ الذي يقامر على الجزور, ويفوز هو المقصود. وعلى هذا أصبح للفظة (ياسر) غرابتان:
فأما الأولى فهي: غرابة في زمانها بسبب تأرجحها بين دلالات عدّة؛ أوّلها: أنّ الياسر هو الفائز في لعبة الميسـر. والثانية: هي أنّ الياسر هو المغلوب، فالياسر هو القامر وهو المقمور، والثالثة هي: أنّ الياسر هو الذي يقوم بتقسيم الجــزور ـ وهي الناقة التي يقامرون عليها ـ على الأيسار أو على المتياسرين أي المقامرين .
وإمّا الغرابة الثانية؛ فهي غرابتها التي جاءت في غير زمانها، أي بعد انحسار الميسر والقداح من حياة العرب، بعد ذهاب الجاهلية .
فكلمة الياسر في القرن الأول الهجري وما بعده بدأت تأخذ دلالة على (التسهيل والتيسير) لا على المقامرة، وممّا شجّع على هذا أنّ أحد الصحابة الأجلاء كان اسمه عمار بن ياسر فلم يكن سهلاً على المسلمين أن يقرنوا اسم هذا الصحابي الجليل إلى معنى القمار، فقرنوه إلى معنى اليسر والسهولة، ومن هنا اتسعت دلالة (ياسر) التي سنتحدث عن مثيلاتها التي وردت في( النهج) في الفصل القادم إن شاء الله, غير أنّ الذي يتقامر على الجزور ويفوز هو المقصود هنا .
وشبيه بـ(ياسر) لفظة «صَرُوم» [١٥], و«وضينها» [١٦], و«الهَمَجَة» [١٧] , ... وقد ذكرتها كتب (الغريب) [١٨].
فغرابة ألفاظ هذا الفصل جاء ت من ندرتها في الاستعمال، وقد صنّفتها في مباحث خمسة، غير أنّ ثمّة ألفاظاً أخرى جاء ت غرابتها من معناها، الذي استُعمل في (النهج)، وهذا ما سيعقده الفصل الثاني من هذا الباب.
-----------------------------------------------------------------
[١] . ينظر : أمراض عيون الناس : ١٧، Parsons Diseases of the eye ترجمة الطبيبين؛ ياسر عدنان زوين، والطبيب صادق خيري، وإختصاصهما في (شبكية العين)، ويسمّيه الأطباء بـ(rod)، أو (con) .
[٢] . شرح النهج : ١٩/١١٥ .
[٣] . ينظر : المصدر نفسه:١/٣١٢ .
[٤] . م.ن: ١/٣١٢.
[٥] . ينظر : غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلاّم :٣/٤٦٨، و(الفائق) :٣/٢٢٩، و( النهاية)، (ي/س/ر) : ٥/٢٩٦. وينظر: أيضاً : (الصحاح)، و( لسان العرب المحيط)، و (التاج), (ي/س/ر) : ٢/٨٥٨ ،٣/١٠١١، ١٤/٤٦٢ .
[٦] . فاطر / ٢٧.
[٧] . شرح النهج : ١٩/١١٥ .
[٨] . ينظر: المصدر نفسه .
[٩] . ينظر : القاموس المحيط : (ن/ق/ب) ١٤١ .
[١٠] . المائدة :٩٠ .
[١١] . ينظر: غريب الحديث : ٣/٤٧٠، و(الصحاح) ،(ي/س/ر) : ٢/٨٥٨، و(الفائق): ٣/٢٢٩، و(الأساس)، و(النهاية)، و(لسان العرب المحيط) و(القاموس المحيط) ، و ( التاج)، (ي/س/ر) : ٢/٥٦٢، ٥/٢٩٦، ٣/١٠١١، ٤٦٤، ١٤/ ٤٦٢ .
[١٢] . ينظر : النوادر : ١٤٢ .
[١٣] . ينظر : الفائق : ٣/٢٢٩، و(النهاية),(ي/س/ر) ٥/٢٩٦، ووثقا الحديث للإمام .
[١٤] . النوادر لأبي زيد الأنصاري : ١٤٢.
[١٥] . شرح النهج : ١٠/١٧١ /٣.
[١٦] . المصدر نفسه : ١٧/١١٧/٤.
[١٧] . م. ن : ٩/٢٧٥ / ١١.
[١٨] . ينظر:الفائق: ٣/١٦٩، وينظر: (النهاية)، (ص/ر/م), (هـ/م/ج):٣/٢٦، ٥/٢٧٣، و(مجمع البحرين) : (ص/ر/م)، و(هـ/م/ج): ٢/٦٠٦، ٤/٤٣٤ , (أعاد ترتيبه محمود عادل)
انتهى .
منقول من كتاب غريب نهج البلاغة (أسبابه، أنواعه، توثيق نسبته، دراسته)
أصل هذا الكتاب رسالةٌ جامعيةٌ تقدّم بها الباحث إلى مجلس كلية الآداب / الجامعة المستنصرية
ونال بها شهادة الدكتوراه بدرجة امتياز مع التوصية بطبعها