إسلام الموسوي
وهذا نص يصرّح فيه الإمام لأصحابه بما ينتظرهم من الفتنة وويلاتها من بعده، محملاً إيّاهم مسؤوليّة نشوء الفتنة وانتشارها وما يترتّب على ذلك من شرور، لأنّهم كانوا سلبيّين أمام مظاهر تسرّب روح الفتنة إلى مجتمعهم السّياسي وبنيتهم الثّقافيّة، وهذا ما وفّر للفتنة أجواء النّموّ والإنتشار، وكانوا متخاذلين، مهملين لواجبهم، لم يتحمّلوا مسؤوليّتهم في نصرة قضيتهم، وحماية نظامهم الشّرعي العادل:
«أيُّها النَّاسُ، لو لم تتخاذلُوا عن نصرِ الحقِّ، ولم تهِنُوا عن توهينِ الباطِلِ، لم يطمع فيكُم من ليس مِثلكُم، ولم يقوَ مَن قويَ عليكُم. لكِنَّكُم تهتُم متاه بني إسرائيلَ، ولعمري ليُضعَّفنَّ لكُمُ التِّيهُ مِن بعدي أضعافاً، بِما خلَّفتُمُ الحقَّ وراء ظُهُورِكُم، وقطعتُمُ الأدنى ووصلتُمُ الأبعدَ...» [١].
ج - ما موقف المسلم من الفتنة حين تبدأ ؟
ما موقف المسلم من الفتنة حين يذّر قرنها ؟
في الفتنة - كما رأينا - يختلط الحّق بالباطل، ويلتبس الصّواب بالخطأ، فلا يتميّز أحدهما من الآخر.
وفي هذه الحالة يكون الموقف الأسلم والأوفق بالشرع هو الإبتعاد عن الفتنة والإمتناع عن المشاركة مع هذا الطرف أو ذاك، إذ لا يأمن المشارك من أن يقع في الباطل وهو يرى أنّه ينصر الحق، أو يحارب الحق وهو يرى أنّه يحارب الباطل.
وهذا هو الموقف الّذي نصح الإمام بالتزامه حين تقع الفتنة، ويلتبس فيها الحقّ بالباطل، فقد قال:
««كُن في الفِتنَة كابنِ اللَّبُونِ. لا ظهر فيُركبَ، ولا ضرع فيُحلبَ» [٢].
ولكن هذا الموقف يكون صواباً حين لا يكون الإمام العادل موجوداً، ولا يتاح للمسلم أن يتبيّن الحقّ من الباطل في الأحداث والمواقف الّتي تجري أمامه، أمّا حين يكون الإمام العادل موجوداً، ويتّخذ من الفتنة موقفاً، فإنّ على المسلم أن ينسجم في مواقفه مع مواقف الإمام العادل، وليس له أن يبقى على السّلبيّة متذرّعاً بأنّه يخشى الوقوع في الباطل، وإنّما يكون موقفه هذا، في هذه الحالة، جبناً وخذلاناً للحقّ، بل إنّه يكون، من بعض الوجوه، خيانة ومساهمة في الفتنة، لأنّه بسلبيّته غير المبرّرة قد يضلّل آخرين يجدون في سلبيّته تبريراً لمواقفهم.
وقد واجه الإمام أثناء فترة حكمه العاصفة مثل هذه المواقف الجبانة السلبيّة الخائنة من قبل بعض القيادات في مجتمعه تجاه الفتنة الّتي أثارتها قوى الثّورة المضادّة، فقال مرّة يخاطب النّاس:
«أيُّها النَّاسُ، ألقُوا هذِهِ الأزِمَّة [٣] الَّتِي تحمِلُ ظُهُورُها الأثقالَ مِن أيدِيكُم، ولا تصدَّعُوا [٤] على سُلطانِكُم، فتذُمُّوا غِبَّ فِعالِكُم [٥] ولا تقتحِمُوا ما استقبلتُم مِن فور نارِ الفِتنةِ [٦]، وأميطُوا عن سننِهَا [٧] وخلُّوا قصد السّبِيلِ لها [٨]، فقد لعمري يهلِكُ في لهبها المُؤُمِنُ، ويسلمُ فيها غيرُ المُسلِمِ.»
«إنَّما مَثَلِي بينكُم كمثلِ السِّراجِ في الظُّلمةِ، يستضِيءُ بهِ مَنْ ولجهَا...» [٩].
فالإمام هنا ينهى جمهوره عن المشاركة في الفتنة ولكنّه لا يقرّهم على الموقف السّلبي منها، وإنّما يأمرهم بالتّصدّي لها.
إنّ المشاركة فيها تعني التآمر معها، والسّلبيّة أمامها تعني عدم التّصدّي لها، وكلاهما خطأ. الموقف السّليم هو مواجهتها مع الإمام الحاكم العادل، لأنّ الحقّ - بوجوده - بيّن ظاهر، فهو الهادي، وهو الدّليل الّذي لا يضلّل، وهو «السّراج في الظّلمة»، ظلمة الفتنة، وكلّ ظلمة.
وقد حدث أنّ بعض المسلمين في بدايات خلافة أمير المؤمنين عليّ التبس عليهم الأمر في الفتنة الّتي أثارها خروج طلحة والزّبير، وعصيان معاوية نتيجة لموقف أبي موسى الأشعري الّذي قال للنّاس في الكوفة حين دعوا إلى قمع عصيان طلحة والزّبير: إنّ الموقف موقف فتنة، وأنّ الموقف السّليم منها هو الإمتناع عن المشاركة فيها.
وقد أوضح الإمام إذ ذاك أنّ الموقف من الفتنة الّتي يلتبس فيها الحقّ بالباطل هو هذا، ولكنّ الأمر يختلف حين يتّضح جانب الحقّ بوجود الإمام العادل أو بأيّة وسيلة أخرى، فإنّ السّلبيّة في هذه الحالة تكون خيانة.
ومن هنا فقد سمّى الإمام خروج طلحة والزّبير فتنة، ودعا الناس إلى مواجهتها وقمعها، لأنّ وجه الحقّ فيها بيّن، فقد كتب إلى أهل الكوفة عند مسيره إلى البصرة:
«...واعلمُوا أنَّ دارَ الهِجرة [١٠] قد قلعت بِأهلِها وقلعوا بِها [١١]، وجاشت جيش المِرجلِ [١٢]، وقامتِ الفِتنةُ على القُطبِ [١٣]، فأسرِعُوا إلى أميرِكُم، وبادِرُوا جِهادَ عدُوِّكُم» [١٤].
د - موقف الإمام عليّ من فتنة عصره
ما دور الإمام عليّ، وما موقفه من الفتنة الّتي عصفت بالمجتمع الإسلامي في عهده ؟.
نظرة إلى التاريخ السّياسي والفكري للإسلام تكشف بوضوح عن أنّ الإمام عليّاً كان المنقذ الأكبر للإسلام من التّشوّه والمسخ بالفتنة الّتي عصفت رياحها المجنونة بالمسلمين منذ النّصف الثاني من خلافة عثمان.
ولولا توجيه عليّ الفكري، ومواقفه السّياسيّة، ومواجهته العسكريّة للفتنة في شتّى مظاهرها الفكريّة والسّياسيّة والعسكريّة لَتشوّه الإسلام، وانمسخ، وتقلّص. ولكنّ الإمام عليّاً، بموقفه الواضح الصّريح الرّافض لأيّة مساومة، كان المنقذ الّذي كشف الفتنة ودعاتها، ووضع المسلمين جميعاً أمام الخيار الكبير: مع الفتنة أو ضدّها ؟.
ولا يهمّ بعد ذلك أنّ الفتنة حازت إلى جانبها جمهوراً كبيراً من النّاس، المهم أنّها افتضحت، وبافتضاحها سلم الإسلام من التّشوّه ومن خطر التّزوير، وكان على الّذين انحرفوا أن يجدوا لأنفسهم مبرّرات.
وقد كان توقع نشوء الفتنة، والخوف منها ومن أفاعليها وعواقبها، هاجساً عامّاً عند المسلمين. يكشف عن ذلك السّؤال عنها، وعن الموقف الصّواب منها، وكثرة حديث الإمام عن أخطارها وملابساتها.
وقد كان الإمام عليّ بروحانيّته العالية السّامية، وإسلاميّته الصّلبة الصّافية، وروحه الرّساليّة الّتي تفوّق بها على جميع معاصريه، وحكمته وشجاعته، وسيرة حياته الناصعة الّتي ابتدأت بالإسلام... كان هو الرّجل الوحيد المرصود لمواجهة الفتنة، وإنقاذ الإسلام منها.
لقد أعلمه رسول اللّه (ص) بذلك، وأدرك هو دوره من خلال رصده لحركة المجتمع التّاريخيّة.
وهذا نصّ عظيم الأهمّيّة يكشف لنا عن الدّور المرصود للإمام عليّ في مواجهة الفتنة، يتضمن الرّؤية النّبويّة لمستقبل الحركة التّاريخيّة من جهة، والرّؤية النّبويّة لدور الإمام عليّ في هذه الحركة.
وقد أورد الشّريف الرّضي هذا النّصّ، كما أورده ابن أبي الحديد في شرحه (٩ : ١٠٥ - ١٠٧) برواية الشّريف وبرواية أخرى أكثر بسطاً. ويبدو أنّ الرّواية الأخرى تقريريّة حدّث بها الإمام، ورواية الشّريف خطابيّة، جاءت جواباً منه على سؤال، فقد قام إليه رجل - وهو يخطب - فقال: يا أمير المؤمنين: أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت رسول اللّه (ص) عنها ؟
فقال عليه السّلام:
«إنَّهُ لَما أنزلَ اللّه سُبحانهُ قولَهُ (الم. أحَسِب النَّاسُ أن يُتركُوا أن يقُولوا آمنّا وهم لا يُفتنُون) [١٥] علِمتُ أنَّ الفِتنة لا تنزِلُ بِنا ورسُولُ اللّه (ص) بين أظهُرِنا. فقُلتُ: يا رسُول اللّهِ ما هذهِ الفِتنةُ الَّتِي أخبرَك اللّه تعالى بِها ؟ فقال: (يا علِيُّ، إنّ أُمَّتي سيُفتنُون من بعدِي)، فقُلتُ: يا رسُولَ اللّه، أوَ لَيْسَ قد قلتَ لي يوم أُحُدٍ حيثُ استُشهِدَ من استُشهِدَ من المُسلمِين، وحيزَت [١٦] غنِّي الشَّهادةُ، فشقَّ ذلك عليَّ، فقُلتَ لي: (أبشِر، فإنَّ الشَّهادةَ مِن ورائكَ) فقال لِي: (إنَّ ذلِك لكذلِك، فكيف صبرُك إذن ؟) فقُلتُ: يا رسُول اللّه: ليس هذا مِن مواطِنِ الصَّبرِ، ولكِن مِن مواطِنِ البُشرى والشُّكرِ. وقال: (يا عليُّ، إنَّ القومَ سيُفتنُون بِأموالِهِم، ويمُنُّون بدينِهِم على ربِّهِم، ويتمنَّون رحمتهُ، ويأمنُون سطوتهُ، ويستحِلُّون حرامهُ بِالشُّبُهاتِ الكاذبِةِ، والأهواءِ السَّاهيةِ، فيستحِلُّون الخمرَ بالنَّبيذِ، والسُّحتَ بالهديَّةِ، والرِّبا بالبيعِ) قُلتُ: يا رسُول اللّه: فبأيِّ المنازِلِ أُنزِلُهُم عندَ ذلِك ؟ أبمنزلَةِ رِدَّةٍ أم بمنزلَةِ فِتنةٍ ؟ فقالَ: (بِمنزِلَة فِتنةٍ)» [١٧].
وإذن، فقد كان الإمام مرصوداً لمواجهة الفتنة وفضحها.
لقد كان منقذ الإسلام بعد رسول اللّه (ص) من التّزييف والتّحريف، فحقّق بمواجهته للفتنة صيغة الإسلام الصّافي، في المعتقد والفكر والتّشريع والعمل، وغدت الفتنة أزمة في داخل الإسلام، ولم تفلح في أن تكون هي الإسلام.
وقد عبّر الإمام في أكثر من مقام عن دوره العظيم الفريد في التاريخ، من حيث كونه القيادي الوحيد الّذي استطاع أن يواجه الفتنة ويفضحها، فقال ممّا قال:
«...فإنِّي فقأتُ عين الفِتنةِ [١٨]، ولم يكُن ليجترئ عليها أحد غيري، بعدَ أن ماج غيهبُها [١٩] واشتدَّ كلبُها [٢٠]».
لقد حدثت داخل الإسلام فتن كثيرة، ولكن أعظم هذه الفتن خطورة وأشدّها تخريباً فتنة بني أميّة الّتي عصفت رياحها السّوداء الشّرّيرة المجتمع الإسلامي منذ النّصف الثّاني من عهد عثمان، وتعاظمت خطورتها بعد مقتله. واستغرقت مواجهتها الفكريّة والسّياسيّة والعسكريّة معظم جهود أمير المؤمنين عليّ في السّنين الأخيرة من حياته.
وقد كان الإمام يغتنم كل فرصة سانحة ليحدّث مجتمعه عن هذه الفتنة، ويبيّن له أخطارها الآنية والمستقبليّة من أجل إيجاد المناعة النّفسية منها، والوعي العقلي لأخطارها، والعزم العملي على مواجهتها وقمعها، والتّصميم على رفضها حتّى بعد انتصارها.
قال عليه السّلام، «إنَّ الفِتنَ إذا أقبلت شبَّهت [٢١]، وإذا أدبرت نبَّهت، يُنكرن مُقبِلاتٍ، ويُعرفن مُدبِراتٍ، يحُمنَ حوم الرِّياحِ، يُصِبن بلداً، ويُخطِئن بلداً. ألا وإن أخوف الفِتنِ عندي عليكُم فِتنةُ بني أُميَّة، فإنَّها فتنة عمياءُ مُظلِمة، عمَّت خُطَّتُها [٢٢] وخصَّت بليَّتُها، وأصاب البلاءُ من أبصرَ فيها، وأخطأ البلاءُ من عمِي عنها» [٢٣] .
فَهي فتنة عمّت بليتها لأنّ روّادها الحكام أنفسهم، ومن ثمّ فشرورها السّياسيّة والفكريّة تشمل المجتمع كلّه.
وهي فتنة خصّت بليتها لأنّ أعنف ضرباتها ستوجّه إلى الصّفوة المؤمنة الواعية الّتي بقيت سليمة من داء الفتنة، ووضعت نفسها في مواقع كفاح الفتنة الغالبة.
والمسؤوليّة في هذه الفتنة ملقاة على المبصرين فيها، الّذين يعرفونها ويعرفون وجه الحقّ ويجبنون عن مواجهتها، أو يتواطؤون، ضد الحق، معها.
أمّا من عمي عنها، وجهل أبعادها وأخطارها فهو معذور بجهله.
٣ - إنتصار حركة الرّدّة
لا نعني بالرّدّة هنا الرّدّة الدّينيّة عن الإسلام، فقد سبق أن رأينا التّوجيه النّبوي لعليّ حين سأل رسول اللّه (ص): فبأيّ المنازل اُنزلهم عند ذلك ؟ أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة ؟ فقال (ص) بمنزلة (فتنة).
وإنّما نعني الرّدّة السّياسيّة والفكريّة. فإنّ الفتنة حين انتصرت سياسيّاً بعد استشهاد أمير المؤمنين عليّ راحت تمكّن لنفسها بفرض قيمها الفكريّة والإجتماعية في الثّقافة العامّة، وتطبع العلاقات في داخل المجتمع بطابعها.
لقد كان الإمام يرى ببصيرته النّافذة أنّ الفتنة ستنتصر، وكانت هذه الرّؤية إحدى مسببّات ألمه العميق.
وكان يرى أنّ الفتنة لا تقاوم إِلا بالكفاح، أمّا السّكوت عنها ومهادنتها فيتيحان الفرصة أمامها لكي تنتصر.
وكان يؤرقه أنّ مجتمعه، لأسباب شتّى، آثر أن يواجه الفتنة بالسّكوت عنها، أو - بعبارة أخرى - آثر ألا يواجه الفتنة الآتية.
وكان يقارن بين أصحابه وبين أصحاب رسول اللّه (ص)، فيريهم أنّ التّوجيه الثّقافي واحد، وأنّ القيادة واحدة، ولكنّه يرى أنّ درجة الإخلاص متفاوتة:
«...واللّه ما اسمعكُمُ الرَّسُولُ شيئاً إلا وها أنا ذا مُسمِعُكُمُوهُ، وما أسماعُكُم اليوم بِدُونِ أسماعِكُم بالأمسِ، ولا شُقَّت لهُمُ الأبصارُ، ولا جُعِلت لهُمُ الأفئدةُ في ذلك الزَّمانِ، إلا وقد أُعطيتُم مِثلَها في هذا الزَّمانِ. وواللّه ما بُصِّرتُم بعدهُم شيئاً جهلُوهُ، ولا أُصفِيتُم بهِ وحُرِمُوهُ [٢٤]، ولقد نزلت بِكُم البليَّةُ جائلاً خِطامُها [٢٥]، رِخواً بطانُها [٢٦] فلا يغُرَّنَّكُم ما أصبح فيه أهلُ الغُرُورِ، فإنَّما هو ظِل ممدُود إلى أجلٍ معدُودٍ» [٢٧].
وقد تكرّر منه المقارنة بين حال أصحابه وحال أصحاب رسول اللّه (ص) في عدة مواقف. وكان يرى في طريقة مواجهة أصحابه للفتنة الآتية نذر انتصار هذه الفتنة من بعده، وقد كشف عن رؤيته هذه لمجتمعه في عدة مواقف، منها قوله:
«...أما والذي نفسي بيدِه، ليظهرنَّ هؤُلاءِ القومُ عليكُم، ليس لأنَّهُم أولى بِالحقِّ، ولكِن لإسراعهِم إلى باطل صاحبهم، وإبطائكُم عن حقِّي. ولقد أصبحتِ الأُممُ تخاف ظُلم رُعاتِها، وأصبحتُ أخافُ ظُلم رعيَّتي، استنفرتُكُم للجِهادِ فلم تنفِروا، وأسمعتُكُم فلم تسمعُوا، ودعوتُكُم سِرّاً وجهراً فلم تستجيبُوا، ونصحتُ لكُم فلم تقبلُوا» [٢٨].
ويكشف هذا النّصّ - كغيره من النّصوص المماثلة له - عن أنّ انتصار الفتنة لم يكن في تقدير الإمام عليه السّلام وتحليله ناشئاً من قدر غيبي، وإنّما نشأ من توفّر الأسباب الموضوعيّة على أرض الواقع السّياسي والإجتماعي الّذي كانت عوامله تتفاعل في المجتمع السّياسي المواجه للفتنة.
لقد فقد هذا المجتمع فاعليته، وتخلّى عن روح الكفاح في مواجهة الفتنة، وانفصل عملياً عن قيادته فسقط في السّلبيّة، وآثر الحياة السّهلة الخالية من تبعات الرّسالة والجهاد.
ومن ذلك قوله عليه السّلام: «...ثُمَّ يأتي بعد ذلِك طالِعُ الفِتنةِ الرَّجُوفِ [٢٩]، والقاصِمةِ الزَّحُوفِ [٣٠]، فتزيغُ قُلُوب بعد استِقامةٍ، وتضِلُّ رِجال بعد سلامةٍ، وتختلِفُ الأهواءِ عند هجُومِها، ونلتبسُ الآراءُ عِند نُجُومِها [٣١] من أشرف لها قصمتهُ [٣٢] ومن سعى فيها حطمتهُ، يتكادمُون فيها تكادُم الحُمُرِ في العانةِ [٣٣] قد اضطرب فيها معقُودُ الحبلِ، وعمي وجهُ الأمرِ. تغيضُ فيها الحِكمةُ [٣٤]، وتنطِقُ فيها الظَّلمةُ، وتدُقُّ أهل البدو بمسحلِها [٣٥] وترُضُّهُم بِكلكلِها [٣٦]... فلا تكُونُوا أنصاب الفِتنِ [٣٧] وأعلامَ البِدعِ، والزمُوا ما عُقد عليه حبلُ الجماعةِ، وبُنيت عليه أركانُ الطَّاعةِ» [٣٨].
في هذا النّصّ بيّن الإمام بعض سمات انتصار الفتنة:
١ - إستيلاء الفتنة على مساحات جديدة في المجتمع: «تضلّ رجال بعد سلامة» وتتعمّق الأفكار المنحرفة «تزيغ قلوب بعد استقامة».
٢ - تلفّ المجتمع حيرة شديدة نتيجة للإنتصار غير المتوقع الّذي فرض مفاهيم جديدة لم تكن مألوفة.
٣ - تحطّم الفتنة - في أوج انتصارها - كلّ من يتصدى لها مواجهة.
وفي نصّ آخر بيّن الإمام وجوهاً أخرى لانتصار الفتنة:
«...فعِند ذلكَ أخذ الباطِلُ مآخِذَهُ، وركب الجهلُ مراكِبهُ، وعظُمتِ الطَّاغيةُ، وقلَّتِ الدَّاعيةُ، وصال الدّهرُ صيالَ السَّبُع العقُورِ [٣٩]، وهدر فنيقُ الباطل بعد كُظومٍ [٤٠] وتواخى النَّاسُ على الفُجُورِ، وتهاجرُوا على الدِّين، وتحابُّوا على الكذِبِ، وتباغضُوا على الصِّدقِ، فإذا كان ذلك كان الولدُ غيظاً [٤١] والمطرُ قيظاً [٤٢] وتفيضُ اللِّئامُ فيضاً وتغيضُ الكِرامُ غيضاً [٤٣]. وكان أهلُ ذلك الزَّمانِ ذئاباً، وسلاطينُهُ سِباعاً، وأوساطُهُ أكَّالاً، وفُقراؤهُ، أمواتاً، وغار الصِّدقُ، وفاض الكَذِبُ، واستُعمِلتِ المودَّةُ باللِّسانِ، وتشاجر النَّاسُ بالقُلُوبِ، وصار الفُسُوقُ نسباً، والعفافُ عجباً، ولُبِس الإسلامُ لبسَ الفرو مقلُوباً» [٤٤].
في هذا النّصّ فصّل الإمام ملامح الفتنة عندما تنتصر، وتغلب على المجتمع، فتتسلّط على مؤسّساته، وتعمّق جذورها فيه، وتبسط مفاهيمها وقيمها عليه.
ويمكن تلخيص هذه الملامح في النّقاط التّالية:
١ - تأصّل روح الطّغيان في الحكم، ونزعة التّجبر والإستبداد في الحاكمين، وانحسار الرّوح الرّساليّة في مؤسسات الحكم.
٢ - فساد العلاقات الإنسانيّة داخل المجتمع، وتدنّي المستوى الأخلاقي، وشيوع أخلاق المنفعة بين الناس. وما أروع قوله في تصوير جانب من هذه الظّاهرة (واستعملتِ المودّة باللّسان، وتشاجر النّاس بالقلوب).
٣ - إنحطاط مؤسّسة الأُسرة، وشيوع الإباحة الجنسيّة.
ويلخص ذلك كلّه قوله عليه السّلام: (ولُبِس الإسلامُ لُبس الفرِو مقلوباً) وهذا كقوله في نصّ آخر:
«أيُّها النّاسُ، سيأتي عليكُم زمان يُكفأُ فيه الإسلامُ كما يُكفأُ الإناءُ بما فيه» [٤٥] .
٤ - المعاناة
تنتصر الفتنة، فتأتي بحكم غير عادل، لا يرى في الأمة إلا موضوعاً لتسلّطه ومصدراً للمال.
وهي غير أخلاقية، لأنّ قادتها يتبعون في سياسة الناس منطق الغريزة، لا منطق القانون والعدالة. ومن هنا وهناك فلا بدّ أن يكون لها ضحايا كثيرة.
ومن ضحاياها خصومها السّياسيون الذين حاربوها في الماضي، وغلبوا على أمرهم في النّهاية.
ومن ضحاياها خلفاؤها الّذين ساندوها في أيّام ضعفها، واستغنت عنهم في أيّام قوّتها.
ومن ضحاياها الغافلون عن شرورها وأخطارها، الّذين كانوا محايدين في المعركة الدّائرة بينها وبين أهل الحقّ، ثم دهشوا عند انتصارها، فاحتجوا أو أظهروا معارضتهم لها. وأكبر ضحاياها الأمّة كلّها حين تحولها الفتنة المنتصرة إلى موضوع للتّسلط، ومصدر لصنع الثّروات، وتوفير أسباب التّرف واللّهو لنخبتها، وجهازها القمعي، وحلفائها.
وهكذا تبدأ معاناة الأمّة من الفتنة، من ظلمها وتسلطها، من عدوانها الّذي ينتشر كالوباء فيصيب كلّ فئة من المجتمع المغلوب على أمره بشتّى ألوانه: العدوان الأخلاقي، والعدوان السّياسي، والعدوان الإقتصادي.
وقد صوّر الإمام عليّ وجوهاً من معاناة الأمّة وعذاباتها بعد انتصار الفتنة في لوحات معبّرة تكاد تنطق بالحركة الحيّة.
من ذلك قوله عليه السّلام:
«...وايمُ اللّه لتجِدُنَّ بني اُميَّةَ لَكُم اربَابَ سوءٍ بَعدِي، كالنَّاب الضَّروس [٤٦] تعذِمُ بفيهَا [٤٧]، وتخبطُ بيدِها، وَتزِبنُ بِرجلهَا [٤٨] وتمنع درَّها» [٤٩].
« لا يزالونَ بِكُم حَتى لا يَترُكُوا مِنكُم إلا نافعاً لَهُم، أو غيرَ ضائر بِهم. ولا يَزال بَلاؤُهم عَنكُم حتَّى لا يكُون انتِصارُ أَحَدِكُم مِنهُم إلا كَانتِصارِ العَبدِ من رَبِّه والصّاحبِ من مُستَصحِبِهِ. تَرِدُ عَلَيكُم فتنتهم شَوهاء مخشيَّةً [٥٠]، وقطعاً جاهليَّة، لَيسَ فيها مَنَارُ هُدى وَلا عَلَم يُرى» [٥١].
وهكذا يعاني النّاس من الفتنة بعد انتصارها ألواناً من الشّرِّ:
١ - حكم الطّغيان الّذي يقضي على كلّ معارضة له بالرّأي والمذهب، وهو لا يقضي عليه بهوادة ولين، وإنّما بالعنف والقسوة.
٢ - والإذلال الّذي يمحق كرامة الإنسان ويشوّه روحه، فيحوّله إلى عبد لا يجرؤ على رفع صوته والتّعبير عن رأيه، وإنّما يخضع بالطّاعة العمياء الصّمّاء الّتي لا خيار فيها ولا تنبثق من قناعة وإنّما يفرضها الخوف من العذاب.
ومن ذلك قوله عليه السلام:
«واللّه لا يزالُون حتَّى لا يدعُوا لِله مُحرَّماً إلا استَحلّوهُ، ولا عقداً إلا حلُّوهُ، وحتَّى لا يبقى بيتُ مدرٍ ولا وبرٍ [٥٢] إلا دخلهُ ظُلمُهُم ونبا بِهِ سُوءُ رعيهِم [٥٣]، وحتَّى يقُوم الباكيانِ، يبكيانِ: باكٍ يبكِي لدينِهِ وباكٍ يبكي لدُنياهُ، وحتَّى تكُون نُصرةُ أحدِكُم مِن أحدِهم كنُصرةِ العبدِ
مِن سيِّدهِ، إذا شهِد أطاعهُ وإذا غاب اغتابهُ، وحتَّى يكُون أعظمكُم فيها عناءً أحسنُكُم بِاللّه ظنّاً، فإن أتاكُم اللّه بعافيةٍ فاقبلُوا، وإن ابتُليتُم فاصبِرُوا، فإنَّ العاقبِةَ للمُتَّقين» [٥٤].
في هذا النّصّ يكشف الإمام عن وجوه أخرى من المعاناة والعذاب:
١ - سقوط حرمة القانون عند الطّغمة الحاكمة الّتي يفترض فيها، وهي تحكم باسم الدّين، أن تحافظ عليه من حيث التّطبيق.
٢ - انتشار الظّلم، وعدم اقتصاره على الحواضر والمدن، بل يشمل جميع مستويات الأمّة فيعاني منه سكّان المدن وبدو الصحراء.
٣ - الإذلال، وهدر كرامة الإنسان الّذي يتحوّل، لطول ما يعاني من الإذلال، إلى ما يشبه أخلاق الرّقيق.
إنّ هذا الواقع يجعل المعاناة شاملة في قضايا الدّين وقضايا الدّنيا، ويكون أشدّ النّاس بلاء ومعاناة أكثرهم وعياً، وأصلبهم عوداً في مواجهة إغراء الفتنة وإرهابها.
ولكن الإمام يوصي هذه الفئة المستنيرة الّتي لم تستهلكها الفتنة بالصّبر، لأنّ الفتنة في هذه المرحلة لا تقاوم، وكل جهد يبذل في مقاومتها جهد ضائع مهدور يزيد الشَّرعيّة ضعفاً ووحدة وعزلة دون أن يؤثّر على الفتنة، وهي في أوج انتصارها شيئاً.
ومن ذلك قوله عليه السّلام:
«رايةُ ضلالٍ قد قامت على قُطبِها [٥٥] وتفرَّقت بِشُعبِها [٥٦] تكيلُكُم بِصاعِها [٥٧]، وتخبطُكُم بباعِها [٥٨]، قائدُها خارج مِن الملَّةِ، قائم على الضِّلَّةِ، فلا يبقى يومئذٍ مِنكُم إلا ثُفالة كثُفالةِ القدرِ [٥٩] أو نُفاضة كنُفاضةِ العِكمِ [٦٠] تعرُكُكُم عرك الأديِم [٦١]، وتدُوسُكُم دوسَ الحصِيدِ [٦٢] وتستخلِصُ المؤمِنَ من بينِكُمُ استخلاصَ الطَّيرِ الحبَّةَ البطينةَ [٦٣] من بينِ هزيلِ الحبِّ» [٦٤].
في هذا النّصّ يتابع الإمام الكشف عن وجوه المعاناة:
سيادة حكم الطّغيان بسبب أنّ الشريعة مهملة من حيث التّطبيق لأنّ الرّاية راية ضلال، ولذا فإنّ هذا الحكم يتصرّف بوحي الغريزة لا على ضوء القانون، ونتيجة ذلك أنّ الحكم يدوس الأمّة ويسحقها، ويذهب بكلّ صلابة وعنفوان فيها ليحوّلها إلى كيان مطواع لا إرادة له ولا اختيار، كالجلد الّذي سحق وعرك حتى لان ففقد كلّ صلابة، وكالحصيد الّذي ديس حتّى تفتت.
ولكنّ الفتنة، مع ذلك، لا تفلح في القضاء على كلّ شيء، فرغم الظّلم المادّي والمعنوي، والتّشويه الثّقافي تبقى نخبة النخبة محافظة على ذاتها، إنّها تكون قليلة العدد حقّاً، ولكنّها أصيلة، صافية، منيعة على الطّغيان، والتّشويه والإغراء والإرهاب.
ومن ذلك قوله عليه السّلام:
«تغِيضُ فيها الحِكمة [٦٥]، وتنطِقُ فيها الظَّلمةُ، وتدُق أهل البدو بمسحلِها [٦٦] وترُضُّهُم بكلكلِها [٦٧] يضيِعُ في غبارِها الوُحدانُ [٦٨]، ويهلِكُ في طريقِها الرُّكبانُ، ترِدُ بِمُرِّ القضاءِ، وتحلُبُ عبيط الدِّماءِ [٦٩] وتثلِمُ منار الدِّينِ [٧٠] وتنقُضُ عقد اليقين. يهرُبُ منها الأكياسُ [٧١] ويُدبِّرُها الأرجاسُ [٧٢] مرعاد مبراق كاشِفة عن ساقٍ، تقطعُ فيها الأرحامُ، ويُفارقُ عليها الإسلامُ، بريُّها سقيم، وظاعِنُها مُقِيم... بين قتيلٍ مطلُولٍ [٧٣]، وخائفٍ مُستجيرٍ، يختلُون بعقدِ الأيمانِ [٧٤]...» [٧٥].
يبرز الإمام في هذا الفصل - كما في النّصّ الثّاني من هذا الفصل - شمول الظلم لأهل البدو، وهذا يعني - بملاحظة التّركيب الإجتماعي، والوضع الثّقافي للمجتمع الإسلامي في ذلك الحين - أقصى درجات الشّمول للظّلم والطّغيان، فأهل البدو - بسبب طريقة حياتهم - بعيدون عن متناول السّلطة وأجهزتها ومن ثمّ فهم يتمتعون بفرص أكثر من أهل المدن للنجاة من كثير من شرور الطّغيان السّياسي. ولكن هذه الفتنة المنتصرة يبلغ من قوّتها وعنفها أنّ هؤلاء البدو - أهل الوبر - لا يسلمون منها، بل تسومهم سوء العذاب.
كما أبرز الإمام في هذا الّنصّ الوجوه الأخرى للمعاناة: الإذلال، وسياسة القمع، وتجاوز الشّريعة والقانون، وانحطاط العلاقات الإنسانية.
وقال عليه السّلام:
«...فعِند ذلِك لا يبقى بيتُ مدرٍ ولا وبرٍ إلا وأدخلهُ الظَّلمةُ ترحةً [٧٦]، وأولجُوا فيهِ نقمةً، فيومئذٍ لا يبقى لهم في السَّماء عاذِر، ولا في الأرض ناصِر. أصفيتُم بالأمر غير أهله [٧٧] وأوردتُمُوهُ غير موردِهِ، وسينتقِمُ اللّه مِمَّن ظلمَ، مأكلاً بمأكلٍ، ومشرباً بمشربٍ، من مطاعِمِ العلقمِ، ومشارِب الصَّبِرِ والمقرِ [٧٨]، ولِباسِ شِعارِ الخوف ودثارِ السَّيفِ [٧٩]، وإنَّما هُم مطايا الخطِيئاتِ وزوامِلُ الآثام [٨٠]» [٨١].
في هذا النّصّ بيّن الإمام أيضاً طابع الشّمول لهذه الفتنة. وذكّر جمهور النّاس في كلّ عصر بالسّبب الموضوعي الّذي ولّدها، ومكن لها، وهو تجاوز الشّرعيّة في الحاكم والنظام، والإنسياق وراء المصالح الخاصّة، والأنانيّات الفرديّة والقبلية، وعدم تحمّل مسؤوليّات الصّراع ضدّ الباطل وأهله.
ومن ذلك قوله عليه السّلام مخاطباً الخوارج، مخبراً لهم بما سيكون عليه حالهم في نظام الفتنة الآتي حيث لا يجدون الإنصاف والعدل، والتّفهّم لأوضاعهم وآمالهم الّتي يجدونها في نظام العدل الّذي يقوده الإمام.
«أما إنَّكُم ستلقُون بعدي ذُلاً شامِلاً، وسيفاً قاطِعاً، وأثرةً [٨٢] يتَّخذُها الظَّالِمُون فيكُم سُنَّةً» [٨٣].
تنتصر الفتنة، وتسود مفاهيمها، وتفرض على المجتمع قيمها، وتمضي على ذلك السّنون، والفتنة تزداد قوّة ومناعة وتسلّطاً، ويمتدّ سلطانها لينفذ في كلّ زاوية وعلى كلّ صعيد في المجتمع، ويسود الإعتقاد بأنّ كلّ شيء قد انتهى، وبأنّ التّاريخ قد استقر على هذه الصّيغة إلى النّهاية، وتنشأ على هذا الإعتقاد أجيال بعد أجيال.
ولكنّ هذا الإعتقاد خاطئ، فحركة التاريخ لا تتوقف عند صيغة بعينها، بل هي دائبة التّقلب والتّغيّر، وسيكون لانتصار الفتنة واستقرار سلطانها نهاية قد لا تنتهي بها الفتنة، ولكنّها تواجه مقاومة جديدة.
تنشأ هذه المقاومة من حقّ استعاد بعضاً من حيويّته فهو لا يطيق السّكوت، فيعبّر عن نفسه بالثّورة، لا لينتصر، فقد يكون انتصار الحق بعيد المنال في هذه المرحلة من التّاريخ، ولكن ليكسر من غلواء الفتنة، ويعطّل جانباً من عملها التّخريبي في عقيدة الأمّة وشخصيتها، وذلك حين يسلب الفتنة الشّعور بالإستقرار والأمان، فيحملها على اتخاذ موقف الدّفاع عن نفسها والتّخلّي عن بعض مناهجها التّخريبيّة، ويحملها على أن ترتدّ ولو قليلاً إلى الصّواب.
أو تنشأ هذه المقاومة من أزمات داخل الفتنة نفسها، تولّد فتناً تزعج أهل السّلطان القديم، وتأتي إلى سدّة السّلطان بقوم آخرين، ويكون بين أولئك وهؤلاء فرج لأهل الإيمان، ونهضة لأهل الحقّ في غفلة أهل السّلطان.
قال عليه السّلام:
«حتّى يظُنَّ الظَّانُّ أنَّ الدُّنيا معقُولة على بني أُميَّةَ [٨٤]، تمنحُهُم درَّها [٨٥]، وتُورُدُهُم صفوَها، ولا يُرفعُ عن هذه الأُمّةِ سوطُها ولا سيفُها، وكذب الظَّانُّ لذلِك، بل هي مجّة [٨٦] من لذِيِذ العيشِ يتطعَّمُونها بُرهةً، ثُمَّ يلفظُونها جُملةً» [٨٧].
وقال عليه السّلام في نص آخر يخاطب بني أميّة:
«فما احلولت لكُمُ الدُّنيا في لذَّتها، ولا تمكَّنتُم من رضاعِ أخلافِها [٨٨] إلا مِن بعدِ ما صادفتُمُوها جائلاً خِطامُها [٨٩]، قلِقاً وضينُها [٩٠]، قد صار حرامُها عِند أقوامٍ بِمنزلةِ السِّدرِ المخضُودِ [٩١]، وحلالُها بعيداً غير موجُودٍ، وصادفتُمُوها واللّه، ظلاً ممدُوداً إلى أجلٍ معدُودٍ.
فالأرضُ لكُم شاغِرة [٩٢]، وأيديكم فيها مبسُوطة وأيدي القادةِ عنكُم مكفُوفة، وسُيُوفُكُم عليهِم مُسلَّطة، وسُيُوفُهُم عنكُم مقبُوضة. ألا وإنَّ لِكُلِّ دمٍ ثائراً، ولِكّلِّ حقٍّ طالبِاً. وإنَّ الثَّائر في دمائنا كالحاكِمِ في حقِّ نفسهِ، وهُو اللّه الذي لا يُعجزُهُ من طلبَ، ولا يفُوتُهُ من هربَ. فاُقسُمُ باللهِ يا بني أُميَّةَ: عمَّا قليلٍ لتعرفُنَّها في أيدي غيرِكُم، وفي دارِ عدُوِّكُم...» [٩٣].
-----------------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة - الخطبة رقم: ١٦٦. ويومئ في الجملة الأخيرة إلى أنّهم اتصّلوا بمعاوية وتخلّوا عن الحاكم الشّرعي.
[٢] . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم ١. وابن اللّبون هو ابن النّاقة إذا كمل له سنتان. وهو في هذه الحالة لا ينفع للرّكوب لأنّه لا يقوى على حمل الأثقال، وليس له ضرع ليحلب، كنّى الإمام بذلك عن أنّ الإنسان الواعي في الفتنة يقف على الحياد فلا يكون ذا نفع لأيّ طرف من أطرافها.
[٣] . الأزمّة، جمع زمام، كنّى عن قضايا الفتنة بالنياق الّتي يمسك أصحابها بأزّمتها، وهي تحمل على ظهورها الأثقال. يقول لهم: اتركوا قفا الفتنةِ ولا تخوضُوا فِيها لِتخلصُوا مِن آثارِها.
[٤] . لا تصدّعوا: لا تتفرقوا عن الحاكم الشّرعي.
[٥] . غِبَ فعالكم: عواقبها.
[٦] . فور النّار: تعاظمها وارتفاع لهبها.
[٧] . أماط: نحّى وأزال. والسّنن: الطّريق. يعني تنحّوا عن طريق الفتنة وابتعدوا.
[٨] . قصد السّبيل: الطّريق. أي اتركوا الفتنة تسير في طريقها ولا تشتركوا فيها .
[٩] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ١٨٧.
[١٠] . دار الهجرة: هي المدينة المنوّرة.
[١١] . قلع المكان بأهله: نبذهم وطردهم. وقلع فلان بمكانه: نبذه وابتعد عنه.
[١٢] . جاشت: اضطربت، والمرجل: القدر: يعني أنّ دار الهجرة قد اضطربت بأهلها بسبب الفتنة الّتي نشبت فيها وانطلقت منها.
[١٣] . قامت الفتنة على القطب: وجدت من يوجّهها ويرعاها ويغذيها بالأفكار والقوى، فاشتدت وعظم خطرها.
[١٤] . نهج البلاغة - باب الكتب - الكتاب رقم ١.
[١٥] . سورة العنكبوت (مكيّة - ٢٩) الآية: ا و ٢.
[١٦] . جاز عنه الشّيء: أبعده عنه.
[١٧] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ١٥٦.
[١٨] . فقأت عين الفتنة: تغلّبت عليها.
[١٩] . الغيهب: الظّلمة. يعني أنِّي واجهتها في عنفوانها وقوتها.
[٢٠] . الكلب: داء معروف يصيب الكلاب. يعني أنّه واجهها وهي في هذه الحالة عن الأذى والشّرّ الشّديدَين. والخطبة في نهج البلاغة، رقم: ٩٣.
[٢١] . شبّهت: اشتبه فيها الحقّ بالباطل، وإذا أدبرت وخلص النّاس منها تميّز حقّها من باطلها.
[٢٢] . عمّت خطتها: يعني أنَّها فتنة غالبة تصيب ببلائها أهل الحقّ.
[٢٣] . نهج البلاغة: الخطبة رقم: ٩٣.
[٢٤] . اُصفيتم.. خصصتم به دون غيركم.
[٢٥] . الخطام ما جعل في أنف البعير ليقاد به، فإذا لم يكن ثمّة قائد تاه البعير ولم يسلك طريق السّلامة، كنى بذلك عن الفتنة الّتي تعيث فساداً في المجتمع.
[٢٦] . البطان: حزام يجعل تحت بطن البعير ليحفظ استقرار ما عليه من راكب أو حمل فإذا استرخى ادّى ذلك إلى خطر السّقوط. كنّى بذلك عن أخطار الفتنة.
[٢٧] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ٨٩.
[٢٨] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ٩٧.
[٢٩] . الرّجوف: شديد الرّجفان والإضطراب، تُدخل الإضطراب والقلق على المجتمع.
[٣٠] . القاصمة: الكاسرة، والزّحوف: المتحرّكة الّتي تسعى للإنتشار في المجتمع.
[٣١] . نجوم الآراء ظهورها يعني أنّ الفتنة تسبّب البلبلة الفكرية في المجتمع، فتمكن للشّعارات الدّخيلة من التّسرب والشّيوع.
[٣٢] . أشرف لها: تعرّض لها، قصمته: كسرته.
[٣٣] . يتكادمون.. ينهش بعضهم بعضاً، والعانة هي الجماعة من الحمر الوحشية، يعني أنّ سلطان القانون، في حالة انتصار الفتنة، يسقط، ويسود سلطان الغريزة.
[٣٤] . تغيض.. تختفي، غاض الماء: غار تحت الأرض.
[٣٥] . دقّ: فتّت وطحن. والمسحل: المبرد أو المطرقة، يعني أنّ شرورها الاجتماعيّة تصل الى أهل البدو - مع بعدهم عن يد السّلطة - فتحطّم علاقاتهم، وتهدّد أمنهم.
[٣٦] . الرّضّ: التّهشيم، والكلكل: الصّدر، يعني أنّها تطبق عليهم، فتشلّ حركتهم وتحطّم مقاومتهم.
[٣٧] . أنصاب: علامات.
[٣٨] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ٥١.
[٣٩] . صال.. هجم للفتك والإعتداء.
[٤٠] . الفنيق: الفحل من الإبل، والكظوم الصّمت والسّكون - يعني أنّ الباطل بعد أن كان ذليلاً صامتاً، غدا، في الفتنة، عالي الصّوت هادراً.
[٤١] . بسبب الفتنة تفسد أخلاق الأجيال الشّابة فيكونون سبباً لغيظ أهلهم.
[٤٢] . القيظ: شدّة الحر. يعني أنّ الأمور والسّياسات تقع في غير مواقعها فلا تفيد بل تضرّ.
[٤٣] . غاض الماء في الأرض: اختفى وغار فيها. يعني يندر في الفتنة حين تغلب وجود ذوي الأخلاق الكريمة في مراتبهم الإجتماعية لأنّهم يخفون أنفسهم ويبتعدون عن الأضواء.
[٤٤] . نهج البلاغة - الخطبة رقم: ١٠٨.
[٤٥] . نهج البلاغة - الخطبة رقم: ١٠٣.
[٤٦] . النّاب: النّاقة المسنة، والضّروس: النّاقة السّيّئة الخلق.
[٤٧] . عذم الفرس: إذا أكل بجفاء، أو عضّ.
[٤٨] . تزبن: تضرب برجلها من يقترب منها.
[٤٩] . الدّرّ: اللّبن. يعني أنّها غير ذات فائدة مع كونها مصدراً للتّخريب والأضرار. فالفتنة شرّ كلّها، ولا خير فيها.
[٥٠] . شوهاء: قبيحة المنظر، ومخشية: مخوفة مرعبة.
[٥١] . العلم: الدّليل الهادي في متاهات الصّحراء. نهج البلاغة، رقم: ٩٣.
[٥٢] . بيت المدر: ما بُني بالحجارة، وبيت الوبر: الخيمة. يعني أنّ شرّ الفتنة لا يقتصر على سكّان المدن وإنّما يشمل الرّيف والبدو.
[٥٣] . نبا به سوء رعيهم: شرّد النّاس، وأقلق حياتهم من (نبا به المنزل): إذا لم توافقه.
[٥٤] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ٩٨.
[٥٥] . استحكم أمرها كالرّحى حين تستقرّ على قطبها.
[٥٦] . الشّعب: الفروع. يعني أنّ الفتنة تغلغلت في جميع ثنايا المجتمع.
[٥٧] . تشمل النّاس بشرّها دون تمييز كما يكال الحب بالصّاع.
[٥٨] . تضرب بذراعها جميع الأمّة فلا يمتنع منها أحد، مأخوذ من (خبط الشّجرة) ضربها بالعصا ليسقط ثمرها أو يتناثر ورقها.
[٥٩] . الثّفل: نفاية الشّيء، وما لا خير فيه منه، وثفالة القدر ما يبقى فيه من هذا القبيل.
[٦٠] . النّفاضة ما يسقط من الثّوب أو البساط بالنّفض، والعكم: العدل الّذي يجعل على الدّابة ويحمل فيه المتاع.
[٦١] . العرك: الدّلك الشّديد، والأديم: الجلد.
[٦٢] . الحصيد: الغلات المحصودة.
[٦٣] . البطينة: السّمينة.
[٦٤] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ل١٠٨.
[٦٥] . تغيض: تختفي، يعني أنّ الحكمة في الفتنة تختفي في النّاس فلا يتعاملون بما تقضي به من عدالة وأخلاق.
[٦٦] . المسحل: المبرد أو المطرقة.
[٦٧] . الرّضّ: التّهشيم. والكلكل: الصّدر.
[٦٨] . الوحدان: جمع واحد، يعني المنفردون.
[٦٩] . عبيط الدّماء: الطّريّ منها.
[٧٠] . الثّلم: الكسر، يعني أنّها تنتهك الدّين وتقلص نفوذهُ وولايته بترك العمل به وظلم أهله والدّاعين اليه.
[٧١] . الكيس: الحاذق العاقل.
[٧٢] . الأرجاس: الأشرار.
[٧٣] . قتيل مطلول: مهدور الدّم، لا دية ولا قصاص.
[٧٤] . الختل: الخداع، يعني يخدعون النّاس بحلف الأيمان وإظهار شعار الإسلام.
[٧٥] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ١٥١.
[٧٦] . ترحمة: حزن وألم.
[٧٧] . أصفيت فلاناً كذا: أعطيته إيّاه خالصاً، يعني أعطيتم السّلطة السّياسيّة في الإسلام إلى غير أهلها.
[٧٨] . الصّبر: عصارة شجر مرّ، والمقر: السّم.
[٧٩] . الشّعار من الملابس ما يكون على الجلد، والدّثار ما يكون على الثّياب.
[٨٠] . الزّاملة النّاقة أو الدّابّة الّتي يحمل عليها المتاع.
[٨١] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ١٥٨.
[٨٢] . الأثرة: الإستبداد بالخيرات دون الآخرين.
[٨٣] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ٥٨.
[٨٤] . معقولة..: مقصورة عليهم، دائمة لهم، من عقل النّاقة إذا حبسها بالعقال في مكان بعينه.
[٨٥] . الدّر: اللّبن، يعني خيرات الدّنيا والذّاتها.
[٨٦] . مجّة: مصدر مرة، من مجّ الشّراب من فيه، يعني أنّها لا تدوم لهم كما يتوهّم النّاس وإنّما يمجّونها ويلفظونها رغماً عنهم.
[٨٧] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ٨٧.
[٨٨] . الأخلاف جمع خلف: حملة ضرع النّاقة.
[٨٩] . الخطام: ما يوضع في أنف البعير ليقاد به، يعني أنّ تخاذل أهل الحقّ عن نصرة الحق مكن لأهل الباطل من الإنتصار.
[٩٠] . الوضين: حزام عريض يشدّ به الرحل على النّاقة، وهو كناية عن تخاذل أهل الحقّ الّذي مكن لأهل الباطل من النّصر.
[٩١] . السّدر: شجر النّبق، والمخضود: المقطوع شوكه. يعني أنّكم انتصرتم بأقوام يستحلّون حرام اللّه، ولا يتورّعون من شيء.
[٩٢] . شاغرة: خالية، يعني لم يقاومكم أحد.
[٩٣] . نهج البلاغة، الخطبة رقم: ١٠٥.
يتبع .......