وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                

Search form

إرسال الی صدیق
في رحاب نهج البلاغة (الفتنة الكبرى)

حسن السعيد
رغم ما مثلته مرحلة الخلافة من معاناة فادحة للإمام علي(عليه السلام) ، بيد أنّ حقبة عثمان بن عفّان كانت من نوع آخر; أشدّ وطأةً ، وأنكى جراحاً ، وأمضّ فجاجةً .
لقد أدركت الخلافة عثمان وهو شيخ كبير ، ومن ورائه مروان بن الحكم يصرّف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام ، على حدّ تعبير سيّد قطب ، كما أنّ طبيعة عثمان الرخيّة ، وحدبه الشديد على أهله ، قد أسهم كلاهما في صدور تصرّفات أنكرها الكثيرون من الصحابة من حوله ، وكانت لها معقبات كثيرة ، وآثار في الفتنة التي عانى الإسلام منها كثيراً [١].
ويبدو أنّ الفرع الأموي ، بزعامة أبي سفيان ، قد رأى في تولّي عثمان الخلافة فرصة طالما انتظروها كي تعود لهم المكانة الأولى التي فقدوها منذ ظهور الإسلام على يد محمّد بن عبدالله . . لقد سنحت لهم الفرصة ، ورأوا في شخصية عثمان المناخ المناسب كي يحقّقوا ما يريدون . . [٢].
كان القلق يستبدّ بالصحابة الذين لم يجرفهم تيّار الترف ، وهم يرون عثمان قد أطلق العنان لبني أمية في الاستئثار بالمواقع والامتيازات والخروج على الشرع الحنيف . بل إنّ عثمان قد دشّن خلافته بمخالفة صريحة للحكم الشرعي ، حينما عفا عن عبيدالله بن عمر بن الخطّاب ولم يُقِمْ عليه الحدّ . وقد كان عمر أمر بسجن ابنه عبيدالله ليحكم فيه الخليفة من بعده .
يقول ابن الأثير : «..جلس عثمان في جانب المسجد بعد بيعته ، ودعا عبيدالله بن عمر بن الخطّاب ، وكان قتل قاتل أبيه أبا لؤلؤة ، وقتل جُفَيْنةَ رجلا نصرانياً من أهل الحيرة كان ظهيراً لسعد بن مالك ، وقتل الهرمزان ، فلمّا ضربه بالسيف قال : لا إله إلاّ الله! فلمّا قتل هؤلاء أخذه سعد بن أبي وقاص وحبسه في داره وأخذ سيفه وأحضره عند عثمان ، وكان عبيد الله يقول : والله لأقتلن رجالا ممّن شرك في دم أبي ، يعرّض بالمهاجرين والأنصار ، وإنّما قتل هؤلاء النفر لأنّ عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة قتل عمر : رأيت عشيّة أمس الهرمزان وأبا لؤلؤة وجُفينة وهم يتناجون ، فلمّا رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه ، وهو الخنجر الذي ضُرب به عمر ، فقتلهم عبيدالله . فلمّا أحضره عثمان قال : أشيروا عليَّ في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق! فقال علي : أرى أن تقتله . فقال بعض المهاجرين : قُتل
عمر أمس ويُقتل ابنه اليوم! فقال عمرو بن العاص : إنّ الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على المسلمين سلطان . فقال عثمان : أنا وليّه وقد جعلتها دية واحتملها في مالي . . [٣] .
غير أنّ هذا الحلّ الترقيعي كان بمثابة الثغرة الأولى في حقبة عثمان ، ولتتوالى الثغرات لاحقاً ، ويتّسع الخرق على الراقع . دون أن يتمكّن عثمان من دفع الشبهات عن حكمه ، فلقد «أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيدالله بن عمر ، فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ، ثمّ قال : ألا أنّي وليّ دم الهرمزان ، وقد وهبته لله ولعمر ، وتركته لدم عمر .
فقام المقداد بن عمر فقال : إنّ الهرمزان مولى لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله . قال : فننظر وتنظرون . ثمّ أخرج عثمان عبيدالله بن عمر من المدينة إلى الكوفة ، وأنزله داراً ، فنُسب الموضع إليه ، كُوَيْفَة ابن عمر [٤] .
ما يجدر ذكره; أنّ الغماذيان بن الهرمزان كان هو ولي الدم ولم يتنازل عن حقّه ، ولمّا ولي علي(عليه السلام) الخلافة أراد إقامة الحدّ على عبيدالله بن عمر بقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام ، ولو كان إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرّض له علي [٥] .
وحول هذه النقطة يعلِّق عبّاس محمود العقّاد على موقف الإمام(عليه السلام)منها قائلا : «يُخطئ جدّاً منْ يتّخذ فتواه في مقتل الهرمزان دليلا على كراهيته لعمر أو نقمة منه في أبنائه . . فقد أسرع عبيدالله بن عمر إلى الهرمزان ، فقتله انتقاماً لأبيه ، ولم ينتظر حكم ولي الأمر فيه ولا أن تقوم البيّنة القاطعة عليه . فلمّا أُستفتي في هذه القضية أفتى بالقصاص منه ، ولم يغيّر رأيه حين تغيّر رأي عثمان ، فأعفاه من جريرة عمله . . لأنّه هو الرأي الذي استمدّه من حكم الشريعة كما اعتقده وتحرّاه ، وبهذا الرأي دان قاتله عبدالرحمن بن ملجم ، فأوصى وكرّر الوصاية ألاّ يقتلوا أحداً غيره لمظنّة المشاركة بينه وبين رفقائه في التآمر عليه» [٦] .
ولمّا قام عثمان بالخلافة طال عتب (الإمام) عليّ عليه; لأنّه أباح للعمّال والولاة ما ليس بمباح في رأيه [٧] ، ومن كلام له(عليه السلام) ، حول تقييمه لسياسة عثمان : «..وأنا جامع لكم أمره ، استأثر فأساء الأثرة» [٨].
ومن أسوإ أساليب الأثرة تلك اتخاذه أبناء عمومته من بني أميّة بطانة سوء ، إذ أوطأهم رقاب الناس ، وولاّهم الولايات وأقطعهم القطائع ، واُفتُتحت افريقيا في أيّامه ، فأخذ الخمس كلّه فوهبه لمروان فقال عبدالرحمن بن حنبل الجمحي :

أحلف بالله ربِّ الأنا ***** م ما تركَ اللهُ شيئاً سُدى
ولكن خلقت لنا فتنةً ***** لكي نبتلي بك أو تُبتلى
فإنّ الأمينين قد بيّنا ***** منارَ الطريق عليه الهدى
فما أخذا درهماً غيلةً ***** ولا جعلا درهماً في هوى
وأعطيتَ مروان خُمْس البلاد ***** فهيهاتَ سعيُك ممّن سعى

وطلب منه عبدالله بن خالد بن أسيد صلة ، فأعطاه أربعمائة ألف درهم .
وأعاد الحكم بن أبي العاص ، بعد أن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد سيّره ثمّ لم يردّه أبو بكر ولا عمر ، وأعطاه مائة ألف درهم .
وتصدّق رسول الله(صلى الله عليه وآله) بموضع سوق بالمدينة يُعرف بمهزور على المسلمين ، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم .
وأقطع مروان فدكاً ، وقد كانت فاطمة(عليها السلام) طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليهما ، تارةً بالميراث ، وتارةً بالنحلة فدُفعت عنها .
وحمى المراعيَ حول المدينة كلّها من مواشي المسلمين كلّهم إلاّ عن بني أميّة .
وأعطى عبدالله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح افريقيا بالمغرب ـ وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة ـ من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين .
وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال ، وقد كان زوّجه ابنته أمّ أبان ، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح ، فوضعها بين يدي عثمان وبكى ، فقال عثمان : أتبكي أن وصلتُ رحمي؟! قال : لا ، ولكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت هذا المال عوضاً عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله) . والله لو اُعطيتَ مروان مائة درهم لكان كثيراً ، فقال : ألقِ المفاتيح يابن أرقم; فإنّا سنجد غيرك .
وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة ، فقسّمها كلّها في بني أمية . وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة ، فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضاً بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه .
وانضمّ إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون ، كتسيير أبي ذرّ رحمه الله تعالى إلى الربذة; وضرب عبدالله بن مسعود حتّى كسر أضلاعه [٩] ومن ذلك ما نال عمّار بن ياسر من الفتن والضر[١٠] وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود وردّ المظالم ، وكفّ الأيدي العادية ، والانتصاب لسياسة الرعية ، وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين  [١١].
وهكذا كثر الطعن على عثمان ، وظهر عليه النكير [١٢] ولقد كان الصحابة يرون هذه التصرّفات الخطيرة العواقب ، فيتداعون إلى المدينة لإنقاذ تقاليد الإسلام ، وإنقاذ الخليفة من المحنة ، والخليفة في كبرته لا يملك أمره من مروان [١٣] .
وفي هذا الاتجاه أفاضت كتب التاريخ بالأحداث المؤلمة . وقد أُتيح لشاهد عيان أن يصوّر لنا جانباً من ذلك المشهد المفجع ، فعن أبي كعب الحارثي (المعروف بذي الأدواة) قال : «أتيتُ عثمان بن عفّان وهو الخليفة يومئذ فسألته عن شيء من أمر ديني ، وقلت : يا أمير المؤمنين ، إنّي رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن كعب ، وإنّي اُريد أن أسألك فأمرْ حاجبك ألاّ يحجبني ، فقال : يا وثّاب ، إذا جاءك هذا الحارثيّ فأذن له . قال : فكنت إذا جئت ، فقرعت الباب ، قال : مَنْ ذا؟ فقلت : الحارثي ، فيقول : ادخل ، فدخلت يوماً فإذا عثمان جالس ، وحوله نفر سكوت لا يتكلّمون ، كأنّ على رؤوسهم الطير ، فسلّمت ثمّ جلست ، فلم أسأله عن شيء لِما رأيتُ من حالهم وحاله ، فبينا أنا كذلك إذْ جاء نفر ، فقالوا : انّه أبى أن يجيء . قال : فغضب وقال : أبى أنْ يجيء؟! اذهبوا فجيئوا به; فإنْ أبى فجرّوه جرّاً .
قال : فمكثت قليلا ، فجاءوا ومعهم رجل آدم طوال أصلع ، في مقدّم رأسه شعرات ، وفي قفاه شعرات ، فقلت : مَنْ هذا؟ قالوا : عمّار بن ياسر ، فقال له عثمان : أنت الذي تأتيك رسلنا فتأبى أن تجيء؟! قال : فكلّمه بشيء لم أدرِ ما هو ، ثمّ خرج . فمازالوا ينفضّون من عنده حتّى ما بقي غيري ، فقام ، فقلت : والله لا أسأل عن هذا الأمر أحداً أقول حدّثني فلان حتّى أدري ما يصنع . فتبعته حتّى دخل المسجد ، فإذا عمّار جالس إلى سارية ، وحوله نفر من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم)يبكون ، فقال عثمان : يا وثّاب عليّ بالشُّرَط ، فجاءوا ، فقال : فرّقوا بين هؤلاء ، ففرّقوا بينهم .
ثمّ أُقيمت الصلاة ، فتقدّم عثمان فصلّى بهم ، فلمّا كبّر قالت امرأةٌ من حجرتها : يا أيّها الناس . ثمّ تكلّمت ، وذكرت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وما بعثه الله به ، ثمّ قالت : تركتم أمر الله وخالفتم عهده . . . ونحو هذا ، ثمّ صمتت وتكلّمت امرأة اُخرى بمثل ذلك ، فإذا هما عائشة وحفصة .
قال : فسلّم عثمان ، ثمّ أقبل على الناس ، وقال : إنّ هاتين لفتّانتان ، يحلّ لي سبّهما ، وأنا بأصلهما عالم .
فقال له سعد بن أبي وقّاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله(صلى الله عليه وسلم)؟! فقال : وفيمَ أنتَ؟! وما هاهنا؟ ثمّ أقبل نحو سعد عامداً ليضربه ، فانسلّ سعد .
فخرج من المسجد ، فاتبعه عثمان ، فلقي عليّاً(عليه السلام) بباب المسجد ، فقال له(عليه السلام) : أين تريد؟ قال : أريد هذا الذي كذا وكذا ـ يعني سعداً يشتمه ـ فقال له علي(عليه السلام) : أيّها الرجل ، دع عنك هذا ، قال : فلم يزل بينهما كلام ، حتّى غضبا ، فقال عثمان : ألست الذي خلّفك رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم تبوك؟! فقال علي : ألست الفارّعن رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم أحُد؟!
قال : ثمّ حجز الناس بينهما . قال : ثمّ خرجتُ من المدينة حتّى انتهيتُ إلى الكوفة ، فوجدت أهلها أيضاً وقع بينهم شرّ ، ونشبوا في الفتنة ، وردّوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل إليهم ، فلمّا رأيت ذلك رجعت حتّى أتيت بلاد قومي» [١٤] .
ووقفة متأمّلة ازاء هذا المشهد الكاريكتيري تثير علامات الاستفهام حول طبيعة الوضع الذي كان يقوده عثمان ، وهو يوزّع الشتائم والإهانات إلى الصحابة وحتّى زوجات النبي(صلى الله عليه وآله) لم يسلمن منه ، فأيّ حضيض آلت إليه الاُمور؟!
وفيما كان عثمان يتعامل بهذا الاسلوب الفظّ الذي أبكى بعضاً من صحابة رسول الله ، وجرح كبرياء بعض آخر . . فإنّه ـ في الوقت نفسه ـ كان يحيط نفسه بحفنة من المنتفعين ، ومعظم ولاته غلمان تثور حول تدينهم وحول أخلاقهم شبهات كثيرة ، ولم يكن لهم شيء من الصلاحيات ينفعهم غير صِلاتهم بالخليفة [١٥] ، وفي مقدّمة هؤلاء عمّه الحكم بن أبي العاص ـ وهو الذي طرده الرسول من المدينة ـ وولداه مروان والحارث اللذان صاهرهما عثمان وجعل من الأوّل وزيره المتصرّف [١٦] ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، أخو عثمان من أمّه ، والذي عيّنه والياً على الكوفة ، وكان يشرب الخمرة حتى صلاة الفجر ، فيصلّي بالناس أربعاً! وهو ممّن أخبر النبي(صلى الله عليه وآله) أنه من أهل النار . . وعبدالله بن أبي سرح (أخوه من الرضاعة) الذي ولاّه مصر ، ومعاوية على الشام (ويلتقيان في الجدّ الثاني أميّة) وعبدالله بن عامر على البصرة (وهو ابن خاله) .
ولقد لقي الإمام علي(عليه السلام) من عثمان وبطانته ما لقي من العنت ، ونكتفي هنا بإيراد نموذج واحد لهذا الأمر; روى الزبير بن بكّار في «الموفقيات» عن رجال أسند بعضهم عن بعض ، عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، قال : أرسل إليَّ عثمان في الهاجرة (نصف النهار في القيظ) ، فتقنعت بثوبي وأتيته ، فدخلت عليه وهو على سريره ، وفي يده قضيب ، وبين يديه مال دثر (أي كثير) : صُبرتان من ورق وذهب ، فقال : دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني . فقلت : وصلتك رَحِم! إنْ كان هذا المال ورثتَه ، أو أعطاكه معط ، أو اكتسبته من تجار; كنتُ أحد رجلين : إمّا آخذ وأشكر ، أو أوفّرَ وأُجْهَد ، وإنْ كان من مال الله وفيه حقّ المسلمين واليتيم وابن السبيل ، فوالله مالك أن تعطينيه ولا لي أن آخذه . فقال : أبيت والله إلاّ ما أبيت . ثمّ قام إليّ بالقضيب فضربني ، والله ما أردّ يده ، حتّى قضى حاجته ، فتقنّعتُ بثوبي ، ورجعت إلى منزلي ، وقلت : الله بيني وبينك إن كنتُ أمرتُك بمعروف أو نهيتُ عن منكر! [١٧].
على خلفيّة هذه الممارسات غير المسؤولة من الطبيعي أن يتفشّى الفساد في جهاز السلطة ويضرب بأطنابه في كلّ الاتجاهات . والسؤال هو : ما هو موقف الإمام(عليه السلام) من كلّ هذا الذي يجري باسم الإسلام؟
هناك ثلاثة خيارات لا غير : إمّا أن يجاري الوضع على ما هو عليه ، أو يلوذ بالصمت مكتفياً بالتفرّج ، أو يتصدّى للانحراف .
ولمّا كان الإمام علي(عليه السلام) عارفاً وظيفته الشرعية ، فإنّه ليس بمقدوره إلاّ الخيار الأخير ، وهو التأشير على مواطن الخلل بالنصيحة تارةً ، والعقاب أُخرى ، والتحذير ثالثة ، وقد كاشف الإمام علي(عليه السلام) أهل الكوفة ، في كتاب منه إليهم ، جاء فيه : «من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة ، جبهة الأنصار وسنام العرب ، أمّا بعد ، فإنّي أخبركم عن أمر عثمان حتّى يكون سمعُه كعيانه ، إنّ الناس طعنوا عليه ، فكنت رجلا من المهاجرين أُكثر استعتابه (أي استرضاءه) ، وأقلّ عتابَه . . .» [١٨].
ولم يكف الإمام علي(عليه السلام) عن نصيحة عثمان ولم يهتبل فرصة متاحة إلاّ وحاول إنقاذ عثمان ممّا هو في مأزق ، ولكن دون جدوى ، فرأينا كيف كان عثمان يقابل ذلك بمزيد من الانفعال الذي لا يخلو من مظنّة السوء . فقد صوّرت له حاشيته الفاسدة انّ الإمام علياً(عليه السلام) في طليعة حسّاده على نعمته وإمرته! ، ولطالما أشار عثمان إلى هذه التهمة ، تصريحاً أو تلميحاً ، سواء في مجالسه الخاصّة أو في خطبه يوم الجمعة.
وذات جمعة تطرّق إلى هذا الأمر ، حتّى كاد أن يسمّي علياً ، وبعد انتهاء الخطبة . . «همّ بالنزول فبصر بعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ومعه عمّار بن ياسر(رضي الله عنه) ، وناس من أهل هواه يتناجون; فقال : إيهاً إيهاً! إسراراً لا جهاراً! أما والذي نفسي بيده ما احنق على جرّة ، ولا أوتَى من ضعف مِرّة; ولولا النظر لي ولكم والرفق بي وبكم ، لعاجلتكم; فقد اغتررتم ، وأقلتم من أنفسكم .
ثمّ رفع يديه يدعو . . فتفرّق القوم عن علي(عليه السلام)» [١٩] .
ولا يسع المراقب المحايد إلاّ أن يستحضر القول المأثور : «يكاد المريب أن يقول خذوني»!
هذه الحادثة وغيرها كثير جعلت الإمام علياً(عليه السلام) يتجنّب الاحتكاك بعثمان ، وهذا ما أوضحه في كتاب له إلى معاوية :
«ولعمري يا معاوية ، لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمنّ أنّي كنتُ في عزلة عنه إلاّ أن تتجنّى; فتجنَّ ما بدا لك! والسلام» [٢٠] .
غير أنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) لا يستكين إذا ما رأى منكراً يجب ردعه ، حتّى يتمكّن من تحقيق ذلك . ويطول المقام في هذا الباب ، بيد أننا نكتفي بموقفين له مع اثنين من رؤوس الفساد والإفساد في عهد عثمان ، هما : الوليد بن عقبة بن أبي معيط (أخو عثمان من أمّه) ، وصهره المدلّل مروان بن الحكم .

----------------------------------------------------------------------
[١] . سيّد قطب; «العدالة الاجتماعيّة في الإسلام» ، ١٣٩٧هـ ـ ١٩٧٧م ، (دون ذكر لمكان الطبع) .
[٢] . د . محمّد عمارة; «مسلمون ثوار» ط٣ ، القاهرة ، ١٤٠٨هـ ـ ١٩٨٨م ، ص٧٩ .
[٣] . في صفوف بني أميّة ، والتي طفحت على لسان أبي سفيان غداة تولّي عثمان الخلافة ، إذ قال في اجتماع خاصّ ضمّ بني ميّة في دار عثمان : «أفيكم أحدٌ من غيركم؟ (وقد كان عَمِي) ، فقالوا : لا ، قال : يا بني أميّة ، تلقّفوها تلقّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبوسفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة . .» ـ مروج الذهب للمسعودي ، ٢ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ، تحقيق محمّد محيي الدين عبدالحميد ، ط٤ ، مصر ، ١٣٨٤ ـ ١٩٦٤م .
[٤] . إبن الأثير; «الكامل في التاريخ»، تحقيق علي شيري، بيروت، ١٤٠٨هـ ـ ١٩٨٩م . المجلّد الثاني : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.
[٥] . يُراجع : تاريخ اليعقوبي ، المجلّد الثاني : ١٦٣ ـ ١٦٤ ، بيروت (د . ت) .
[٦] . عباس محمود العقّاد; مرجع سابق : ١٣٠ .
[٧] . عبّاس محمود العقّاد; مرجع سابق : ٥١ .
[٨] . نهج البلاغة; مرجع سابق : ٧٣ .
[٩] . للمزيد يُراجع; «شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد» ، مرجع سابق ١ : ١٩٨ ـ ١٩٩ .
[١٠] . تاريخ المسعودي; مرجع سابق ٢ : ٣٤٧ .
[١١] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، مرجع سابق ١ : ١٩٩ ، وتذكر المصادر التاريخيّة أنّ كتاباً يحمل توقيع عثمان موجّه إلى عامله بمصر عبدالله بن أبي سرح يأمره بقتل حاملي الكتاب!
[١٢] . تاريخ المسعودي; مرجع سابق ٢ : ٣٤٧ ، وقد أسهب بعض المؤرخين في تبيان المطاعن التي طُعن بها على عثمان ، وللمزيد من الاطلاع ، يُراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ١١ ـ ٧٠ .
[١٣] . سيد قطب ، مرجع سابق : ٢٧٩ .
[١٤] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، مرجع سابق ٩ : ٤ ـ ٥ .
[١٥] . د . محمّد رضا محرم; «أفكار الآخرين» ، مجلّة المسلم المعاصر العدد (٢٩) صفر ١٤٠٢هـ يناير ١٩٨٢م : ٢٨ .
[١٦] . سيّد قطب; مرجع سابق : ٢٧٩ .
[١٧] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ; مرجع سابق ٩ : ١٦ .
[١٨] . نهج البلاغة مرجع سابق : ٣٦٣ .
[١٩] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد; مرجع سابق ٩ : ٧ .
[٢٠] . نهج البلاغة; م . س : ٣٦٧ .

منقول من : الامام علي والراي الاخر

****************************