وقال (عليه السلام): مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
في رحاب نهج البلاغة (الفتنة الكبرى)

حسن السعيد
رغم ما مثلته مرحلة الخلافة من معاناة فادحة للإمام علي(عليه السلام) ، بيد أنّ حقبة عثمان بن عفّان كانت من نوع آخر; أشدّ وطأةً ، وأنكى جراحاً ، وأمضّ فجاجةً .
لقد أدركت الخلافة عثمان وهو شيخ كبير ، ومن ورائه مروان بن الحكم يصرّف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام ، على حدّ تعبير سيّد قطب ، كما أنّ طبيعة عثمان الرخيّة ، وحدبه الشديد على أهله ، قد أسهم كلاهما في صدور تصرّفات أنكرها الكثيرون من الصحابة من حوله ، وكانت لها معقبات كثيرة ، وآثار في الفتنة التي عانى الإسلام منها كثيراً [١].
ويبدو أنّ الفرع الأموي ، بزعامة أبي سفيان ، قد رأى في تولّي عثمان الخلافة فرصة طالما انتظروها كي تعود لهم المكانة الأولى التي فقدوها منذ ظهور الإسلام على يد محمّد بن عبدالله . . لقد سنحت لهم الفرصة ، ورأوا في شخصية عثمان المناخ المناسب كي يحقّقوا ما يريدون . . [٢].
كان القلق يستبدّ بالصحابة الذين لم يجرفهم تيّار الترف ، وهم يرون عثمان قد أطلق العنان لبني أمية في الاستئثار بالمواقع والامتيازات والخروج على الشرع الحنيف . بل إنّ عثمان قد دشّن خلافته بمخالفة صريحة للحكم الشرعي ، حينما عفا عن عبيدالله بن عمر بن الخطّاب ولم يُقِمْ عليه الحدّ . وقد كان عمر أمر بسجن ابنه عبيدالله ليحكم فيه الخليفة من بعده .
يقول ابن الأثير : «..جلس عثمان في جانب المسجد بعد بيعته ، ودعا عبيدالله بن عمر بن الخطّاب ، وكان قتل قاتل أبيه أبا لؤلؤة ، وقتل جُفَيْنةَ رجلا نصرانياً من أهل الحيرة كان ظهيراً لسعد بن مالك ، وقتل الهرمزان ، فلمّا ضربه بالسيف قال : لا إله إلاّ الله! فلمّا قتل هؤلاء أخذه سعد بن أبي وقاص وحبسه في داره وأخذ سيفه وأحضره عند عثمان ، وكان عبيد الله يقول : والله لأقتلن رجالا ممّن شرك في دم أبي ، يعرّض بالمهاجرين والأنصار ، وإنّما قتل هؤلاء النفر لأنّ عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة قتل عمر : رأيت عشيّة أمس الهرمزان وأبا لؤلؤة وجُفينة وهم يتناجون ، فلمّا رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه ، وهو الخنجر الذي ضُرب به عمر ، فقتلهم عبيدالله . فلمّا أحضره عثمان قال : أشيروا عليَّ في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق! فقال علي : أرى أن تقتله . فقال بعض المهاجرين : قُتل
عمر أمس ويُقتل ابنه اليوم! فقال عمرو بن العاص : إنّ الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على المسلمين سلطان . فقال عثمان : أنا وليّه وقد جعلتها دية واحتملها في مالي . . [٣] .
غير أنّ هذا الحلّ الترقيعي كان بمثابة الثغرة الأولى في حقبة عثمان ، ولتتوالى الثغرات لاحقاً ، ويتّسع الخرق على الراقع . دون أن يتمكّن عثمان من دفع الشبهات عن حكمه ، فلقد «أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيدالله بن عمر ، فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ، ثمّ قال : ألا أنّي وليّ دم الهرمزان ، وقد وهبته لله ولعمر ، وتركته لدم عمر .
فقام المقداد بن عمر فقال : إنّ الهرمزان مولى لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله . قال : فننظر وتنظرون . ثمّ أخرج عثمان عبيدالله بن عمر من المدينة إلى الكوفة ، وأنزله داراً ، فنُسب الموضع إليه ، كُوَيْفَة ابن عمر [٤] .
ما يجدر ذكره; أنّ الغماذيان بن الهرمزان كان هو ولي الدم ولم يتنازل عن حقّه ، ولمّا ولي علي(عليه السلام) الخلافة أراد إقامة الحدّ على عبيدالله بن عمر بقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام ، ولو كان إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرّض له علي [٥] .
وحول هذه النقطة يعلِّق عبّاس محمود العقّاد على موقف الإمام(عليه السلام)منها قائلا : «يُخطئ جدّاً منْ يتّخذ فتواه في مقتل الهرمزان دليلا على كراهيته لعمر أو نقمة منه في أبنائه . . فقد أسرع عبيدالله بن عمر إلى الهرمزان ، فقتله انتقاماً لأبيه ، ولم ينتظر حكم ولي الأمر فيه ولا أن تقوم البيّنة القاطعة عليه . فلمّا أُستفتي في هذه القضية أفتى بالقصاص منه ، ولم يغيّر رأيه حين تغيّر رأي عثمان ، فأعفاه من جريرة عمله . . لأنّه هو الرأي الذي استمدّه من حكم الشريعة كما اعتقده وتحرّاه ، وبهذا الرأي دان قاتله عبدالرحمن بن ملجم ، فأوصى وكرّر الوصاية ألاّ يقتلوا أحداً غيره لمظنّة المشاركة بينه وبين رفقائه في التآمر عليه» [٦] .
ولمّا قام عثمان بالخلافة طال عتب (الإمام) عليّ عليه; لأنّه أباح للعمّال والولاة ما ليس بمباح في رأيه [٧] ، ومن كلام له(عليه السلام) ، حول تقييمه لسياسة عثمان : «..وأنا جامع لكم أمره ، استأثر فأساء الأثرة» [٨].
ومن أسوإ أساليب الأثرة تلك اتخاذه أبناء عمومته من بني أميّة بطانة سوء ، إذ أوطأهم رقاب الناس ، وولاّهم الولايات وأقطعهم القطائع ، واُفتُتحت افريقيا في أيّامه ، فأخذ الخمس كلّه فوهبه لمروان فقال عبدالرحمن بن حنبل الجمحي :

أحلف بالله ربِّ الأنا ***** م ما تركَ اللهُ شيئاً سُدى
ولكن خلقت لنا فتنةً ***** لكي نبتلي بك أو تُبتلى
فإنّ الأمينين قد بيّنا ***** منارَ الطريق عليه الهدى
فما أخذا درهماً غيلةً ***** ولا جعلا درهماً في هوى
وأعطيتَ مروان خُمْس البلاد ***** فهيهاتَ سعيُك ممّن سعى

وطلب منه عبدالله بن خالد بن أسيد صلة ، فأعطاه أربعمائة ألف درهم .
وأعاد الحكم بن أبي العاص ، بعد أن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد سيّره ثمّ لم يردّه أبو بكر ولا عمر ، وأعطاه مائة ألف درهم .
وتصدّق رسول الله(صلى الله عليه وآله) بموضع سوق بالمدينة يُعرف بمهزور على المسلمين ، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم .
وأقطع مروان فدكاً ، وقد كانت فاطمة(عليها السلام) طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليهما ، تارةً بالميراث ، وتارةً بالنحلة فدُفعت عنها .
وحمى المراعيَ حول المدينة كلّها من مواشي المسلمين كلّهم إلاّ عن بني أميّة .
وأعطى عبدالله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح افريقيا بالمغرب ـ وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة ـ من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين .
وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال ، وقد كان زوّجه ابنته أمّ أبان ، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح ، فوضعها بين يدي عثمان وبكى ، فقال عثمان : أتبكي أن وصلتُ رحمي؟! قال : لا ، ولكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت هذا المال عوضاً عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله) . والله لو اُعطيتَ مروان مائة درهم لكان كثيراً ، فقال : ألقِ المفاتيح يابن أرقم; فإنّا سنجد غيرك .
وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة ، فقسّمها كلّها في بني أمية . وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة ، فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضاً بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه .
وانضمّ إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون ، كتسيير أبي ذرّ رحمه الله تعالى إلى الربذة; وضرب عبدالله بن مسعود حتّى كسر أضلاعه [٩] ومن ذلك ما نال عمّار بن ياسر من الفتن والضر[١٠] وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود وردّ المظالم ، وكفّ الأيدي العادية ، والانتصاب لسياسة الرعية ، وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين  [١١].
وهكذا كثر الطعن على عثمان ، وظهر عليه النكير [١٢] ولقد كان الصحابة يرون هذه التصرّفات الخطيرة العواقب ، فيتداعون إلى المدينة لإنقاذ تقاليد الإسلام ، وإنقاذ الخليفة من المحنة ، والخليفة في كبرته لا يملك أمره من مروان [١٣] .
وفي هذا الاتجاه أفاضت كتب التاريخ بالأحداث المؤلمة . وقد أُتيح لشاهد عيان أن يصوّر لنا جانباً من ذلك المشهد المفجع ، فعن أبي كعب الحارثي (المعروف بذي الأدواة) قال : «أتيتُ عثمان بن عفّان وهو الخليفة يومئذ فسألته عن شيء من أمر ديني ، وقلت : يا أمير المؤمنين ، إنّي رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن كعب ، وإنّي اُريد أن أسألك فأمرْ حاجبك ألاّ يحجبني ، فقال : يا وثّاب ، إذا جاءك هذا الحارثيّ فأذن له . قال : فكنت إذا جئت ، فقرعت الباب ، قال : مَنْ ذا؟ فقلت : الحارثي ، فيقول : ادخل ، فدخلت يوماً فإذا عثمان جالس ، وحوله نفر سكوت لا يتكلّمون ، كأنّ على رؤوسهم الطير ، فسلّمت ثمّ جلست ، فلم أسأله عن شيء لِما رأيتُ من حالهم وحاله ، فبينا أنا كذلك إذْ جاء نفر ، فقالوا : انّه أبى أن يجيء . قال : فغضب وقال : أبى أنْ يجيء؟! اذهبوا فجيئوا به; فإنْ أبى فجرّوه جرّاً .
قال : فمكثت قليلا ، فجاءوا ومعهم رجل آدم طوال أصلع ، في مقدّم رأسه شعرات ، وفي قفاه شعرات ، فقلت : مَنْ هذا؟ قالوا : عمّار بن ياسر ، فقال له عثمان : أنت الذي تأتيك رسلنا فتأبى أن تجيء؟! قال : فكلّمه بشيء لم أدرِ ما هو ، ثمّ خرج . فمازالوا ينفضّون من عنده حتّى ما بقي غيري ، فقام ، فقلت : والله لا أسأل عن هذا الأمر أحداً أقول حدّثني فلان حتّى أدري ما يصنع . فتبعته حتّى دخل المسجد ، فإذا عمّار جالس إلى سارية ، وحوله نفر من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم)يبكون ، فقال عثمان : يا وثّاب عليّ بالشُّرَط ، فجاءوا ، فقال : فرّقوا بين هؤلاء ، ففرّقوا بينهم .
ثمّ أُقيمت الصلاة ، فتقدّم عثمان فصلّى بهم ، فلمّا كبّر قالت امرأةٌ من حجرتها : يا أيّها الناس . ثمّ تكلّمت ، وذكرت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وما بعثه الله به ، ثمّ قالت : تركتم أمر الله وخالفتم عهده . . . ونحو هذا ، ثمّ صمتت وتكلّمت امرأة اُخرى بمثل ذلك ، فإذا هما عائشة وحفصة .
قال : فسلّم عثمان ، ثمّ أقبل على الناس ، وقال : إنّ هاتين لفتّانتان ، يحلّ لي سبّهما ، وأنا بأصلهما عالم .
فقال له سعد بن أبي وقّاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله(صلى الله عليه وسلم)؟! فقال : وفيمَ أنتَ؟! وما هاهنا؟ ثمّ أقبل نحو سعد عامداً ليضربه ، فانسلّ سعد .
فخرج من المسجد ، فاتبعه عثمان ، فلقي عليّاً(عليه السلام) بباب المسجد ، فقال له(عليه السلام) : أين تريد؟ قال : أريد هذا الذي كذا وكذا ـ يعني سعداً يشتمه ـ فقال له علي(عليه السلام) : أيّها الرجل ، دع عنك هذا ، قال : فلم يزل بينهما كلام ، حتّى غضبا ، فقال عثمان : ألست الذي خلّفك رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم تبوك؟! فقال علي : ألست الفارّعن رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم أحُد؟!
قال : ثمّ حجز الناس بينهما . قال : ثمّ خرجتُ من المدينة حتّى انتهيتُ إلى الكوفة ، فوجدت أهلها أيضاً وقع بينهم شرّ ، ونشبوا في الفتنة ، وردّوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل إليهم ، فلمّا رأيت ذلك رجعت حتّى أتيت بلاد قومي» [١٤] .
ووقفة متأمّلة ازاء هذا المشهد الكاريكتيري تثير علامات الاستفهام حول طبيعة الوضع الذي كان يقوده عثمان ، وهو يوزّع الشتائم والإهانات إلى الصحابة وحتّى زوجات النبي(صلى الله عليه وآله) لم يسلمن منه ، فأيّ حضيض آلت إليه الاُمور؟!
وفيما كان عثمان يتعامل بهذا الاسلوب الفظّ الذي أبكى بعضاً من صحابة رسول الله ، وجرح كبرياء بعض آخر . . فإنّه ـ في الوقت نفسه ـ كان يحيط نفسه بحفنة من المنتفعين ، ومعظم ولاته غلمان تثور حول تدينهم وحول أخلاقهم شبهات كثيرة ، ولم يكن لهم شيء من الصلاحيات ينفعهم غير صِلاتهم بالخليفة [١٥] ، وفي مقدّمة هؤلاء عمّه الحكم بن أبي العاص ـ وهو الذي طرده الرسول من المدينة ـ وولداه مروان والحارث اللذان صاهرهما عثمان وجعل من الأوّل وزيره المتصرّف [١٦] ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، أخو عثمان من أمّه ، والذي عيّنه والياً على الكوفة ، وكان يشرب الخمرة حتى صلاة الفجر ، فيصلّي بالناس أربعاً! وهو ممّن أخبر النبي(صلى الله عليه وآله) أنه من أهل النار . . وعبدالله بن أبي سرح (أخوه من الرضاعة) الذي ولاّه مصر ، ومعاوية على الشام (ويلتقيان في الجدّ الثاني أميّة) وعبدالله بن عامر على البصرة (وهو ابن خاله) .
ولقد لقي الإمام علي(عليه السلام) من عثمان وبطانته ما لقي من العنت ، ونكتفي هنا بإيراد نموذج واحد لهذا الأمر; روى الزبير بن بكّار في «الموفقيات» عن رجال أسند بعضهم عن بعض ، عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، قال : أرسل إليَّ عثمان في الهاجرة (نصف النهار في القيظ) ، فتقنعت بثوبي وأتيته ، فدخلت عليه وهو على سريره ، وفي يده قضيب ، وبين يديه مال دثر (أي كثير) : صُبرتان من ورق وذهب ، فقال : دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني . فقلت : وصلتك رَحِم! إنْ كان هذا المال ورثتَه ، أو أعطاكه معط ، أو اكتسبته من تجار; كنتُ أحد رجلين : إمّا آخذ وأشكر ، أو أوفّرَ وأُجْهَد ، وإنْ كان من مال الله وفيه حقّ المسلمين واليتيم وابن السبيل ، فوالله مالك أن تعطينيه ولا لي أن آخذه . فقال : أبيت والله إلاّ ما أبيت . ثمّ قام إليّ بالقضيب فضربني ، والله ما أردّ يده ، حتّى قضى حاجته ، فتقنّعتُ بثوبي ، ورجعت إلى منزلي ، وقلت : الله بيني وبينك إن كنتُ أمرتُك بمعروف أو نهيتُ عن منكر! [١٧].
على خلفيّة هذه الممارسات غير المسؤولة من الطبيعي أن يتفشّى الفساد في جهاز السلطة ويضرب بأطنابه في كلّ الاتجاهات . والسؤال هو : ما هو موقف الإمام(عليه السلام) من كلّ هذا الذي يجري باسم الإسلام؟
هناك ثلاثة خيارات لا غير : إمّا أن يجاري الوضع على ما هو عليه ، أو يلوذ بالصمت مكتفياً بالتفرّج ، أو يتصدّى للانحراف .
ولمّا كان الإمام علي(عليه السلام) عارفاً وظيفته الشرعية ، فإنّه ليس بمقدوره إلاّ الخيار الأخير ، وهو التأشير على مواطن الخلل بالنصيحة تارةً ، والعقاب أُخرى ، والتحذير ثالثة ، وقد كاشف الإمام علي(عليه السلام) أهل الكوفة ، في كتاب منه إليهم ، جاء فيه : «من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة ، جبهة الأنصار وسنام العرب ، أمّا بعد ، فإنّي أخبركم عن أمر عثمان حتّى يكون سمعُه كعيانه ، إنّ الناس طعنوا عليه ، فكنت رجلا من المهاجرين أُكثر استعتابه (أي استرضاءه) ، وأقلّ عتابَه . . .» [١٨].
ولم يكف الإمام علي(عليه السلام) عن نصيحة عثمان ولم يهتبل فرصة متاحة إلاّ وحاول إنقاذ عثمان ممّا هو في مأزق ، ولكن دون جدوى ، فرأينا كيف كان عثمان يقابل ذلك بمزيد من الانفعال الذي لا يخلو من مظنّة السوء . فقد صوّرت له حاشيته الفاسدة انّ الإمام علياً(عليه السلام) في طليعة حسّاده على نعمته وإمرته! ، ولطالما أشار عثمان إلى هذه التهمة ، تصريحاً أو تلميحاً ، سواء في مجالسه الخاصّة أو في خطبه يوم الجمعة.
وذات جمعة تطرّق إلى هذا الأمر ، حتّى كاد أن يسمّي علياً ، وبعد انتهاء الخطبة . . «همّ بالنزول فبصر بعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ومعه عمّار بن ياسر(رضي الله عنه) ، وناس من أهل هواه يتناجون; فقال : إيهاً إيهاً! إسراراً لا جهاراً! أما والذي نفسي بيده ما احنق على جرّة ، ولا أوتَى من ضعف مِرّة; ولولا النظر لي ولكم والرفق بي وبكم ، لعاجلتكم; فقد اغتررتم ، وأقلتم من أنفسكم .
ثمّ رفع يديه يدعو . . فتفرّق القوم عن علي(عليه السلام)» [١٩] .
ولا يسع المراقب المحايد إلاّ أن يستحضر القول المأثور : «يكاد المريب أن يقول خذوني»!
هذه الحادثة وغيرها كثير جعلت الإمام علياً(عليه السلام) يتجنّب الاحتكاك بعثمان ، وهذا ما أوضحه في كتاب له إلى معاوية :
«ولعمري يا معاوية ، لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمنّ أنّي كنتُ في عزلة عنه إلاّ أن تتجنّى; فتجنَّ ما بدا لك! والسلام» [٢٠] .
غير أنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) لا يستكين إذا ما رأى منكراً يجب ردعه ، حتّى يتمكّن من تحقيق ذلك . ويطول المقام في هذا الباب ، بيد أننا نكتفي بموقفين له مع اثنين من رؤوس الفساد والإفساد في عهد عثمان ، هما : الوليد بن عقبة بن أبي معيط (أخو عثمان من أمّه) ، وصهره المدلّل مروان بن الحكم .

----------------------------------------------------------------------
[١] . سيّد قطب; «العدالة الاجتماعيّة في الإسلام» ، ١٣٩٧هـ ـ ١٩٧٧م ، (دون ذكر لمكان الطبع) .
[٢] . د . محمّد عمارة; «مسلمون ثوار» ط٣ ، القاهرة ، ١٤٠٨هـ ـ ١٩٨٨م ، ص٧٩ .
[٣] . في صفوف بني أميّة ، والتي طفحت على لسان أبي سفيان غداة تولّي عثمان الخلافة ، إذ قال في اجتماع خاصّ ضمّ بني ميّة في دار عثمان : «أفيكم أحدٌ من غيركم؟ (وقد كان عَمِي) ، فقالوا : لا ، قال : يا بني أميّة ، تلقّفوها تلقّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبوسفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة . .» ـ مروج الذهب للمسعودي ، ٢ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ، تحقيق محمّد محيي الدين عبدالحميد ، ط٤ ، مصر ، ١٣٨٤ ـ ١٩٦٤م .
[٤] . إبن الأثير; «الكامل في التاريخ»، تحقيق علي شيري، بيروت، ١٤٠٨هـ ـ ١٩٨٩م . المجلّد الثاني : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.
[٥] . يُراجع : تاريخ اليعقوبي ، المجلّد الثاني : ١٦٣ ـ ١٦٤ ، بيروت (د . ت) .
[٦] . عباس محمود العقّاد; مرجع سابق : ١٣٠ .
[٧] . عبّاس محمود العقّاد; مرجع سابق : ٥١ .
[٨] . نهج البلاغة; مرجع سابق : ٧٣ .
[٩] . للمزيد يُراجع; «شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد» ، مرجع سابق ١ : ١٩٨ ـ ١٩٩ .
[١٠] . تاريخ المسعودي; مرجع سابق ٢ : ٣٤٧ .
[١١] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، مرجع سابق ١ : ١٩٩ ، وتذكر المصادر التاريخيّة أنّ كتاباً يحمل توقيع عثمان موجّه إلى عامله بمصر عبدالله بن أبي سرح يأمره بقتل حاملي الكتاب!
[١٢] . تاريخ المسعودي; مرجع سابق ٢ : ٣٤٧ ، وقد أسهب بعض المؤرخين في تبيان المطاعن التي طُعن بها على عثمان ، وللمزيد من الاطلاع ، يُراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ١١ ـ ٧٠ .
[١٣] . سيد قطب ، مرجع سابق : ٢٧٩ .
[١٤] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، مرجع سابق ٩ : ٤ ـ ٥ .
[١٥] . د . محمّد رضا محرم; «أفكار الآخرين» ، مجلّة المسلم المعاصر العدد (٢٩) صفر ١٤٠٢هـ يناير ١٩٨٢م : ٢٨ .
[١٦] . سيّد قطب; مرجع سابق : ٢٧٩ .
[١٧] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ; مرجع سابق ٩ : ١٦ .
[١٨] . نهج البلاغة مرجع سابق : ٣٦٣ .
[١٩] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد; مرجع سابق ٩ : ٧ .
[٢٠] . نهج البلاغة; م . س : ٣٦٧ .

منقول من : الامام علي والراي الاخر

****************************