وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                

Search form

إرسال الی صدیق
قبسات من نهج البلاغة (الأخلاق) – الثاني

ذم الحرص على الدنيا :

أيها الأخ العزيز: كثير من الناس يحرص على جمع المال، مما يحتاجه وما لا يحتاجه ... ونحن منهم ... حيث العمل الدؤوب المستمر الذي لا يتوقف عند حدود، ولا يقنع برزق معدود، فترانا نجمع ما يفيد، وما ينفع اليوم، وما قد ينفع غداً... حرصاً على المال، وضناً بالقناعة من الحلال.
وهذه درجة عالية من درجات الحرص على التعلق مما زال عن غيرنا، ولا يلبث أن يزول عنا... وهذه درجة عالية من درجات حب الدنيا ...
أيها العزيز : من قال إننا نحتاج لكل هذا؟! ومن أنبأك أنك ستمهل حتى تتمتع بهذه الأكوام من المعادن والأخشاب والأوهام، التي تتراكم ي زوايا منزلك، حتى تكاد تختنق مع بعضها، فتضيق منها الجدران، وكأنها ستلفظها إلى الجيران.
أنظر يا أخي وحبيبي من حولك، إلى أثاث منزلك، وما علقت على جدرانك، وما نصبت على سقفك، وما اختزنت في مطبخك، وما جمعت في خزانتك ... هل فعلاً أنك تحتاج إلى هذا كله؟! أم الحقيقة أنك مستغن عن جله؟!.
أنظر من حولك في غرفتك التي تجلس فيها الآن، وأنت تقرأ هذا الكلام، وفكر: كم من هذه الأمور التي تقع تحت نظرك، لم تستغلها منذ زمن طويل؟ وهذا خير دليل، على أنها لم توضع في خير سبيل، فلم الحرص عليها؟! هذا الحرص المؤدي إلى الطمع، والبعد عن الشبع، والمورث للهلع والوجع.
يقول مولانا علي(عليه السلام) في نهجه عن الإنسان الحريص : "فإن سنح له الرجاء، أذله الطمع، وإن هاج به الطمع، أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف".
ويقول(عليه السلام) لحبيبه كميل بن زياد، وقد أخرجه إلى الجبانة، فلما أدركها،
تنفس(عليه السلام) الصعداء طويلاً، ثم قال فيما قال : "يا كميل، هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر ... " إلى آخر كلامه(عليه السلام) .
وفي إشارة إلى بطش الجبابرة وحرصهم، وظلم الناس لبعضهم، يقول(عليه السلام) : "... ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى، يجمعها سوء الظن بالله... إنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر".
وفي ذلك إشارة إلى حرصهم على جمع المال، ليدخروه لزمن ما بعد الولاية، إذا زويت عنهم ... لكن هيهات، لقلة انتفاعهم بالعبر والسير والغير... عبر الأمم، وسير الملوك، وغير الزمان ... فلا يبقون لشيء ولا يبقى شيء لهم.
فالطمع إذا أوغل في قلب ابن آدم، ليس له حدود يقف عندها ... وإذا وصل إلى درجة الحرص، طغى وبغى ... ومن أصحاب القرون، ممن هو كقارون في عصرنا هذا وفي العصور الغابرة، من منهم اقتنع واكتفى ورضى بما رزق؟!.
فسلام الله على سيد البشر(ص) الذي قال: "لو كان لابن آدم دارين من ذهب، لابتغى وراهما ثالثا".
وفي إشارة إلى الحرص وعدم الاكتفاء، بما بلغنا من أمر الدنيا، يقول علي (عليه السلام) في رسالة لمعاوية، الهائم في الدنيا والموغل في الحرص، يقول له : "فإن الدنيا مشغلة عن غيرها، ولم يصب صاحبها منها شيئاً إلا فتحت له حرصاً عليها، ولهجاً بها، ولن يستغني صاحبها بما نال فيها عما لم يبلغه منها، ومن وراء ذلك فراق ما جمع، ونقض ما أبرم ولو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقي، والسلام".
فيا أخي : هذا هو الحرص الذي يشيع، وهذا هو الحريص الذي لا يشيع، هم دائم، وغم قائم، لا يحجب موتاً، ولا يخفف حساباً ... ولم يبق إلا القناعة، نختزنها ليوم الساعة ... فعليك بها لا تربت يداك.

علاج الحرص على الدنيا :

الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر، نحمده على آلائه، كما نحمده على بلائه، ونستعينه على هذه النفوس البطاء عما أمرت به، السراع إلى ما نهيت عنه، ونستغفره مما أحاط به علمه، وأحصاه كتابه : علم غير قاصر، وكتاب غير مغادر ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب، ووقف على الموعود ... ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريـك لــه، وأن محمداً(ص) عبده ورسوله، شهادتين تصعدان القول، وترفعان العمل، لا يخف ميزان توضعان فيه، ولا تثقل ميزان ترفعان عنه.
أخي، أيها العزيز، سمعنا عن كثير من الناس، أنهم جمعوا أموالاً كثيرة، حرصوا عليها حرصاً وفيراً، ونزلت في قلوبهم تنزيلاً، أُشرِبوا حبها، وطاش لبهم من غرامها، وسكروا على عشقها... ثم رحلوا عنها تاركين، وحوسبوا عليها نادمين. فما أدركوا ما أملوا، وما أنفقوا ما جمعوا ... تعبوا في جمع الأموال حرصاً، وتنعم غيرهم بغياً ...
فالورثة، إما صالحون ينفقون المال، وليس لمن وزنهم ثواب، وإما طالحون، وليس لمن ورثهم إلى العقاب.
والحريص يا أخي ينعم الغير دون نيل ثواب، أو يسعد الآخرين، وفوق له عقاب... فلا تكن حريصاً مهووساً، ولا تجمع فوق حاجتك، حتى لا تطول وقفتك، ويعسر حسابك.
يقول مولانا الأمير(عليه السلام) أمير البيان والعارف بأسرار التنزيل والقرآن لابنه الحسن عليهما صلوات المحسن المنان: "لا تُخلفن وراءك شيءاً من الدنيا، فإنك تخلفه لأحد رجلين : إما رجل عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقيت له، وإما رجل عمل فيه بمعصية الله فشقي بما جمعت له، فكنت عوناً له على معصيته، وليس أحد هذين حقيقاً أن تؤثره على نفسك".
ويقول(عليه السلام) في حكمه: "يا ابن آدم، ما كسبت فوق قوتك، فأنت فيه خازن لغيرك".
فيا أخي، عالج حرصك، بما أمر ربك، خذ حاجتك، وأنفق صدقتك، في حياتك، أسعد الفقير قبل مماتك، وأنعش محتاجاً، تنعش نفسك، وتقدم خيرك.
يقول الأمير(عليه السلام) في رسالته للحارث الهمداني: "وأعلم أن أفضل المؤمنين، أفضلهم تقدمة من نفسه وأهله وماله، فإنك ما تقدم من خير يبق لك ذخره، وما تؤخره يكن لغيرك خيره".
فكم حسرتك كبيرة يا أخي، لو أنفق مالك في غير ما ترجو، وكم يحسن لك أن تنفقه فيما ترجوه، حتى تكون النية والفعل لك، لا لغيرك.
ورد في حكم الأمير، عليه صلوات الخبير البصير، قوله (عليه السلام) : "إن أعظم الحسرات يوم القيامة حسرة رجل كسب مالاً في غير طاعة الله، فورثه رجل فأنفقه في طاعة الله سبحان، فدخل به الجنة، ودخل الأول به النار".
ومن حكم علي(عليه السلام) : "إن أخسر الناس صفقة، وأخيبهم سعياً، رجل أخلق بدنه في طلب ماله، ولم تساعده المقادير على إرادته، فخرج من الدنيا بحسرته، وقدم على الآخرة بنعته".
فيا نفس الحريصة، المحبة للمال...
ويا أيها الناس الحريصون على ما لا ينفقون ولا يحتاجون ... على ماذا تتكلون؟‍!.
أعلن الآمال الكاذبة، أم الأبنية الخالية، أم الملك الزائل، أم العزيز الراحل، أم القريب المسافر، أم الجار المنافر، أم الحبيب الحاسر، أم الشريك الخاسر... أم الزوج المقصر أم الصديق القاصر؟.
أعلى هذا ينكل العاقلون، أما الأغبياء الغافلون؟.
طوبى لمن سمع فوعى ... إسمع مولاك الأمير(عليه السلام) يقول: "معاشر الناس، اتقوا الله، فكم من مؤمل ما لا يبلغه، وبان ما لا يسكنه، وجامع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه، أصابه حراماً، واحتمل به آثاماً، فباء بوزره وقدم على ربه، آسفاً لاحفاً، قد خسر الدنيا الآخرة ذلك هو الخسران المبين".
وفي كتابه(عليه السلام) لشريح القاضي: "... ومن جمع المال على المال فأكثر، ومن بنى وشيد، وزخرف ونجد، وادخر واعتقد، ونظر بزعمه للولد، أشخاصهم جميعاً إلى موقف العرض والحساب "وخسر هنالك المبطلون".

الصداقـة والأصدقــاء

أخي الحبيب، لا أستطيع إلا أن أخاطبك بصيغة المودة والمحبة، واستأنس عندما أذكرك، فأنت الحبيب وأنت الصديق وأنت القريب... فالإنسان لا يستطيع أن يعيش وحيداً في هذه الدنيا ولعله سمي إنساناً لأنه يأنس أو يؤنس...
فالواحد منا يريد رفيقاً ومساعداً ومؤنساً، ولولا ذلك ما قامت الدنيا، وما تآلف الناس، وما تعانوا.
وفي نهج البلاغة المبارك نصوص تحدد معالم الصداقة، وحدودها، وأبعادها وآثارها على النفس الإنسانية، وعلى روح المجتمع وحيويته. يقول الأمير(عليه السلام) في نهجه المبارك: "والغريب من لم يكن له حبيب".
ويقول سلام الله عليه قبل ذلك: "ورب بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من بعيد".
فالحب الإنساني والأخوي ضروري في هذا الحياة الدنيا، وليس القرب قرب الجسد، وإنما قرب الأحاسيس والمشاعر والأهداف المشتركة والتعبد لله تعالى الحي القيوم يقول(عليه السلام) في حكمة له: "فقدُ الأحبة غربة".
فيا أيها الغريب في هذه الدنيا، الذي تزاد غربته إذا فقد أحباءه... يا أخي، أيها العزيز : أحسن الاختيار، ورافق الأخيار، وفتش عن الأبرار، وتجنب الفجار، الذين يردون بك إلى النار... فهل في ذلك موعظة للاعتبار؟! فيفوز الفائزون بمجاورة المختار وآله الأبرار في جنات وأنهار ورضوان العزيز الجبار.
وأعود فأقول لك، أحسن الاختيار يا أخي، أيها الحبيب، وقارن أهل الصلاح والفلاح لنفوز بنجاح... يقول مولاك وتاج رأسك أمير المؤمنين(عليه السلام) : "قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم... لا خير في معين مهين ولا في صديق ظنين".
أخي: احذر أن تُصادق أهل المنكر وأهل الفسق لأنك وإن لم تفعل فعلهم إلا أنك ستنسب إليهم، نتيجة مرافقتهم ومجاورتهم. وفي ذلك يقول أمير المؤمنين سلام الله تعالى عليه: "واحذر صحابة من يفيل رأسه، وينكر عمله، فإن الصاحب معتبر بصاحبه... وإياك ومصاحبة الفساق، فإن الشر بالشر ملحق، ووفر الله، وأحبب أحباءه".
ويقول سلام الله عليه في وصيته لابنه الحسن: "يا بني، إياك ومصادقة الأحمق، فإنه يزيد أن ينفعك فيضرك، وإياك ومصادقة البخيل، فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر، فإنه يبيعك بالتافه، وإياك ومصادقة الكذاب، فإن كالسراب. يقرب عليك البعيد، ويبعد عليك القريب".
فهذه يا أخي بعض من النصائح التي يجب أن تراعيها في اختيارالأصدقاء... والحمد لله على نعمة الإسلام.

حقوق الأصدقاء:

تعيش في هذه الدنيا مع فئات مختلفة من الناس، وأصناف متعددة في المجتمع... تأخذ منهم وتعطي، تتعاونون أو تُقصرون... إلا أنك في قرارة نفسك تشعر بأن لك حقوقاً، كما عليك واجبات.
والحقوق التي عليك تختلف بحسب صاحب الحق من أبٍ أو أم أو جارٍ أو صديق أو رفيق طريق أو إنسان حبيب... وحدد الإسلام لكل واحد من هؤلاء حقاً وحصة. فما هي يا ترى حقوق الأصدقاء؟‍! وكيف تحافظ عليها؟‍!.
من حقوق الأصدقاء أن تحفظهم في سرهم وعلانيتهم، في حضرتهم وغيبتهم، في سرائهم وضرائهم... بل في حياتهم وموتهم.
والصديق قد لا يحتاج لك عند اكتفائه، بل عند مصيبته، وقد لا يحتاج لك عند حضوره بل عند غيبته... وإذا قطعك، فصله، وإذا صدك قاربه، وإذا حبس، أعطه، وإذا بعد عنك، أدن عنه والتمس له عذراً ومخرجاً عند هفواته، واحمله عند سقطاته... واعلم أن سبب صلتك به، هو الله تبارك وتعالى، وهو فوق كل سبب، وأعظم من كل نسب.
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) : "احمل نفسك من أخيك عند صرمه، على الصلة، وعند صدوده على البذل وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر، حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو نعمة عليك، وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله. لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة، حسنة كانت أو قبيحة، وتجرع الغيظ، فإني لم أر جرعة أحلى منها عافية، ولا ألد مغبة، ولن لمن عالظك، فإنه يوشك أن يلين لك... وإن أردت قطيعة أخيك، فاستبق له من نفسك بقية، يرجع إليها، إن بدا له ذلك يوماً ما ... ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه... ولا ترغبن فيمن زهد عنك، ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك وعلى صلته، ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان". انتهى كلامه الشافي، سلام الله تعالى عليه...
وفي بعض حكمه(عليه السلام) يقول : "لا يكون الصديق صديقاً، حتى يجفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته".
ومن الأمور الخطرة التي قد تعرض على الأخوة والصداقة، فتفتك بها وغالباً ما تقضي عليها، الإشاعات والوشايات التي تسعى بين المؤمنين حتى تنال منهم، وكثير منها فيه المبالغة والبهتان والزيادات والإضافات التي تخرب العلاقات الأخوية، والصلات والثقة بين الأحباء.
وكم من مرة عرض عليك أمام أخيك، أو فُتن بينك وبينه، وكم تمنيت على الطرف الآخر، أن يتفهم الحقائق والوقائع...
أخي، فما دمت تعرف فلاناً بتدينه وخلقه، فلا تسمح بالإشاعات حوله ولا تسمع، وصد الآخرين عن ذلك، ردعاً لهم عن منكرهم هذا.
إسمع أيها الحبيب، لما يقوله الحبيب أمير المؤمنين(عليه السلام) في النهي عن سماع الغيبة، قال "أيها الناس، من عرف من أخيه وثيقة دين، وسداد طريق، فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال، أما أنه قد يرمي الرامي، وتُخطئ السهام، ويحيل الكلام، وباطل ذلك ببور، والله سميع وشهيد، إما إنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع".
وعندما سئل(عليه السلام) عن معنى هذا، جمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه، ثم قال: "الباطل أن تقول سمعت، والحق أن تقول رأيت".
وفي حكمة له قال : "ومن أطاع الواشي ضيع الصديق".

العجـب ومضـاره

كثيراً ما يعظم المرء شأن نفسه، إما وهماً منه مدعياً شيئاً لا يملكه، وإما لصدق فيه من علمٍ وغيره، لينسب حدوثه إلى ذكائه وحذاقته، لا إلى خالقه وبارئه.
وهذه الحالة تسمى بالعجب، أي إعجاب الإنسان بنفسه وبنعمه الموهوبة إليه... وتشتد هذه الحالة إذا كان صاحبها متميزاً عن أقرانه وجيرانه، وأقاربه وأصحابه، بعلم أو جمال أو سلطة أو عقار واسع، أو تجارة رابحة، أو رأي صائب. وتشمخ هذه الحالة، المرضية، كلما وفق في عمل أو أفلح في مجال، أو أصاب في تحرك فتنتفخ نفسه وتتورم بازدياد عجبه ومرضه، ويخال ذلك نعمة، بينما الحقيقة أنه يزداد ضخامة لخبثه، ومرضاً في نفسه، ومسكناً ممهداً لشيطانه، لا يلبث أن يقع صريع عجبه، وقتيل وهمه...
وبهذا يا أخي يكون قد خالف الصواب، وطريقة عيش ذوي الألباب، ليخسر ما كان يخاله خيراً، ويحسبه إحساناً...
وإليك ما قاله الأمير(عليه السلام) في ضرر العجب وعواقبه ... في وصيته لابنه الحسن(عليه السلام) : "واعلم أن الإعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب".
وفي وصيته(عليه السلام) للأشتر، لما ولاه على مصر، قال : "وإياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان، في نفسه، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين".
واعلم يا أخي، أن مرض العجب خطير جداً، وليست خطورته تكمن في أنه من الكبائر فحسب، بل لأنه يصيب المؤمنين، حتى العابدين والصديقين منهم ... وهذا ما حذرت منه الروايات عن الأئمة(عليه السلام)... فالصديق يهلك إذا أتكل على عمله، والعابد يخسر إذا اعتمد على فعله... وكلاهما لا يفوز إلا برحمة الله وفضله... ولعلك سمعت بقصة صاحب عيسى(عليه السلام) الذي مشى على الماء، فلما دخله العجب، كاد أن يغرق، وزالت كرامته التي اصطفاه الله تعالى بها...
والمؤمنون الصادقون هم الذين يشعرون بان كل نعمهم من الله تعالى، ولا يستكثرون أعمالهم وإحسانهم، مهما كانت كثيرة... ولا يرون عُلواً على غيرهم وإن وُجدت أسبابه.
يقول مولانا الأمير(عليه السلام) لمن سأله الموعظة: "لا تكن ممن ...يستعظم من معصية غيره، ما يستقل أكثر من نفسه، ويستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره، فهو على الناس طاعن، ولنفسه مراهن، اللهو مع الأغنياء، أحب إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيره لنفسه، ولا يحكم عليها لغيره، يرشد غيره، ويقوي نفسه، فهو يطاع ويعصي، ويستوفي ولا يوفي، ويخشى الخلق في غير ربه، ولا يخشى ربه في خلقه".
ويقول(عليه السلام) في شأن الملائكة : "... ولم يتولهم الإعجاب، فيستكثروا ما سلف منهم، ولا تركت لهم إستكانة الإجلال نصيباً في تعظيم حسناتهم ... لم يستعظموا ما مضى من أعمالهم... ".
كل هذا التواضع من الملائكة، وهم عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون ... وهم أهل الأمانة على وحي الله تعالى ... والحملة إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه...
وفي وصف المتقين المتواضعين غير المعجبين، يقول(عليه السلام) : "... لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكي أحد منهم، خاف مما يقال له، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بي مني بنفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون".
وقبل الختام، فإن المعجب بنفسه، يعلم أكثر من غيره ضرر آفته عليه، فعجبه يمنعه من طلب الزيادة، وينفر الآخرين منه، كما يقول علي(عليه السلام) في بعض حكمه: "ولا وحدة أوش من العجب ...".
وقال(عليه السلام) : " ... ومن رضي عن نفسه كثر الساخط عليه".

مصير المتكبرين

إن أكثر الناس فساداً هم المتكبرون على الله تعالى، الذين يُسول إليهم الشيطان أنفسهم وكأنهم آلهة يعبدون من دون الله عز وجل. خاصة إذا كانوا من أهل المال والجاه والحكم وقهر العباد والتسلط على البلاد، ومن القادرين على قطع الأرزاق والرقاب، الواهبين القوة واليأس.
هؤلاء جرأتهم أكثر من غيرهم، نتيجة سكرة التسلط والقهر عندهم، والتي هي أشد من سكرة الخمر والمخدر، فهذه تقهر صاحبها لساعات، وتلك تقهر صاحبها لسنوات، ... وغالباً ما تستمر معه حتى موته.
وتاريخ البشرية الطويل يضج ويعج من هول ممارسات هؤلاء، من ظلمهم وجبروتهم، إلى كيدهم وسجونهم، إلى الدماء التي سفكوها، والأنفس التي أزهقوها، والمهج، التي قهروها، والكرامات التي سلبوها.
ولكن ... إلى أين المفر؟! ... يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) : "... وإن لكم في القرون السالفة لعبرة ! أين العمالقة وأبناء العمالقة! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة، أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين، وأطفأوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبارين! أين الذين ساروا بالجيوش، وهزموا بالألوف، وعسكروا العساكر، ومدّنوا المدائن!".
ويقول(عليه السلام) :" ... فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومثلاته، واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم، واستعينوا بالله من لواقح الكبر، كما تستعيذونه من طوارق الدهر...".
أخي الكريم : لا تنس أن أول متكبر في التاريخ، كان إبليس اللعين، الذي أسس أساس الانحراف والغرور والعجب في نفوس البشر.. فكلما اقتربنا من هذه الصفات، اقتربنا من نهج الأبالسة ولكما ابتعدنا عنها، ابتعدنا عن هذا النهج.
يقول الأمير(عليه السلام) في النهج المبارك : "... فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله سلة آلاف سنة، لا يُدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة، عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟ كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، إن حكمه في أهل السماء وأهل الأرض الواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين".
أخي الكريم، تذكر أن الله تعالى هو فقط أهل الكبرياء والعظمة والجبروت، وهذه الصفات لا تنبغي إلا له تبارك وتعالى، وأما نسيتها إلى غيره عز وجل، فهذه جرأة وتطفل وغرور، ووضع للأمور في غير محلها، كما قرر ذلك علماء الفلسفة وعلم الكلام...
قال الأمير(عليه السلام) في ذمه لإبليس لعنة الله، واستكباره وتركه السجود
لآدم(عليه السلام)، قال: " الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه وجعلهما حمى وحرماً على غيره، واصطفاهما لجلاله. وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه، وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب: (( إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي، فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس ))، اعترضته الحمية، فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله، فعدو الله المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازعت الله رداء الجبرية، وأدرع لباس التعزز، وخلع متاع التذلل، إلا ترون كيف صغره الله بتكبره، ووضعه بترفعه، لجعله في الدنيا مدحوراً، وأعد له في الآخرة سعيراً ؟‍!".
أخي الرياض الكريم إن التقي الحق، هو الذي يتواضع لكل عباد الله تعالى، إما لأنهم أهل لذلك، لإيمانهم، وإما لأنه هو أهل لذلك، تجاه المستضعفين.. وإذا بعد عنهم فليس ذلك لتكبره، بل لزهد أو تأديباً لهم وتذكيراً ... قال أمير المؤمنين(عليه السلام)عن
التقي : "... بُعدُه عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودُنوه دناه منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة".

عـلاج العـجب :

أخي : العجب، هذا المرض الفتاك، أصاب الزعماء والرؤساء، والعباد والزهاد من قل، وكم أهلك منهم، وشتت إيمانهم. وأقام همهم.
فمن الناس من يعجب بكثرة عمله، ومنهم من يعجب بوفرة ماله، أو كثرة طاعاته، أو ورعه وتقواه وصبره ... فهل إلى علاج من سبيل؟‍!.
نعم فعلى المعجب بعلمه ورأيه وحكمته أن يرجع حصول هذه الفضائل النفسية والشخصية إلى خالقه عز وجل ... فهو الخالق وهو الوهاب والمعطي...
نعم على المعجب بعلمه وفهمه، أن يؤكد في نفسه أن ماله من فضل وامتياز، ما كان ليتيسر له، لولا فضل الله وإرادته في ذلك.
يقول الأمير(عليه السلام) في شأن علماء الخير : "اللهم بلى! لا تخلو الأرض من قائم الله بحجة، إما ظاهراً مشهوراً، وإما خائفاً مغموراً... يحفظ الله بهم حججه وبيناته، حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استعوره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آهٍ أهٍ شوقاً إلى رؤيتهم...".
ما نفع العلم يا أخي إذا لم يحصن بالخلق والأمانة والتواضع ... يقول(عليه السلام) في وصف أهل العلم الخيرين الصادقين : "... واعلموا أن عباد الله، المستحفظين علمه، يصونون مصونه، ويفجرون عيونه، يتواصلون بالولاية، ويتلاقون بالمحبة ... على ذلك عقد خلقهم وأخلاقهم، فعليه يتحاتون، وبه يتواصلون،... ".
فهل يبغي لمن سمع بهذه الصفات، أن يتمسك، لا سمح الله، بآفة العجب...
وإليك نصاً آخر عن الأمير(عليه السلام) في شأن علماء الخير ... ولنسأل أنفسنا بعد ذلك ... هل إلى العجب بالعلم من سبيل ؟!.
يقول(عليه السلام): "قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس... مصباح ظلمات، كشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفاع معضلات، دفاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص الله فاستخلصه، فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل، فكان أول نفي الهي عن نفسه، يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا أمها، ولا مظنة إلا قصدها...".
فهل يمكن للعالم الحقيقي أن يختار سبيل العجب والغرور على سبيل التواضع والنور ؟!.
وأما العجب بكثرة المال، فليعلم أنه لن يدوم له لينفقه، ولن يدوم له ليخلده، فالمال أتى من الغير، بغير رضاه، ويذهب إلى الغير بغير رضانا... والمال لا يدوم أحد، ولا يديم أحد ... وإذا كان الجمع لنا، فالإرث لغيرنا كما يقول الأمير(عليه السلام) في المعجبين بأموالهم : "وقد رأيت من كان قبلك ممن جمع المال، وحذر الإقلال، وأمن العواقب، طول أمل واستبعاد أجل، كيف نزل به الموت، فأزعجه عن وطنه، وأخذه من مآمنه..".
ويقول(عليه السلام) "أما رأيتم الذين يأملون بعيداً، ويبنون مشيداً، ويجمعون كثيراً؟! كيف أصبحت بيوتهم قبوراً، وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين، لا فس حسنة يزيدون، ولا من سيئة يستعينون...".
وأما المعجبون بصلاتهم وسجودهم، ودعائهم وذكرهم، وقيامهم في الليل، وصيامهم في النهار... هؤلاء غلفوا، وبطاعة الشيطان عملوا، غفلوا أن العبادات العظيمات، الخالية من القربات، لا تقبل في السموات. فهل الله تعالى بحاجة إلى عبادتنا؟!.
يقول الأمير(عليه السلام) : " ... فإن الله سبحانه وتعالى، خلق الخق حين خلقهم، غنياً عن طاعتهم، آمناً عن معصيتهم، لأنه لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه".
هل نحن أفضل من الملائكة الكرام، الذي يقالفيهم(عليه السلام): "... إنهم على مكانهم منك، ومنزلتهم عندك، واستجماع أهوائهم فيك، وكثرة طاعتهم لك، وقلة غفلتهم عن أمرك، لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك، لحقروا أعمالهم، ولزروا على أنفسهم، ولعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك/ ولم يطيعوك حق طاعتك".

التقوى وصفات المتقين

وجــوب اجتنـاب الذنـوب :
أخي وعزيزي، التُقى, وكما ورد في النص الشريف، رئيس الأخلاق ... والتقوى صفة، لا يقوم الإيمان إلا بها، ولا يستقيم المؤمن إلا بالتزامها... وليس كثيراً أن نصرف حياتنا في السعي وراءها وطلبها...
والسؤال الكبير التقليدي هو : كيف تحصل ملكة التقوى؟ .
والجواب على هذا السؤال الكبير، لا ينتهي بحديث أو حديثين... بل هي قصة النفس الإنسانية الأمارة بالسوء... قصة المعاناة مع عدو الداخل ... قصة الجهاد الأكبر... يعرف أولها ويجهل آخرها...
والعلماء الربانيون ينصحون السالكين لنيل درجة التقوى بأمور أساسية منها: اجتناب الذنوب، ومخالفة النفس ومغالبة الشيطان، والقيام بالعبادات، خاصة الليلية منها والبعيدة عن الرياء والشبهات، ... وينصحون أيضاً باجتناب الشبهات، والتهيؤ للموت والاستعداد للآخرة، والصبر والتصبر، والإخلاص لله في كل الأمور وترك الاهتمام الزائد بالأكل والشرب، وإصلاح السريرة.
ونكتفي الآن بالحديث عن وجوب اجتناب الذنوب، ومخالفة النفس الأمارة بالسوء، حيث لا يجوز التهاون بصغار المعاصي التي تجر بعضها، والقليل مع القليل يصبح كثيراً، وارتكاب الذنوب يقسي القلوب، ويبعد عن الرب.
يقول علي أمير المؤمنين(عليه السلام) عن المتقين : "فهم لأنفسكم ملهمون، ومن أعمالهم مشفقون ... أنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة... إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره، لم يعطها سؤلها فيما تحب... غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم ...".
أخي الكريم، إن المؤمن المالك إلى جادة التقوى، هو الذي يعمل بالاحتياط في كثير من الأحيان بل هي أكثرها، حتى لا يقع في المحذور وهو لا يدري... فهو يريد أن يجتنب ما أمر باجتنابه حتى من دون عزيمة منه... وسبيل ذلك : أنه كلما عرض عليك أمران مباحان جائزان، تنظر أيهما أقرب إلى الهوى فتخالفه، لتحاول قدر الإمكان مخالفة الهوى، بل معاندته، ولتعتاد على ذلك، كما يقول الأمير(عليه السلام) : "كان لي فيما مضى أخ في الله، ... وكان إذا بدهه أمران ينظر أيهما أقرب إلى الهوى فيخالفه، فعليكم بهذه الخلائق، فالزموها، وتنافسوا فيها، فإن لم تستطيعوها فاعلموا أن أخذ القليل خير من ترك الكثير".
ويقول(عليه السلام) : "أيها الناس تولوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها".
ولا شك أن الذي يعمل لمخالفة شهواته، سيعاني من نفسه الكثير، وبشكل دائم... وإذا كان الناس يموتون في العمر مرة، فإن مخالف الشهوة يموت في كل ساعة مرة أو أكثر... وإذا كان المجاهد يقتل ويعتبر شهيداً ... فالمجاهد بالجهاد الأكبر سيكون شهيداً من باب أولى ... بل من قدر على هواه كان على غيره أقدر ... ومن ضعف عنه كل على غيره أضعف.
يقول الأمير(عليه السلام) : " ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعف : لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة".
تخلص مما تقدم إلى أن اجتناب الذنوب إضافة إلى أن أمر واجب، يجب الحرص عليه في صغيره كما في كبيره للوصول إلى درجة التقوى ... وهذا ما يجب أن يشغل المؤمن، ويستعين بالله على نفسه ... وإن كثرة المراقبة والمحاسبة تضيء الطريق وتهدي السبيل، ليصبح الصعب سهلاً، والمستبعد ميسوراً.
قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : "عباد الله، إن من أحب عباد الله إليه، عبداً، أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، فقرب على نفسه البعيد، وهون الشديد، نظر فأبصر، قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلى عن الهموم، إلا هماً واحداً انفرد به ، فخرج من صفة العمى، ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره... واستمسك من العرا بأوثقها، ومن الجبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه الله، سبحانه، في أربع الأمور، مصباح ظلمات، كشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص الله فاستخلصه، فهو من معارف دينه، وأوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل، فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به ... ".

الإخـلاص :

أخي وحبيبي ... الإخلاص لله تعالى في جميع الأعمال أمر واجب، حتى أنـه
يبطل العبادة إذا لم يتوافر ... أمر محبب ومراد من كل الناس، بين الشريك وشريكه، والصديق وصديقه، والرفيق ورفيقه، والزوج وزوجه ... وإذا لم يتوافر الإخلاص، فسدت العلاقات، وخربت الرباطات.
ويقول أهل السلوك وعلماء الأخلاق في الإخلاص : إنه لتجربة النية عن أي شيء... غير الله تعالى، ويعرف ذلك، أو في علاماته: التفكر فيه عز وجل، وفي قدرته، وأفعاله، ويؤدي ذلك إلى المناجاة والشوق إلى اللقاء والآخرة...
وبسط بعض علماء الأخلاق هذا المعنى بقولهم : أن تقول ربي الله، ثم تستقيم على الجادة كما أمرت، تعمل لله وحده، ولا تحب أن تحمد على ذلك ... فلا تبالي بتعب بذلك، المهم أن تُبرئ ذمتك، وتلقى وجه الله تعالى بنفس مطمئنة.
يقول مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) : "وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك : إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، دون ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص "من غير تقصير ولا رياء، بالغاً من بدنك ما بلغ".
ويقول(عليه السلام) أيضاً : " ثم إن الزكاة جعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الإسلام، فمن أعطاها طيب النفس بها، فإنها تجعل له كفارة، ومن النار حجازاً ووقاية...".
ومن العبادات التي يقوي الإخلاص في النفس، وتؤكده في الروح، الصوم، الذي هو عبادة أساسية أمر بها الأقدمون، كما أمر بها المتأخرون، ولولا أهميتها ما أمروا بها ...، ولا تكون هذه العبادة إلا بالسر بينك وبين الخالق تبارك وتعالى ...
فأنت تصوم وتمتنع عن أمور كثيرة، بإرادتك واختيارك، كالأكل والشرب، وهي أمور من الصعب جداً للإنسان أن يمتنع عنها في الأحوال العادية ... فيكون
الدافع لصيامه الإيمان والتقوى والإخلاص لله تعالى رب العالمين. كما يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) : "... والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق...".
أخي الكريم، إن من أهم مظاهر الإخلاص التوحيدي الصحيح، أن تستوي أعمال السر مع أعمال العلن، والأعمال الجلية مع الأعمال الخفية، والأعمال التي شهدها الناس، مع الأعمال التي غابوا عنها ... فأنت تقوم بما تقوم به، بدافع الإيمان واليقين والتوحيد، بعيداً عن الشوائب والدواخل والنبات الزائغة... نعوذ بالله تعالى منها. والمخلص، يقول ويفعل، ولا يخالف قوله، لأنه لا يتكلم إلا بنية خالصة، وليس مضطراً للكذب أو المبالغة أو التصنع...
وقد ورد في نص مبارك عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة إلى بعض عماله، وقد بعثه على الصدقة قوله(عليه السلام) : "أمره بتقوى الله في سرائر أمره، وخفيات عمله، حيث لا شهيد غيره، ولا وكيل دونه، وأمره ألا يعمل بشيء من طاعة الله فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسر، ومن لم يختلف سره وعلانيته، وفعله ومقاتله، فقد أدى الأمانة، وأخلص العبادة...".
ونختم بوصية الأمير(عليه السلام) لابنه الحسن(عليه السلام) التي يقول فيها: ... "وأخلص في المسألة لربك، فإن بيده العطاء والحرمان...".

البكـاء من خشيـة الله تعالـى :

من صفات المتقين، البكاء من خشية الله تعالى، خاصة عند الدعاء والمناجـاة والصلاة والسجود والخشوع. وقد ذكر أن البكاء هو سيد الآداب لدلالته على رقة القلب والإخلاص الذي عنده تحصل الإجابة. أما جمود العين فمن قساوة القلب، وقاسي القلب يرد دعاؤه كما ورد في الحديث الشريف.
ومدح علماء النفس في دراسة أخيرة لهم البكاء واعتبروه تعبيراً عن إنسانية الإنسان، إذ يشعر بعد البكاء براحة نفسية، تماماً كما ترتاح الطبيعة بعد زخات المطر، وتبزغ شمسها الحنون.
ويقول علماء الطب إن الذي لا يستطيع البكاء مريض بحاجة إلى علاج، لأن العين الطبيعية تجدد غشاءها الدمعي ثلاث عشرة مرة في اليوم.
ويقول علماء الاجتماع إن البكاء قبل الضحك، هو ما يتميز به الإنسان، وكما أن الحيوان لا يضحك فإنه لا يبكي كذلك، والتعبير عن الألم بالدموع، نوع من التطور الاجتماعي، ونوع من تطور الذكاء الاجتماعي.
ومن الناحية الإسلامية، فإن البكاء تعبير عن التقوى والخشوع والخضوع والشوق والحب والطاعة... والتوبة والخوف... حيث يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) واصفاً أصحاب رسول الله(ص) : "... إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب، ورجاء للثواب!".
أخي وحبيبي، وكما تعلم فإن البكاء من خشية الله تعالى انقطاعاً وزيادة في الخشوع، ولا يدخل النار من بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن إلى الضرع، كما ورد عن رسول الله(ص).
كما أن في البكاء خصوصيات وفضائل لا توجد في غيره من أصناف الطاعات، من هنا كان التشديد، وفي أكثر من نص، على التباكي لمن أو يستطع البكاء ... وفي نصوص أخرى أمرا لله تعالى لأنبيائه بالبكاء.
ويقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في قوم صالحين راغبين في الله تعالى : "وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر...".
ووصف قوماً من أهل الصلاح والفلاح لا تلهبهم تجارة ولا بيع عن ذك رالله فقال(عليه السلام) : " وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة أمروا بها فقصروا عنها، أو نهوا عنها ففرطوا فيها، وحملوا ثقل أوزارهم ظهورهم، فضعفوا عن الإستقلال بها، فنشجوا نشيجاً، وتجاوبوا نحيباً يعجون إلى يعجون إلى ربهم من مقام ندم واعتراف، لرأيت أعلام هدى، ومصابيح دجى، قد حفت بهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات، في مقعد اطلع الله عليهم فيه، فرضي سعيهم، وحمد مقامهم، ... رهائن فاقة إلى فضله، وأسارى ذلة لعظمته، جرح طول الأسى قلوبهم، وطول البكاء عيونهم...".
أخي العزيز البكاء ليس ضعفاً، كما قد يوحي البعض، وهو ربما يكون كذلك إذا كان لتحصيل هدف شخصي دنيوي... أما إذا كان خوفاً من الله تعالى وشوقاً إليه فلا يكون ذلك ضعفاً.
الإنسان القوي، بغض النظر عن كونه رجلاً أو امرأة ليس هو الإنسان المتحفظ والمكابر والمتكبر، إنما هو الإنسان الذي لا يخجل من عواطفه ولا يخاف أن يعبر عن فرجه أو ألمه.
بل ينبغي ترويض النفس على ذلك، لتنطلق إنسانية الإنسام من الأعمال، وعواطفه من القلب. كما يقول مولانا علي(عليه السلام) : " ... لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعن مقلتي كعين ماء، نضب معينها، مستفرغة دموعها".

الوقــوف عنـد الشـبهات :

من العناوين السلوكية البارزة، التي تميز المتقين عن غيرهم : الوقوف عند الشبهات، أي التنزه بالاحتياط عن كل أمرٍ تحتمل فيه شبهة الحرام أو يشك في جوازه بحسب الظاهر منه، أو بسبب الجهل في حكم الشرع الحنيف فيه.
والعلماء الكرام، من أهل المسلك والعرفان، عبروا عن هذه الحالة واصطلحوا على تمسيتها "بورع الصالحين" وهو الدرجة الثانية من درجات أهل التقوى، بعد الدرجة الأولى المعروفة بإسم "ورع العدول" والتي تعني الاجتناب عن الحرام وما يوجب الفسق والهوان وبارتكابه يثبت العصيان.
"ورع الصالحين " الذي نحن بصدد الحديث عنه، وهو الاجتناب عن الشبهات، والوقوف عندها دون تقحمها، ورع الصالحين هذا، ناقشه الأمير(عليه السلام) في نهج البلاغة، وشرحه وأكده ودعا إليه واعتبره درجة عالية من درجات السالكين، من أهل الورع والمتقين، بل جعل(عليه السلام) الوقوف عند الشبهات درجة لا نظير لها في الورع وذلك حيث يقول(عليه السلام) في نهج البلاغة: "... ولا ربح كالثواب، ولا ورع كالوقوف عند الشبهة، ولا زهد كالزهد في الحرام ...".
وقال(عليه السلام) في غرر الحكم : "الورع ، الوقوف عند الشبهة".
أخي وعزيزي، ... كما تعلم فإن أمور الحياة، وحكم الشرع فيها، مختلفة، بين الحلال البين والحرام البين ... وهناك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، وتوقف عن الحكم عليها كثير من أهل العلم، ولا تكون التقوى وبراءة الذمة، إلا بترك المتشابهات والعمل بالواضحات البينات ... استبراء للدين .. ومن حام حول الشبهة أو شك أن يقع فيها، فهي تدعوه إليها، وتفتنه عن نفسه وفي دينه، وتتزين له، ومن وقع في الشبهة وقع في الحرام، كما عن رسول الأنام، عليه الصلاة والسلام، ويقول الأمير(عليه السلام) في رسالته المشهورة لعثمان بن حنيف الأنصاري، ممثله في البصرة : "... فما اشتبه عليك علمه، فألفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه، فنل منه".
وقال(عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن : "وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل".
ولا تنس يا أخي وحبيبي، أن الشبهة، تشبه الحق، وهذا من الفتن العظيمة على المؤمنين الذين تلتبس عليه الأمور، وتختلط القضايا فيجد الهوى مرتعاً خصباً، ويجد المنافق فرصة لبدعته، ليخلط الأمور على الناس، فيتيهون ويتنكبون عن الجادة، فلو كان الحق خالصاً عن الباطل، لأتبع، ولو كان الباطل خالصاً عن الحق، لا جتنب، يا أخي من شبهة تشبه الحق، ومن قتنة مازجة الخير والشر.
ومن لطيف ما ذكر في نهج البلاغة في هذا الامر، ما قاله رسول الله(ص) لعلي(عليه السلام) عن الفتنة والشبهات، قال(ص) : "ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة، والأهواء الساهية، فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع"
فقال الأمير(عليه السلام) : " يا رسول الله فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردة، أم بمنزلة فتنة؟ فقال : بمنزلة فتنة".
ووضح مولانا علي(عليه السلام) كيف تخرب الأمم والمجتمعات من الفتن والشبهات فقال(عليه السلام) : "فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق، لم يخف على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث، فيمزجان! فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى".
وقال(عليه السلام) : "وإنما سميت الشبهة شبهة، لأنها تشبه الحق، فأما أولياء الله، فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى...".
أخي، لا ريب أن الوقوف عن الشبهة، والاحتياط في المسائل الشرعية والحياتية أمر يريده العاقل، ويهمله الجاهل، فالأمن خير من الخطر، خاصة في أمور الآخرة، التي لا تعوض خسائرها، ولا تجبر فوادحها ... من أهمل ذلك أهله الشيطان، ومن راعى، أنقذه الرحمن.
يقول(عليه السلام) في نهج البلاغة، يصف أخاً له في الله : "وكان إذا بدهه أمران، ينظر أيهما أقرب إلى الهوى، فيخالفه". ثم يقول(عليه السلام) : "وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف عند حيرة الضلال، خير من ركوب الأهوال".
كما يقول(عليه السلام) : "ومن تردد في الريب، وطئته سنابك الشياطين".

انتهى .

****************************