الدرس الخامس (الحق في نهج البلاغة)
إمكان معرفة الحق :
إن البشر كلهم منذ بداية خلقهم وعلى اختلاف توجهاتهم وعقائدهم وآرائهم يدعون أنهم على الحق، وأن الحق معهم ولهم، وعلى هذا الأساس يقاتلون بعضهم البعض وتراق الدماء وتزهق الأرواح، حتى وصل الأمر بالبعض للقول بأن ليس هناك شيء اسمه الحق والحقيقة، فالكل يدعيه من وجهة نظره وقالوا بأن الحق من الأمور النسبية التي تختلف من شخص إلى آخر بحسب مقياس كل شخص أو فئة أو أمة، فتاهوا في معناه، وإمكان معرفته.
الإمام علي عليه السلام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه كيفما دار".
تكلم عن الحق كثيراً وعن امكانية معرفته وحدد معناه ومميزاته عن الباطل وتكلم عن أهل الباطل وصفاتهم وتركِ الحق وآثاره.
ففي نهج البلاغة عنه عليه السلام في خطبة له يصف بها الحق يقول: "الحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف" [١] .
وكأنه عليه السلام يؤكد أن معنى الحق قد يختلف فيه لسعة هذا المعنى واختلافه من جهة إلى جهة إلا أنه يبين كما سيأتي أن له معنى ثابتاً ويبين أن اللَّه (عزَّ وجلَّ) خلق الإنسان وأعطاه القدرة على معرفة الحق والباطل والتمييز بينهما.
عنه عليه السلام:"ثم نفخ فيها من روحه فتمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها وفِكَرٍ يتصرف بها وجوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل..." [٢].
وعنه عليه السلام:"قد انجابت السرائر لأهل البصائر، ووضحت حجة الحق لخاطبها (لأهلها)..." [٣] .
فحجة الحق إنما تتضح لأهل البصائر وتنكشف لهم السرائر ولكن بشرط هو أن يطلب الحق فالخاطب هو السائر عليها، فمن لم يسر باتجاه الحق وعلى الطريق الموصل إلى الحق الذي هو محجته فلن يصل إليه، وإنما سيصل إلى ما يسير إليه، وإلى ما يوصله إلى الطريق الذي يسلكه إن حقاً فحق وإن باطلاً فباطل، لذلك فمن ينفرد من الحق ويهرب منه لن يستطيع أن يعرفه أو أن يعرف أهله.
عنه عليه السلام : "فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السَّقَم" [٤] .
ثم إن اللَّه (عزَّ وجلّ) عندما أعطى الإنسان امكانية وقدرة معرفة الحق من الباطل، فلا بد أن يوضح له طريق الحق الموصل إلى السعادة والبقاء الذي إليه يسعى الإنسان وطريق الباطل الموصل إلى الشقاء والفناء الذي منه يفر الإنسان.
وإلى هذا المعنى يشير كلامه المروي عنه عليه السلام في نهج البلاغة:
"عباد اللَّه! اللَّه! اللَّه! في أعزِّ الأنفس عليكم وأحبِّها إليكم، فإن اللَّه قد أوضح لكم سبيل الحق، وأنار طرقه، فشقوة لازمة أو سعادة دائمة، فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء" [٥] .
فاللَّه أوضح سبيل الحق إلى السعادة وهي بالتزود لأيام البقاء في أيام الفناء، وأنار طريق الحق بحيث يستطيع الإنسان أن يميز بين الشقوة والسعادة وبين الفناء والبقاء.
بناء على الحديث السابق تعرف معنى الحقّ وهو الثابت الباقي كما هو معنى الحق في اللغة، وما يفنى هو الباطل الفاني كما هو معنى الباطل في اللغة، وعليه يدور معنى الحق والباطل مدار البقاء والاستمرار والخلود، أو الفناء والزوال والبطلان.
إن الحق لا يدور مدار آراء الناس ومعتقداتهم حتى يستطيع الإنسان أن ينسب للآخر الذي يخالفه اسم الباطل، فليس الشخص نفسه هو ميزان الحق بل الحق ثابت وهو واحد بالنسبة إلى جميع البشر لأن الفاني فانٍ بالنسبة لجميع البشر والباقي باقٍ بالنسبة إليهم جميعاً فلا يختلف الحق من شخص إلى آخر، فهو موجود وعلينا أن نتعرف عليه كما هو السابق لا كما نفهمه.
وهنا يبين الإمام عليه السلام فيما روي عنه في النهج أيضاً قوله: "فلا تقولوا بما لا تعرفون فإن أكثر الحق فيما تنكرون" [٦] .
معنى الحق.. وما يميزه عن الباطل :
١- الباقي والثابت: هذا أول ما يميز الحق عن الباطل وهو معنى الحق الذي هو الباقي والثابت، ومعنى الباطل وهو الفاني والزائل.
٢- الحق هو الله: وما دونه باطل كما روي عنه عليه السلام:"هو اللَّه الحق المبين أحق وأبين".
لأن اللَّه هو وحده الباقي وكل ما سواه فانٍ وإن كان يبقى فهو باللَّه (عزَّ وجلّ).
٣- الآخرة هي الحق: ويبين عليه السلام ميزة أخرى للباطل مستفادة من الميزة الأولى وهي أن الدنيا هي الباطلة والآخرة هي الحق.
باعتبار أن الدنيا هي الفانية فمن تعلق بها وعمل لها بطل وبطلت أعماله وكان من الهالكين الفانين في العذاب خالداً وباطل ما كانوا يعملون، ومن عمل للآخرة خلد وخلدت أعماله وبقيت وكانت الباقيات الصالحات.
عنه عليه السلام:"أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ألا وإن الدنيا قد ولّت حذَّاء [٧] ، فلم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء اصطبَّها صاحبها، ألا وإن الآخرة قد أقبلت ولكل منهما بنون، فكوّنوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل ولد سيلحق بأبيه (بأمه) يوم القيامة..." [٨] .
نرى أنه عليه السلام قد اعتبر الدنيا فانية ومولية بسرعة، والآخرة باقية، لذلك اعتبر أن اتباع أهواء النفس ومشتهياتها الدنيوية تصد عن الحق الباقي ومنه الآخرة، وطول الأمل يشغل الإنسان بالدنيا وينسيه الآخرة.
ولهذا ينهى أبا ذر رضوان اللَّه عليه عن قبول دنيا الحاكمين وأمره أن يستوحش منها لأنها باطل، وأن يستأنس بالحق الذي هو غير الدنيا وأهلها وهو اللَّه والآخرة.
عنه عليه السلام: "لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمَّنوك" [٩] .
فقد جعل قبوله لدنياهم باطلاً وأمره أن يستوحش منه بل أن لا يستوحش من غيره، وتركه لدنياهم حقاً يجب أن يستأنس به وهو الآخرة وما بعد الحق إلا الضلال.
أسباب اشتباه الحق بالباطل :
لقد مر أن الحق واضح، وأن اللَّه (عزَّ وجلّ) قد أوضح طرقه، وأعطى الإنسان ما يمكنه من معرفته، فلماذا إذن يضل عنه كثير من الناس أو يشبهون به، فيخلطون بينه وبين الباطل؟
الإمام عليه السلام يجيب عن هذا التساؤل فيما روي عنه في نهج البلاغة:
أولاً: أنه وكما سيأتي فيما بعد هناك أشخاص يدعون العلم يضلّون الناس عندما يفسرون كتاب اللَّه بآرائهم الشخصية دون علمٍ وبينة وبدافع الهوى وحب النفس والدنيا والتقرب للسلاطين لجمع المال والدنيا والحصول على المنصب ونحو ذلك.
عنه عليه السلام:"وآخر قد تسمى عالماً وليس به فاقتبس جهائل من جهّال وأضاليل من ضُلاَّل، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور وقول زور، حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه..." [١٠] .
ثانياً اختلاط الحق بالباطل: قد يكون هناك تشابه بين الحق والباطل فيشتبه الإنسان بينهما كما لو رأى الدنيا وطول بقائها ومدتها فيتوهم أنها باقية، فيشتبه بينهما وبين الآخرة، وقد يختلط الحق بالباطل كما لو علم الإنسان بأن اللَّه سبحانه رحيم ورحمته واسعة وهذا أمر حق، فيجوز لنفسه المعاصي بدليل رحمة اللَّه، أو أن يستصغر بعض المعاصي باعتبار أن اللَّه (عزَّ وجلّ) لا يهتم بها، فيخلط الحق بالباطل فيقع تدريجياً في المعاصي ويعتاد عليها، وقد يصل به الأمر إلى إنكار العقائد أو الواجبات الإلهية فيقع في الكفر.
لذلك حتى لا يقع الإنسان بالباطل لا بد أن يلتفت الإنسان، فكما يجب أن يختار الحق في ما يعتقد به كذلك فيما يفعله، وخصوصاً إذا خلط أهوائه بفهم الحق فإنه قطعاً لن يصل إليه.
عنه عليه السلام:"إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب اللَّه، ويتولى عليها رجال على غير دين اللَّه، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان! فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو (الذين سبقت لهم منا الحسنى)" [١١] .
إذن الفتن والضلالات سببها الأهواء وحب الدنيا، التي تختلط بالحق، وتجعل الإنسان يصدر أحكاماً مبتدعة جديدة مخالفة لكتاب اللَّه، والمبتدع في الدين يعمل بغير الدين ويسن سنة غيره، فإن لم يكن هو على غير الدين فإنه سيفتح باباً لغير أهل الدين يتولوا على أهله ويضلّوهم كما تعلم من تاريخ الإسلام الذي تحول فيه إلى ملكية وراثية يرثها أهل الفسق والخمر والفساد.
ثالثاً: تغليب الباطل على الحق، ورفض الحق وقبول الباطل يؤدي إلى انتصار الباطل وظهوره ودفن الحق تحته بل قد يصل إلى درجة يحتاج اخراج الحق إلى جهد أكبر ممن ينقب الصخر ليخرج الماء.
عنه عليه السلام:"أيها الناس! لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقوَ من قوي عليكم، لكنكم تُهْتُم متاه بني إسرائيل، ولعمري! ليضعفنّ لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلفتم الحق وراء ظهوركم..." [١٢] .
فهم قد تاهوا بسبب تقديمهم وتغليبهم للباطل بترك نصرتهم للحق، فأضاعوه وتضاعف ضياعهم وتيههم أشد من بني إسرائيل، ودفنوا الحق تحت التراب بل تحت الصخر، وصعبوا مهمة إخراج الحق وإظهاره حتى صار بحاجة إلى بقر الباطل أو نقبه ليظهر الحق.
عنه عليه السلام:"وأيم اللَّه، لأبقُرَنَّ الباطل حتى أُخرجَ الحق من خاصرته" [١٣] .
وعنه عليه السلام أيضاً:"فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه" [١٤] .
رابعاً: ترك أئمة الهدى عليهم السلام:في الحديث الذي مر سابقاً عنه عليه السلام يقول فيه:"... ولعمري، ليضعفنَّ لكم التيه بعدي أضعافاً بما خلَّفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد، واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم سلك بكم منهاج الرسول، وكفيتم مؤونة الاعتساف، ونبذتم الثقل الفادح عن الأعناق" [١٥] .
فهم بتركهم للدعاة إلى اللَّه ضلوا عن منهاج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأوقعوا أنفسهم في التعسّف وتحت ثقل ونير ظلم ولاة الجور.
وعنه عليه السلام:"فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السَّقم، واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله" [١٦].
فما لم يميز الإنسان بين من أمسك بالرشد ومن تركه، ومن أخذ بالكتاب ومن نقضه، فلن يستطيع الاقتراب من الحق بل سينفر من الحق ويهرب منه هرب الصحيح من الأجرب، فإذا أراد أن يميز فليلجأ إلى أهل الرشد وأهل الكتاب فهم يولّونه إلى الحق ويهدونه إليه.
الدرس السادس (أهل الحق وأهل الباطل)
أهل الخطايا وأهل التقوى :
إن لأهل الحق صفات يعرفون بها، وكذلك أهل الباطل فلكل منهما أهل كما روي عنه عليه السلام: "ألا وأن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخُلعت لجمها فتقحمت بهم في النار، إلا وأن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة، حق وباطل ولكل أهل..." [١٧] .
في هذا الكلام قسم عليه السلام الناس إلى قسمين لا ثالث لهما أهل الحق وأهل الباطل، وذكر مميزات لكل منهما، فأهل الباطل يتميزون بأنهم ركبوا الخطايا، فلم يستطيعوا السيطرة عليها لأن الشهوات هي التي تدفع الإنسان إلى الخطايا، فإذا سلم الإنسان نفسه لها سلبته عقله وتملمت به وأفلت زمام نفسه وقيادها من يده فكانت كالخيل الشمس الصعبة التي لا يستطيع صاحبها التحكم بها، ومن ترك العقل كان كمن أفلت الزمام من يده فقادته نفسه إلى الهلكة، ورمته في نار شهواته.
هؤلاء كان الحق تبعاً لأهواهم ولم تكن أهواؤهم تابعة للحق فيميلوا إليه ويعملوا له، وتكون أهواؤهم فيه، لذلك تركوا كتاب اللَّه كما تركوا العقل، وعملوا فيه بآرائهم.
كما ورد عنه عليه السلام في صفات الفساق:"قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه..." [١٨] .
أما أهل التقوى فاعطوا قياد أنفسهم ولجامها للعقل، فأمسكوا بها، وذلّت لهم، فكانت كالخيل المدربة الذليلة والسهلة، فابتعدوا بها عن الهالك واتقوا بها الشهوات فنجوا من العذاب ونالوا السعادة في الدنيا والآخرة.
أهل اليقين وأهل العمى :
كان أولياء اللَّه على يقين وطمأنينة لا تضلهم الشبهات، ولا تغويهم الشهوات على عكس أعداء اللَّه الذين لا دليل لهم إلا العمى.
عنه عليه السلام:"إنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فأما أولياء اللَّه فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى، وأما أعداء اللَّه فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى" [١٩] .
لذلك كان أهل اليقين من أهل البصائر، وضح الطريق أمامهم واستنار فسلكوا سبيل الحق ونهجه عنه عليه السلام:"قد انجابت السرائر لأهل البصائر ووضحت محجة الحق لخابطها..." [٢٠].
فمن كان من أهل التقوى كان العدل هو ديدنه وأول ما تظهر آثار عدله على نفسه حيث ينهاها عن الهوى واتباع الشهوات والميل إليها، ويقول الحق ويعمل به.
أهل العدل، وأهل الهوى :
عنه عليه السلام في صفات أهل التقوى:"فكان أول عدله نفي الهدى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به" [٢١].
فهو يعمل بالحق ولو كان على خلاف أهوائه ومصالحه وفائدته بل حتى لو جر عليه المصائب، والابتلاءات المختلفة ويترك الباطل مهما حقق له من المكاسب والفوائد ومتاع الدنيا ومناصبها وتسبب له بالفقر والنقص في المال. من هنا كان من يمتاز بهذه الصفة من أفضل العباد عند اللَّه (عزَّ وجلّ).
فقد ورد عنه عليه السلام:"إن أفضل الناس عند اللَّه من كان العمل أحب إليه وإن نقصه وكرثه، من الباطل وإن جرَّ إليه مائدة وزاده"[٢٢].
ولذلك ينهى الإمام عليه السلام من أراد أن يكون من أهل الحق عن الأنس بغير الحق، وأن لا يستوحش إلا من الباطل، لأن الباطل كما مر مصيره إلى النار والهلاك ولو عرفه المرء لاستوحش منه، والحق مصيره إلى الجنة والسعادة واليقين.
عنه عليه السلام:"لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل فلو قبلت دنياهم لأحبوك ولو قرضت منها لأمنوك...." [٢٣]. فمن قبل الدنيا يحبه أهل الباطل ويعطونه الأمان.
أهل الجهل وأهل الباطل :
لكن هناك من الناس من يطلب الحق إلا أنه يخطئ فيقع في الباطل بسبب جهله، ولأنه لم يحصن نفسه بالعلم ليستطيع التمييز بين الحق وسراطه وأهله، والباطل وسبله وأهله وهناك من يطلب الباطل فيدركه، فهذا من نيته منذ البداية طلب الباطل على عكس الأول وهذا هو الفرق بينهما، لذلك لا يستوي هؤلاء في الحكم، فإن من طلب الحق فوقع جهلاً في الباطل، لو عرف أنه باطل لتركه، دون من قصد الباطل وسعى للوصول إليه.
لذلك روى أنه عليه السلام نهى من قتال الخوارج من بعده بقوله:"لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه..." [٢٤] .
الإفراط في الحب والبغض:وهناك من الناس من يذهب به حبّه إلى درجة الافراط، لما مر من عدم اتزانه وتقيده وانقياده للعقل، فيصل به إلى درجة الغلو واعطاء العبد صفات إلهية، أو نسبة الألوهية إليه أو الربوبية، مما يعتبر كفراً وشركاً.
والبعض الآخر بسبب الإفراط أيضاً، وعدم التزامه بقواعد وموازين واقعية وصادقة وبعيدة عن الأهواء الشخصية، والنوازع القبلية أو العرفية أو غيرها، يصل به البغض إلى حدٍّ يعادي أولياء اللَّه ويقاتلهم ويبعد الناس عنهم.
كلا هذين الشخصين من أهل الباطل وهما من الهالكين كما عبر الإمام في الحديث المروي عنه:"وسيهلك في صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق..." [٢٥].
آثار ترك الحق :
مما مر يظهر أن للعمل بالحق أو تركه آثار ونتائج، فلا شك أن ترك الحق له نتائج سلبية وسيئة على صعيد الشخص والمجتمع وفي الدنيا والآخرة، فنورد بعض هذه النتائج بحسب ما ورد في نهج البلاغة:
١- الوقوع في مفاسد الباطل :
وهذا أمر واضح ونتيجة حتمية فما بعد الحق إلا الضلال.
عنه عليه السلام:"ألا وأنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل ألا ومن لا يستقيم به الهدى يجره الضلال إلى الردى" [٢٦].
فالنتيجة إذن أن يضره الباطل وأول أضراره أن يجره إلى الردى، ويبعده عن الاستقامة والهداية.
٢- ترك الدفاع والممانعة عن البلاد، وعدم نصرة الأئمة عليهم السلام:
الحق لا يدرك إلا بالسعي والبذل والعطاء، فمن لم يكن مراده الحق، ولم يكن جدّياً ومجدّاً في إرادة الحق، وكان له أهواء أخرى تحركه، فإن نتائج ذلك أن لا يدافع عن الحق ويغفل عن منافعه ويقصر نظره على المنافع الآنية، فلا يدافع عن داره، ولا يقاتل مع أمير الحق وإمام الحق وقائد الحق، فإن لم يدافع عن داره ولا يقاتل مع أميره ومولاه الحق، فهل سيدافع عن دار غيره وبلاد غيره، ومع أي إمام سيقاتل إن لم يقاتل مع الحق.
عنه عليه السلام:"لا يدرك الحق إلاّ بالجد، أي دارٍ بعد داركم تمنعون، ومع أي إمام بعدي تقاتلون..." [٢٧] .
٣- استيلاء الشيطان على الإنسان:
هذا ما نستفيده مما روي عنه عليه السلام:"... ولو أن الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث فيمزجان! فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه..." [٢٨].
فإن ترك الحق واتباع الباطل ولو لإشتباهه بالحق يوقع الإنسان في شباك الشيطان ويستولي عليه ويتحكم به حتى يصير من أوليائه وأنصاره وعمّاله.
٤- الوقوع في المغالاة أو المعاداة والبغض:
كما مر في ما روي عنه عليه السلام في هلاك الصنفين: المحب والمبغض قوله:"هلك فيّ رجلان محب غال ومبغض قال" [٢٩].
٥- زوال النعمة:
عنه عليه السلام:"إن للَّه في كل نعمة حقاً فمن أداه زاده منها، ومن قصّر فيه خاطر بزوال نعمته" [٣٠] .
اللَّه (عزَّ وجلّ) وعد عباده بنصرتهم وباغداق النعم عليهم إذا نصروه وأقاموا حكمه واستقاموا على طريقته وأطاعوه، بل حتى لو لم يعبد اللَّه عباده، فإنهم إن أقاموا الحق والعدل بينهم ستستقيم حياتهم وتصلح ويعمها الخير والصلاح والطمأنينة، ولا يخاف أحد جوراً أو ظلماً أو نقصاً وعمّت الرحمة الإلهية: "رحم اللَّه رجلاً رأى حقاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه" [٣١].
فإذا تركوا الحق ولم يؤدوه إلى اللَّه وإلى بعضهم البعض زالت النعم، وعمَّ الظلم، ولم تصل الحقوق إلى أهلها، وشب الخلاف والتنازع والتباغض والتقاتل والتفرق وهكذا إلى نهاية الفساد.
٦- الشقاء اللازم:
عنه عليه السلام:فإن اللَّه قد أوضح لكم سبيل الحق، وأنار طرقه، فشقوة لازمة أو سعادة دائمة، فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء" [٣٢].
فمن سار في طريق الحق الواضح وغير الخفي الذي أضاءه اللَّه وأوضحه، من خلال العقل الذي هو الدليل الباطن وعن طريق الهداة الأنبياء الأئمة عليهم السلام فإن حصاده هو السعادة الدائمة، وبغير ذلك يكون جزاؤه وثمار عمله ملازمة الشقاء له في الدنيا والآخرة، في الدنيا بهمومها والشقاء في حفظها، وفي الآخرة بعذابها وعقابها وحسابها.
لذلك ولما مر كله يجب على الإنسان أن يعرف الحق وأنه ما يبقى، ويصدقه وينصر بالأعمال فإنها الباقيات، ويعرف أهله فهم الخالدون في السعادة الدائمة والنعيم المقيم، ويعرف أسباب الجهل به ونتائج تركه وخذلانه فيتقيها بالعلم والعمل.
----------------------------------------------------------------
[١] . عبده، محمد، نهج البلاغة، خطبة ٢٠٩.
[٢] . ن.م.
[٣] . ن.م، خطبة ١٠٨.
[٤] . ن.م، خطبة ١٤٧.
[٥] . م.س، خطبة ١٥٧.
[٦] . ن.م، خطبة ١٥٤، ص ١٧٧.
[٧] . حذَّاء: مسرعة.
[٨] . عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، حديث ٤٢.
[٩] . ن.م، خطبة ١٣٠.
[١٠] . م.س، خطبة ٨٧.
[١١] . ن.م.س، خطبة ٤.
[١٢] . خطبة ١٦٦.
[١٣] . م.س، خطبة ١٠٤.
[١٤] . ن.م، خطبة ٣٣.
[١٥] . ن.م، خطبة ١٦٦.
[١٦] . ن.م، خطبة ١٤٧.
[١٧] . ن.م، خطبة ١٦.
[١٨] . ن.م، خطبة ٨٧.
[١٩] . م.س، خطبة ٣٨.
[٢٠] . ن.م، خطبة ١٠٨.
[٢١] . ن.م، خطبة ٨٧.
[٢٢] . ن.م، خطبة ١٢٥.
[٢٣] . ن.م، خطبة ١٣٠.
[٢٤] . م.س، خطبة ٦١.
[٢٥] . ن.م، خطبة ١٢٧.
[٢٦] . ن.م، خطبة ٢٨.
[٢٧] . م.س، خطبة ٢٩.
[٢٨] . ن.م، خطبة ٠ذ.
[٢٩] . ن.م، خطبة ١٢٧.
[٣٠] . م.س، خطبة ١٦٦.
[٣١] . ن.م، كتاب ٢٠٥.
[٣٢] . ن.م، خطبة ١٥٧.
يتبع ......