وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ .                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
قبسات من نهج البلاغة - الثاني

الدرس الثالث (العبادة) - ١

مقدمة :
عندما نريد أن نتكلم عن العبادة فلن نجد بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يعبد اللَّه (عزَّ وجلّ) عبادة لم يعبدها أحد قبله ولا بعده غير علي عليه السلام لنستلهم من كلامه دروس العبادة وحقيقتها وهو الذي يروى أنه كان يسجد ويطيل سجوده ويغمى عليه حال سجوده حتى يظن أنه قد مات، وهو الذي كان إذا وقف بين يدي اللَّه يغيب عن نفسه، حتى يتم إخراج السهم من بدنه دون أن يشعر في حال العبادة.

وهو الذي لم تكن العبادة عنده مجرد أوقات محدودة للذكر والورد والصلاة والدعاء، بل كانت خضوعاً للَّه (عزَّ وجلّ‏) وخشوعاً وطاعة بالمال والنفس والكلمة والحكم والجهاد والمعاملة، فكانت العبادة حياته وكل حركاته وسكناته.
هذا ما نجده في سيرة أمير المؤمنين علي عليه السلام وفي كلامه، فلنلقي الضوء على هذا المفهوم من كلامه عليه السلام في نهج البلاغة:
العبادة سنة تكوينية عامة :
يبين الإمام عليه السلام في ما روي عنه أن العبادة في بعض مراتبها ليست أمراً دينياً فرضه اللَّه والدين بشكل عام أو الإسلام بشكل خاص، وإنما حالة تكوينية تعيشها كل المخلوقات ومنها الإنسان ولا يخلو منها أحد.
فالإنسان أولاً هو خاضع لنظام الخلق شاء أم أبى ولا يستطيع أن يتجاوز هذا النظام وهذه السنة الإلهية الكونية المسيطرة على الوجود بجميع نواحيه، وعلى جميع الموجودات من الملائكة والبشر والحيوانات والنبات والجماد، ولا فرق في ذلك بين البشر وغيرهم والمؤمن باللَّه وغيره.
لذلك وبهذا المعنى الذي هو أحد معاني العبادة لا يستطيع الإنسان أن يخرج نفسه من حد العبادة لواضع هذا النظام في سلوك الأسباب الموضوعة في هذا الكون للوصول إلى الغايات، وإلا فإنه لن يصل إليها، لذلك يجد نفسه مضطراً بل مجبراً على السير في طريقها. من هنا فإن الإنسان عندما يريد أن يصعد إلى مكانٍ عالٍ أو ينزل إلى مكانٍ دانٍ فإنه سيستخدم الوسيلة التي توصله إلى غايته في كل الطريقين، كذلك إذا أراد أن يحصل على الحرارة أو البرودة، فإنه سيجد أسباباً خاصة توصل إلى أحدهما غير الأسباب التي توصل إلى الآخر، ولا بد أن يسلك لكل غاية سبيلها ويؤمن لها أسبابها.
يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام:"فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا" [١] .
إذن نحن مخلوقون لهذا الخالق وعليه نحن مملوكون لهذا الرب ولذلك فنحن عبيد له، فهو يملك منا ومن أنفسنا ما لا نملكه من هذه الأنفس من وجودها وموتها وحياتها وكثير من الشؤون التي تعطينا الحياة واستمراريتها في عالم المادة والشهادة أو في عالم الغيب والملكوت. ما لا يعد ولا يحصى بل لا يستطيع تصوره أحد.
وعنه عليه السلام:"الحمد للَّه المعروف من غير رؤية، والخالق من غير منصبة [٢]، خلق الخلائق بقدرته، واستعبد الأرباب بعزته  [٣]..." [٤] .

إن ذكر الخالقية قبل ذكر الاستعباد في كلامه عليه السلام كأنه للتعليل، حيث أن الخالق هو المالك لهذا العبد والذي بيده وجوده وعدمه، فهو الذي أحدثه وخلقه من العدم وأعطاه الوجود لذلك سيكون هو المستعبد له مهما علت مكانته وقدرته وسلطته فكل من ادعى ربوبية في عالم الخلق هو مستعبد للَّه (عزَّ وجلّ‏) لأنه كما مر لا يملك من الأسباب إلا ما ملكه الرب العظيم رب الأرباب العزيز.
العبودية سنة اجتماعية:
ثم إن هذه العبودية بمرتبتها الثانية التي هي سنة جارية لن يخرج منها الإنسان مهما جهد، فإنه وإن ترك عبادة اللَّه (عزَّ وجلّ‏) والخضوع له، لكنه فضلاً عن كونه لن يستطيع أن يخرج من تحت سلطة الأسباب التكوينية، فإنه كذلك لن يستطيع أن يخرج من عبادة غير اللَّه من البشر، فإن معنى العبادة الذي سيأتي الكلام عنه يصدق على كل إنسان حتى من لا يعبد اللَّه، فإنه يكون عبداً للدنيا، أو للأمير والسلطان، أو لشهوات نفسه.
فالإنسان إذن عبد وإنما هو يتقلب بين معبودين وأرباب مختلفين ويتخير بينهم، وبتعبير آخر هو مضطر في موضوع العبادة وهو قانون لا يشذ فيه أحد من البشر، لأن الإنسان في حياته يختار طريقه وقانونا يعيش على أساسها تحكم شؤونه وحركاته ومواقفه تجاه جميع ما يواجهه في حياته. ويخضع لهذا القانون ويطبق طريقته ويعمل على أساسه لذلك كل من كان واضعاً لهذا القانون فإنه سيكون رباً له يطيعه ويلتزم بما يحكم.
عن أمير المؤمنين عليه السلام:"ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً وأبقى آثاراً، وأبعد آمالاً، وأعدَّ عديداً، وأكثف جنوداً، تعبدوا للدنيا أيّ‏َ تعبُّد، وأثروها أي إيثار، ثم ظعنوا [٥] عنها بغير زادٍ مبلِّغ [٦] ولا ظهر قاطع [٧] , [٨] هؤلاء كما نرى في ما روي عن الإمام عليه السلام قد تعبُّدوا للدنيا بدل أن يتعبدوا للَّه (عزَّ وجلّ‏)، فاختاروا الدنيا وآثروها ولكن لم يخرجوا عن سنة العبادة ونظامها، وإن تركوا عبادة اللَّه فبقوا عبيداً لرب آخر ومعبود آخر إلا أنه لا يبقى ولا يدوم ولن يأخذوا منه زاداً يكفيهم لكي يبلغوا آخر سفرهم ويوصلهم إلى مقصدهم، ولم يكن هذا المعبود أو هذه العبادة بالمركب القوي الذي يستطيع أن يقطع بهم طريق الآخرة فهو مركب ينتهي به الأمر عند بداية سفر الآخرة، فهو مركب غير قاطع.
عبادة الله تعالى هي الفوز:
الجن والإنس والملائكة والأنبياء وغيرهم عبدوا اللَّه واستعبدهم سبحانه وتعالى وهم عبدوه وتركوا عبادة غيره ففازوا، ولم يخلُ منهم زمن ولا دهر ولا مكان ولا مقام في عالم الغيب والشهادة.
عنه عليه السلام:"من ملائكة أسكنتهم سماواتك... وإنهم على مكانهم منك ومنزلتهم عندك واستجماع أهوائهم فيك وكثرة طاعتهم لك، وقلة غفلتهم عن أمرك... لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقّروا أعمالهم، ولزروا على أنفسهم، ولعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك..."  [٩].
وعنه عليه السلام:"ألا ترون أن اللَّه سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات اللَّه عليه، إلى الآخرين من هذا العالم... ولكن اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد.." [١٠].
وعنه عليه السلام:"وما برح للَّه وعزت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم..."  [١١].
وعنه عليه السلام يتكلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"أمره بتقوى اللَّه في سرائر أمره وخفيات عمله... فقد أدى الأمانة، وأخلص العبادة..." [١٢].
العبادة هي سر ارسال الأنبياء صلوات اللَّه عليهم :
الحكمة من إرسال الأنبياء صلوات اللَّه عليهم هي دلالة الناس وإرشادهم وهدايتهم إلى عبادة اللَّه (عزَّ وجلّ‏)، ولولا ذلك لما توصل أحد إلى هذه العبادة ولما عرف أحد كيف يعبد اللَّه (عزَّ وجلّ‏) ومن أي طريق، ولضلوا ولاختلفوا واقتتلوا أشد مما اقتتلوا فمع إرسال عدد كبير من الأنبياء صلى الله عليهم نجد أن التاريخ قد فاض بالدماء بحوراً بسبب الاختلاف والضلالة في السبل وعدم معرفة سبيل العبادة الأصلح للبشرية.
عنه عليه السلام: "فبعث اللَّه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بينه وأحكمه..." [١٣].
نلاحظ كلامه عليه السلام "من عبادة الأوثان إلى عبادته"، فالإنسان دائماً يسعى لأن يكون عبداً لما يراه يحقق له أهدافه ويجعله أمامه يخضع له ويعبده ويجعله ربه ومدبر أموره، فلو لم يرسل اللَّه (عزَّ وجلّ) الأنبياء لخضع الإنسان حتى للحجارة كما فعل عبدة الأوثان والحجر هو أدنى مخلوق في سلسلة مراتب المخلوقات ومع ذلك عبده الإنسان عندما لم يجد من ينير له طريقه. فلو كان الإنسان يستطيع أن يستدل على طريق العبادة وسبيلها دون الأنبياء ولما كان هناك حكمة من إرسالهم.
فيمكن أن يستفاد من كلام الإمام عليه السلام أمران :
الأول: أن معرفة اللَّه وإن كانت ممكنة من خلال العقل، إلا أن معرفة سبل عبادته ومنهاج طاعته غير ممكنة، إلا من خلال الأنبياء وهذا دليل على ضرورة النبوة.
الثاني: أن العباد بما أنهم لن يستطيعوا أن يخرجوا من تحت نظام العبادة وشموليته، فلا بد أن يفتشوا ويتعرفوا على العبادة الصحيحة، وبما أنه لا طريق إلى معرفتها إلا من خلال الأنبياء عليهم السلام، إذن لا بد من الالتزام بطاعتهم وبأمرهم، وهذا دليل على ضرورة الالتزام بولاية وطاعة أولياء اللَّه (عزَّ وجلّ‏).

الدرس الرابع (العبادة) – ٢
لزوم العبادة :
نجد أن الإمام عليه السلام فيما روي عنه في نهج البلاغة يشير إلى لزوم العبادة ويؤكد عليها لاعتبارات عدة:
الأول: وقد مر ذكره ببيان أن العباد مقهورون ومجبرون ومضطرون إلى العبادة شاؤوا أم أبوا فإن لم يعبدوا اللَّه كانوا عبيداً لغيره وهم في هذا لا يخرجون عن كونهم عبيداً للَّه، لأنهم يكونون خاضعين للنظام والسنة الإلهية.
وقد مر الحديث عنه عليه السلام: "فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون..." [١٤] .
الثاني: بأن هذه العبادة هي اختبار للإنسان وامتحان، وليست أمراً اعتبارياً مجرداً من أي غاية وحكمة، بل يكون من خلالها المفاضلة في مراتب العباد.
عنه عليه السلام: "ولكن اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره اخراجاً للتكبر من قلوبهم، واسكاناً للتذلل في نفوسهم..." [١٥].

وهذا الاختبار أيضاً ليس خالياً من الكرم الإلهي والفضل الرباني، فاللَّه يصلح به الإنسان وليس لمجرد معرفة الخبيث من الطيب، بل هو رحمة ولطف أيضاً، فالعبادة دواء وشفاء من أعظم الداء وهو الشرك، وهذا من آثارها كما سيأتي.
الثالث: الترغيب بالربح من خلال التجارة مع اللَّه، باعتبار أن بعض الناس قد يتعاملون حتى مع اللَّه (عزَّ وجلّ‏) من جهة انتظارهم للفائدة والربح المقابل.
فهم ينتظرون بدلاً معيناً وربحاً مضموناً وإلا تركوا العمل ويمكن أن تكون هذه العبادة عبادة التجار التي يتحدث الإمام عليه السلام عنها في نهج البلاغة أيضاً وسيأتي الكلام عنها، وهناك عبادة العبيد وهم المضطرون إلى هذه العبادة قهراً وخوفاً وكأن الطريقة الأولى التي مر ذكرها في بيان لزوم العبادة خطاباً لهؤلاء.
من كلامه عليه السلام المروي عنه الذي يستفاد منه الترغيب بالعبادة من باب التجارة مع اللَّه:"واختار من خلقه سُمَّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته... يحرزون الأرباح في متجر عبادته..."  [١٦].
وهذا يناسب معنى قوله تعالى:"يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ..."  [١٧] .
الرابع: الامتنان والدعوة لشكر اللَّه على نعمه، فإن شكر المنعم لازم وواجب عقلاً.
عنه عليه السلام:"فاتقوا اللَّه الذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته، وامتنّ‏ عليكم بنعمته، فعبِّدوا أنفسكم لعبادته، وأخرجوا إليه من حق طاعته"  [١٨].
وكأنه عليه السلام يفرِّع لزوم العبادة على العباد بالنعمة الشاملة للرسالة التي هي نعمة معنوية والنعم الأخرى المادية. وعليه فيلزم على العباد أن يعبِّدوا أنفسهم للَّه (عزَّ وجلّ‏) ويطيعوه مقابل ما أنعم عليهم، ووعظهم وهداهم.
ولعل ذلك أيضاً إشارة إلى عبادة الشكر للَّه سبحانه التي هي من المراتب العليا للعبادة، وهذا ما يشير إليه كلامه المروي عنه أيضاً في نهج البلاغة:"فاعتصم باللَّه الذي خلقك ورزقك وسواك وليكن له تعبدك..."  [١٩].

فمن خلق وسوى هو من يستحق العبادة مقابل خلقه وفيه معنى الشكر للخالق على خلقه.
الخامس: أنها قضاء حق فإن من حق الخالق للوجود أن يعبده المخلوق دون غيره، وليس من باب الاضطرار بل من باب أدء حق ذلك الخالق، فهي حق له، وإن كان هذا الحق لا يستطيع أن يؤديه أحد مهما جهد وسعى، فالإنسان إنما يعبد بالوجود المعطى من اللَّه (عزَّ وجلّ‏)، والذي يمن به عليه في كل لحظة من حياته فهو حتى في عبادته غير مستغن عن الخالق سبحانه.
عنه عليه السلام:"من قضى حق من لا يقضى حقه فقد عبده" [٢٠] .
ويمكن أن يستفاد هنا أن المراد هو ما فرضه اللَّه (عزَّ وجلّ‏) وجعله حقاً له على العبد وبهذا المعنى يشابه ما روي عنه عليه السلام في النهج أيضاً:"... ولا عبادة كأداء الفرائض" [٢١].
وكأن قضاء حق من لا يقضى حقه هو أداء ما افترض وهو أمر ممكن للعبد، فيستطيع أن يأتي بالفرائض وهو أدنى العبادة وبدونه لا تكون عبادة، لأن ترك أي عبادة مفترضة هو عمل محرم وهو تجرؤ على اللَّه (عزَّ وجلّ‏َ) وهتك لحرمته ولحدوده فالفرائض هي حدود اللَّه سبحانه، الذي إذا تجاوزه العبد يكون قد أخل بأدب العبودية وخرج من حيّز عبادة اللَّه إلى عبادة الشيطان.
كيفية العبادة :
قد يظن البعض أن العبادة هي أن يأخذ الإنسان نفسه بالأعمال العبادية والذكر والتهجد حتى يجهد نفسه ولو بالإجبار، فيؤدي الأمر به إلى أن تصير هذه العبادة وقتاً للتعب وبذل الجهد، لا فترة للتوجه إلى اللَّه والانقطاع إليه.
لذلك نجد فيما روي عن الإمام علي عليه السلام في النهج في هذا المجال دواءً وتوجيهاً وتقويماً لهذا الاعوجاج وتصحيحاً لهذا الخطأ: "وخادع نفسك في العبادة، وارفق بها، ولا تقهرها، وخذ عفوها [٢٢] " [٢٣] .
وقد يستغرق الإنسان في بعض العبادات ولا يبقى لديه وقت لأداء العبادات الأخرى الواجبة أيضاً. هذا الإنسان يظن أنه بهذا النحو يؤدي حق خالقه، غافلاً عن تقصيره في الواجبات الأخرى. كصلة الرحم وطلب الرزق وطلب العلم والتفقه إلى غيرها من العبادات.
ومن الناس من يتخذ العبادة مظهراً، أو يرى العبادة هي الأعمال الظاهرية، فقط فيتظاهر بهذه الأعمال ويقصر نظره ويحصره في ظاهر العبادة، فتخلو أيضاً من الباطن، والروح فيكون جسده خاشعاً متعبداً وقلبه وروحه منشغلان عن معنى العبادة، بهذا الجسد وأعماله، فتسقط هذه العبادة عن القيمة والمنزلة ولا تصل إلى أكثر من محلها وهو الجسد، فيكون عمله الظاهر صالحاً إلا أن باطنه سيئاً ومتعفناً، وجهه متوجه لجهة القبلة وقلبه متوجه للدنيا فيخالف ظاهره باطنه.
الإخلاص في العبادة :
عنه عليه السلام:"إنه لا ينفع عبداً وإن أجهد نفسه وأخلص فعله أن يخرج من الدنيا لاقياً ربه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها: أن يشرك باللَّه فيما افترض عليه من عبادته..." [٢٤] .
إن اخلاص الفعل من الشوائب دون اخلاص القلب من غير اللَّه لا ينفع العبد مهما عبد واجتهد لأن اللَّه يريد من العبد القلب كما مر.
والشرك العملي في العبادة أن يريد العبد بعبادته رضا المخلوق، ولا يكون قلبه في هذه العبادة متوجهاً إلى اللَّه وحده، فهذه العبادة باطلة وغير مقبولة وغير نافعة، وهذا الشرك العملي معصية محرمة.
وقد مر أنه روي عنه عليه السلام: "فاعتصم باللَّه الذي خلقك ورزقك وسواك، وليكن له تعبَّدك" [٢٥].

وللإخلاص مراتب منها :
المرتبة الأولى: أن لا يكون رياء وسمعة وهي بمثابة الشرط في صحة العبادة وقبولها وخلافها شرك عملي ومعصية توجب بطلان العمل العبادي.
لذلك يقول الإمام عليه السلام فيما روي عنه في نهج البلاغة:"ليس الخير في أن يكثر مالك وولدك.. وأن تباهي الناس بعبادة ربك.." [٢٦].
وعنه عليه السلام:"يأتي على الناس زمان يُعدَّون الصدقة فيه غُرماً، وصلة الرحم مناً والعبادة استطالة على الناس" [٢٧] .
المرتبة الثانية: مرتبة التجار، وهي المستفادة من الحديث المروي عنه عليه السلام في نهج البلاغة:"إن قوماً عبدوا اللَّه رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا اللَّه رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوماً عبدوا اللَّه شكراً فتلك عبادة الأحرار" [٢٨].

فبعض العباد يعبدون اللَّه عبادة التجار، يتاجرون مع اللَّه مقابل جنته. ولولا وجود الجنة لما عبدوه ولما أطاعوه، فكان دافعهم إلى الأعمال هو رغبتهم بما وعد اللَّه من النعم الأخروية والملذات في الجنة، وهذه المرتبة فيها شائبة الشرك العملي لأن العابد يريد فيها غير اللَّه وهو الجنة، إلا أنه وإن كان يريد الجنة وهي غير اللّه فهو يريد ما عند اللَّه وليس ما عند سواه. وقد قبل اللَّه (عزَّ وجلّ) هذه العبادة بلطفه وسعة رحمته.
المرتبة الثالثة: مرتبة الخائفين العبيد، ولعل هذه المرتبة أقرب إلى العبودية الخالصة من سابقتها لأن حالة الخضوع تبرز فيها أكثر، ولكن عبادة الخوف لا تخلو أيضاً من شائبة الشرك، غفره اللَّه وقبله لأنه خوف ما عند اللَّه أيضاً، بخلاف الخوف من غير اللَّه الذي يدفع الإنسان إلى ترك عبادة اللَّه.
المرتبة الرابعة: مرتبة الأحرار الذين يعبر عن عبادتهم تارة بعبادة الشكر للَّه (عزَّ وجلّ‏). تكون غايته رد الجميل بالجميل، والشكر على الجميل وهذه مرتبة من الخلوص حيث أنها مقابل شي‏ء سبق به اللَّه عبده، ولكن لو لم يكن هناك شي‏ء سبق اللَّه به عبده هل كان عبده؟ فهناك عبادة أعلى وهي عبادة اللَّه لأنه أهل ويمكن أن تكون هي المرتبة الخامسة، فسواء أعطى اللَّه أم لم يعطِ هو يستحق العبادة وهو لها أهل. لذلك فهو لا يعبده رداً للجميل فقط، بل عرف الله وعرف صفاته ووجده أهلاً للعبادة فعبده.
هذه هي العبادة وهذه هي مراتبها وآثارها، فطوبى للعابدين حقاً.

---------------------------------------------------------
[١] . عبده محمد، شرح نهج البلاغة، ح‏٢١٦.
[٢] . المنصبة التعب.
[٣] . العزة، الأرض العزاز الأرض الصلبة التي لا تخترق.
[٤] . عبده محمد، شرح نهج البلاغة، خطبة ١٨٣.
[٥] . ظعنوا: رحلوا عنها.
[٦] . زاد كافٍ يبلغ بهم مقصدهم.
[٧] . ظهر قاطع، أي مركب يقطع بهم الطريق ويوصلهم.
[٨] . عبده محمد، شرح نهج البلاغة، خطبة ١١١.
[٩] . ن.م، خطبة ٩.
[١٠] . م.س، خطبة ١٩٢.
[١١] . ن.م، خطبة ٢٢٢.
[١٢] . ن.م، كتاب ٢٦.
[١٣] . ن.م، خطبة ١٤٧.
[١٤] . نهج البلاغة، خطبة ٢١٦.
[١٥] . م.س، خطبة ١١١.
[١٦] . نهج البلاغة، خطبة ١.
[١٧] . فاطر: ٢٩.
[١٨] . محمد عبده، شرح نهج البلاغة، خطبة ١٩٨.
[١٩] . ن.م، كتاب ٣١.
[٢٠] . م.س، خطبة ١٦٤.
[٢١] . ن.م، ح ١١٣.
[٢٢] . عفوها: وقت فراغها، وراحتها، وما لا أثر فيه لأحد بملك.
[٢٣] . عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، ك ٦٩.
[٢٤] . ن.م، ح ٩٤.
[٢٥] . ن.م، ح ٢٠ب.
[٢٦] . ن.م، خطبة ١٥٣.
[٢٧] . ن.م، ك ٣١.
[٢٨] . ن.م، ح ٢٣٧.

يتبع .......

****************************