السيد سامي بن حسن خضرا
فناء الدنيا
الموعظة ضرورة لا بد منها لإيقاظ النائمين، وتذكير الغافلين من البشر... وهي من أهم أساليب المدارس الإلهية التي حَمَلَ همَّها الأنبياء الكرام عليهم السلام.
ويُمكن للإنسان أن يتّعظ بعدة أمور منها، الاتعاظ بتقلبات الدنيا ومكرِها وغدرِها وخذلانها ومفاجآتها وبطشها، وكيف تجعل الغني فقيراً والصحيح عليلاً، والقويَّ ضعيفاً، والحاكم محكوماً... والحيَّ ميتاً، بين ليلة وضحاها.
إنّ أدنى نظرة الى تاريخ السابقين من الحكام والملوك وفراعنة الأرض تُثبتُ لنا ذلك... ننظر إلى آثارهم إلى قصورهم ودولهم وممالكهم وأموالهم ونسائهم... كما ننظر إلى مقابرهم ونتساءل:مَنْ منهم انتقل بإرادته وقراره، ورضى بموته على حياته؟... ومَنْ منهم لا يحسر على أعماله؟ ومَنْ منهم بقيَ ذكرهُ وعلا أثرهُ؟... وأخيراً: مَنْ منا يمكنه أن لا يلحق بهم ويُصبح كأحدهم؟.
يقول عليٌ في وصيته لابنه الحسن عليه السلام، وهي من أبرز الوصايا في نهج البلاغة المبارك، يقول فيها واعظاً له من غدر الدنيا ومكرها:" أحي قلبك بالموعظة... وذلَّله بذكر الموت.. وبصِّره فجائعَ الدنيا، وحذِّره صولة الدهر، وفُحشَ تقلُّب الليالي والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكِّره بما أصاب مَنْ كان قبلك من الأولين، وسرْ في ديارهم وآثارهم، فأنظُرْ فيما فعلوا، وعمَّا انتقلوا، وأين حلُّوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد إنتقلوا عن الأحبة، وحلُّوا ديار الغربة، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم، فأصلِحْ مثواك، ولا تبعْ آخرتك بدنياك...".
ثم، مَنْ قال أن الدنيا تدوم لبشر، ومَنْ يدَّعي ذلك؟! أو ليس مصيرُ الدنيا إلى فناء... وتحصيلها لا يكون إلا بعناء، ولا تستقر على حال؟، فالرفيع أصبح وضيعاً، والزعيم صار مسجوناً، والرئيس بات معدوماً...
وبقيت منازلُ ورحَلَ بانوها، وشمخت عماراتٌ ودُفن ساكنوها؟...وأيُّ جاه لم يتغير على صاحبه... وأيُّ سلطان لم ينقلب على مالكه؟ ...فهي متقلِّبة من حال إلى حال...لا تدري أتدركُ آمالك أولاً أم آجالك؟...تُحققُ رغباتِك أم تسبقَكَ منيَّتُك؟.
يقول علي في موعظةٍ له:..ثم إن الدنيا دارُ فناءٍ وعناءٍ، وغِيرَ وعِبَر... فمن الفناء أن الدهر... يرمي الحيّ بالموت، والصحيح بالسّقَم، والناجي بالعطب، آكلٌ لا يشبع، وشاربٌ لا ينقع، ومن العناء ان المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكُنُ، ثم يخرُج إلى الله تعالى، لا مالاً حمل، ولا بناءً نقل ... ومن عِبرها أن المرءَ يُشرفُ على أمله، فيقتطعُهُ حضورُ أجلِه، فلا أملٌ يُدرك، ولا مؤمَّلٌ يُترك...فسبحان الله، ما أقرب الحيَّ من الميت، للحقَاه به، وأبعدَ الميت من الحي لانقطاعه عنه...".
وإن لم تتعظ، يا أخي وحبيبي، من غيرك، أفلا تتعظُ من نفسك!...
وانت ترى تألُبَ الإخوان وتقلب الزمن عليك، وتبدُّلَ صحِتك بين يوم وأخيه، بل لا بل بين ساعة وأخرى...من الصحة الى المرض، ومن القوة إلى الوهن، لا تدري متى تُصاب ولا تعرف متى تضعف، فإذا انت عند الصباح تضحك وعند المساء تبكي، أو عند نومِك تهنأ وعند صباحك تشقى...وكم من قوم باتوا يضحكون وأصبحوا يبكون وينتحبون يقول عليٌ عليه السلام: "وبادروا بالأعمال عُمُراً ناكساً، ومرضاً حابساً أو موتاً خالساً، فإنَّ الموت هادم لذاِتكم، ومُكدِّرُ شهواتكم...".
ويقول :"أم ليس من نومتك يقظةٌ؟ أما ترحمُ من نفسك ما ترحم من غيرك؟ فلرُبّما ترى الضاحِيَ من حرِّ الشمس فتُظلَّه، أو ترى المُبتَلى بألم وعزََّاكَ عن البكاء على نفسك، وهي أعزُّ الأنفسِ عليك...".
وفي غدر الدنيا وبلاء الجسد، يقول:" وَلَهَي بما تعِدُكَ من نزول البلاء بجسمك، والنقص في قوتك، أصدقُ وأوفى من أن تكْذِبَك أو تغُرَّك".
الرحيل وشيك
لك بداية نهاية... ولكل مسافرٍ راحة..ولك خُمُودْ.. والحيُّ يسير إلى موت...وكلّ الأمور سائرةٌ وصائرة إلى أجلٍ مُسمَّى، لا تبغي فيه حِوَلا، ولا تستطيع منه بدلا. فنحن المسافرون، نحن السائرون، نحن الراحلون المتقلبون، نحن المهاجرون الظاعنون عن الدنيا، لا نَنْتَظِرُ ولا نُنْتَظَرُ.
فالمركبُ يجري، ويشقُّ طريقَه، ودولابُ الزمان يدورُ تتبعها أخرى...من حال إلى حال، وغلى الله تعالى المآل والفائزُ الفائزُ مَنْ أحسن الاتكال، وبعد. فالوصية بتقوى الله وطاعته "فإنها النجاة غداً، والمنجاةُ أبداً.
يقول عليٌ :" ووصف لكم الدنيا وانقطاعها، وزوالها وانتقالها، فأعرضوا عمَّا يُعجِبُكُم فيه، لقلة ما يصحَبُكُم منها، أقربُ دارٍ من سخَطِ الله، وأبعدُها من رِضوان الله، وتصرُّفِ حالاِتها، فاحذروها حذَر الشفيق الناصح والمجدِّ الكادح، واعتبروا بما قد رأيتم، من مصارع القرون قَبْلكُن، تزاليتْ أوصالُهُم وزالتْ أبصارُهُم وأسماعُهم، وذهب شرفُهم وعِزُّهم، وأنقطع سُرورُهم ونعيمُهم، فَبُدِّلوا بقرب الأولاد فقْدَها، وبصحبة الأزواج مُفارَقَتها، لا يتفاخرون، ولا يتناسلون، ولا يتزاورون، ولا يتحاورون...فأحذروا عبادَ الله حذَرَ الغالِبِ لنفسه، المانع لشهوته، والناظرِ بعقله، فإنَّ الأمر واضح، والعلم قائم والطريق جدَد والسبيلَ قَصْدٌ".
أخي وعزيزي: لعلَّك تظنُّ أنك فررتَ من الموت، أو خُيِّل إليك ذلك، كما يُشبَّهُ لأكثر الناس، لكن... هل تظنُّ أن الموت سوف يَفِرُّ منك ولا يدرِكُك...إعلمْ إنك إنْ لم تَسْعَ للقائِه، فلا مَحَالةَ سيسعى للقائك، وإن لم تبادِرْه بادَرَك، وإنْ لم تُفاجِئْه فاجأك... وإن لم تسعتدَّ له، فقد تهيَّأ وتأهَّب واستعدَّ لك... واعلم أن كلَّ يقينيِّ الحصول، قريبُ الوقوع... وكلَّ آتٍ قريب، وكلَّ حتميِّ وشيك وما هو إلا نَفَسٌ أو دون ذلك...
ويبقى الموتُ مكنوناً في علم الله المخزون، لا يعمل به حتى المقربون... وسلام الله تعالى على علي أمير المؤمنين الذي يقول:"أيها الناس، كل امرئٍ لاق ٍ ما يفِرُّ منه في فِراره. الأجلُ مَسَاقُ النَفْسِ، والهربُ منه موافاتُه... كم أطَردْتُ الايامَ ابحثُها عن مكنون هذا الأمر، فأبى الله إلا إخفاءَه. هيهات !... علمٌ مخزون!...ربٌ رحيم، ودين قويم، وإمام عليم. أنا بالأمس صاحِبُكم، وأنا اليوم عِبْرةٌ لكم، وغدا ً مُفارِقُكُم! غفر الله لي ولكم...".
ويُتابع مُشدداًعلى ضرورة الاعتبار والانذار، فيقول:"وإنما كنتُ جاراً، جاوَرَكم بدني أياماً وستُعْقَبُوْنَ مني جُثَّةً خَلاَءً ساكنة بعد حِرَاكٍ, وصامتة ً بُعد نطق ٍ, لِيَعظْكُمْ هُدُوِّي, وخُفوتُ إطراقي, وسُكُونُ اطرافي, فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ , والقول المسموع ... " .
ويختم بالاشارة إلى قيام أمير بدل أمير, وإلى موت مِلكٍ وقيام ملك, وذهاب سلطان وحلول آخر محلَّه ... وهذه سنة الله تعالى في الملل والدول, في هذا الزمان وفي كل زمان ... فيقول :"غدا" تَروْنَ أيامي, ويُكشَفُ لكم عن سرائري, وتعرفونني بعد خُلُوِّ مكاني وقيام غيري مُقامي".
العبرة بالسابقين
أخي, ننظُر إلى الديار ... ونتأملُ في الآثار, فيَحْسُنُ الاعتبار... يقف المرء على الأطلال, أطلالِ الآباء والأجداد: بيوتِهم ومنازِلهم, حقولِهم وبيادِرِهم, رزِقهم وأملاكِهم ... عندما يقف هناك, ويُناجي نفسَه بالذين مروا من هنا, وعن الذين بَنَوا هناك, وعمرَّوا هنالك وأنشأوا ورفعوا وشيَّدوا وغرَسوا الأشجار, وأحيوا القِفار, وكلُّ ما يُحيطُ بنا يُشيرُ اليهم, مَعَ انعِدَامِ وجودِهم بيننا .
والى هذا يُشير مولانا عليٌ عندما يقول: فاعتبروا بنزولِكم منازلَ مَنْ كان قبلَكُم, وانقطاعِكم عن أوصلِ إخوانكم".
ويقول قبل ذلك : أوَ لَيس لكم في آثار الاولين مُزْدَجَر, وفي آبائِكم الماضينَ تبصِرَةٌ ومعتبر إن كنتم تعقلون!, أوَ لَمْ تروا إلى الماضين منكُم لا يرجعِون , وإلى الخَلَفِ الباقينَ لا يَبْقَوْن!, أَوَلَستُم تَرونَ أهلَ الدنيا يُصبْحونَ ويُمسُون على أحوالٍ شتى , فميِّتٌ يُبكَى وآخرُ يُعزَّى, وصريعٌ مُبْتلَى, وعائدٌ يعود, وآخرُ بنفسهِ يجودُ, وطالبٌ للدنيا والموتُ يطلُبُهُ, وغافلٌ وليس بمغفول عنه, وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي!.
وفي نص آخر، دَلالاتٌ عظيمة ٌ إلى مَنْ عايَشْنا وجاوَرْنا، ورأَينا وعاينَّا ولا مَسْنا وحاورنا... ثم فارقنا على حين غزة:... فيا عجبي! اللدنيا خلق آبائي وأجدادي أن للآخرة؟... فإن كانوا للدنيا قد خلقوا فلم فارقوها ورحلوا عنها؟!!!!
وإن كانوا للآخرة قد خُلقوا... فإلى الآخرة أيضاً نحن قد خُلِقْنا، وإليها مصيرُنا... فليس بإرادتهم رحلوا، وليس بإرادتنا نرحل... ولم ينفعْهم عَمَلُهم للدنيا، وتعلُّقُهم بها... ولن ينفعَنا نحن ذلك...
كأني بهم ومُذْ وُلِدوا لِلآْخرةِ لا للدنيا وُلِدوا، فهناك في دارِهِم الحقيقة يَأْنَسُون، وفي هذهِ الدار دارِ الوحشة يستوحِشُون، هناكَ دارُ المقرِّ ودارُ الخلود.
وهذا مدلولُ قولِهِ :" فكفى واعظاً بموتى عايَنْتُموهُم، حُمِلوا الى قبورِهم غيرَ راكبين، وأُنزِلوا فيها غيرَ نازلين، فكأنهم لم يكونوا للدنيا عُمَّاراً، وكأن الآخرة لم تزلْ لهم داراً، وأوحشوا ما كانوا يوطنون، وأوطنوا ما كانوا يوحشون واشتغلوا بما فارقوا، وأضاعوا ما إليه انتقلوا، لا عن قبيح يستطيعون أنتقالاً ، ولا حَسَنٍ يستطيعون ازدياداً، أنِسوا بالدنيا فغرَّتْهم، ووثِقوا بها فصرعَتْهم، فسابِقوا، رحمكُمُ الله، إلى منازِلكم التي أمِرْتُمْ أن تَعْمرُوُها، والتي رُغِّبْتُم فيها ودُعِيتُم إليها ... ما اسرعَ الساعاتِ في اليوم, وأسرعَ الأيام في الشهر, وأسرعَ الشهور في السنة , وأسرعَ السنين في العُمر".
ويقول في هذا المجال أيضا" : " واتَّعِظوا بممن كان قلبكم , قبل أن يتعظ بكُمْ مَنْ بَعْدَكُم".
ويُروى أنه تبع جنازةً فسمِعَ رجلا" يضحكُ فقال : " كأنَّ الموت فيها على غيرِنا كُتِبْ , وكأنَّ الحقَّ على غيرِنا وَجَب , وكأنَّ الذي نرى مِنْ الامواتِ سَفرٌ عمَّا قليل . . . الينا راجعون , نُبوِّئُهم أجداثَهم , ونأكلُ تُراثَهم كأنّا مُخلَّدُون بَعَدهم , ثم قد نسينا كلَّ واعظٍ. وواعظةٍ, ورمينا بكل فادح ٍ وجائحة ".
وفي نص آخرَ يقول : " واتَّعظوا فيها بالذين قالوا : مَنْ أشدُّ مِنَّا قُوَّةً. حُمِلوا الى قبورِهم فلا يُدْعَون رُكبانا, وأُنزِلوا الأجداث فلا يُدعَوْنَ ضِيفانا, وجُعِلَ لهم مِنَ الصَّفِيْحِ أجْنَان, ومِنْ الترابِ أكفان, ومن الرُّفات جيران, فهم جيرةٌ لا يُجيبون داعيا, ولا يمنعون ضيما, ولا يُبالون مَنْدَبَة . . . جميعٌ وهم آحاد. وجيرةٌ وهم أبعاد, مُتدانون لا يتزاورون, وقريبون لا يتقاربون ... استَبْدَلُوا بِظَهْرِ الارضِ بطنا, وبالسِّعَةِ ضِيقا, وبالأهل غُربة, وبالنور ظلمة, فجاؤوها كما فارَقُوها, حُفاةً عُراة ...".
حبُّ الدنيا ,لماذا؟
يبدو من خلال عمليةِ استقراءٍ سريعةٍ للواقعِ البشري, أنَّهُ ما من أحدٍ إلا ويتعلقُ قلبُه بالدنيا, ولا يريد تركَها, خاصة مَنْ أَنْعَمَ اللهُ تعالى عليهم أو أْبتلاهم بالسلطة والسلطانِ والمالِ الكثير والرزقِ الوفير... ويَنْدُرُ, وبنسبةٍ كبيرة, أن تَرى شذوذا" عن هذه القاعدة...
وعلى الرغم من أننا نرى من الدنيا غَدْراً ومرضاً ومصيبة ً ووجعاً وبلاء... إلاَّ أننا نتعلق بها, ونحن نعلم يقيناً أنها يوماً ما ستنكُثُ عهدَها معنا، وهي المنغِّصَةُ لحياتِنا, القاطِعَةُ لِفَرْحَتِنا.
يقول علي : "عبادَ اللهَ أوصيكُم بالرفضِ لهذه الدنيا التارِكَةِ لكم, وإنْ لم تُحِبُّوا تركَها, والمُبْلِيَةِ لأَجْسَامِكُمْ, وَإنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون تَجدِيدَها , فإنما مَثلُكُم ومَثَلُها, كسَفْر سَلَكُوا سَبِيلاً, فكأنهم قد قطعوه, وأمُّوا علماً فكأنهم قد بلغوه... فلا تَنَافَسوا في عِزِّ الدنيا وَفَجْرِها, ولا تُعْجَبُوا بزِينَتها وَنَعِيْمِهَاَ, ولا تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِها وَبُؤْسِها ,فإنَّ عِزِّ وَفَخْرَها الى انقِطَاعْ وانَّ زِيْنَتَها وَنَعِيْمَهَا الَى زَوَالْ, وَضَرَّائِها وَبُؤسِها, فإنَّ عِزَّها وَفَخْرَها إلى انِقِطَاعْ وإنَّ زِيْنَتَها وَنَعِيْمَهَاَ إلى زَوَالْ, وَضَرَّاءَهَا وَبُؤْسَهَا إلى نَفَادَ, وكلَّ مُدَّةٍ فيها إلى إنتِهاء, وكلَّ حيًّ فيها الى فَنَاءً".
والسرُّ في تعلُّقِ الناسِ بالدنيا، وشَغفِهِم بها، كَثْرَةُ الشَّهَوَاتِ فِيْها، وتَنَوُّعُ التزَيُّنِس مِنْها، من مالٍ وفير، إلى قصور رَحْبَة، ومناصبَ مُرَغِّبة، إلى مُلْكٍ مُتَسَلِّط، إلى حُبِّ لِلْبَقَاءْ... إلى زينةٍ متعددة الصعد والأشكال والرغبات... لا ينجو من تعرُّضهم ومكرِها حتى المؤمنون الذين تُسَوِّلُ لهم أكثرَ من غيرهم...
ومَنْ يدري متى يأتي الأجل؟! أو متى ينزل المرض؟! ومتى تحلُّ المصائب؟ يقول عليٌ أمير المؤمنين u في نهج البلاغة:" أمّا بعدُ، فإنِّي أحذِّرُكُم الدنيا فإنها حُلوةٌ خضِرةٌ، حُفّتْ بالشهوات، وتحبَّبت بالعاجلة، وراقت بالقليل، وتحلَّت بالآمال، وتزيَّنت بالغرور، ولا تدوم حَبْرَتها، ولا تُؤْمَنُ فَجْعَتُها، غَرَّارَةٌ ضَرَارَة، حائِلَةٌ زائِلَة ٌ، نافِدَةٌ بائِدَة أكَّالَة ٌ غَوَّالَةْ... لم يكنِ امرؤٌ منها في حَبْرةٍ إلا أَعقَبَتْهُ بعدَها عَبْرَة، ولم يَلْقَ في سَرَّئِها بَطْناً إلا مَنَحَتْه من ضرَّاتِها ظَهْراً... لا ينالُ اْمرؤٌ من غَضَارَتها رَغَباً، إلاّ أرهقَتْه من نوائِبها تَعَبَاً، يُمسي منها في جَنَاحَ آمْنٍ عليها، إلاّ أصبح على قَوَادِم خوف، غرَّارةٌ غرور ما فيها، فانِيَةٌ فانٍ مَنْ عليها، لا خيرَ في شيئٍ من أَزْوَادها، إلا التقوى، مَنْ أقلَّ منها استكثَرَ مما يُؤمِنُه، ومن استكثرَ منها استكثَر مما يوبِقُهُ، وزال عمَّا قليل عنه، كم من واثِقٍ بها قد فجعتْهُ، وذي طُمأْنِينَةٍ إليها قد صَرَعَته، وذي أُبَّهَةٍ قد جَعَلْتْه حقِيراً، وذي نخوةٍ قد ردَّتْه ذليلا ً... سُلطانُها دُوَّلٌ، وعيشُها رَنِقٌ، وعَذْبُها أُجَاجٌ، وحُلْوها صَبرٌ وغذاؤها سِمامٌ، وأسبابُها رِمام، حَيُّها بِعَرَضِ مَوْتٍ، وصحِيحُها بِعَرَضِ سُقْم، مُلْكُها مَسْلُوبٌ، وعزيزُها مغلوبٌ، وموفورُها منكوب، وجارُها محروب".
" الستُم في مساكن مَنْ كان من قبلَكُم، أَطْوَلَ أعماراً، وأبقى آثاراً، وأبَعَدَ آمالاً، وأعَدَّ عديداً، وأَكْثَفَ جنوداً، تَعَبَّدُوا لِلدُّنيا أيَّ تعبدٍ، وآثَرُوها أيَّ إيثارٍ، ثم ظَعَنُوا عنها بغير زادٍ مُبلَّغِ، ولا ظَهْرٍ قاطِع... فهل بَلَغَكُمْ أنَّ الدنيا سَخَت لهم نفساً بفدية ٍ، أو أعانتهم بمعونةٍ، أو أحسنت لهم صُحْبَة ً..."
ويُتابع محذراً منها قائلا ً :" وأعانت عليهم رَيْبَ المَنُونْ، فقد رأيتم تَنكُّرها لِمَنْ دانَ لها، وآثَرَها وأخلَدَ إليها، حيثُ ظَعنَواعنها لِفراقِ الأبد... وهل زوَّدتهُم إلا السَّغبَ، أو أَحلَّتَهم إلى الضنَّكَ، أو نوَّرت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة! أفهذه تُؤثِرون، أم إليها تَطمئِنُون، أم عليها تحرِصون؟ فبِئْستِ الدارُ لِمَن يتهِمَّها ولم يكن فيها على وَجَلٍ مِنها، فاعلموا، وأنتم تعلمون، بأنهم تارِكُوها وظاعِنُون عنها...
مسؤولية رب الأسرة:
كلُّ فردٍ في الإسلام له دورٌ ومُهمة ٌ وواجبٌ عليه القيامُ به.
كلُّ إنسانٍ في دين الله مسؤولٌ عن شيئ ما في الدنيا، ومسؤولٌ عن هذا الشيء. في الآخرة، يومَ يقومُ الناسُ لله تعالى ربِّ العالمين.
وربُّ الأسرةِ مسؤولٌ عن أُسْرَتِهِ، التي هي اللُّبْنة ُ في المجتمع، فإذا صلُحَتْ صلُحَ المجتمعُ، وإذا فَسدَتْ فَسُدَ المجتمع.
والأسرةُ كأنَّها دولة ٌ إسلامية صغيرةٌ نموذجية ٌ، أو هكذا يجبُ أن تكون، وربُّ الأسرةِ هو الوَلِيُّ والقائِدُ لها، والراعي لأمورِها، يرعى الأطفالَ والزوجة َ والشبابَ وأمورَهم واحتياجاتِهِم... وربُّ الأسرةِ وارعيها غيرُ معذورٍ، إذا قصَّرَ في شأنِها، أو تهاوَن في أمرِها. فهو الذي يرعي شؤون التربيةِ والتصرُّف والعلاقاتِ والصلاةِ والصومِ والدرسِ وفترةِ الطفولةِ والبلوغ والشبابْ... وبِكَلِمَة. فإنَّ مسؤولية َ ربِّ الأسرةِ كبيرةٌ جداً، وهو محاسَبٌ عليها.
هو أيضاً الذي يكونُ نموذجاً لأسْرَتِهْ في أخلاقه وعباداته، وفي عاطفِتِه ورحمِتِه، وفي سهره وحنانه... وفي إرضاعه لهم مبادئ الإسلامِ الحنيف.... يقول مولانا الأميرُ في وصيَّتهِ لأصحابه:" وكان رسول الله (ص) نصِباً تَعِباً بالصلاةِ بعدَ التبشيرِ له بالجنة، لقولِ اللهِ سبحانَهُ: وَأْمُرْ أهلَكَ بالصلاةِ، وأصطَبِرْ عليها فَكَان يأمُرُ بِها أهلَهُ، ويَصْبِرُ عَلَيْهَا نفْسَهُ".
ويقولُ لمن فرَّغ نفسه للعبادة والتبتُّل، وترَكَ أهلَهُ وعِيالَهُ والقيامَ بِوَاجِبِهم ... ويقول" يا عُدَيَّ نفسِهِ، لقد استهام بك الخبيثُ! أما رَحِمْتَ أهلَك وولَدَك!"
وقال في بعض حكمه:" إنَّ للولد على الوالِدِ حقاً، وإنَّ للوالد على الولد حقاً ، فحقُّ الوالد على الولد أن يُطيعَهُ في كل شيءٍ، إلا في معصية اللهِ سبحَانَهُ، وحقُّ الولدِ على الوالِدِ أن يُحَسِّنَ اسمَهُ، ويُحَسِّنَ أدَبَهُ، ويُعَلِّمهُ القُرْآنَ"؟
وفي وصيَّته لابنه الحسن في ضرورة تحسين الخُلُق مع العيال، قال : " ولا يكُنْ أهلُكَ أشقى الخَلْقِ بك".
هذه صورة ٌعامة ٌ وشاملة ٌحولَ المسؤوليةِ الشرعيةِ والعرفية والإنسانية المطلوبِة من ربِّ الأسرة... لكنْ يبقى التحذيرُ من المبالغة في الاهتمام بشؤون الأسرة فوقَ الحدودِ المطلوبة وبطريقة مهووسة غير مدروسة، لأن هذا سيؤثر سلباً على البُنية التربوية، والمستقبليةِ للأولاد، فتظهرُ عليهم مظاهرُ الدلعِ والغنج والميوعة، وتُبنى شخصيتُهم على الاتكالية والتلكؤ والاعتماد على الآخرين والضعفُ الذي يظهرُ من الأهل تجاهَ الأولاد ... لماذا هذا الضعف؟ فإن كان الأولاد مؤمنين فالله أولى بهم...وإن لم يكونوا كذلك، فِلمَ الاهتمامُ بهم؟!.
قال الأمير لبعض أصحابه:" لا تجعَلَنَّ أكثَرَ الناس شُغِلكَ بأهلِكَ ووَلَدِكَ: فإنْ يكنْ أهلُكَ ووَلَدُكَ أولياءَ اللهِ، فإنَّ الله لا يُضيعُ اولياءَهُ، وإن يكونوا أعداءَ اللهِ، فما همُّكَ وشُغلُكَ بأعداءِ الله؟!.
هذه بعضٌ من آراء الأمير فيما يتعلق بمسؤوليات ربِّ الأسرة، تجاه أسرِتِه، نسألُ الله تعالى التوفقَ والسدادَ...
الدين فوق القرابة:
في الإسلام حثٌ وتأكيدٌ على صلة الرَّحِم, لا تجد لهما نظيراً في دين أو شريعة. فَصَلَة ُ الرَّحِمِ أخذت حيِّزاً هاماً من كتاب الله المجيد, ومن أحاديث النبي وأهل بيته الكرام, صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين.
وَصِلَةُ الرحم, ونتيجةً لمَنْزِلَتِها وأهميَِّتها في الإسلام, لها أحكامٌ وأعرافٌ وفتاوى تتعلق بها, ولها تفاصيلُ وصورٌ عديدةٌ وكثيرةٌ, تُبيِّنُ كيف أَنَّ الله تعالى لم يتركْ شيئاً من أمور البشر, ولو كان صغيراً بنظرهم, إلا وجعل له حكماً وحداً, وأدباً وسنة.
وبعد هذا التدليل على عظمة القرابة والأسرة في الإسلام, حتى كأنك تخالُ أن لا شيء فوقَها أو يوازِيها أهمية... بعد كل هذا تبقى مصلحة ُ الإسلام ودينِ اللهِ الحنيف, وشَرْعِهِ المقدَّس فوق كلِّ اعتبار. فالإسلامُ يعلو ولا يُعلى عليه بشيء, قريباً أوحبيباً , أو أخاً أو أختاً... بل حتى لو كان أباً أو أماً أو أبناً....
إذا كان هناك خطرٌ مْحدقٌ بدين اللهِ الحنيف وشَرْعِهِ المقدس, والمطلوبُ صدُّ الأعزاء أو القرابة عن جريمتهم وبغيهم... فيجب ذلك ليبقى الإسلامُ فوق الجميع, وليُحْفظَ قبل سلامةِ الجميع...لأن الإسلام إذا حُفظ, حُفظ المسلمون وأرضُ الإسلام... واذا حُفظ المسلمون فقط, دونه, أصبح عُرْضة ً للأهواء والمصالح الشخصية وحكمِ الفئة والعصبيَّة.
وفي إشارة وافيةٍ وناطقةٍ إلى ذلك, يصفُ أميرُ المؤمنين هذه الحقيقة الساطعة... يصفُ أصحابَ رسولِ الله وقوةَ إيمانهم... يصفهُم يومَ صفِّين مُواجِهاً المشكِّكين والمُتَّهمين... يقول سلامُ الله تعالى عليه: "ولقد كنا مع رسول الله , نقتُلُ آباءَنا وأبناءَنا وإخوانَنا واعمامَنا: ما يزيدُنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً, ومُضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم, وجِدَّاً في جهاد العدو, ولقد كان الرجُلُ منَّا, والآخرُ من عدُوِّنا, يتصاوُلآنِ تصاوُلَ الفحلين, يتخالسان انفُسَهُما: أيهما يسقي صاحِبَه كأس المنونِ, فمرَّةً لنا من عدوِّنا, ومرةً لِعَدوِّنا مِنا, فلما رأى الله صِدْقَنا أنزل بعَدوِّنا الكبت, وأنزل علينا النَّصْر, حتى استقرَّ الإسلام مُلقياً جِرانَهُ ومتبوِّئاً أوطانَهُ, ولَعَمرْي لو كُنَّا نأتي ما أتَيْتُم, ما قام للدِّين عمودٌ, ولا أخضرَّ للإيمان عودٌ ...".
لقد بيَّن لنا أنَّ قَتْلَ أعزِّ الناسِ أحياناً, كالأب والأخ وأمثالهِم, لنُصْرِة الإسلامِ, واجبٌ مطلوبٌ, ولا ضيرَ في ذلك.
وها هو في موضعٍ آخر, يؤنِّبُ أحَدَ وُلاِتِه على تهاوُنِهِ في حقوق الناس وأموالهم, ويتعجب u منه, كيف أنه يستسيغُ طعاماً وشراباً وهو يعلَمُ أنه يأكلُ حراماً من أموال اليتامى والمساكينِ والمؤمنينَ... ثم يُهَدِّدُهُ بالسيف الذي ما ضرب به أحداً إلا دخل النار، وأنه لن يتهاونَ في ذلك ولو كان مع الحسن والحسين.
يقول "ووالله لو أن الحسَنَ والحسينَ فعلا مِثْلَ الذي فعَلْتَ، ما كانتْ لهما عندي هوادة، ولا ظفِرا مِنِّي بإرادة، حتى آخُذَ الحقَّ منهُما، وأُريحَ الباطلَ عن مَظْلَمَتِهِمَا".
ويقول في بعض حكمه:" إنَّ وليَّ محمدٍ مَنْ أطاعَ الله، وإنْ بعُدَت لُحْمتُهُ، وإنَّ عدوَّ محمَّدٍ مَنْ عصى الله، وإنْ قَرُبَتْ قرابَتُه".
بذلك تكونُ خلاصةُ ما تقدم أنَّ حُرَم الإسلام أولى من تعظيم القرابات والعشيرة، وإنَّ حِفظَ الإسلام مُقدَّمٌ على كلِّ شيء.
التعليم في الصِغر
لا تتصوّر يا أخي كم هي أهميَة ُ التعليم في الصِغر... ولا تتصور كم هو أثرُ التهذيب والتربيةِ والتأديب والتعليم في السنوات الأولى من العمر، خاصة قبل البلوغ، حيث تكون النفسُ خالية ً فارغة ً من أيِّ فكرةٍ أو عادةٍ أو إنتماء ٍ أو ملَكَةٍ ... أللَّهم إلا من طِِباع الفطرة السلمية، التي هي في الحقيقة تُساعد على تقويم المرءِ وترشيده عند كِبَرهِ.
فالصغير يتعلَّمُ بسرعة ويتأثر بسرعة، ونفسُهُ غيرُ مسبوقةٍ بشيء، وهمُّه قليل، ومسؤوليَّتُه يسيرة، وطموحُهُ كبير، وصفاؤهُ حاضرٌ...لم يُلوَّثْ بنفسياتِ الناس السيَّئة، من طمعٍ وضررٍ وغَيْرةٍ وحسدٍ وفساوةٍ قلبٍ،... هو خالٍ من كل ذلك، بِها قبل غَلَبَةِ الهوى، وإغراءاتِ ، الدنيا، وانصرافِ العقل إلى المكرِ والخديعة.
وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عليه سلامُ الله تعالى في وصيَِّتِهِ لابنه الحسنْ" أي بُنيَّ، إنِّي لَمَّا رأيتُني قد بلعْتُ سِناً، ورأيتُني أَزْدادُ وَهْناً بادرتُ بوصيَّتي إليك، وأَوْرَدْتُ خصالاً منها، قبلَ أن يعجل بي أجلي دون أن أُفْضيَ إليك بما في نفسي، أو أن أُنْقَصَ في رأيي، كما نُقِصْتُ في جسمي، أو يَسْبقني إليك بعضُ غلبات ِ الهوى، وفِتن الدنيا، فتكونَ كالصَّعْبِ النَّقور، وإنَّما قلبُ الحَدَثَ كالأرضِ الخالية، ما أُلْقِيَ فيها من شيء قَبِلَتْهُ، فبادَرْتُكَ بالأدبِ قبل أن يقسُوَ قَلبُكَ، ويَشْتَغِلَ لُبَّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجدٍ رأيك من الأمر، ما قد كفاك اهلُ التجارب بُغْيَتَهُ وتجْرِبَتَهُ ، فتكونَ قد مؤونَةَ الطَّلبِ، وعُفيتَ من علاج التَّجرِبَةَ...".
في معُرِضِ إظهار حرصه وحنانِه على ابنه u يُظهرُ الحُبَّ والشفقة والحرص على التأديب في أول العمر، فالنية سليمة ٌ، والنفسُ خالية، والروح مقبلة.... ولا ننسى أن هذه الوصية أيضاً موجهة لنا نحن الأبناء الروحيين لعلي بن أبي طالب حيث يقول:"... ورأيتُ حيثُ عناني من أمرِكَ ما يعني الوالِد َ الشفيق، وأجمعتُ علهي من أدبكَ، أن يكونَ ذلك، وأنت مقبل العمر، ومقتبل الدهر،ذو نيةٍ سليمة، ونفسٍ صافية...".
ومن أهم ما يجب تعليمه للصغيرفي أوَّل عمره, الأخلاقُ الحسنةُ الكاملة، وحسنُ المعاشرة, والأدبُ, والأعرافُ الاجتماعيةُ المحدودة, والعاداتُ الشائعةُ المشكورة, وأن نُعلِّمه علومَ القرآنِ المختلفة, وشرائعَ الإسلام, وأحكامَه, وفقهَ محمدٍ وآلِ محمدٍ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم أجمعين... وأن نُعلّمَهُ الحلالَ والحرامَ, والخيرَ والشر, والحسنَ والقبيح, والضارَّ والنافع.. وكلَّ ما له مدخليَّةٌ في سعادِتِه الدُنيويه والأُخروية.... ورضوانٌ من اللهِ أكبر...
يقول في بعض حكمه:" ولا ميراثَ كالأدب".
ويقول :" وحقُّ الولد على الوالدِ أن يُحسِّنَ اسمَهُ, ويُحسِّنَ أدَبَهُ، ويُعلِّمَهُ القرآن" .
وفي حكمة له يقول : العلمُ وراثة ٌكريمة , والآداب خُلَلٌ مُجدَّدةٌ".
ويقول أيضاً:" يا كُميلُ, مُرْ أهلَك أن يروحوا في كسب المكارم, ويُدْلجوا في حاجةِ مَنْ هو نائم . . .".
هذه مقتطفاتٌ فيما يجب أن يُربَّى عليه الأبناء, وفيما يجب أن يُعلَّموه... وكم نحن بحاجةٍ للتأمل والتفكر تقدَّم بعيداً عن الأفكارالغربية والغريبة, والمخالفة ِ للفطرة السليمة, والطريقةِ القويمة...
العاقل في الاسلام :
يحسَبُ أكثرُ الناسِ أن العاقِلَ مَنْ تعلَّم أو تثقَّفَ أو تفقَّهَ أو كَثُرَ كلامُهُ ونُطْقُهُ ومُصطلحاتُهُ الغريبة, ونظرياتُهُ العجيبة!...
ولكنّ العاقلَ في الإسلام مَنْ عقََلَ أمرَ دُنْياهُ وآخِرتِهِ, وعمل بالطاعة والمصلحة السلوكية, وكان شديدَ التمسُّك بدين الله, لا تغُرُّهُ الدُنْيا ولا الناس, عن نهج الحق والحقيقة.
وليس العاقلُ من كثُرت شهاداتُهِ, وازداد علمُهُ, وعلا مَنْصِبُهُ, وكان له سلطة ٌ وسلطان... إنْ لم يقرِنْ ذلك بالعمل... وتحصيلِ مرضاة الله جلَّ وعلا , مُتنكِّباً عن الحرام, مُتجنِّباً الآثام, والقبيحَ من فِعلِ الأنام.
فالتعقُّلُ فعلٌ قبل كلِّ شيء, وعملٌ ونهجٌ وطريقة ُ حياةٍ وأسلوبُ معاش... يقول مولانا الأمير سلام الله عليه: "قِاتلْ هواكَ بعقلك".
وقيل له : "صف لنا العاقل, فقال :" هو الذي يضعُ الشيءَ مواضِعَه", فقيل : فصِفْ لنا الجاهِلَ, فقال: " قد فَعَلْتَ".
وكما يظهر من كلامه أنه يقصدُ بذلك أن الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه.
فالعاقل مؤدَّبٌ قبل كلِّ شيء, ومُتعِّظٌ دائماً, وخلوقٌ ابداً ... لأنه إنْ لم يكن كذلك سمح للغضب وسوءِ الخُلُقِ بالتسلل إلى نفسه...
وهذا هو الجهلُ بعينه, كما يقول سيِّدنا الأمير :"لا ترى الجاهِلَ إلا مفْرطاً أو مُفرِّطاً ".
ويقول في رسالته لابنه الحسن :" ولا تكوننَّ ممن لا تنفَعُهُ العِظة ُ إلا إذا بالَغْتَ في إيلامه، فإنَّ العاقِلَ يتَّعِظُ بالآداب، والبهائِمَ لا تتَّعِظُ إلا بالضَّرْب.
ويقول في حكمة له :"ومَنْ نظرَ في عيوبِ الناس، فأنْكَرها، ثُم رَضِيَها لنفسه، فذلِكَ الأحمقُ بعَيْنه،... ومَنْ عَلِمَ أنَّ كلامَهُ مِنْ عملِهِ، قَلَّ كلامُهُ إلا فيما يَعْنيه".
أخي، أيُّها الكريمُ... فِعْلُكَ يدُلُّ على عقلِكَ ومقدارِ رَجاحَتِهِ... وعملُكَ يُشير الى فَهْمِكَ، والموقفِ مِن الهوى والطمع وشأن ِ الدنيا... ولا شكَّ أن بعضَ الأفعال والأعمالِ تُضْعِفُ العقلَ، وتمجُّ منه مجاً، كما تشير إلى ذلك النصوص الكثيرةُ، ومنها ما ورد عن الأمير في قوله" أكثَرُ مصارِعِ العُقولِ، تحتَ بُروقِ المطامع".
وقوله :" وكمْ من عقلٍ أسير، تحت هوَىَ أمير".
وفي المتعَلَّقِ بالدنيا يقول:"قد خرقَتِ الشهواتُ عَقْلَهُ، وأماتتِ الدُنْيا قلبَهُ، ووَلِهَتْ عليها نفسُهُ، فهو عبدٌ لها".
وفي العُجْبِ والغرور، يقول"عُجبُ المرءِ بنفسه،أحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ".
وفي الختام يتبيَّن معنا قلة ُ العقلا بحسب مفهومنا الإسلامي الأصيل، فرُبما دخَلْتَ جامعة ً أو مَجْمعاً فيه آلاف المتعلِّمين، ولا تجدُ فيه عقلاءَ إلا بعددِ أصابع اليد فإن رواة العلم كثي، ورُعاته قليل، وربُما تجدُ خطيباً أو متكلِّماً أو نِحْرِيراً في العلم... قد غرق في المعصية، فأين مكانة ُ العقلِ منه، وأين هو من العقلاء وسلوكهم؟!.
قال ربي تعالى، في مُحكم التنزيل: (كذلك نُفصِّل الآيات، لقوم يعقِلون) وقال سبحانه : (إنَّ شَرَّ الدوابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّم البُكْمُ الذِيْنَ لا يَعْقِلُوْن) العقلُ: طاعة الله وسبيلُ الآخرة :
"أين العُقولُ المستَصبِْحَةُ بمصابيح الهُدى، والأبصارُ، اللامِحَة إلى منار التقوى! أين القلوبُ التي وُهِبَتْ لله، وعُوقِدَتْ على طاعة الله! ازدَحَموا على الحُطام، وتشاحُّوا على الحرام، ورُفعَ لهُمْ عَلَمُ الجنَّةِ والنَّار، فصرَفوا عن الجنة وجوهَهُمْ، واقْبلوا إلى النار بأعمالهم، ودعاهُمْ ربُّهُم فَنَفَروُا وَوَلَّوْا، ودعاهُمُ الشيطانُ فاستجابوا واقْبلوا!.
بهذا الكلام الأميري، خاطَبَ عليٌu أهلَ الضلالةِ، مُسْتنكراً عليهم فِعلَهم، فأين أنتم من مصابيح الهدى؟ وقليلٌ هم العارفون، وأين أنتم من منار التقوى؟ وقليل هم الواصلون... فالواصلون هم أهلُ الطاعة وأهلُ السلوكِ إلى طريق الهدى، هم العقلاءُ الحقيقيون، ولا عُقلاءَ وراءَهُم، فطوبى لهم وحسن مآب.
العاقل هو المسترشد، والمستفيدُ من التجارب، والمتعظ بما حولَهُ وبمن معه، يقول الأمير: "كفاك من عقلك ما أوضَحَ لك سُبُلَ غَيِّكَ من رُشْدِكَ.
ويقول في رسالته إلى ابي موسى الأشعري:"...فإنَّ الشَّقيَّ مَنْ حُرِمَ نَفْعَ ما أُوتيَ من العقلِ والتَّجرْبةَ...".
وَوَرَدَ في قول مؤثرٍ له :"....فإنَّ الغاية َ القيامة ُ، وكفى بذلك واعظاً لِمَنْ عَقَلَ، ومُعْتَبَراً لمَنْ جَهِلَ!".
فالعاقل هو الذي يَعْرِفُ إلى إين يُسارُ به، ويعرِفُ أن مصيره إلى يوم لا مفرَّ منه، وإنَّ المُلْتقى إلى الله ربِّ العالمين... فيغِلبُ نفسَه أي شهوَتَهُ، وما يتطلَّبُهُ ذلك من علمٍ ومعرفةٍ وعملٍ ومجاهدةٍ ومعاناةٍ.... ولولا ذلك ما نَفَعَهُ عقلُهُ، وما أغناهُ عملهُ، والأمورُ واضحة لك إنسان... فالبعضُ يكونُ وِعاءً للعلم، فقط، وليس هناك شيئٌ آخر، والبعضُ، وهم أهلُ الحقِّ، يسمعون ليعلموا ويُحْسِنون أداء حقِّ العلم الذي عقِلوه.
يقول الأمير، ولا أمير غيره، ...يقول في آل محمد " عقلوا الدِّين عَقْلَ وِعايةٍ ورعاية، لا عَقْل سَماع ورِوايةٍ، فإنَّ رُواةَ العلمِ كثيرٌ ورُعاتَهُ قليل".
وينصح بتقوى الله تعالى فيقول:" فاحذروا عِبادَ اللهِ، حَذَرَ الغالِبِ لنفسه،المانعِ لِشَهْوِتِهِ، الناظِرِ بعَقْلِهِ، فإنَّ الأمرَ واضِحٌ، والعَلَمَ قائمٌ، والطريق جَدَدٌ، والسبيلَ قَصْدٌ".