وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
قبسات ونكات علمية وبلاغية من وحي نهج البلاغة – الثاني

السيد الحسيني

( الخطبة الاولى ) ق٢
الامر الاول : ما المقصود من قوله عليه السلام : ( اول الدين معرفته .. )
الجواب : يعني اول الدين معرفة الله تعالى ..
كيف يكون اول الدين معرفة الله ؟
الجواب : فيها احتمالان :
الاول : ان يكون المقصود اول شيء يحصل للنفس من الدين والخطوة الاولى في الدين ان يعتقد الانسان بان لهذا الكون خالقا مدبرا ثم تاتي بعدها بقية معارف الدين ..
الاحتمال الثاني : ان يكون المقصود منها المعرفة التامة التي هي نفي الصفات عنه وهي غاية اهل المعرفة ونهايتها .. وعليه يكون معنى انها اول الدين يعني انها علة غائية والعلة الغائية اول ما تحصل في العقل ..
ما معنى علة غائية وكيف تكون اول ما تحصل في العقل ؟
الجواب : لو اخذنا مثالا لنطبق عليه العلل الاربع التي هي:
١ـ الفاعلية ٢ـ المادية ٣ـ الصورية ٤ـ الغائية
هذا المثال هو " الكرسي الذي يصنعه النجار " فالفاعل له هو النجار .. ومادة الكرسي هي الخشب وصورته هي ما هو عليه من الشكل واما الغائية فهي جلوس الانسان عليه .. فهنا العلة الغائية بحسب الذهن يتصورها الانسان قبل ان يوجد الكرسي في الخارج بمعنى هي التي كانت الدافع من وراء توصية النجار لعمل هذا الكرسي ولكنها وبعد ان تكون موجودة في الذهن تصبح موجودة في الخارج .. اذن العلة الغائية متقدمة بوجودها الذهني على وجود الكرسي ..
الامر الثاني : ماهو وجه الارتباط بين هذه الجمل والقضايا :
١ـ وكمال معرفته التصديق به ..
٢ـ وكمال التصديق به توحيده.
٣ـ وكمال توحيده الاخلاص له .
٤ـ وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه . ؟
الجواب : ان هذه الجمل في الحقيقة مرتبة ترتيبا منطقيا محكما جدا بطريقة القياس المفصول واذا بُينت بشكل واضح سكتون اشبه بالسلسلة ذات الحلقات المترابطة موصلة الى نتيجة وهي الغرض الذي عقدت من اجله هذه القضايا .. وهي " ان كمال معرفة الله سبحانه وتعالى يتحقق بنفي الصفات عنه " كما ذكرنا لكم ذلك في الاحتمال الثاني من الامر الاول اعلاه ..
ما معنى القياس وما معنى كونه مفصولا ؟
الجواب : أما القياس فهو عبارة عن ترتيب وربط بين جملتين و مقدمتين بينهما حلقة وصل اذا ما حذفناها نحصل على قضية وجملة اخرى جديدة لم تكن حاصلة عندنا لولا هذا الربط ..
مثلا :
١ـ انا اكتب في منتدى الكفيل .
٢ـ وكل من يكتب في منتدى الكفيل فهو عضو فيه ..
اذن : (٣) فانا عضو في منتدى الكفيل .. فلولا الربط بين الجملة رقم ١ والجملة رقم اثنين ما حصلت على الجملة رقم ٣ هذا باخصتار وبساطة هو القياس وقد عرفه المناطقة بقولهم كما عن الجرجاني في التعريفات بقولهم :
قول مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر ، كقولنا: العالم متغير، وكل متغير حادث، فإنه قول مركب من قضيتين إذا سلمتا لزم عنهما لذاتهما: العالم حادث، هذا عند المنطقيين ..إهــ هذا بالنسبة الى الشق الاول من السؤال وهو معنى القياس ..
واما الشق الثاني منه ..فالجواب عنه : معنى القياس المفصول هو ان تؤلف مجموعة من الاقيسة ولا تذكر فيها النتائج وانما يعتمد فيها على السامع فهو الذي يقوم بعملية الربط بين نتيجة القياس السابق مع نتيجة القياس اللاحق وهكذا الى ان يصل الى المراد والهدف الذي يقصده المتكلم من اقيسته برمتها ..
مثلا : القياس الاول : ١ـ انت اكتب في منتدى الكفيل ..٢ ـ ومن يكتب في منتدى الكفيل فهو عضو فيه ... " انتبهو هنا ما ذكرتُ لكم النتيجة وانما ساقفز مرة واحدة الى تأليف قياس جديد اعتمد فيه على النتيجة التي حذفتها "
القياس الثاني : ١ـ المشارك في منتدى الكفيل قبل بشروطه ..٢ـ من قبل شروط منتدى الكفيل يجب عليه الالتزام بها .. " وهنا ايضا ما ذكرتُ نتيجة هاتين القضيتين اعني بهما ١ و ٢ من القياس الثاني " ..
القياس الثالث : ١ـ تارك الواجب مرتكب للحرام ـ ومرتكب الحرام يعاقب .. وهكذا نترتب الاقيسة دون ان نذكر النتائج ولكننا في الحقيقة اذا حللنا الاقيسة وذكرنا النتائج فستكون السلسلة واضحة وبينة والنتيجة من ترتيب اقيستنا هذه التي مثلنا بها للقياس المفصول هي ان المشارك الذي يخالف شروط المنتدى يعاقب . ولكن هذه النتيجة ناتجة من ثلاثة اقيسة مطوية النتائج ..
طيب ما ذكرتَه في نفسه واضح .ولكن..
السؤال : كيف نطبق ذلك على الجمل الاربع التي سألنا عنها في بداية الامر الثاني وهي :١ـ وكمال معرفته التصديق به ..
٢ـ وكمال التصديق به توحيده.
٣ـ وكمال توحيده الاخلاص له .
٤ـ وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه . ؟
الجواب : هذا من حقكم ولكن ينبغي التركيز جيدا على ما ساقوله لان المقام لا يحتاج سوى الانتباه بعد ما شرحنا لكم الاساس والمبدأ فنحتاج بعد ذلك الى الدقة في التطبيق ... فنقول :قبل ان نبدأ بتوضيح الترابط الرياضي والمنطقي والتسلسلي علينا ننتبه الى نقطتين :
الاولى : ان نحفظ جيدا الجمل الاربع بترتيبها التي جائت به في كلام الامام عليه السلام حيث كان ترتيبها هكذا :
١ـ وكمال معرفته التصديق به ..
٢ـ وكمال التصديق به توحيده.
٣ـ وكمال توحيده الاخلاص له .
٤ـ وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه .
الثانية : تطبيق ما ذكرناه على الجمع الاربع المارة الذكر يكون بتنظيمها في اقيسة و خطوات ثلاث لنصل الى النتيجة التي اراد الوصول اليها امير المؤمنين من عقد هذه الجمل وهي : ( كمال معرفته نفي الصفات عنه ) ..
اذا اتضح ذلك نتوكل على الله تعالى لبيان هذه الجمل الاربع بشكل رياضي ومنطقي عن طريق تنظيمها في خطوات ثلاث بالنحو التالي :
الخطوة الاولى : وفيه قضيتان لو ربطنا بينهما نحصل على النتيجة
١ـ كمال معرفة الله هو التصديق به ..
٢ـ كمال التصديق به توحيده ..
النتيجة : كمال معرفته توحيده ..
الخطوة الثانية : نأخذ النتيجة التي وصلنا اليها في الخطوة الاولى وهي " كمال معرفته توحيده " ونجعلها القضية الاولى ثم نضم لها الجملة الثالثة من الجمل الاربع اعلاه اعني " وكمال توحيده الاخلاص له " فيكون التأليف هكذا:
١ـ كمال معرفته توحيده ." هذه نتيجة الخطوة الاولى "
٢ـ كمال توحيده الاخلاص له .." هذه الجملة الثالثة من الجمل الاربع التي جائت في كلام الامام ووقع السؤال عنها "
النتجية : كمال معرفته الاخلاص له ..
الخطوة الثالثة : نأخذ نتيجة الخطوة الثانية وهي " كمال معرفته الاخلاص له " ونجعلها القضية الاولى هنا ثم نضم اليها الجملة الرابعة والاخيرة فتكون الخطوة الثالثة بهذا الشكل :
١ـ كمال معرفته الاخلاص له .. " هذه نتيجة الخطوة الثانية "
٢ـ كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه " هذه الجملة الرابعة "
النتيجة : كمال معرفته نفي الصفات عنه .. وهذه هي النتيجة المقصودة من عقد الجمل جميعها ...
السؤال الاخر : عرفنا الترابط بين تلكم الجمل والقضايا الاربع التي جائت في كلام الامام عرفنا ذلك الترابط شكلا وصورة وهيئة ولكن مادة كل قضية يحتاج الى شرح وبيان فماهو معنى كل قضية من تلك القضايا وما معنى كل جملة منها اعني هذه الجمل :
١ـ وكمال معرفته التصديق به ..
٢ـ وكمال التصديق به توحيده.
٣ـ وكمال توحيده الاخلاص له .
٤ـ وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه .
نريد توضيحا لكل جملة من هذه الجمل وماهو الربط بين الجزء الاول من كلٍ منها وبين الجزء الثاني ؟
الجواب : أما الجملة الاولى : اعني بها " وكمل معرفته التصديق به " ..فهي تعني ببساطة ما يلي :
ان معرفة الله سبحانه وتعالى تكون على نحوين
الاول : المعرفة الناقصة وهي ان تتصور مفردة " اله " مجرد تصور ليس معه حكم لا بوجوده ولا بعدم وجوده ولا بانه خالق ولا شيء من هذا القبيل فهنا انت تتصور " اله " لكن هل تحكم بوجوده او عدم وجوده ؟ الجواب اذا كانت معرفتك ناقصة فلا تحكم بشيء وانما تكتفي بالتصور فقط .. او قل هكذا : ان المعرفة الناقصة هي ان تعرف " ان الله موجود " ولكن افعالك لا تدل على ذلك بمعنى لم ترتب الاثار المطلوبة على وجوده فمعرفتك هذه ناقصة لانها وان كان فيها حكم ولكن الحكم لم يؤت ثماره المطلوبة .. ومثل هذا كمثل من يعرف ان الخمر حرام وسيعاقبه الله ولكن مع ذلك يشرب الخمر هل ترى في هذه المعرفة من فائدة ؟ كلا والف كلا ..
الثاني : المعرفة التامة او كمال المعرفة ، وهي ان تحكم بالاضافة على تصورك لــ " اله الكون " ان تحكم عليه بالوجود والوجوب ـ اي انه موجود وفي وجوده غير محتاج الى غيره ــ او قل هكذا ان لا تقتصر في معرفتك لوجوده على المعرفة الذهنية وانما تنعكس على حياتك اليومية بحيث تكون افعالك فعلا تدل على تصديقك بوجود اله هذا الكون وان له يوما يسمى يوم القيامة سيثيب فيه المطيعين ويعاقب فيه المسيئين .. بمعنى تكون نظير من يعرف ان الخمر حرام ولا يكتفي بهذه المعرفة وانما يجتنب الخمر ويرتب على ذلك الاثار في بقية الاوامر والنواهي ..
السؤال : اي النحوين من المعرفة هو المحكوم بكمال المعرفة ؟
الجواب : واضح هو النحو الثاني لا الاول فكمال معرفة الله هو التصديق به سبحانه .. او قل " التصديق به سبحانه هو كمال المعرفة " ..
واما الجملة الثانية اعني قوله عليه السلام " وكمال التصديق به توحيده "
فحاصلها : ان الانسان اذا علم واعتقد وقبل وآمن ان الله تعالى موجود فهنا مرتبتان في هذا الاعتقداد والتصديق :
الاول : التصديق الناقص : وهو ما يكون فيه الانسان مع اعتقاده بوجوده سبحانه ولكن لا يعتقد انه الاله الاوحد في هذا الكون بل اما ان يعتقد بوجود شريك او على الاقل يجهل انه سبحانه هو الاله الذي لا اله غيره ..فهو يصدق بوجود الله ولكن لا يصدق بانه واحد اما عن انكار كالثنوية مثلا او عن جهل ..
الثانية : التصديق الكامل او كمال التصديق وهو الاعتقاد بوحدانيته سبحانه ناهيك عن الاعتقاد باصل وجوده .. اذن كمال التصديق بوجوده هو ان نعتقد ونجزم ــ بالاضافة الى وجوده ـ بوحدانيته فهذا هو كمال معرفته .. التصديق بوجوده المحكوم عليه بالكمال هو التصيدق الثاني الذي يرافقه الحكم بوحدته لا الاول الناقص ..
فإن قلتَ لماذا صار كمال التصديق به توحيده ؟
الجواب : ذلك لان الذي يعتقد بوجوده وانه واجب الوجود ولكنه لا يرى وحدته فهو في الحقيقة قد جهل وجوب وجوده ولم يعرفه كما ينبغي لانه لو كان ثمة واجب اخر فيلزم الاشتراك بينهما من جهة والامتياز من جهة اخرى فيلزم التركيب في كل منهما والتركيب آية الممكن فلم يكن تصوره للواجب اساسا تصورا صحيحا فضلا عن ان التصديق به لم يكن كاملا ..
واما الجملة الثالثة وهي : ( وكمال توحيده الاخلاص له ) ..
فهي واضحة وحاصلها : ان من اعتقد بوجوده سبحانه اولا . وصدق به كمال التصديق حتى دخل في سلك الموحدين فهنا إذا اراد ان يصل الى التوحيد الكامل فعليه ان يخلص له في الظاهر والباطن بحيث لا يرى ولا يقصد في اعماله سوى وجهه الكريم ولا يبقى في قلبه ذرة غيره سبحانه ..
واما الجملة الرابعة والاهم لانها هي النتيجة المرجوة من جميع الجمل السابقة وهي ( ..وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه ..)
وكما قلنا هذه من اهم الجمل التي مرت علينا واكثرها تشعبا وما بعدها من كلام فهو دليل عليها كما سيأتي.. ومن هنا سنجعل الكلام فيها في مستويين :
الاول : شرحها وبيان المقصود منها اجمالا ..
الثاني : دليلها الذي اقامه الامام عليه السلام فيما بعدها من كلام ..وسيأتي تباعا ..
اما المستوى الاول فنقول :
هناك قاعدة توحيدية يعتمدها العلماء في فن التوحيد الا وهي :
( صفات الله تعالى عين ذاته ) والمعنى المقصود من هذه الجملة هو ان صفات الله سبحانه تلحظ من زاويتين :
الزاوية الاولى : ان تلحظ من حيث المفهوم .. وهنا لابد ان ننبه على امر في غاية الاهمية
الزاوية الثانية : ان تلحظ من جهة المصداق والحقيقة الواقعية الخارجية ..
وعلينا ان نميز جيدا بين الزاويتين فنسأل السؤال التالي :
هل ان صفات الله تعالى كالعلم والقدرة والحياة ، هل هذه الصفات واحدة ام متعددة ؟
الجواب : إن نظرنا اليها من الزاوية الاولى فهي متعددة لان العلم مفهوما غير القدرة وغير الحياة وهكذا واما ان نظرنا اليها من الزاوية الثانية أي من جهة المصداق فهي وذاته سبحانه شيء واحد ولا تعدد ولا كثرة على الاطلاق ولهذا ورد عندنا ان الله تعالى علم كله وقدرة كله وحياة كله وهكذا ..
اذا اتضحت هذه القاعدة نعود الى النص الذي اردنا بيانه من الخطبة وهو المقطع الرابع " وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه " فماهو المقصود من نفي الصفات عنه ؟
الجواب واضح بعدما قدمنا .. فبما ان صفاته تعالى عين ذاته فهل لله تعالى صفات متعددة ام لا ؟ الجواب صفاته عين ذاته وذاته عين صفاته .. نعم ما نراه من التعدد انما هو بحسبنا ومن جهة المفهوم لا اكثر ..
المستوى الثاني : في قوله عليه السلام ( ..كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه ..)
قلنا ان كلامنا حول هذه الجملة التي هي اهم الجمل سيكون في مستويين :
الاول : في بيانها وشرحها .. وقد قدمنا الكلام في ذلك .. وها نحن نفي بوعدنا في الشروع بـــ
المستوى الثاني : وهو بيان الدليل الذي ساقه الامام عليه السلام في نفس الخطبة على صدق هذه الجملة اعني " وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه .."
قبل ان نطرح ما اعتمد عليه الامام في صدق القضية اعلاه نبين مقدمة مختصرة :
ان الدليل الذي سيقيمه الامام وسنبينه نحن لا يختلف من حيث الشكل و الطريقة عن الدليل الذي تقدم في الجمل التي قبلها والذي اصطلح عليه اهل الفن بــ " القياس المفصول " ولهذا فاننا هنا سنقتصر على الدليل فقط دون بيان آلية الاستدلال خشية الاطالة ومن اراد الاستيضاح فعلية بمراجعة الابحاث السابقة .. نعم هناك امر لابد من ملاحظته والانتباه اليه جيدا وهو :
ان عمدة ما استند اليه الامام في صدق هذه القضية هو قضية اخرى يلزم من صدقها صدق " كمال الاخلاص نفي الصفات عنه "
بمعنى اخر : عندنا قضيتان :
الاولى : ما نريد اثبات صدقها مبشارة بالدليل وهي" وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه .."
الثانية : ما يلزم من صدقها صدق الجملة الاولى والثانية هي جملة " من وصف الله فقد جهله " .. وبناءا على ذلك ، لو اثبتنا الجملة الثانية فمعنى ذلك اننا اثبتنا الاولى ايضا بنفس الوقت ..
وبتعبير اخير .. حينما تكون عندك قضية تريد ان تبرهن وتستدل عليها كقضية " ان الوجود اعم من المادة ولا يساويها " فهناك نوعان من الاستدلال :
النوع الاول : الاستدلال المباشر على الدعوى والمطلوب اثباته فتبرهن مباشرة على ان الوجود اعم من المادة ولا يساويها ..
النوع الثاني : ان تثبت بالاستدلال على ابطال قضية يلزم من كذبها صدق قضيتك " فتثبت مثلا ان القول بمساواة المادة للوجود باطل بان ثبت مثلا ان ثمة ماهو موجود ولكنه ليس بمادي ..
السؤال هنا أي النحوين سنسلك ؟
الجواب النحو الثاني " بان نثبت صحة ان من وصف الله فقد جهله " وبالتالي يثبت عندنا صدق " كمال معرفة الله نفي الصفات عنه " فالعمدة في الاستدلال كما قلنا هو اثبات القضية التالية :
( من وصف الله سبحانه فقد جهله ..)
الدعوى : من وصف الله فقد جهله ..
الدليل : مرتب من مقدمات خمس نذكرها اجمالا بذكر عناوينها ثم نشرع في شرحها واحدة واحدة ونبين صدقها لنحصل في نهاية المطاف على المطلوب .. فالكلام في مطلبين :
المطلب الاول : أما المقدمات الخمس التي يتوقف عليها اثبات المدعى فهي اجمالا :
١ـ كل صفة غير الموصوف وبالعكس " كل موصوف غير الصفة "..
٢ـ كل من وصف الله فقد قرنه ..
٣ـ كل من قرن الله فقد ثناه . .
٤ـ كل من ثناه فقد جزّأه ..
٥ـ كل من جزّأه فقد جهله ..
م / (المطلب الثاني : بيان الجملة الاولى )
قد احطتَ خبرا بما قدمنا لك اننا سنتكلم في اثبات دعوى : " من وصف الله فقد جهله " في مطلبين :
الاول : ذكر المقدمات التي يتوقف عليها الاستدلال وقد مر عليك .. فراجع ثمة ..
وقد حان اوان بيان ما وعدناك به وهو :
المطلب الثاني : في بيان تلكم الجمل تفصيلا وهي خمس والكلام الان في الجملة الاولى ..
الجملة الاولى وهي : ( كل صفة غير الموصوف وكل موصوف غير الصفة )
بيانها :
هذه الجملة بشقيها تريد ان تثبت امرا واحدة وهو " بين الصفة والموصوف مغايرة " وهذه الاخيرة وإن كانت في لفظها ونصها واحدة ولكنها تنحل الى جملتين قد صرح بهما الامام بشكل لا يحصل معه أي غموض وجاء بهما صريحيتن .. وبتعبير اخر ان الامام جاء بجملتين الثانية لازمة للإولى نظير ملازمة المفهوم للمنطوق فالاولى بمنزلة المنطوق والثانية بمنزلة المفهوم ..
سؤال : ما معنى مفهوم ومنطوق ؟
الجواب : باختصار ان يكون عندك جملة واحدة تستفيد من لفظها الظاهر مفاد معين وتستفيد مما وراء لفظها مفاد آخر فيكون عندك لفظ وجملة واحدة ولكن تفيد شيئين و ومضمونين .. ناخذ مثالا على ذلك .. الله تعالى يقول : {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات : ٦] هل هذه جملة واحدة او جملتين ؟
الجواب : جملة واحدة ، ولكن هذه الجملة والواحدة تعطينا وتفيدنا شيئين ومفادين في عين انها واحدة :
الاول : تفيد ان الفاسق اذا اخبرنا بشيء فلابد من التبين والفحص والتحقق والتاكد .. وهو واضح من لفظ ومنطوق الجملة ..
الثاني : تفيد ان غير الفاسق اذا اخبرنا بشيء فلا نتبين وانما ناخذ بخبره ونصدقه فيما يخبر وما يقول ...
اذن الخلاصة : في الجملة الاولى يراد اثبات المغايرة ما بين الصفة والموصوف وان احدهما غير الاخر فلا الصفة نفس الموصوف وعينه ولا الموصوف نفس الصفة وعينها ..
سؤال : لماذا الصفة غير الموصوف والموصوف غير الصفة مع اننا حين نلاحظهما بحسب الخارج متحدان فحين نصف زيد بالجلوس فنحن نرى ان زيد والجلوس شيء واحد خارجا فمن اين جائت المغايرة ؟
الجواب : هذا سؤال وجيه جدا ولكن في الحقيقة المغايرة جائت بالنظر الى ما يلي :
هناك خصوصية للصفة ليست للموصوف وهناك خصوصية للموصوف ليست للصفة ..
اما خصوصية الصفة فهي : الاحتياج الى الموصوف فلا يمكنك ان تتعقل وتتصور صفة بلا موصوف يتصف بها فهي بامس الحاجة الى الموصوف فالصفة غير مستغنية عن الموصوف بحيث يمكن ملاحظتها مستقلة عن الموصوف فهل ترى انك تتصور " جالس " بلا ذات وشخص يتصف بالجلوس ؟ الجواب كلا والف كلا لا يمكن ..
واما خصوصية الموصوف فهي : الاستغناء عن الصفة وعدم احتياجه اليها فيمكن ان نتصور " زيد " ولا يتوقف تعقلنا وتصورنا هذا على " العلم او الجلوس او القيام ..الخ " فالموصوف فمستغن عن الصفة بخلاف العكس .. فهل الصفة الان عين الموصوف ام انها مغايرة له ؟ بالتاكيد مغايرة بعد ان لاحظنا ان لكل خصوصيته التي يختلف بها عن الاخر وهما خصوصيتان متطاردتان متنافيتان متباعدتان فبطبيعة الحال سيختلف صاحبا الخصوصيتين اعني " الصفة والموصوف " وسيتغايران ..
اذن : لا الصفة نفس الموصوف ولا الموصوف نفس الصفة او قل بجملة واحدة كما قلنا في بداية بيان الجملة " بين الصفة والموصوف مغايرة " ..
بيان الجملة الثانية : ( من وصف الله فقد قرنه )
كان الكلام ولا زال في شرح المقدمات والجمل الخمس وقد مضى منا ان تحدثنا عن الجملة الاولى تفصيلا ووصلنا الى الجملة الثانية وها نحن نتوكل على الله تعالى في بيانها فنقول :
هذه الجملة مترتبة على الجملة التي قبلها فبعد ان ثبت ان الصفة غير الموصوف وبالعكس فحينئذ يثبت ان من يصف الله تعالى فهو من حيث يشعر او لا يشعر قد قرنه .. بمعنى اننا ان قبلنا بمفاد الجملة الاولى " الصفة مغايرة للذات وزائدة عليها " فهنا يترتب على وصفنا لله تعالى ولذاته الاقدس ان نضيف ونقرن اليها شيئا خارجا عن ذاتها زائدا عليها وعليه فقد قرنا الله تعالى ..وهو لازم لا محالة الا ان نقول ان صفاته سبحانه عين ذاته كما عليه المذهب الحق ..
الخلاصة : الجملة الثانية متفرعة على الجملة الاولى فحيث ثبت ان القاعدة في الصفة والموصوف هي " زيادة الصفة على الذات " فيلزم اذن ان من يصف الله تعالى فقد قرنه ..
بيان الجملة الثالثة : ( من قرنه فقد ثناه )
بيان هذه الجملة يقع في نقاط :
١ـ المقصود من اقرانه اقرانه بـــ الصفات يعني فمن قرنه بصفة واعتبر الصفة زائدة فقد ثناه ..وعليه فمن وصف الله تعالى وكان اعتباره للصفات بانها زائدة على الذات فهو بهذا الوصف قد ثناه لانه قد ثبت في الجملة الاولى ان من وصف الله فقد قرنه وهنا نريد اثبات ان من قرنه تعالى فقد ثناه ..
٢ـ مع الاخذ بعين الاعتبار في وصف الواصف انه يرى ان الصفات زائدة على الذات يكون محكوما وملزما بان يلاحظ الذات الواحدة الموصوفة " كزيد العالم " بلحاظين ومن زاويتين :
الاولى : ملاحظة الذات مع صرف النظر عن الصفة .. بمعنى يلحظ الذات مجردة عن الصفة وينظر للذات بما هي ذات ..ويلاحظ زيد كذات بلا اعتبار صفة العلم فيه ...
الثانية : ملاحظة الصفة الموجودة في الذات بما هي صفة ومع قطع النظر عن الذات ..بحيث يلاحظ صفة العلم الكائنة في زيد بغض النظر عن ذات زيد في مثالنا اعلاه ..
٣ـ هذا التعدد في اللحاظ والاعتبار المتقدم مع ان الملحوظ ـ زيد في مثالنا ـ واحد ولكن يجعل هذا الملحوظ مركبا من شيئين ولو على مستوى الاعتبار وعليه لا يمكننا القول ان " زيد العالم " في مثالنا واحد من جميع الجهات بل سيكون عبارة عن شيئين اذا وصفناه بصفة واحدة فاذا وصفناه باكثر من ذلك سيكون طبعا اكثر فاكثر وهكذا ..
اذن الخلاصة : من يصف الله تعالى بصفات ويجعلها زائدة على الذات فقد جعل فيه كثرة من حيث يشعر او لا يشعر .. وعليه فمن وصف الله تعالى فقد قرنه بالصفة ومن يقرنه بالصفة فقد ثناه وجعله شيئين اثنين لا واحد من جميع الجهات ..
بيان الجملة الرابعة : ( ومن ثناه فقد جزأه )
معنى هذه الجملة ان من جعل الله تعالى عبارة عن ( ذات + صفات ) في عين انه واحد جعله اثنين .. ولكن كيف ؟
لانه جعل ذاته تعالى مركبة من جزئين ، فهو يرى ان الله واحد ولكن هذا الواحد ذو اجزاء فمن اعتبر الله سبحانه واحد ذو اجزاء واجزاؤه هي " الذات والصفات " فقد جعله اثنين وحيث ان هذا الانسان يعتقد ان الله واحد فحينئذ تكون الاثنينية من جهة انها اجزاء الذات ..
ولتقريب الفكرة نأخذ مثال بسيط وهو الانسان المركب من روح وبدن فالانسان واحد ولكنه ذو اجزاء فمن اعتبر الانسان روح وبدن كما هو في الواقع كذلك فهذا يعني جعل الانسان الواحد مركب من جزئين فمن ثنى الانسان فقد جعل له اجزاء وهذا لا اشكال فيه في الانسان فمن عرف الانسان بهذه المعرفة لم يخطأ بل اصاب حقيقة الانسان ولكن في الحق تبارك وتعالى الامر بالعكس تماما فالتركيب والاثنينية من كل وجه محالة وباطلة ..
والخلاصة : من يعتقد ان الله تعالى عبارة عن ذات وصفات وهذه هي التثنية حيث اعتبره من ذات وصفات فهو بذلك جعل الحق الواحد ذو جزئين فمن ثنّى الله تعالى فقد جعل له اجزاء ..
بيان الجملة الخامسة : ( ومن جزأه فقد جهله )
وهذه الجملة واضحة مما تقدم ولكن مع ذلك نجمل البيان في نقطتين :
١ـ معنى الجملة هو ان من جعل الحق تبارك وتعالى ذا اجزاء فهو جاهل به ولم يقدر الله حق قدره ولم يعرف الله سبحانه ..
٢ـ وجه جهل المعتقد بتجزئة الله تعالى هو :
ان الله واجب الوجود غني عن خلقه وخلقه فقير اليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر : ١٥]
وعليه فمن يعتقد ان الله تعالى ذو اجزاء فلقوله هذا لازم باطل وهو اثبات الفقر والحاجة لله تعالى لماذا ؟
لانه حين اعتقد بانه ذو اجزاء وكل ذي اجزاء محتاج وفقير الى اجزائه فيكون لازم اعتقاده او قوله من حيث يشعر او لا يشعر هو اثبات الفقر والحاجة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .. وعليه فهو لم يعرف ان الحق تعالى غني لما يلزم من اعتقاده من اثبات الفقر ..
زبدة المخاض وخلاصة البحث ..
قلنا ان بين هذه الجمل الاربع مر ذكرها وبيانها اجمالا وتفصيلا بينها ارتباط محكم يسوقنا الى النتيجة المتوخاة من عقد هذه الجمل والجمل هي ـ من باب التذكير ـ
١ـ وكمال معرفته التصديق به ..
٢ـ وكمال التصديق به توحيده.
٣ـ وكمال توحيده الاخلاص له .
٤ـ وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه . ؟
والنتيجة التي تترتب على الجمل الثلاث هي : كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه .. ثم برهنا على هذه القضية بدليل يثبت لنا قضية قضية اخرى وهي " من وصف الله فقد هله " و يلزم من صدق هذه الاخيرة صدق " كمال الاخلاص نفي الصفات عنه " وحاصل الدليل كان من مقدمات خمس وهي اجمالا :
١ـ كل صفة غير الموصوف وبالعكس " كل موصوف غير الصفة "..
٢ـ كل من وصف الله فقد قرنه ..
٣ـ كل من قرن الله فقد ثناه . .
٤ـ كل من ثناه فقد جزّأه ..
٥ـ كل من جزّأه فقد جهله .

نتيجة البحث
١ـــ من وصف الله فقد جهله ويلازم صدق هذه القضية قضيتنا الاساسية ومقصدنا من كل ذلك العناء والغوص في كلام الامير عليه السلام وهي :
٢ــــ " كمال الاخلاص نفي الصفات عنه "
لماذا ؟
لان بين الجهل به سبحانه وبين الاخلاص له معاندة تامة وخطان متوازيان لا يمكن ان يلتقيا وبالتالي ما دمنا اثبتنا ان من وصف الله فقد جهله ومن يجهله لا يمكن ان يخلص له اذن كمال الاخلاص له معرفته وهو المطلوب ..
والحمد لله رب العالمين ..

انتهى.

****************************