وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
كيف عرفت نهج البلاغة

الشيخ مرتضى مطهري (رحمه الله)

لعله قد اتفق لكم- وان كان لم يتفق فإنكم تستطيعون أن تتصوروا ما أريد أن أقوله - أن عشتم أعواما  مع رجل في محلة واحدة، كنتم تقابلونه كل يوم مرة على الأقل، فتسلمون عليه أو يسلم عليكم وفق المجاملات العرفية ثم تنطلقون عابرين. وعلى هذا المنوال تمضي الأيام والشهور والأعوام.. حتى يتفق أن تجلسوا معه عدة مجالس، فتتعرفوا بذلك على أفكاره واتجاهاته وأحاسيسه وعواطفه، وحينئذ تشعرون بكل إعجاب أنكم لم تكونوا تقدرون على أن تعرفوه كما عرفتموه الآن.
ومن ذلك الحين تتبدّل صورته في تصوراتكم عنه، وحتى صورته الجسدية تتبدى في نظركم على غير ما كان عليه من ذي قبل، وسوف يجد لنفسه معنى وكرامة أخرى غير ما كان عليها في عواطفكم، وتظهر شخصيته لكم منوراء الحجب غير ما كانت عليه، وكأنه غير ذلك الرجل الذي كنتم ترونه وتقابلونه منذ سنين، أو كأنكم قد اكتشفتم عالما جديدا غير ذلك العالم السابق لقد كان تعرفي على «نهج البلاغة» هكذا، إذ كنت أعرفه منذ صغري وقد رأيته يوم ذاك بين كتب والدي (أعلى اللّه مقامه)، وبعد ذلك اشتغلت بالدراسة أعواما، فأكملت العلوم العربية في الحوزة العلمية بمدينة (مشهد الإمام‏ الرضا (ع) ثم في الحوزة العلمية في بلدة (قم - المقدسة)، وكنت على وشك إنهاء الدراسة التي يصطلح عليها ب (دراسة السطوح العلمية) وفي جميع هذه المدة كان اسم (نهج البلاغة) يطرق سمعي بعد القرآن الكريم أكثر من أي كتاب آخر. وكنت مذ ذاك أسمع بعض الخطب في (الزهد) من الخطباء كثيرا حتى أني كنت أحفظها تقريبا.

ولكني أعترف أني كنت حينئذ- ككثير من أقراني من الطلبة- بعيدا عن عوالم (نهج البلاغة) أتلقاه وكأني غريب عنه، وأمرّ به وكأني بعيد عنه.

حتى سافرت سنة ١٣٦٥ ه- . هروبا من حرّ مدينة قم- بعد إقامتي فيها خمس سنين- إلى مدينة (إصفهان).

فعرّفني التوفيق هناك برجل عارف بنهج البلاغة، فأخذ ذلك الرجل بيدي وأوردني بعض مناهله.

وحينذاك شعرت بأني لم أكن أعرف هذا الكتاب الكبير وبعد ذلك كنت أتمنى لوأني أجد من يعرفني بعوالم القرآن الكريم أيضا.
ومنذ ذلك الحين تبدلت صورة (نهج البلاغة) في نظري، وتعلق قلبي به وأحببته، وكأنه كتاب آخر غير الذي كنت أعرفه منذ صغري، وكأني اكتشفت عالما جديدا.
والشيخ محمد عبده المفتي الأسبق للديار المصرية، الذي شرح (نهج البلاغة) شرحا مختصرا وطبعه بشرحه ونشره في مصر فعرّف بذلك المصريين بنهج البلاغة لأول مرة، قال هو أيضا إنه لم يكن يعرف نهج البلاغة حتى طالعه في سفرة بعيدة عن الوطن الأم فأعجبه، وشعر كأنه توصل به إلى كنز ثمين ولذلك عزم من حينه على شرحه وطبعه وتقديمه إلى الأمة العربية.
ولا عجب ولا استغراب في بعد عالم غير شيعي عن (نهج البلاغة)، إنما العجيب الغريب غربة (نهج البلاغة) حتى في دياره بين شيعة علي (ع)، وحتى في الحوزات العلمية الشيعية كما ظل علي (ع) نفسه غريبا أيضا فمن البديهي أنه لو لم يكن هناك تلاؤم بين محتويات كتاب شخص أو أفكاره مع العالم الروحي لأمة ما، لكان ذلك الكتاب أو الشخص غريبا عنها عمليا، مهما كانت تلك الأمة تعظم اسم ذلك الكتاب أو الرجل وتقرنه بآيات الجلال والعظمة.
إنه يجب علينا- نحن الطلاب- أن نعترف ببعدنا عن نهج البلاغة، فإن‏ العالم الروحي الذي صنعناه لأنفسنا عالم آخر غير ذلك العالم المصور في نهج البلاغة.
ذكرى الشيخ الاستاذ
وبودي أن أذكر في هذه المقدمة سطورا عن ذلك الرجل الذي عرّفني لأول مرة بنهج البلاغة، والذي أعد حضوري لديه إحدى الذخائر الثمينة من عمري بحيث لا أرضى أن أعوّض عنها بشي‏ء أبدا ولا يمر عليّ ليل أو نهار حتى أتمثله في خاطري فأذكره بخير.
أتجرّأ فأقول: إنه كان بحق «عالما ربانيا» بينما لا أتجرأ لنفسي على أن أقول: إني كنت «متعلما على سبيل نجاة»  [١].
أتذكر أني حين التقائي به كنت أذكر كلام الكاتب والشاعر الإيراني الكبير سعدي الشيرازي إذ يقول:
المرء كل المرء- يا إخواني إن كان- فهوالعالم الرباني‏ أما الرجال العابدون الزاهدون‏ السالكون مسالك الإيمان‏ فهم بدرب الحق أبناء له والعالمون هداتهم ببيان [٢] .
لقد كان فيها حكيما وأديبا طبيبا كان عالما بالفقه والفلسفة، والأدب العربي والفارسي، والطب والحكمة القديمة، حتى كان يعدّ في بعض فروعها الإخصائي الأول. كان يدرّس (كتاب القانون) في الفلسفة الطبيعية والحكمة الإلهية للشيخ الرئيس أبي علي الحسين بن علي بن سينا ببيان واضح، وكان يحضر درسه فضلاء عصره في مصره. ولكنه لم يكن من الممكن تقييده بدرس معين، بل لم يكن يلائمه أي قيد قط اللهم إلا الدرس الوحيد الذي كان يجلس إليه بشوق ورغبة، وهو درس (نهج البلاغة) فإنه كان يطير به في آفاق لم نكن نستطيع أن ندركها جيدا.
إنه كان يعيش بنهج البلاغة ويتنفس به، قلبه ينبض به وعروقه  وتفور بدمه وكان هذا الكتاب ورده الذي يلهج به ويستشهد بجمله، وكثيرا ما كان إجراء كلماته على لسانه يقارنه إسبال الدامع من عينيه على محاسنه لقد كان اندماجه في نهج البلاغة الذي كان يقطعه عنا وعن كل شي‏ء حوله منظرا ذا إيحاء نفسي لذيذ، ولا غرو، فإن الإستماع إلى كلام القلب من ذوي القلوب خلاب ذووقع في النفوس.

كان أنموذجا صالحا من ذلك السلف الصالح الذي كان يصدق فيه كلام علي (ع) إذ يقول: «... ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم» [٣].
إن الأديب المحقق، والحكيم الإلهي، والفقيه الكريم، والطبيب الكبير، والعالم الرباني: المرحوم الشيخ الحاج ميرزا علي آقا الشيرازي الإصفهاني (قدس اللّه سره) كان بحق رجل الحق والحقيقة، إنه مع كل ما له من المقام العلمي والشخصية الإجتماعية، كان إحساسه بالمسؤولية في هداية الناس وإرشادهم، وعلاقته القلبية بمقام سيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين بن علي (ع)، باعثا له على الخطابة والوعظ والإرشاد، وحيث كان كلامه يخرج من قلبه كان يخترق القلوب فينفذ فيها ويستقر حتى أنه كلما كان يقدم إلى (مدينة قم المقدسة) كان يطلب منه العلماء الكبار أن يرقى المنبر فيعظهم ببعض مواعظة.
كان يتقي حتى إمامة صلاة الجماعة، إلّا أنهم كانوا يطلبون منه بإصرار وإلحاح شديدين أن يؤمهم في الجماعة في شهر رمضان المبارك من كل سنة في (مدرسة الصدر- بإصفهان) ومع أنه لم يكن يحضر لذلك بانتظام ولم يتحمل التقيد بالحضور للصلاة في الساعة المعينة، كان يشترك في صلاته جمع كثير لم يجتمع لأحد قبله. فقيل إنه كان قد سمع بتقللة الناس في سائر الصلوات فلم يتحمل الإدامة.
كان يعرفه ويحبه - على ما أعلم - جميع أهل إصفهان، كما كانت (الحوزة العلمية بقم المقدسة) تحبه أيضا، فكان حين وصوله إلى هذه المدينة للزيارة يبادر إلى زيارته علماؤها كلهم، في حين أنه كان بعيدا عن كل قيد من قيود الزيارة ورد الزيارات. فرحمة اللّه عليه ورحمة واسعة، وحشره اللّه مع أوليائه الأئمة الطاهرين.
ومع كل ذلك لا أدعي أنا أنه كان عالما بجميع ما في (نهج البلاغة) من عوالم وآفاق، وأنه كان قد افتتحها جميعا، بل إنه كان قد تخصص في بعض تلك الآفاق والعوالم، ولكنه كان محققا فيما كان متخصصا فيه، أي أنه قد كان قد تجسد فيه ذلك القسم من الكتاب صورة خارجية.
إن لنهج البلاغة عوالم عديدة: عالم الزهد والتقوى، عالم العرفان والعبادة، عالم الحكمة والفلسفة، عالم النصح والموعظة، عالم الملاحم والمغيّبات، عالم السياسة والمسؤوليات الإجتماعية، عالم الشجاعة والحماسة... وتوقع التوفيق للتحقيق والتخصص لشخص واحد في جميع هذه العوالم والآفاق بعيد عن الواقع والحقيقة. إنه كان قادرا على السباحة في قسم من هذا البحر العظيم، ومحيطا بأقسام من هذا المحيط.

مجتمعنا اليوم، ونهج البلاغة
لم أكن أنا وحدي وأمثالي فقط بعداء عن عوالم نهج البلاغة بل إن المجتمع الإسلامي لم يكن يعرفه والذي كان يعرفه لم تكن معرفته تتجاوز حدود شرح الكلمات وترجمة الألفاظ أما روحه ومحتواه فقد كان خفيا على كل أحد. أما الآن فإن العالم الإسلامي أخذ يكتشف نهج البلاغة شيئا فشيئا، أو: أن نهج البلاغة أخذ يفتتح العالم الإسلامي.
وإن تعجب فعجب أن يكون أول من اكتشف ونشر قسما من محتويات هذا الكتاب- سواء في إيران أو في سائر الدول الإسلامية والعربية - غير المسلمين نعم، كان هدفهم - أوهدف أكثرهم - من هذا العمل: أن يجدوا من علي (ع) وكتابه تصحيحا وتصويبا لبعض دعاويهم الإجتماعية (السياسية) وأن‏ ينتصروا بذلك على رقبائهم.

ولكن عملهم هذا لم ينتج إلا عكس ما كانوا يأملون إذا أن المسلمين علموا- لأول مرة - أن ذلك الكلام المعسول الذي كان يتشدق به الأجانب لم يكن شيئا جديدا، وأن في (نهج البلاغة) أحسن منه وأحسن، وكذلك في سيرة علي (ع)، وسيرة المتأدبين بآدابه وتعاليمه التربوية: كسلمان، وأبي ذر، وعمار بن ياسر، فكان ذلك بدل أن يصوب (نهج البلاغة) ما يقولون ويفعلون- فاضحا لهم وسببا لا نتكاسهم وهزيمتهم.

ولكن علينا أن نعترف - على كل حال- أن معرفتنا بنهج البلاغة قبل هذا العمل لم تكن لتجاوز حدود بعض الخطب في التقوى والإرشاد والموعظة والزهد والعبادة فحسب، أما الكنز الثمين الذي ينطوي في (عهد الإمام إلى مالك الأشتر النخعي) فلم يكن يعرفه أحد، أولم يكن يوليه أحد أي إهتمام.
إن نهج البلاغة - كما هو مذكور في الفصل الأول والثاني من الكتاب - منتخب من خطب الإمام علي (ع) ووصاياه وأدعيته ورسائله وكلماته القصيرة، جمعها السيد الشريف الرضي (رض) منذ ألف عام - تقريبا ولا تنحصر كلمات الإمام (ع) فيما جمعه السيد الشريف (ره)- فالمسعودي الذي كان يعيش قبل السيد الرضي (ره) بمئة عام يقول في الجزء الثاني من كتابه (مروج الذهب):«والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة،وتداول الناس ذلك عنه قولا وعملا» [٤].
في حين أن جميع الخطب في مجموعة السيد الرضي (ره) ليست سوى ٢٣٩ خطبة، أي أقل من نصف ذلك العدد الذي يقوله المسعودي.
والآن بين يدينا من نهج البلاغة عملان ضروريان: أحدهما:

التعمق في محتوى نهج البلاغة، لتتضح لنا مدرسة الإمام علي (ع) في مختلف المسائل المطروحة في كتابه بدقة كافية، إذا المجتمع الإسلامي بحاجة ماسة إلى ذلك.

والثاني: التحقيق في (مصادر نهج البلاغة وأسانيده).

ومن حسن الحظ أن نسمع اليوم‏ بعمل عدد من الفضلاء في أطراف المجتمع الإسلامي في هذين الأمرين الخطيرين.
وما جاء في هذا الكتاب مقالات نشرت في مجلة (مكتب إسلام)  [٥] .

ونقدمها اليوم إلى القراء الكرام كتابا واحدا وقد كنت ألقيت بهذا العنوان: (في رحاب نهج البلاغة) خطابا في خمسة مجالس في (المؤسسة الإسلامية: حسينية الإرشاد) ثم أحببت أن أنشر ذلك الخطاب بتفصيل أكثر بشكل مقالات متسلسلة في مجلة (مكتب إسلام) ثم أحببت جمعها ونشرها في كتاب.
ومذ اخترت لمقالاتي هذه إسم: (في رحاب نهج البلاغة) كنت أعلم أن ليس هناك أي إسم آخر أنسب بعملي هذا منه، إذا لا يمكن أن نسمي هذه المحاولة المختصرة (تحقيقا) حيث لم أكن أجد لذلك الفرصة الكافية والوقت المناسب، وبالإضافة إلى أني لا أحسبني ممن يجدر بهذا العمل، أضف إلى ذلك أن التحقيق العميق الدقيق في (محتويات نهج البلاغة) والمعرفة التامة بمدرسة الإمام علي (ع)، وكذلك التحقيق في (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) لا يمكن أن يكون عمل رجل واحد، بل هوعمل جماعة من العلماء والمحققين.

ولكني بدأت جولتي هذه في رحاب نهج البلاغة آملا أن تكون هذه المحاولة القصيرة فاتحة الطريق إلى ذلك العمل الكبير، وذلك من باب «ما لا يدرك كله لا يترك جلّه».

وآسف أني لم أتوفق لإنهاء جولتي هذه أيضا، فتبقّى البرنامج الذي كنت أعددته لهذه الجولة والتي ذكرته في الفصل الثالث من الكتاب غير بالغ فيه إلى غاية، ولا أدري هل أتوفق أن آخذ بهذه الجولة المباركة مرة أحرى أم لا ولكني على أمل من ذلك من ذلك شديد.

-------------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة ج٣ الحكمة : ١٤٧ : ( ياكميل الناس ثلاثة : فعالم رباني , ومتعلم على سبيل النجاة , وهمج رعاع ) .
[٢] . معرب قوله : عابد وزاهد وصوفي – همه طفلان رهاند – مرد اگر هست بجز عالم رباني نيست . والتعريب للمعرب .
[٣] . الخطبة : ١٨٦ ص ١٣٢ من ج ١٠ لشرح النهج لابن ابي الحديد ط ابوالفضل .
[٤] . مروج الذهب ج٢ ص ٤٣١ بتحقيق محيي الدين .
[٥] . وهي مجلة دينية فارسية تصدر عن دار التبليغ الاسلامي بمدينة قم وتشرف عليها هيئة تحرير من الحوزة العلمية بتلك المدينة المقدسة – المترجم .

منقول من كتاب في رحاب نهج البلاغة

****************************