وقال (عليه السلام): إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ .                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ.                
وقال (عليه السلام): النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                

Search form

إرسال الی صدیق
كيف نفهم نصوص نهج البلاغة

الشيخ فوزي آل سيف
(وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) .
جملة كبيرة من عقائد المسلم يعتمد بشكل أساس فيها على النص الشرعي ، سواء كان واردا في القرآن الكريم أو مأثورا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أو عن الأئمة المعصومين عليهم السلام , ولا طريق لتفاصيل هذه العقائد إلا ضمن إطار تلك النصوص ,فمثلا : الاعتقاد بالحشر والنشر والعودة بعد القبر إلى عالم الحساب.. هذه لا مسرح فيها للعقل ,حتى أن بعض الفلاسفة يقولون أنه بحسب الدليل العقلي لا يمكن إعادة المعدوم حيث يموت الإنسان يدفن ثم يتحلل ويذوب ..

هذا لا يمكن عقلا أن يعود, فبحسب الدليل العقلي يكون الحشر غير ممكن ,ولكن الفلاسفة الالهيين كابن سينا وأمثاله يقولون : الحشر وإعادة الناس من بعد الموت لا يمكن الاستدلال عليه عقلا ولكن يجب الاعتقاد به نقلا , لأن الرسول الصادق قد أخبر عنه ,و القرآن الناطق ذكره فلابد من الاعتقاد و ,هكذا سائر المراحل بعد الموت ...إعطاء الكتب – الجنة – النار –العذاب الموعود- والنعيم الموعود... بتفاصيلها لا مسرح للعقل فيها وإنما هي تعتمد على النص الشرعي .

كذلك فإن أكثر الأحكام الشرعية المرتبطة بالعبادات ، طريقها الوحيد هو النصوص الشرعية من آيات القرآن الكريم أو أحاديث المعصومين ,في كيفية الوضوء ونواقضه ، والصلاة وأحكام شكها وسهوها ، وفي مبطلات الصوم ، وفي نسك الحج وتفاصيله .
من هنا تبرز أهمية النصوص الشرعية وكيفية التعامل معها والاستفادة منها، ونهج البلاغة هو نصوص متعددة في العقائد والأحكام و المعارف الدينية و تجري عليه نفس القاعدة .

وفي نفس الوقت الذي لا بد من التأمل فيها والتدبر في معانيها ، فإن ذلك لا بد أن يتم على وفق منهج خاص ، ذلك أن فهم النصوص الدينية أيضا يحتاج إلى منهج مثلما هو الحال في فهم الهندسة والطب ..

وبالرغم من أن البعض قد يكون له ذوق هندسي أو فهم عام في الهندسة إلا أن ذلك لا يكفي بل لا بد أن يدرس ويتخصص فيها حتى يصبح مهندسا خبيرا .

وهنا ينبغي الاشارة إلى أهمية فهم المتخصص وكيف أنه حجة على نفسه وعلى غيره بمقتضى السيرة العقلائية ، بينما مجرد أن يكون خبيرا في مجال آخر هذا لا يعطيه صلاحية أن ( يفتي ) في غير مجاله . فكما أن رأي الفقيه ليس حجة في الطب،ولا الهندسة كذلك فإنه رأي المهندس والطبيب ليس حجة في الفقه .

نعم لو قام كل واحد من هذين بالتخصص في مجال الفقه فلا مانع حينئذ أن تشمل رأيه أدلة حجية الخبير و( أهل الذكر ) .
وبشكل إجمالي ينبغي القول أنه لتفهم النص لا بد من طي مرحلتين ، والتوفر على منهجين : منهج البحث السندي والقسم الآخر البحث الدلالي ..

وينبغي التأكيد على هذا المعنى حيث أننا نلاحظ ظاهرة غير سليمة ، عند بعض الشباب المسلم وهي أن هؤلاء وهم مثقفون ثقافة إسلامية في مستوى معين ، يتصورون أنهم أصبحوا متخصصين ومجتهدين في القضايا الشرعية ولذلك يبدون رأيا في هذا الجانب وفتوى في ذلك الجانب ، فهذا الحديث عنده ليس بمعقول..

وذلك الكلام عن الأئمة غير مقبول ..هذه المعجزة الكذائية ليست صحيحة ، وتلك المسألة ليست واردة وهكذا .
نعم لو كان هؤلاء يتخصصون في هذه الجهة ويدرسون المناهج المقررةثم يبدون رأيا علميا أو يردون نظرية ، فلا أحد ينازع في الأمر ,لكن الأكثر ليس هكذا ، بالرغم من توفره على ثقافة مناسبة . وخصوصا في قضايا النصوص لأن لها منهجا خاصا..يبدأ أولا بمعرفة أحوال الرواة من الوثاقة وعدمها ، وهل هو في طبقة يمكن أن يروي فيها عن الإمام أو عن النبي أم لا .

ولا يكفي أن يكون الحديث منقولا في كتاب من الكتب ، أو مرويا عن رجل ما بل لا بد من التحقيق في ذلك .. ولأوضح لك المطلوب أورد لك مثالا : ـ حول كيفية أخذ بعضهم للحديث وترتيبهم الأثر عليه ـ فعن ميمون بن عبد الله ، قال ، أتى قوم أبا عبد الله عليه السلام يسألونه الحديث من الأمصار ، وأنا عنده ، فقال لي : أتعرف أحدا من القوم ؟ قلت : لا ، فقال : فكيف دخلوا علي ؟ قلت : هؤلاء قوم يطلبون الحديث من كل وجه لا يبالون ممن أخذوا الحديث . فقال لرجل منهم : هل سمعت من غيري من الحديث ؟ قال : نعم ، قال : فحدثني ببعض ما سمعت ؟ قال انما جئت لأسمع منك لم أجئ أحدثك ، وقال للآخر ذاك ما يمنعه ان يحدثني ما سمعت ، قال : وتتفضل أن تحدثني بما سمعت ، اجعل الذي حدثك حديثه أمانة لا تحدث به أحدا ؟ قال : لا ، قال فاسمعنا بعض ما اقتبست من العلم حتى نفيد بك ان شاء الله .
قال : حدثني سفيان الثوري ، عن جعفر بن محمد قال : النبيذ كله حلال الا الخمر ، ثم سكت . فقال أبو عبد الله عليه السلام : زدنا ، قال : حدثني سفيان عمن حدثه عن محمد بن علي أنه قال : من لا يمسح على خفيه فهو صاحب بدعة ، ومن لم يشرب النبيذ فهو مبتدع ومن لم يأكل الجريث وطعام أهل الذمة وذبايحهم فهو ضال ، أما النبيذ : فقد شربه عمر نبيذ زبيب فرشحه بالماء ، وأما المسح على الخفين : فقد مسح عمر على الخفين ثلاثا في السفر ويوما وليلة في الحضر ، وأما الذبايح : فقد أكلها علي عليه السلام فقال كلوها فان الله تعالى يقول " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم " ثم سكت .
فقال أبو عبد الله عليه السلام : زدنا ، فقال : قد حدثتك بما سمعت ، قال : اكل الذي سمعت هذا ؟ قال : لا ، قال : زدنا ، قال : حدثنا عمرو بن عبيد ، عن الحسن قال : أشياء صدق الناس بها وأخذوا بما ليس في الكتاب لها أصل ، منها عذاب القبر ، ومنها الميزان ، ومنها الحوض ومنها الشفاعة ، ومنها النية ينوي الرجل من الخير والشر فلا يعمله فيثاب عليه ، ولا يثاب الرجل الا بما عمل ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا . قال : فضحكت من حديثه ، فغمزني أبو عبد الله عليه السلام أن كُف حتى نسمع قال فرفع رأسه إلي فقال : ما يضحكك من الحق أو من الباطل ؟ قلت له : أصلحك الله وأبكى وانما يضحكني منك تعجبا كيف حفظت هذه الأحاديث فسكت .
فقال له أبو عبد الله عليه السلام : زدنا قال : حدثني سفيان الثوري ، عن محمد بن المنكدر ، أنه رأى عليا عليه السلام على منبر الكوفة وهو يقول : لئن أتيت برجل يفضلني على أبي بكر وعمر لا جلدنه حد المفتري .
فقال أبو عبد الله عليه السلام : زدنا فقال : حدثني سفيان ، عن جعفر ، أنه قال حب أبي بكر وعمر ايمان وبغضهما كفر .
قال أبو عبد الله عليه السلام زدنا فقال : حدثني يونس بن عبيد ، عن الحسن ، أن عليا عليه السلام أبطأ عن بيعة أبي بكر ، فقال له عتيق : ما خلفك يا علي عن البيعة ، والله لقد هممت أن أضرب عنقك فقال له علي عليه السلام : يا خليفة رسول الله لا تثريب ، قال : لا تثريب .
قال له أبو عبد الله عليه السلام : زدنا قال : حدثني سفيان الثوري ، عن الحسن ، ان أبا بكر أمر خالد بن الوليد أن يضرب عنق علي عليه السلام إذا سلم من صلاة الصبح ، وأن أبا بكر سلم بينه وبين نفسه ، ثم قال : يا خالد لا تفعل ما أمرتك .
قال له أبو عبد الله عليه السلام : زدنا قال : حدثني نعيم بن عبد الله ، عن جعفر بن محمد ، أنه قال ود علي بن أبي طالب أنه بنخيلات تينع يستظل بظلهن ويأكل من حشفهن ولم يشهد يوم الجمل ولا النهروان ، وحدثني به سفيان .
قال أبو عبد الله عليه السلام زدنا ، قال : حدثنا عباد ، عن جعفر بن محمد ، أنه قال : لما رأى علي بن أبي طالب يوم الجمل كثرة الدماء ، قال لابنه الحسن : يا بني هلكت ، قال له الحسن يا أبه أليس قد نهيتك عن هذا الخروج فقال علي عليه السلام : يا بني لم أدر أن الامر يبلغ هذا المبلغ .
قال له أبو عبد الله عليه السلام : زدنا قال : حدثني سفيان الثوري ، عن جعفر بن محمد أن عليا عليه السلام لما قتل أهل صفين ، بكى عليهم ثم قال : جمع الله بيني وبينهم في الجنة . قال ، فضاق بي البيت وعرقت وكدت أن أخرج من مسكي ، فأردت أن أقوم إليه وأتوطأه ، ثم ذكرت غمزة أبي عبد الله عليه السلام فكففت . فقال له أبو عبد الله عليه السلام : من أي البلاد أنت ؟ قال : من أهل البصرة ، قال فهذا الذي تحدث عنه وتذكر اسمه جعفر بن محمد ، تعرفه ؟ قال . لا ، قال فهل سمعت منه شيئا قط ؟ قال : لا ، قال : فهذه الأحاديث عندك حق ؟ قال نعم ، قال : فمتى سمعتها ؟ قال : لا أحفظ ، قال : الا أنها أحاديث أهل مصرنا منذ دهر لا يمترون فيها .
قال له أبو عبد الله عليه السلام : لو رأيت هذا الرجل الذي تحدث عنه ، فقال لك هذه التي ترويها عني كذب لا أعرفها ولم أحدث بها هل كنت تصدقه ؟ قال : لا ! ، قال : لم ؟، قال : لأنه شهد على قوله رجال ولو شهد أحدهم على عنق رجل لجاز قوله . قال : اكتب - بسم الله الرحمن الرحيم حدثني أبي عن جدي ، قال : ما اسمك ؟ قال : ما تسأل عن اسمي ؟ ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، ثم أسكنها الهواء فما تعارف منها ائتلف هيهنا ، وما تناكر منها ثم اختلف هيهنا ، ومن كذب علينا أهل البيت حشره الله يوم القيامة أعمى يهوديا . عندما ننظر إلى نص من النصوص سواء في نهج البلاغة أو غيره ويبدو لنظرنا بادئ ذي بدئ أنه ليس بصحيح أو ليس على القاعدة لا يصح أن نرده فورا وإنما لابد أن ننظر أولا إلى جهة طريقه وسنده الذي وصل إلينا بواسطته ، فإذا رأينا أن هذا الطريق سليم نبدأ في بحث معناه ودلالته.
وفي الدلالة أيضا نحن نحتاج إلى التريث قليلا لكي نرى جو النص وسياقه الذي كان فيه ، ثم نحاول أن نفهمه بالقياس أيضا إلى سائر النصوص التي عالجت نفس الموضوع ، إذ لا يعقل أن يعالج المعصوم قضية واحدة بأجوبة مختلفة سنورد مثالا : ما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله أن ( ابن الزنا شر الثلاثة )وقد جاء أحدهم يناقش هذه الرواية فقال أنها مكذوبة! فماهو ذنب هذا الابن من الزنا ؟ إنما فعل الجريمة أبوه وأمه ! فكيف يكون شرهما وأسوأهما؟ وهذا ليس منسجما مع عدالة الله تعالى ! بينما أصل الرواية ـ حين نضعها في سياقها الاعتيادي وفي جوها ـ : أن رجلا كان يؤذي رسول الله في مكة المكرمة إيذاء شديدا يتعمد وضع العراقيل أمامه ويلقي عليه الأقذار ,فكانوا يتحدثون مع النبي عنه ,قال أحدهم وإنه على ما هو عليه لابن زنا..يعني فوق هذا العمل الذي يعمله من هتك النبي و إهانته وإيذائه هو أيضا ابن زنا .فلم يكن بين أبيه وأمه نكاح ..فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : هو شر الثلاثة ..يعني لجهة أنه يؤذي النبي ويهتك حرمته هو شر من أبيه وأمه.
وهكذا ما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله من ( أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه )فيناقش.. كيف يكون هذا مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى ؟ وهل يمكن لأحد لو أراد أن يزيد عذاب شخص في قبره أن يزيد في بكائه عليه ؟ ليس كذلك ، إنما أصل الحديث أن رسول الله مر على جماعة من اليهود في المدينة وقد دفنوا رجلا منهم وكانوا أهله يلطمون عليه ويبكون ..فقال إنهم ليبكون وانه ليعذب في قبره ! لأن الرجل كان على غير الملة الصحيحة وغير الطريق القويم ,و لا يوجد ترابط عِلّي سببي و معلولي مسببي بين البكاء هنا وبين العذاب هناك .

بعد هذه المرحلة : أي النظر إلى النص في ضمن جوه وسياقه تأتي قضية أخرى وهي ضرورة النظر إلى ذلك النص ضمن مجموعة النصوص الأخر ، سواء آيات القرآن ، أو روايات المعصومين .ذلك أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا ويوضح ما تأخر من آياته ما تقدم منها ، وهكذا الحال بالنسبة إلى روايات المعصومين عليهم السلام ..
فإذا اجتزأنا رواية واحدة من دون أن نستوضحها بغيرها من النصوص والروايات لم نستطع فهمها بنحو صحيح .. إن بقية الروايات هي بمثابة دليل استعمال يعين المتأمل في كيفية استفادة المعنى ، بل هي خريطة لا بد من سلوكها للتعرف على كلام الله أو روايات المعصوم .
لنورد المثال التالي : إن من المعروف أن أمير المؤمنين في نهج البلاغة كثيرا ما ذم الدنيا مثل قوله :أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وتحببت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلت بالآمال ، وتزينت ‹ صفحة بالغرور . لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها . غرارة ضرارة . حائلة زائلة نافدة بائدة ، أكالة غوالة) .عندما ننظر إلى هذه الكلمات نتصور أن المنهج الذي ينتهجه علي ابن ابي طالب إنما يليق بالرهبان المتصوفة والزهاد المنعزلين عن الحياة وكما قال ابن أبي الحديد في مقدمته لشرح النهج (أن كلامه عليه السلام الوارد في الزهد والموعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المتفكر وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه لم يعترضه الشك في أنه من كلام من لا حظ له إلا في الزهادة ولا شغل له بغير العبادة ، وقد قبع في كسر بيت أو انقطع في سفح جبل . لا يسمع إلا حسه ولا يرى إلا نفسه )..

ومثل هذا لا يستطيع أن يستفيد من الدنيا أو يستثمرها بينما كان قد طلب منه أن يديرها وأن يعمرها .
لكن هل هذه هي تمام الرؤية للدنيا عند الإمام ؟ كلا فقد رأى الامام أحدهم يذم الدنيا ويقدح فيها فالتفت إليه الإمام وقال أيها المتجرم من الدنيا أهي غرتك أم أنت اغتررت بها .. الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار غنيمة لمن فهم بها، إنما الدنيا مسجد أحباء الله ومصلى ملائكة الله ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة .

إذن للوصول إلى فهم كامل للنص لابد من ملاحظة سائر النصوص ، ونسبة هذا النص إليها .
وهذا هو الفن الذي يبرع فيه الفقهاء ، سواء في الجمع بين الروايات العامة أو روايات الفقه كما صنع شيخ الطائفة الطوسي رضوان الله تعالى عليه في واحد من أعظم كتبه وهو كتاب الاستبصار فيما اختلف من الأخبار عن الأئمة الأطهار ، فإن نظرية هذا الكتاب أن القارئ للأحاديث قد يلاحظ بادئ ذي بدء وجود تخالف وتناقض أو تضاد بينها .فيتحير ..

كيف يكون هذا وقد قال الباقر الأول وذاك قاله الكاظم ؟ مع ملاحظة أن كلامهم عليهم السلام واحد منسجم ! فكيف تفسر هذه الروايات ؟ربما غير المدقق أو غير المتخصص يبادر إلى القول بأن ( آراء ) الأئمة مختلفة .. ولكن من المعلوم أن هذا غير صحيح .. إذن كيف نستطيع أن نجمع بين هذه الروايات على ما بينها من الاختلاف ؟ .
أما المتخصص والعالم فإن فنه هو في كيفية الجمع العرفي بين الأخبار..لقد ألف هذا الكتاب في كل أبواب الفقه للجمع بين الروايات التي ظاهرها يوهم بالاختلاف والتعارض .

الأمر الثالث أنه لابد من الرجوع فيما اشتبه على الإنسان إلى الراسخين في العلم وأهل الذكر الذين أمر الله بالرجوع إليهم (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) وأهل الذكر بعد النبي هم أئمة أهل البيت وذلك أن قسما من القضايا لم تأت مفصلة ، وإنما جاءت كخطوط عامة وأحكام كلية ، وبقيت التفاصيل بحاجة إلى أن يبينها أهل الوحي والذكر ، فمثلا : قصر الصلاة الرباعية مع السفر و قطع المسافة متفق عليه عند جميع المسلمين ومستنده من القرآن الكريم قوله تعالى (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) بعد إلغاء خصوصية خوف الفتنة ..هذه الآية دالة قرآنا على القصر عند قطع المسافة أما خصوصيات السفر فقد وردت في السنة .فعندشيعة أهل البيت بحسب الروايات عن النبي والأئمة المسافة التي يجب معها قصر الصلاة وإفطار الصيام ما يعادل أربعة وأربعين كيلو متر امتدادية أو نصفها ذاهبا وعائدا .
وقد حدث اختلاف بالاضافة إلى مقدار المسافة في أن القصر هل هو رخصة أو عزيمة ؟ فعلى الثاني كما هو رأي الشيعة لو أتى المسافر عالما عامدا بصلاة تامة لم تقبل منه ويجب عليه إعادتها قصرا وقضاؤها قصرا أيضا إذا فات الوقت حيث لم يأت بالمأمور به وهنا يكون مثل من أتى بصلاة مقصورة في الحضر ، فـ( التمام في السفر كالقصر في الحضر ). غير الشيعة ذهبوا إلى أن القصر رخصة ، واستفادو من ظاهر القرآن ( فلا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة ) لا جناح أي لا إثم عليكم ، وربما أضيف إلى ذلك بعض الوجوه الاعتبارية مثل أن السفر ـ في السابق كان مظنة التعب والمشقة ، فجاز أن يقصر ا المسافر في صلاته ـ .
كيف نعرف أن القصر رخصة أو عزيمة ؟ إذ مثلما يوجد وجه اعتباري هناك يوجد هنا أيضا خصوصا مع معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله : أن القصر هدية الله إلى خلقه فلا ينبغي أن ترد هديته ! وكيف نعرف القول الفصل ..لابد من الرجوع إلى أهل البيت .
فعن زرارة ، ومحمد بن مسلم ، انهما قالا : قلنا لأبي جعفر عليه السلام ، ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي ؟ وكم هي ؟ فقال : ان الله عز وجل يقول : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة ) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر ، قالا قلنا : انما قال الله عز وجل : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح ) ولم يقل افعلوا فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر ، فقال عليه السلام أوليس قد قال الله عز وجل في الصفا والمروة : ( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما ) الا ترون ان الطواف بهما واجب مفروض ، لان الله عز وجل ذكره في كتابه ، وصنعه نبيه صلى الله عليه وآله وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي صلى الله عليه وآله ، وذكره الله تعالى في كتابه قالا : قلنا له : فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا ؟ قال : ان كان قد قرأت عليه آية التقصير وفسرت له ، فصلى أربعا أعاد ، وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها ، فلا إعادة عليه .
والصلاة كلها في السفر ، الفريضة ركعتان كل صلاة الا المغرب ، فإنها ثلث ، ليس فيها تقصير ، تركها رسول الله صلى الله عليه وآله في السفر والحضر ثلث ركعات ، وقد سافر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ذي خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا فقصر وافطر فصارت سنة) .
كيف قلتم في الطواف هذا حكم إلزامي وجوبي على نحو العزيمة وهنا تقولون على نحو الرخصة ..إذا فلا جناح تدل على الرخصة هناك أيضا لابد أن تقولوا إذا تدل على العزيمة في الموردين وإذا تدل على الرخصة ففي الموردين ..

ومن الأمثلة على لزوم الرجوع إلى أهل الذكر ، حل الاختلاف الظاهري بين الآيات التي تتناول الزواج المتعدد فقد سأل ابن أبي العوجاء ( وهو من الزنادقة ) هشاما بن الحكم فقال له : أليس الله حكيما ؟ قال : بلى وهو أحكم الحاكمين ، قال : فأخبرني عن قوله عز وجل : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم إلا تعدلوا فواحدة ) أليس هذا فرض ؟ قال : بلى ، قال : فأخبرني عن قوله عز وجل : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل) أي حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد الله ( عليه السلام ) فقال : يا هشام في غير وقت حج ولا عمرة ؟ قال : نعم جعلت فداك لأمر أهمني : إن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء قال : وما هي ؟ قال : فأخبره بالقصة فقال له أبو عبد الله ( عليه السلام ) : أما قوله عز وجل : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم الا تعدلوا فواحدة ) يعني في النفقة وأما قوله : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ) يعني في المودة ، قال : فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره قال : والله ما هذا من عندك ) ...جاء ابن أبي العوجاء عبد الكريم وهو أحد الزنادقة والمشككين ..هؤلاء ما كانوا يلجئون..إذا ناقشوهم ..فقط أهل البيت وأصحابهم ..إذا ناقشوا الأطراف الأخرى يقطعون رقبتهم..جاء إلى هشام ابن الحكم ..هشام ابن الحكم رجل كان من علماء أهل البيت ..ابن أبي العوجاء قال لهشام وهو من أصحاب الإمام الصادق والكاظم ..قال عندي سؤال أريدك أن تجيب عليه ..قال تفضل ..قال ألا تقرأ قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ).
وربما يقول البعض أن هذه المسألة معروفة لكن الكلام أنها متى صارت معروفة ؟ فإن هشاما بن الحكم وهو فيلسوف زمانه ، ومتكلم عصره لم يهتد إلى وجه حل الاختلاف .

لقد مثل القرآن الكريم الوضع بمثال جميل وقالل إن فيه لآيات لقوم يعقلون ، ماهو ذلك المثال " وفي الأرض قطع متجاورات " ..أراضي متجاورة ومتقاربة. وجنات من أعناب وزرع ونخيل ..صنوان وغير صنوان ( منها ما هو من أصل واحد ومنها ما هو من أصول مختلفة ) وكلها يسقى بماء واحد ولكن نفضل بعضها على بعض في الأكل ..هذه تنبت شيئا وتلك تنبت شيئا آخر ..أحيانا من نفس النوع ..هذه تعطي ثمرا شديد الحلاوة وآخر يعطي ثمر أقل حلاوة ..الأرض واحدة والماء واحد والسماد واحد والمكان واحد ولكن في الأكل متفاضلة ..

والناس أيضا هكذا فتراهم متجالسين ومتجاورين ، وكلهم يقرأ القرآن ويسقى بماء واحد ولكن ما يستفيده الإمام الصادق من القرآن شيء وما تستفيده أنت من القرآن شيء آخر ..الأئمة ما كان عندهم شيء آخر..هو نفس القرآن ولكن القرآن فيه تبيان كل شيء ..لكن لمن؟ ..ونفضل بعضها على بعضها في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون .

****************************