الدكتور جليل أبوالحب
منذ اقدم العصور والانسان يدرس الحيوانات المختلفة من حوله لا سيما تلك التي تربطه بها علاقة وثيقة يستفيد منها في نطاق اعماله أوتلحق الاذى به أوباقتصادياته.
وقد تطورت هذه الدراسة حتى أصبحت علما واسعا يسمى علم الحيوان Zoology وبالنظر لترامي أطراف هذا العلم فقد قسمه العلماء الى عدة فروع يختص كل فرع منها بدراسة جانب أوآخر من الحيوان.
فمن الفروع ما يرتبط بوظائف الاعضاء أودراسة نفسها أوبينها وبين المحيط الذى تعيش فيه .
ولعل ارسطلواليوناني من اقدم من وصلت الينا بحوثه وكتاباته في علم الحيوان . فقد قام هذا الفيلسوف العظيم بدراسة عادات الحيوانات وأنواعها وطرق تكاثرها حتى أنه ترك لنا وصفا يعد شاملا في نمووتطور جنين الدجاجة يوما بعد يوم.
ولم يكن المسلمون والعرب أ قل شأنا في دراسة عالم الحيوان من سواهم ، بل لقد ترك العلماء المسلمون والعرب كنزا ثمينا من البحوث والدراسات في هذا العلم. ولهذا فاننا بحاجة ماسة لدراسة تلك المعرفة ولتحري هذه التركة الضخمة لنقارن انتاجهم بما وصل اليه هذا العلم في الوقت الحاضر ولنميز بين الغث والسمين مما تركوه لنا منه. ومما لا ريب فيه ان هذه المخلفات العلمية للمسلمين والعرب تشمل جهدهم الاصيل وما نقلوه أوترجموه عن غيرهم من الامم الخرى. ان بعض ما ورد في كتابات العلماء المسلمين والعرب يتضمن بحوثا ونظريات تعتبر الاولى من نوعها من حيث الاصالة والكشوف في هذا العلم ، ولكنهم جركوا من هذا الشرف لعدم اطلاع العلماء والباحثين على مصادر المعرفة فيه من مصادره الاولية فضاعت عليهم كشوف المسلمين والعرب وما اهتدوا اليه أخيراً منها اعتبروه من بنات أفكارهم اوخاصا بهم ولم يعلموا أن المسلمين والعرب سبق لهم ان توصلوا الى تلك البحوث والنظريات قبلهم.
لقد ورد في آيات القرىن الكريم تنويهات شتى حول عالم الحيوان وعجائب خلقه وكيف سخرت الحيوانات للانسان يستفيد منها ويمتع نفسه بما جاء في حياتها من مضرب الامثال ومحط الحكمة من نشاطها وسعيها وتعاونها في جماعات ومن تناسلها وتكاثر ها واعادة خلقها.
ولعل أبرز ما وصل من العصر الاسلامي الاول من شذرأت لوامع وحكم جوامع ، وفكر صائبة وأوصاف ممتعة عن الحيوان هوما ورد في أقوال الامام علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) كما نص عليه كتابه «نهج البلاغة» .
وهذه اللمحات والخواطر على معلومات جد دقيقة في وصف الحيوانات التي تناولها في اقواله عليه السلام . وأن ما استشهد به عن حياتها من عبر وعظات أجاد فيه الوصف وأحسن من نعته الخطاب .
وهي وان لم تكن بحثا مكرسا في هذا العلم بذاته ، ولكنها امثلة حية في تبصر عالمها ، وفهم نظام حياتها ، بوصف معجز ، يتخذ الامام منها امثلة حية على عظمة بارئها ، ودلائل باهرة يستشهد بها لتحقيق كل امرىء من البشر انسانيته ليتميز عن البهائم وسائر المخلوقات.
ولهذا فقد جاء وصف الامام لها دقيقا خاليا من الحشو، ولم يشبه شائبة من الاساطير والخرافات التي كانت شائعة عند العرب قبل الاسلام أوعند سواهم من الاقوام .
فالمتأمل في هذه اللمع والشذرات من أقوال الامام والتي كان الغرض منها استمداد البصر والموعظة الحسنة ، وارشاد من غابت عن بصيرتهم معالم خلق الله ، تشمل على أوصاف دقيقة وردت عن اليوانات سواء في مظهرها وطرائق معيشتها أوما جاء فيها عن طراز حياتها وتكاثرها وحواسها ومواطن سكناها او طيرانها وحركتها اذ تطرق الامام في ذلك الى أمور غريبة في عصره ولم يهتد الناس الى معرفتها الا في أعصر متأخرة .
كما ان من الدلائل ما يشير الى انها من الجقة والتبصر في معلوماتها بحيث أنها لا تبعد عن جوهر العلم والحقيقة في شيء ناهيك بخلوها من الاساطير والخرافات التي كانت سائدة في أذهان البعض من أبناء عصره بالذات . حتى انه لكان عليه السلام يبجي الدهشة والاستغراب والتشك والعجب من شيوع بعض تلك المعلومات في اذهان البعض من يعيش بينهم.
يمكننا ان نصنف ونلحق ما جاء من معلومات عن الحيوان وعالمه قي أقوال الامام عليه السلام بالفروع التالية من علم الحيوان الحديث:_
اولا: علم الهيئة والتركيب الخارجي : Morphology
هذا الفرع من علم الحيوان – والنبات أيضا – يعني بدراسة الصفات ولتراكيب والاجزاء الخارجية للحيوان ودراسة تباين هذه الصفات والتراكيب واختلافها في الحيوانا المختلفة. فالامام علي «ع» يصف عيون الخفاش فيقول: «عشيت أعينها من أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها». فعيون الخفاش لا تتمكن من مواجهة نور الشمس في النهار لعدم تحسسها لضوء الشمس الشديد .
ان من المعلوم علمياً الآن أن عيون الحيوانات التي تظهر في الظلام تفتقد أوتنقصها الاجزاء المسماة باخلايا المخروطية الحسية Cone cells وهی خلايا توجد في شبكية العين وتختص بالتحسس بالضوء الشديد. ان هذه الخلايا قليلة العدد أومفقودة في الخفاش وهي الاداة الوحيدة التي يتمكن الحيوان بواسطتها من الرؤيا والنظر أثناء النهار.
ويصف الامام علي عيني الجرادة بقوله: «اذ خلق لها عينين حمراوين وأسرج لها حدقتين قمراوين» يوجد في الحشرات نوعان من آلعيون . النوع الاول هوالعيون البسيطة Ocelli ويعتقد انها لا تفيد الحيوان كثيرا ومهمتها فقط تميز الضياء من الظلام ، اي رؤية الاشبح والظل فقط.
أما النوع الثاني من العيون في الحشرات هو العيون المركبة Coinpoundeyes ويوجد منها زوج واحدة في مقدمة رأس الحشرة . وتتكون العين المركبة الواحدة من أعداد كبيرة من العوينات الصغيرة اللماعة. وتغطي العيون في الحشرات قرنية مبنية من مادة عضوية تسمى الكايتين Chitin وان سبب لمعان العيون هو أن القرنية الكاتينية هذه تعكس الاشعة التي تتساقط عليها فتظهر عندها هذه الانعكاسات بألوآن حادة بالوان قريبة من المنطقة الحمراء في الطيف الضوئي.
ثم أنه يذكر عضو السمح في الجرادة فيقول «وجعل لها السمع الخفي».
وبالفعل فان عضوالسمع في الجرادة يقع في محل مختف وبعيد عن منطقة الراس ولا يعرف محل وجوده الا آلذين يدرسون التركيب الخارجي للجرادة بدقة.
فأعضاء السمع هذه عبارة عن فتحتين ، واحدة على كل جانت من الحلقة الاولى من حلقات البطن .
والفتحة مغطاة بغشاء سمعي رقيق .
ثم يتابع الامام قوله عن الحس فيقول «وجعل لها الحس القوي» تكثير على جسم الجرادة وغيرها من الحشرات شعيرات وشويكات حسية ، وتكون هذه كثيرة جدا في المجسات (قرون الاستشعار) واللوامس الشفوية والفكية.
تقوم هذه الشعيرات والشويكات باستلام المؤثرات الخارجية لتوصلها الى اللويفات العصبية التي بدورها تنقلها الى الالياف العبية ثم الجهاز العصبي المركزي .
ويصف الامام أعضاء الجس في النملة فيقول: «ولوفكرت في مجارى أكلها ، وعلوها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الراس من عينها وأذنها ، لقضيت من ذلك عجبا» فعيون النملة لا تختلف عن عيون الجرادة اذ هي أيضا بسيطة ومركبة وتقع في مقدمة الرأس.
غير اننا أن الامام قد أضاف الى النملة وجود الاذن في الرأس .
ان من المعروف ان النملة لا تمتلك أذنا بالمعنى اللفظي الذى نعرفه نحن لهذا العضوالحسي. ولكنا لوجردنا هذا العضوالحسي من الاسم واللفظ فانه لا ينكر من أن النملة لم تعدم السمع كما أها لم تعدم البصر والشم ، فهي تبصر بواسطة على حسمها ولا سيما على محسماتها ولوامسها. لا والشويكات المنتشر على جسمها ولا سيما على مجساتها ولوامسها. لا شك ان كل واحد منا قد لاحظ يوما ما خطا من النمل في محل ما، كما أنه لاحظ بين الحين والآخر أن افراد النمل في هذا الخط تتوقف ويقابل بعضها بعضا ، وجها لوجه ، وتبدأ قرون أستشعارها بالحركة . ان هذا يدل دلاللة واضحة على تبادل هذه الافراد «الحديث والمعلومات» عن الغذاء ومحلات وجوده.
ان تبادل هذا الحديث يتم عن «التفاهم» بالتحسس.
فالنمل لم يعدم لغة التفاهم فيما بينه. وكذلك اشارة الامام الى وجود الشراسيف (وهي الضلوع) في جوف النملة. وهنا أيضا أننا نعرف أن النملة والحشرات معدومة الاضلاع. غير أن جسم الحشرات يتكون من حلقات واضحة وبارزة وكأنها الخطوط أوالضلوع حول الجسم.
أن تركيب النملة الحلقي يوحي لنا بكل وضوح بمنظر الضلاع في الجسم.
ويصف الامام على المظهر الخارجي للطاووس أدق وصف وأبدعه.
فانه يقول «ومن اعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل ، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه ، وذنب أطال مسحبه» ويستمر بهذا الوصف الرائع «تخال قصبه مدارى من فضة ، وما أنبت عليه من عجيب داراته وشموسه ، خالص العقيان وفلذ الزبرجد ، فان شبهته بما أنبتت الارض قلت جني جني من زهرة كل ربيع ، وان ضاهيته بالملابس فهوكموشي الحلل أوموفق عصب اليمن ، وان شاكلته بالحلى فهوكفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل ، يمشي مشي المرج المختال ، ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله ، وأصابيغ وشاحه، فهويصف كل بقعة من ريش الطاووس وكل مجموعة من هذا الريش. فهناك قصب الجناح وريش الذنب والقنزعة ومخرج العنق . وهويلاحظ ان لون شعيرات الريش يتغير بين لحظة واخرى «واذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية وتارة خضرة زبردجية وأحيانا صفرة عسجدية» فالريش الكبير في الجناح يتكون من قصبة وشعيرات جانبية مختلفة الالوان ، اذا نظرت اليها تبدلت الوانها ، فهي حمراء مرة وخضراء أخرى وصفراء أحيانا.
ان هذا التغير في ألوان شعيرات الريش يحدث بسبب اختلاف أطوال موجات ألوان الضوء، يتبدل اللون بالنسبة للرائي بين لحظة واخرى تبعا للزاوية التي ينظر منها الناظر الى الطير وكذلك تبعا لتفاوت انعكاس موجات ألوان الضوء الابيض.
ثم ينتقل الامام من وصف ريش الطاووس الى وصف ساقيه المغطاتين بالحراشف القبيحة المنظر على عكس جمال الريش. طبعا فالحراشف خالية من اللون بل انها غبراء داكنة، أن الطاووس نفسه يخجل عندما ينظر الى ساقيه القبيحتين فيقلل عند ذلك من غروره وخيلائه «فاذا رمى ببصره الى قوائمه ، زق معولا يكاد بصوت يبين عن أستغاثته ، ويشهد بصادق توجهه لان قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية» ولا يفوته أيضا أن ينوه عن وجود أصبع صغيرة في نهاية الساق متجهة الى الخلف فيقول «وقد نجمت عن ظنبوب ساقه صيصية خفية».
ويذكر الامام فم الجرادة وأجزاءه اذ يقول «وفتح لها الفم السوى، وجعل لها الحس القوى ، ونابين بهما تقرض، ومنجلين بهما تقبض» فالفم في الجرادة عبارة عن شق في مقدمة الرأس يحيط به وعلى جانبيه فكان قويان سوداوان، مسننا الحافة ، تستعمل الجرادة هذين الفكين للقضم والقطع فهما بمثابة نابين.
وبالاضافة الى ذلك توجد هنالك فكوك مساعدة أخرى حول الفم تكثر عليها وعلى لوامسها الشعيرات الشمية والذوقية والتي تستعملها الحشرات للشم والذوق .
وقد عبر الامام عن ذلك بالحس القوى. ويشبه الامام رجلي الجرادة الخلفيتين بالمنجلين .
ما أصدق هذا التشبيه وما أجمله. فالرجل الخليفة في الجرادة طويلة قوية سميكة القاعدة ، مستدقة النهاية ومعقوفة.
كما أن حافة القسم المستدق من الرجل هذه مسننة مما يجعلها تشبه المنجل تماما .
أن الجرادة لا تستعمل الارجل الخليفة للمسك والقبض الا اللهم ما ندر.
فهي تقبض على غذائها بواسطة أرجلها الامامية والفكوك المساعدة وتقرض الطعام بالفكين القوين.
والامام يقارن بين أجنحة الخفاش والطيور.
فجناح الخفاش جلد رقيق يصل بين أصابع الايدي والجسم وهذا الجلد مكسو بالشعر الذي يشبه تماما شعر الحيوانات اللبونة.
ثم ان جناح الخفاش خال من الريش وقصب الجناح، ولكن عظام اليد والسلاميات المحورة لا تزال واضحة ويسميها الامام بالعروق.
أما جناح الطير فعبارة عن الايدي والاصابع المحورة والمكيفة. ثم يغطي الجناح ريش مختلف الالوان والحجوم .
فهناك قصب الجناح والخوافي والقوادم والريش الناعم والخشن.
فالامام يصف جناح الخفاش بقوله «جعل له أجنحة من لحمها ، تعرج بها عند الحاجة الى الطيران كأنها شظايا الاذان غير ذوات ريش ولا قصب ، الا أنك ترة مواضع العروق بينة اعلاما لها جناحان ولم يرقا فينشقا ولم يغلظا فيثقلا».
كل هذه الملاحظات التي ذك ناها أعلاه تدور حول علم الهيئة والتركيب الخارجي في علم الحيوان . فانها شملت وصف الحواس وأجزاء الفم والاطراف والاجنحة واللون والريش . وهي بعينها ما نعني نحن بدرسه وتدريسه الان في العصر الحديث مع الاضافات الاخرى.
ثانيا: التاريخ الطبيعي Natural history
وهذا الفرع من علم الحيوان يعني بدراسة طراز معيشة الحيوانات ومحلات وجودها وسكناها وتزاوجها وتغذيتها وطابعها وعادتها وأوقات نشاطها وفعالياتها.
ويوجد في أقوال الامام علي عليه السلام الكثير من هذه الامور الصحيحة والمطابقة لما نعرفه الآن والتي يعنى بها كثيرا مدرسوعلوم الحياة في العصر الحديث .
فالخفاش يختبىء نهارا في المحلات المظلمة مثل الكهوف والمغارات في النهار وتخلد الى الركود في الليل . لا يكاد أن يختط الظلام وتغيب الشمس الا وتخرج الخفافيش من مخابئها طلبا للرزق . ويطير الخفاش وصغاره لاصقة به ، لانه من الحيوانات اللبونة التي تلد صغارها ولادة وتغذيها لبنها ، فتبقي صغاره ملازمة له دائما حتى تكمل نموها وتستقل بنفسها .
والامام علي يقول «ومن لطائف صنعنه ، وعجائب حكمته ، ما رأينا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء.ويبسطها الظلام القابض لكل حي»... وبعد قليل من ذلك نراه يقول «تطير وولدها لاصق بها، لاجىء اليها ، يقع اذا وقعت ، ويرتفع اذا ارتفعت لا يفارقها حتى تشتد أركانه ، ويحمله للنهوض جناحه ، ويعرف مذاهب عيشمه ومصالح نفسه.
وهذه ذكور الطاووس تزهووتختال بألوان ريشها ، تنجذب اليها الناث. والعلم الحديث يخبرنا أن كثيرا من الحيوانات يدل فيها جنس الذكر عن نفسه باللون أوالصوت .
فالطيور تزدان ذكورها غالبا بالالوان الجذابة أوتطلق الاغاريد الشجية لكي تتوله الاناث بها وتميل نحوها. والامام يقول واصفا ذكر الطاووس «بجناح أشرج قصبه ، وذنب اطال مسحبه اذا درج الى الانثى نشره من طيه ، وسما به مظلا على رأسه، كأنه قلع دارى، عنجه نوتيه، يختال بالوانه، ويميس بزيقانه» والامام يصف طريقة التزاوج في الطيور اذ هوقد لاحظ بنفسه كيفية تسافد ذكر الطاووس مع أنثاه ولم ينقله عن غيره من الرواة.
وعنده أن هذه العملية هي الطريقة الطبيعية الوحيدة للتزاوج والتناسل. فهولا يجيز أبدا حدوث عملية تزاوج بغير التسافد . وهو يعجب كيف يصدق الناس ما كان معروفا ومتداولا بحينه من أن اناث الغراب تلقح بأخذها دمعة من جفن الذكر – أي عن طريقة المطاعمة..
فالامام يقول في وصف تزاوج الطاووس «يفضي (أي الذكر) كأفضاء الديكة، ويؤر بملاقحة أر الفحول المغتلمة للضراب ، أحيلك من ذلك على معاينة لا كمن يحيل على ضعيف أسناده ، ولوكان كزعم من يزعم انه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه ، فتقف في جفونه، وان انثاه تطعم ذلك ثم تبيض لا من لقاح سوى الدمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب».
ثم نراه يصف لنا عملية نسل الريش القديم في الطيور فيقول واصفاً الظاهرة هي في الطاووس «وقد ينحسر ريشه ، ويعرى من لباسه ، فيسقط تترى ، وينبت تباعا ، فينحت من قصبه انحات أوراق الاغصان ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه: لا يخالف سالف الوانه ، ولا يقع لون في غير مكانه وعملية نسل الريش Molting ظاهرة معروفة ليست بين الطيور فقط بل ان الكثير من الحيوانات الاخرى تستبدل الطبقة العليا من جلدها بين الحين والآخر. يحدث ذلك في الحيات والضفادع والحشرات .
فالريش يسقط من الطيور ثم يعود فينبت غيره تارة أخرى ويصبح كهيئته قبل سقوط الريش القديم وبلونه وحجمه وبنفس محلات غرسه.
والامام يتكلم عن الحياة الاجتماعية المعقدة التي يحياها النمل بجمل موجزة ولكنها تتضمن كثيرا من المعلومات التي عرفها العلم حديثا عن حياة النمل الاجتماعية .
فالنملة من الحشرات الاجتماعية وهذه الحيوانات تعيش بشكل جماعات .
وهي تجمع غذائها بالصيف لوقت حاجتها في الشتاء. وذلك لانها لا تتمكن من الخروج في الشتاء القارس لتفتش عن الغذاء فتجمع ايام الحر غذائها لكي تعيش عليه ايام البرد . وتتعاون طبقة العمال في بناء المستعمرة وجلب الغذاء من مصادره وتقوم بتربية الصغار وتسهر على خدمة الملكة التي تنتج البيوض . اذا ما وصل الطعام الى المستعمرة ، يستمله العمال في المستعمرة فيضعونه في محلات معينة أمينة .
ففي الصيف يوضع الطعام في مخادع ومخازن عميقة وبعيدة عن سطح الارض وشمسها المحرقة .
وفي الشتاء ينقل الغذاء الى مخادع اقرب الى سطح الارض وشمسها الدافئة. وبعد أوقات المطر يخرج العمال بهذا الغذاء المخزون الى سطح الارض بالقرب من المستعمرة لعرضه ونثره تحت الشمس والهواء لكي يجف حفظا عليه من التعفن .
والمستعمرة التي تبنى في الصخر أوالحجر لا تعدم الغذاء لان العمال من النمل تتمكن بحسها ومعرفتها من اكتشاف مصادر الغذاء وجلبه الى المستعمرة بدون أن تضيع في الطريق أوتفشل في مسعاها. فالامام يصف هذه الحياة حير وصف وأوجزة « انظروا الى النملة ، في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر. كيف دبت على ارضها ، وصبت على رزقها ، تنقل الحبة الى حجرها ، وتعدها في مستقرها، تجمع في حرها وبردها ، وفي ورودها لصدرها ، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنان ويا يحمرها الديان ولوفي الصفا اليابس، والحجر الجامس».
ويتطرق الاما الى الطيور فيصنف طيرانها ، فهي تخفق بجناحها أوتبسطها عند الطيران واما تصعد عاليا في السماء أوتبقي قريبة من الارض. ويصف محلات بناء عششها، فمنها ما يبنى العشش في اخاديد الارض وشقوقها أوفي اعالي الجبال والاشجار. ثم ينوه عن طريقة حصولها على الغذاء فمنها ما تفتش عنه على اليابسة ومنها ما يخوض الماء بحثا عنه .
ثم أن الطيور تأخذ الوانا متعددة ان تكون بلون واحد ، وقد يملح الامام بذلك الى محاكاة الحيوانات محيطها في اللون لكي يغفلها اعداؤها كل هذه الامور يتطرق لها الامام بأسلوب أدبي معجز «وما ذرا من مختلف صور الطيور التي اسكنها اخاديد الارض ، وخروق فجاجها ، وراسي اعلامها، من ذات اجنحة مختلفة وهيئات متباينة ، ومصرفة في زمام التسخير ، ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجوالمنفسح والفضاء المنفرج ، كونها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة ، وركبها في حقاق مفاصل محتجبة ، ومنع بعضها بعبالة خلقه ان يسموفي السماء حقوقا ، وجعله يدف دقيقا ، ونسقها على اختلاف في الاصابيغ ، بلطف قدرته ودقيق صنعته ، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه ، ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ فيه» وفي محل آخر يعطينا المزيد من هذه الاوصاف البدعية «فالطير مسخرة لامره ، احصى عدد الريش منها والنفس ، وارسى قوائمها على الندى واليبس ، وقدر اقواتها ، واحصى اجناسها».
ثالثا – الاهمية الاقتصادية:
ان من اولى متوجبات دراسة الحيوانات المختلفة وعوالمها هي معرفة اهميتها الاقتصادية سواء أكانت الاهمية هذه مفيدة أومضرة.
فكثير من الحيوانات تفيدنا بما تنتجه لنا من مواد غذائية أوباستعمالها باعمالنا اليومية أوبالاستفادة من منتجاتها ولحومها للملبس والماكل. كما ان هناك الكثير من الحيوانات التي تلحث الضرر باقتصادياتنا وصحتنا لا سيما الحشرات الضارة التي تهاجم مزارعنا وتتلف محصولاتها وتسبب الدمار والخراب للفلاح الذى يقف مكتوف اليدين امام مصائبها . وبالرغم من تقدمنا في العلوم واستعمالنا المواد المبيدة للحشرات ، فاننا لا نزال جدا بعيدين عن الوصول الى التخلص من ضررها .
وها هو الامام يحدثنا عن الجرادة وضررها. ويعطينا الامام الاهمية الزراعية والاقتصادية بطيرقة فذة وذلك بوصف حالة الفلاحين والزراع عندما يهجم الجراد على مزارعهم فيتلف الحرث والنسل ويحيق بالزراعة البوار. فالزراع يرهبونها في زرعهم ولكنهم لا يستطيعون ذبها ولواجلبوا عليها بجمعهم بالرغم من حقارة وصغر جسمها . فهوعليه السلام يثول واصفا ذلك «يرهبها (اى الجرادة) الزراغ في زرعهم ، ولا يستطيعوون ذبها ولوا اجلبوا عليها بجمعهم ، حتى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كله لا يكونه اصبعا مستدقة».
رابعا: التسمية والتصنيف:
حاول الانسان منذ القدم ان يصنف الحيوانات الى مجاميع متشابهة بالشكل أو بالمعيشة.
وكان ارسطومن الاوائل الذين فعلوا ذلك. وقد وضع الانسان اسماء معينة لكل من الحيوانات. بقيت طرق التسمية والتصنيف مختلفة وبدائية وغير طبيعية حتى جاء لينيوس Linnaeus السويدي في العصر الحديث ليضع لنا أسس علمي التسمية والتصنيف في الكائنات الحية .
والذي يطالع أقوال الامام عن الطيور يجد أنه صنف الطيور ونوه عن وجود مختلف الاجناس والانواع والصور منها . وكان هذا التصنيف يعتمد على بيئة الطيور أوعلى تراكيب أوجنحتها وهيئتها وريشها . ثم أنه ذكر البعض منها واعطائها اسماءأ مثل الغراب والعقاب والحمام والنعام والطاووس .
فانظره يقول «والطير مسخرة لامره ، احصى عدد الريش منها والنفس وأرسى قوائمها على الندى واليبس، وقدر اقواتها واحصى اجناسها. فهذا غراب ، وهذا عقاب، وهذا حمام وهذا نعام ، دعى كل طائر باسمه ، وكفل له رزقه» .
نستنتج من دراستنا لاقوال الامام عن الحيوانات ان الامام عليه السلام لم يخرج عن العلم الصحيح وجوهره في أقواله التي ضمنها خطبه. وقد ترك لنا مادة ممتازة. خالية من شوائب الخرافات والاساطير والاباطيل. ولكن وجدناه في ثلاثة محال فقط لا ينطبق ما قانه مع ما نعرفه اليوم عن الحيوان.
كان ذلك بالنسبة لوجود الاذان والضلوع في النملة وبالنسبة لاستعمال الارجل الخلفية للقبض في الجرادة . وحتى في هذه المحال وجدنا مجالا كثيرا للتقارب بين ما قاله الامام وبين العلم الحديث اذا نحن ابتعدنا عن حرفية اللفظات لهذه الاعضاء.
فالامام قدم لنا دراسة صحيحة في علم الحيوان قبل ما يقارب الاربعة عشر قرنا ولم تقل هذه الدراسات في اهميتها العلمية عن دراساتنا في الوقت الحاضر . فانه لم يدع اللامعقوليات تملأ حديثه عن الحيوان.
ولقد امتلأت الكتب التي كتبها المتأخرون كثيرا عن عصره بأنباء غير معقولة وغير علمية عن الحيوانات.