السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني
نهج البلاغة كتاب عربي اشتهر في مملكة الأدب الأممي اشتهار الشمس في الظهيرة، وهوصدف لاّلِ[١] من الحكم النفيسة ضم بين دفيته ٢٤٢ خطبة ورسالة و٤٩٨ كلمة من يواقيت الحكمة وجوامع الكلم لإمام الكل في الكل[٢] امير المؤمنين عليه السلام وذلك المختار من لفظه الحرّ وكلماته الغرّ وماجدت به يراعته الدفاقة من لؤلؤ رطب ودرّنضيد كما شهد به الصحافي الشهيرامين نخلة[٣] من افاضل المسيحين مخاطباً من رجاه انتخاب (المائة) من كلمات الإمام عليه السلام إذ قال:
(سالتني أن انتقي مائة كلمة من كلمات ابلغ العرب – أبي الحسن – تخرجها في كتاب، وليس بين يدي الآن من كتب الأدب التي يرجع إليها في مثل هذا الغرض إلا طائفة قليلة منها إنجيل البلاغة (النهج) فرحت اسرح أصبعي فيه ووالله لا اعرف كيف اصطفي لك المائة من مئات بل الكلمة من كلمات إلا إذا سلخت الياقوتة عن أختها الياقوتة , ولقد فعلت ويدي تتقلب على اليواقيت، وعيني تغوص في اللمعان، فما حسبتني أخرج من معدن البلاغة بكلمة لفرط ما تحيرت في التحير، فخذ هذه (المائة) وتذكر انها لَمحَات من نُوْرٍ[٤] وزهراتٌ مِنْ نَوْرٍ[٥] ففي نهج البلاغة من نعم الله على العربية وأهلها أكثر بكثير من مائة كلمة ) الخ.
يصف هذا الكتاب وغيره كَلِمَ الإمام عليه السلام بالدر والياقوت والجوهر وَأَنَّى لهذه الأحجارالغالية مزايا الحكمة العالية، ومن أين لها أن تهدي الحيارى في سبيل الحياة ومسالكها الشائكة ومن اين لها الوساطة بين الجهل والعلم وربط الإنسان بعالم اللاهوت أوأن تكشف للبصائر أسرار الملكوت عدا ما لهذه الكلم من إطراب القلوب فإنَّ لسامعي هذه الخطب والكلم اهتزازَ وَجْدٍ وتَماُيلَ طَرَبٍ محسوسَين، وذلك برهانان لتفوّق الغناء الروحي على نغمات قيثارة مادية، بلى إنَّ النغمات الموسيقية وأغانيها تتلاشى وتبيد بمرورالزمن ورنَّة النغم من كلم الإمام خالدة الأثرعميقة التأثير.
ومن شاء أن يعرف أن يعرف أن الحروف كيف تطرب، وأن الكلمة كيف تجذب، وان الكلام كيف يكهرب، فيقرأ نهج البلاغة وهذه الجمل امثولة منه إذ يقول في وصف الجنة بعد وصف الطاووس عجيب خلقته:
(( فلورميت ببصر قلبك نحوما يوصف لك منها لغرقت نفسك من بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذاتها وزخارف مناظرها ولذهلت بالفكر في اصطفاق اشجارغيبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها وفي تعليق كبائس اللؤلوالرطب في عساليجها وأفنانها وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها تجني من غير تكلف فتأتي على مُنية مجتنيها ويطاف على نزالها في أفنية من قصورها بالاعسال المصفقة والخمور المروقة )) الخ.
ولقد حاورني ببغداد سنة ١٣٢٨ هـ رئيس كتاب القنصلية البريطانية (نرسيساس) من فضلاء الأرمن زاعماً تفوّق نهج البلاغة على كل كلام عربي لكثرة ما فيه من السهل الممتنع الذي لا يوجد في سواه وانقياد الأسجاع الصعاب فيه بلا تكلف واستشهد بقوله: (( ام هذا الذي خلق في ظلمات الأرحام وسجف الأستارنطفة دهاقاً وعلقة محاقاً فجنينا وراضعاً ووليداً ويافعاً ثم منحه بصراً لاحظاً ولساناً لافظاً وقلباً حافظاً )) الخ.
معجباً بحسن التسجيع وكيف يجري الروي كالماء السلسال على لسان الإمام عليه السلام (ثم قال ) ولوكان يرقى هذا الخطيب العظيم منبر الكوفة في عصرنا هذا لرايتم مسجدها على سعته يتموج بقبعات الافرنج للاستقاء من بحر علمه الزاخر[٦].
ولقد أحسن الوصف أستاذ الفن ( حسن نائل المرصفي )[٧] مدرس البيان بكلية الفريرالكبرى بمصر في مقدمة الشرح على نهج البلاغة فجمع بإيجازأطراف حول عبقرية الإمام مزاياه العالية وشرح ماهية كلامه في نهج البلاغة ملخصاً فيما يأتي قال:
(( بهذه الخصال الثلاث - يعني جمال الحضارة الجديدة وجمال البداوة القديمة وبشاشة القرآن الكريم - امتاز الخلفاء الراشدون، ولقد كان المجلي في هذه الحلبة علي صلوات الله عليه، وما أحسبني أحتاج في إثبات هذا إلى دليل أكثرمن نهج البلاغة، ذلك الكتاب الذي أقامه الله حجة واضحة على أن علياً رضي الله عنه قد كان أحسن مثال حي لنورالقرآن وحكمته وعلمه وهدايته وإعجازه وفصاحته.
اجتمع لعلي عليه السلام في هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء وافذاذ الفلاسفة ونوابغ الربانيين من آيات الحكمة السامية وقواعد السياسة المستقيمة ومن كل موعظة باهرة وحجة بالغة تشهد له بالفعل وحسن الأثر.
خاض عليٌ في هذا الكتاب لجة العلم والسياسة والدين فكان في كل هذه المسائل نابغة مبرزاَ ولئن سالت عن مكان كتابه من الأدب بعد ان عرفت مكانه من العالم فليس في وسع الكاتب المسترسل والخطيب المصقع والشاعرالمفلق أن يبلغ الغاية في وصفه والنهاية من تقريظه وحسبنا أن نقول: أنه الملتقى الفذ الذي التقى فيه جمال الحضارة وجزالة البداوة والمنزل الفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها منزلاً تطمئن فيه وتأوى إليه بعد أن زلت بها المنازل في كل لغة )) الخ.
وكم مثل هذا في الواصفين لنهج البلاغة من حكموا بتفوقه على كتب الإنشاء ومنشآت البلغاء، واعترفوا ببلوغه حدّ الإعجاز وأنه فوق كلام المخلوقين ودون كلام الخالق المتعال وأعجبوا به أقصى الإعجاب وشهدت ألسنتهم بدهشة عقولهم من عظمة اضاء سنا برقها من ثنايا الخطب ومزايا الجمل، وليس إعجاب الأدباء بانسجام لفظه وحده ولا دهشة العلماء من تفوق معانيه البليغة حدّ الإعجازفقط وإنما الإعجاب كله والدهشة كلها في تنوع المناحي في هذه الخطب والكلم واختلاف المرامي والأغراض فيها، فمن وعظ ونصح وزهد وزجرإلى تنبيه حربي واستنهاض للجهاد إلى تعليم فني ودروس ضافية في هيئة الأفلاك وأبواب النجوم وخالقه وتفنن في المعارف الإلهية وترسل في التوحيد وصفة المبدأ والمعاد إلى توسع في أصول الإدارة وسياسة المدن والأمم إلى تثقيف النفوس بالفضائل وقواعد الاجتماع وآداب المعاشرة ومكارم الأخلاق إلى وصف شعري لظواهر الحياة وغير ذلك من شتى المناحي المتجلية في نهج البلاغة بأرقى المظاهر!
والإمام نراه الإمام في كل ضرب من ضروب الاتجاه، وعبقرية الإمام ظاهرة التفوق على الجميع، بينما نرى أفذاذ الرجل يجدون في أَوْجُهِ الكمال فلا يبلغونه الإ من الوجه الواحد..
وقد وصف العلامة مفتي الديار المصرية ومصلحها الشيخ محمد عبده[٨] في مقدمة شرحه إعجابه باختلاف المناحي العالمية لنهج البلاغة بعد تدبر وتصفح للكتاب , فقال:
(يخيل لي أن حروباً شَبَّتْ وغارات شُنَّتْ وأن للبلاغة دولة وللفصاحة وصولة وأن للأوهام عرامة وللريب دعارة وأن جحافل الخطابة وكتائب الذرابة في عقودالنظام وصفوف الانتظام تنافع بالصفيح الابلج والقويم الأملح وتتملج المهج برواضح الحجج فتقل دعارة الوسواس وتصيب مقاتل الخوائس فما أنا إلا والحق منتصروالباطل منكسر ورمج الشك في خمود وهرج الريب في ركود، وان مدبرتلك الدولوباسل تلك الصولة هوحامل لوائها الغالب أميرالمؤمنين علي ابن ابيطالب عليه السلام: بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحسس بتغييرالمشاهد وتحول المعاهد، فتارة كنت أجدني في عالم يعمره من المعاني أرواح عالية في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية وتدئومن القلوب الضافية، توحي إليها رشادها وتقوم منها مرادها وتنفربها عن مداحض المزال إلى جواد الفضل والكمال، وطوراً كانت تكشف إلى الجمل عن وجود باسرة وأنياب كاشرة وأرواح في اشباح النمورومخالب النسور قد تحفزت للوثاب ثم انقضت للاختلاب فخبلت القلوب عن هواها وأخذت الخواطردون مرماها واغتالت فاسد الأهواء وباطل الآراء.
وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً فصل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني فخلعهُ عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى ونما به إلى مشهد النورالأجلى وسكن به إلى عمار جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التلبيس، وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة واولياء أمر الأمة يعرّفهم مواقع الصواب ويبصّرهم مواضع الارتياب ويحذرهم مزالق الاضطراب ويرشدهم إلى دقائق السياسة ويهديهم طرق الكياسة ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة ويصعدهم شرف التدبير ويشرف بهم على حسن المصير، ذلك الكتاب الجليل هوجملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجه، جمع مُتفَرَّقَهُ وسماه بهذا الاسم – نهج البلاغة - لا اعلم أسماً اليق بالدلالة على معناه منه.
وليس في سعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلّ عليه اسمه ولا أن آتي بشيء في بيان مرتبته فوق ما آتي به صاحب الاختیار کما ستراه في مقدمة الكتاب، ولولا أن غرائزالجبلة وقواضي الذمة تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه وشكرالمحسن على إحسانه لما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج البلاغة من فنون الفصاحة وما خص به من وجوه البلاغة، خصوصاً وهولم يترك غرضاً من أغراض الكلام إلا أصابه ولم يدع للفكرممراً إلا جابه[٩].
أقول: فكم يعود الأسف بليغاً إذا نبذنا مثل هذا الكتاب وَراءَنا ظهِرْياً وحرمنا النَّشْأ من فنون بيانه وتركناه صفر الكف من شذورعِقيانِه،عكس ما لوتثقف بدراسته دراسة تفقه واستحضار وَتَدَبُّر واستظهار فندخر بهذا ومثله لأفلاذ أكبادنا كنزاً من الحكمة أوجنَّة باقية وجُنَّةً واقية تقيهم في مزالق الإنشاء وتملكهم مقاليد البلاغة في البيان.
والبيان من أهم عوامل الحياة ولِمَ لا نصغي لِنِداء مرشدنا الروحي الذي يخاطبنا من صميم ضميرالحر بداعية الهداية، وماهو- لوأنصفناه - الإ أستاذ الكل في الكل يلقن العالم نتائج المعارف العالية ويلقي دروسه على صفوف من اقصى الشرق إلى الغرب بلهجة من لغة الضاد رقت وراقت فلا يوجد أجمل منها حسناً وبهاء.
أما بعد: فهذه رسالة مختصرة كتبتها في جواب أولئك المُهَرَّجين الذين لا يهمهم إلا تشويه الحقائق وصرفها عن وجوها الواقعة - ولوكان ذلك غير ممكن - يحلولهؤلاء أن يزيفوا كل كلام يدعوإلى خير البشرية والتقدم الإنساني ولكن هيهات أن يتوصلوا إلى ما يرومون أويجدوا ما يحبون.
إن هذا المجهود المتواضع ليس إلا رداً على تلك الشكوك والتقولات التي حامت حول كتاب نهج البلاغة ولا أعلم مدى توفيقي فيما أردت.
بغداد | |
١٣٨٠ هـ ١٩٦١ م | |
هبة الدين الحسيني |