السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني
الناقلون للخطبة الشقشقية قبل الرضي
سبقت منا الإشارة إلى أن الخطبة الشقشقية ليست وليدة عصر الشريف الرضي ولا هي مختصة بمجموعة (نهج البلاغة)، وكان في ايراد هذه الخطبة عن كتابَي نثر الدرر ونزهة الأديب بصورة تختلف بعض الاختلاف عما في النهج، وكذا اختلاف نسخة المفيد عنه دلالة على انفراد كل منهم بمصدر خاص به وأن أحدهم لم يطلع على ما رواه الآخر.
وفي قول الرضي في صدر الخطبة: (ومن خطبة له عليه السلام المعروفة بالشقشقية )، دلالة أخرى على كونها مشهورة بين أهل العلم.
وأقوى برهان على صحة ما أدعيناه ورود هذه الخطبة بخطوط أقدم من عصرالرضي وروايتها عن شيوخ وجدوا من قبل أن يخلق الرضي وقبل أن يخلق أبوه كأبي علي الجبائي[١] المتوفى سنة ٣٠٣ هـ حسبما نقل عنه الشيخ إبراهيم القطيفي[٢] في كتابه الفرقة الناجية قال: (وقد روى الخطبة الشقشقية جماعة قبل الرضي كابن عبد ربه[٣] في الجزء الرابع من العقد[٤] وأبي علي الجبائي في كتابه وابن الخشاب[٥] في درسه والحسن بن عبدالله بن سعيد العسكري[٦] في كتاب المواعظ والزواجر والصدوق في معاني الآخبار والشیخ المفید.
أقول: وابن عبد ربه هذا هوالمتوفى سنة ٣٢٧ هـ وهوعثماني لأن له أرجوزة في تواريخ عَدَّ معاوية فيها رابع الخلفاء الراشدين ولم يذكرعلياً من شدة نصبه، فهل بعد روايته للشقشقية عن علي عليه السلام يشك فيها منصف ! وقد صرح فيلسوف المؤرخين ابن أبي الحديد[٧] في آخرشرحه للشقشقية ص ٦٩ ج ١ قال:
(حدثني أبوالخير مُصَدّقُ بْن شَبيْب سنة ٦٠٣ هـ قال قرات على الشيخ أبي عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة... إلى أن قال: فقلت له: اتقول أنها منحولة ؟ فقال: لا والله وإني أعلم أنها كلامه عليه السلام، كما اعلم أنك مصدق. قال: فقلت: له أن كثيراً من الناس يقولون أنها من كلام الرضي ؟ فقال: أنيَّ للرضي ولغيرالرضي هذا النفس وهذا الأسلوب ؟ قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة أعرفها وأعرف خطوط من هي من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أوأبوأحمد والد الرضي. قال أبن أبي الحديد: قلت ووجدت انا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي[٨] إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة. ووجدت أيضاً كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة[٩] أحد متكلمي الإمامية وهوالكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف: وكان أبوجعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي موجوداً[١٠] انتهى كلامه.
أقول: وقال مدرس دارالعلوم المصرية أحمد صفوة المؤرخين[١١] في كتاب علي عليه السلام ص ١١٣٥ س ٩: ( من ذلك يتبين لك أن الشقشقية كانت معروفة قبل مولد الرضي من أكثر من طريق فلا تبعه إذن عليه ولا سبيل إلى اتهامه بانتحاله ).
وقال أستاذ الحكماء ميثم بن علي بن ميثم البحراني[١٢] المتوفى سنة ٦٧٩ هـ أنه رأى الخطبة الشقشقية في كتاب الإنصاف لأبي جعفر بن قبة من أبناء القرن الثالث كما أنه رآها في نسخة عليها خط أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات[١٣] وزير المقتدر بالله العباسي[١٤] وذلك قبل مولد الرضي بنيف وستين سنة.
أقول: وممن نقل الشقشقية في كتابه قبل عصرالرضي أحمد بن محمد البرقي المتوفى ٢٧٤ هـ صاحب المؤلفات الوافرة، وقد نقل عنه الصدوق في كتاب علل الشرائع في الباب ١٢٢ مسنداً عن محمد بن علي ماجيلوية عن محمد بن القاسم عن احمد بن أبي عبدالله البرقي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: والله لقد تقصمها ابن أبي قحافة... الخ.
وممن نقل الخطبة الشقشقية قبل الرضي هوعبد العزيز بن يحيى الجلودي من شيوخ المائة الثالثة ومن الجامعين لخطب أميرالمؤمنين عليه السلام، وقد روى عنه الصدوق[١٥] المتوفى سنة ٣٨١ هـ في كتاب معاني الأخبار في الباب ٤٠٤ قال:حدثنا محمد بن إبراهيم بن اسحاق الطالقاني قال:حدثنا عبد العزيز بن يحيى الجلودي قال:حدثنا أبوعبدالله أحمد بن عمر بن خالد قال:حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمائي قال:حدثني عيسى بن راشد عن علي بن خزيمة عن عكرمة عن أبن عباس قال: ذكرت الخلافة عند أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: والله لقد تقمصها أخوتيم وهويعلم... الخ.
ولقد ذكرنا هذه الخطبة على الوجه الذي رواه الجلودي كما رأيناها في معاني الأخبار ضمن الجداول الخمسة وهي تختلف عن رواية البرقي لها قليلاً كما انهما تختلفان مع التي رواها المفيد وغيره اختلافاً يسيراً ولم يذكر القاءها في الرحبة أحد غير المفيد، وينشأ مثل هذا الاختلاف غالباً في النقل بسبب خيانة القوة الحافظة من الرواة أوالتباس الحروف في الكتابة على النُسّاخ.
وممن روى الشقشقية قبل الشريف الرضي هوالحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري المتوفى سنة ٣٩٥ هـ حسبما نقل عنه ابن بابويه في معاني الأخبار باب ٤٠٤، ونقل عنه تفسيراً لكلمات هذه الخطبة وهذا من الجامعين لخطب أميرالمؤمنين عليه السلام.
والخلاصة من تعداد أسماء الناقلين للشقشقية قبل الشريف الرضي حسبما تتبعناهم تسعة:
١. شيخ المعتزلة أبوالقاسم البلخي المتوفى سنة ٣١٧ هـ حسبما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١ ص ٦٩ ط مصر من أبناء المائة الثالثة.
٢. الشيخ أبوجعفر بن قبة من أبناء المائة الثالثة في كتاب الإنصاف برواية ابن أبي الحديد والشيخ ابن ميثم البحراني في شرحيهما على الشقشقية.
٣. نسخة الخطية الشقشقية قديمة الخط عليها كتابة الوزير أبي الحسن علي بن الفرات المتوفى سنة ٣١٢ هـ حسبما رواه شيخ المتكلمين ابن ميثم البحراني في شرحه.
٤. احمد بن محمد البرقي المتوفى سنة٢٧٤هـ مصنف كتاب المحاسن حسبما روى عنه الشيخ الصدوق محمد بن بابويه في كتاب علل الشرايع في الباب الثاني والعشرون بعد المائة وقد طبع هذا الكتاب سنة ١٢٨٩ هـ.
٥. شيخ المؤرخين عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري من أبناء القرن الثالث حسبما رواه عنه ابن بابويه في الباب ٤٠٤ من كتاب ( معاني الأخبار) المطبوع سنة ١٢٨٩ هـ.
٦. شيخ المحدثين الحسن بن عبد الله بن سعيد[١٦] العسكري من أبناء القرن الثالث في كتاب المواعظ والزواجر حسبما روى عنه القطيفي في كتاب الفرقة الناجية، وروى عنه الصدوق ابن بابويه شرح الخطبة في معاني الأخبار باب ٤٠٤.
٧. شيخ المتكلمين ببغداد أبوعبدالله محمد بن محمد بن النعمان المفيد من شيوخ الشريف الرضي في كتابه الإرشاد ص ١٣٥.
٨. الوزير الآبي أبوسعيد منصور من أبناء القرن الرابع في كتابه نثر الدرر.
٩.عبد الجبار[١٧] قاضي القضاة وشيخ معتزلة بغداد المعاصر للشريف الرضي فإنه أَوَّلَ عبارات هذه الخطبة دون أن يطعن في صدورها.
١٠.شيخ المعتزلة محمد بن عبد الوهاب أبوعلي الجبائي المتوفى سنة ٣٠٣ هـ حسبما رواه عنه الشيخ إبراهيم القطيفي في كتابه الفرقة الناجية وقد سَقَطَ اسْمُهُ وما يتعلَّقُ بهِ من السلام البالغ نحوسَطْرَيْن من المطبع من هذا الكتاب وأَثْبَتْناهُ اعْتِماداً على النَسخة الخطّية الموجودة في مكتبة الجوادين عليهما السلام في الكاظمية.
الدفاع عن الشقشقية
وقفت أيها الناظرعلى جملة من مشاهيرأهل العلم الذين أوردوا في كتبهم الخطبة الشقشقية مروية عن الإمام عليه السلام ممن وجدوا قبل أن يوجد الشريف الرضي،وسوف تقف على جملة أخرى من ثِقاتِ أهل الأثر وزعماء الفرق الإسلامية واعتمد على هؤلاء وامثالهم من تأخر عنهم.
فقد حكي عن نهاية[١٨] ابن الأثير[١٩] المتوفى سنة ٦٠٦ هـ أنه أشار إليها في مادة (شقق) وعن مناقب[٢٠] ابن الجوزي[٢١] المتوفى سنة ٥٩٧ هـ ورواها، وهو الرأي السائد عند أهل العلم، إذا فالنصفة تدعوإلى الإذعان بها وأن جملها مفروقة عن لسان علي عليه السلام ومن تأثراته الشخصية التي لابد أَنْ تكون صادرة من مثله.
ونشعر في الوقت نفسه أن الأسلوب فيها هوأسلوب علي عليه السلام في خطبة والتنهدات تنهداته.
أما القول بأن لا يجهر مثله في المجتمعات بمثل هذا الكلام على أولي أمرسبقوه في ملك وطدوه، فقول لا ينطبق على نفس الأمر،لأن الذين رووا عنه الخطبة لم يشيروا إلى إلقائها في محتشد من الناس أوعلى جمهور، وإنما ذكروا أنها شقشقة هدرت منه عند بعض أصحابه في الرحبة اي بصورة خصوصية، فلا يستبعد بث شكواه لدى خاصته وإن اشتملت على بعض القوارص.
وفي كتابه إلى عامله عثمان بن حنيف يقول: (بلى كانت في ايدينا فدك من كل ما أظلت عليها السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم )[٢٢]... الخ.
يعني بالأول من سبقوه بالخلافة ويعني بالأخرين أهل بيت النبي صلوات الله عليهم.
وكان أبوالحسن عليه السلام خشنا في جنب الحق صريحاً في المعتقد، حتى أنه خاطب عمروبن العاص بابن النابغة وقد عَيَّرعثمان بن عفان من قبل، ونعت معاوية بالفاجرابن الفاجر.
وخلاصة القول أن نظرات ضعيفة كهذه لا تستوقف الباحث عن الحقائق إذا صح النقلُ وَتَجلَى الأَمْرُ.
الجامعون لخطب الإمام قبل الرضي
يظن من أشرف على مجموعة الشريف الرضي قبل أن يبحث عما كتبه السلف أن الشريف الرضي هوأول مّنْ دَوَّنَ الْخُطَبَ أَوهوأول جامع لخطب الإمام عليه السلام.
ولكن يجب أن يعلم بالحاجة الشديدة التي مست المسلمين عامة في بدء توسع الحضارة الإسلامية فدفعتهم إلى حفظ الكلام البيلغ واستكتابه، إذ كانت العرب قبل حضارتها تتوجه إلى الكلام البليغ من شعر وخطبة وحكمة فتحفظ ما تعيه ولا تجهل فائدة ذلك إلا أنهم بعد التوسع في الحضارة شعروا بالحاجة القوية إلى براعة اللسان والقلم، وان الواحد منهم يُقَدَّرُ بلسانه لا بطيلسانه، وترفع منزلته في دواوين الدولة على قدر مقدرته الإنشائية، وينال الزلفى لدى الملوك والأمراء حسب مبلغه من بلاغه الكلام ومبلغ حفظه للكلم الممتاز والحكم العالية.
هذه وغير هذه دفعت العرب إلى جَمْعِ النوادر والخطب، وكان أمير المؤمنين عليه السلام في مقدمة المشهورين بنوادر الحكم وطرائف الكلم، فآثر الناس جمع المأثور عنه على غيره إذ كان إلإعجاب ببلاغته أعظم والمأثورعنه أوفر.
وقد ظَفِرْتُ بكثير ممن جمعوا خطب الإمام عليه السلام في أعصار قبل الشريف الرضي - أي من أبناء المائة الأولى والمائة الثانية والمأئة الثالثة وما بعدها -
أقدم للقارئ الكريم أسماءهم للشبهة وتقوية للحجة وخدمة للتاريخ كي لا يستوحش أحد من الخطب المجموعة من الشريف الرضي أويستغرب كثرتها.
وقد نشرأبوعبيد القاسم بن سلام[٢٣] المتوفى سنة ٢٢٤ هـ في غريبه وابن قتيبة عبد الله بن مسلم المروزي[٢٤] المتوفى سنة ٢٧٦ هـ في كتابه غريب الحديث وفي غيره وكثيرمن المؤلفين في عهد التابعين شذرات من المأثور عن أمير المؤمنين عليه السلام في أبواب المواعظ والحكم والدعاء وغيرها.
قال ابن أبي الحديد في أواخر شرحه لنهج البلاغة ما لفظه: (وأنا الآن أذكر من كلامه الغريب - يعني أمير المؤمنين عليه السلام - ما لم يورده أبوعبيد ولا ابن قتيبة في كلامهما وأشرحه أيضاً )[٢٥].