خليل مزهر الغالبي
حينما نطرق باب الأمام-علي بن ابي طالب-ع- في الفكر العقلي...
تندفع الينا عظمة عقليته الأنسانية الفذة،و المتماهية ببهاءها ونطقها الشجاع، لما لها من اشعاع وتنوع لم يغفل خيرأ،بل يصلح به شؤون الناس في زمنه والزمن الحاضر،فهو العقل المنحاز دوماً والمنشغل في احوال الطبقة الفقيرة وأسبابها، وما لهذا من حراك فكري علمي شمل كل الوجود الحياتي للمخلوق البشري،لذا نقول بصراحة ما ينتابنا من صعب التناول لهذا العقل الذي توزع كثيرأ على كل الهم البشري،رغم حملنا وامتلاكنا الكثير المعرفي عن هذه الشخصية الفذة،لكنا وكما قلنا - ما نقوله نقطة من بحر- في رواحنا المتناول هذا،وهو ما ذكرني بصحيح قول الأديب- ميخائيل نعيمة- وهو من المحدثين في الفكر العربي ((انه ليستحيل على أي مؤرخ أو كاتب،مهما بلغ من الفطنة والعبقرية،أن يأتيك حتى بألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الإمام علىّ،ولحقبة حافلة بالاحداث الجسام،كالحقبة التي عاشها،فالذي فكّره وتأمّله وقاله وعمله ذلك العملاق العربي بينه وبين نفسه وربه لمِمّا لمم تسمعه أذن ولم تبصره عين....)).
لذا لانروح في تفسير او شرح هنا وهناك منه كذلك، لوسعيته التي لا يلمها كتاب كما قال الكاتب-ميخائل نعيمة-لذا نوجز بما أ ُشر له من واضح القول والعمل...
وبدءاً نأخذ بما قاله الاديب العربي الحداثوي والشاعر- أودنيس - وما لهذا من دلالة لذكره هنا...
ان خير ديوان شعري قرأه هو ديوان- نهج البلاغة- قالها اثناء مقابلة تلفزيونية معه...
وقد اعاد مؤكداً هذا القول، بعد اندهاش مقدم البرنامج المعد،حيث ضن المقدم خاطأً،أن نهج البلاغة كتاب فكري في الانسنة فقط.
ولما للغة الأمام من مدلول ادبي واسع ومؤثر في اللغةالادبية الحديثة، راح الأديب اللبناني – أمين الريحاني – في طبع مائة خطبة وكلمة قالها من الكلمات القصار في كتاب مستقل،والريحاني هو من أشهر أدباء المهجر بعد جبران خليل جبران،ويعد أول من كتب الشعر المنثور في للأدب العربي وفي ديوانه – هتاف الأودية – ومن النازحين لتحرير الشعر من قيود الوزن والقافية،وما لهذا الذكر من دليل قاطع لحضور لغة الامام علي المجددة في الزمن المعاصر،كما جمع كتاب ادباء ولغوين ألفي كلمة له قالها وطبعوها مؤخراً.
لذا لا شك لنا في تقليب قولة علي - لا تنظر من القال بل انظر ما قال- لنرى فيها الاساس الفكري الشامل التي خرجت منها المقولة المعاصرة والشديدة الحضور لدى النقد الأدبي المعاصر وهي مقولة- رولان بارت - الشهيرة في الأدب النقدي- بموت المؤلف - لكن ليس بما راح لها الاخير وما اراد لها من حصر وخصوصية في الفكر الادبي للنقد،وقد عدت مقولة- رولان- هذه من الثوابت الفكرية في الرؤى النقدية الحديثة، والتي اخذت دور واسع في المقاس الابداعي للمنتج،وفي تحديد كيفية التلقي بعيدا عن( الذي قال)،لكن يبقى قول - علي - لمراد فكري يشمل الكل المنتج الأنساني وعقله العلمي البعيد في كل مفاصل المنتج الوجودي للنشاط،أي المنتج المتكلم عن المبدء الاخلاقي والاقتصادي والادبي وغيره من النتاج الاخر للأنسان،كي نستطيع من الوقوف الصائب والصحيح أزاء النص او الكل المؤلف واطلاعنا على كل القول،بدون ان نكون تحت تأثير اسم القائل والمؤلف،حيث يمكننا الاصغاء السليم في التلقي وفهم الجمال الفكري للمنتج الانساني،سوى كان هذا المنتج موضوع في الادب او الفن او الفكر الحياتي وغيره، أي ان في قول الامام علي – لاتنظر من القال بل انظر ما قال - مؤسسة فكرية لها فروعها ومنها الفرع الادبي النقدي هذا، وهنا يبان مدى صحت قول البطريك – الياس الرابع – في انطاكية وكان بطريك سائر الشرق في وقته والمعروف عنه بالتحرر الفكري في عمقه الثقافي واهتمامه الواسع في اللغة وادابها،والذي اجاب سائله عن الادب الرفيع الذي اعجبه وشغل تفكيره،فقال بوضوح ( يقيناً ان كل مثقف عربي كاتب عربي وشاعر عربي وخطيب عربي مدين للأمام علي وانطلاقا من هذه النقطة، فنحن لانعد كاتبا ً او اديباً عربياً مثقفاً عربية أصيلة إن لم يقرأ الفران ونهج البلاغة قراءات عميقة متواصلة )،وهذا ما اكده المستشرق الفرنسي- هنري كوربان – كذلك وبعد دراسة طويلة وواسعة في كتاب نهج البلاغة دراسة لغوية ( ان الكثيرمن المفكرين والادباء والباحثين يؤمنون ان كتاب نهج البلاغة إلا اثر بسيط من الاثار اللغوية والبلاغية للأمام علي – ع – الذي اعطى اللغة العربية صيغتها النهائية وألبسها ثوب البلاغة البديع ).
ومن خلال الفهم الاساسي والاصوب لاحوال الجنس البشري وحياته،راح يؤكد الأمام- علي- على الجانب والعامل الحقيقي لحل الاشكالية الحياتية والمعيشية، والتي ترزخ بهمومها البشرية في الوقت الحاضر،وهم الاعداد الكثيرة من جيوش الفقراء،والذي بلغ احصائها عشرات الملاين، كما اعلنتها المؤسسات العالمية ذات الاختصاص،فراح الامام وقبل ١٤٠٠ عام يعي السبب الطبقي في مأساة المجتمعات العالمية في التاريخ،وقد ذكر هذا الفهم الفكري بمقولات تعتبر حجر الاساس في علمية هذا الفكر العالمي،فهو القائل- ما جاع فقير إلا بما متع به غني- كما قال-الفقير غريب في وطنه-،ولو قلبنا بعض من اقوال مفكري الغرب خاصة من اؤلائك الثائرين ضد الظلم،نرى اساس العقل الفكري للامام - علي- قد لمها او حملها وبزمن بعيد عنهم، وبما يعني انه سبقهم بحقب زمنية،وهذا من نادر العقل العلمي لدى العظام،وما نلاحظة في مقولة-لابروبير-وهو من رجال الفكر التحرري الاوربي، بصدد الظلم الذي يعمل على تجويع الشعب،حيث قال-لاوطن مع الظلم- ومضمونها المجانب لقول علي- الفقير غريب في وطنه- وغيرهما من الاقوال الاخرى له التي تؤكد على سبق علي- في ادراكها ومنها الصراع الطبقي.
ومن تدبيره الوظيفي، ماعمل به في تقدير رواتب رجال القضاء،لما لهم من خطورة الموقع وخشية عليهم من الطمع والرشوة،لذا امر بوضع راتب مميز لهم،كما اوصاهم بعدم التهاون في قولة الحق في اعمالهم،وهذا ما عملت به دولة بريطانية بدفع شيك مفتوح رواتب لوزير العدل ورجال القضاء لكن تحت ظوابط مرئية ومحسوبة في ذلك،وهذا ما تفكر به بقية دول اوربا في تطبيقه،وماجاء من وصيته لشريح القاضي بصدد اداب القضاء اذا جاء فيها...
((واعلم انه لا يحمل الناس على الحق الا من روعهم عن الباطل ثم اس بين المسلمين بوجهك ونطقك ومجلسك حتى لايطمع قريبك في حيفك ولا ييأس عدوك من عدلك)).
ولم يذهب رجل كخليفة وقائد شؤون المجتمع الاسلامي من قبل ومن بعد ما راح اليه-علي بن ابي طالب- في موضوع الجباية،وهو موضوع واسع يشمل المهم المحاكك للمجتمع الاسلامي الكبير،لما له من حراك مجانب لحياة الناس،لذا امر بلزومية الجانب الانساني في جباية الاموال هذه،حيث وضع الجباية بعد ضرورة عمران الارض لما لها من اهمية ومحور اساسي في معيشة الانسان،لذا اوصى على ضرورة التنمية والاقتصاد،الذي يؤدي الى توفير الارزاق وتوسيع دخل المواطن كي ينالوا حاجاتهم، وتحقيق الرفاه الممكن،وهو القائل...
(وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد وأهلك العباد).
كما حضرالامام علي وخط إسمه في اكبر وأهم هيئة عالمية،وهي هيئة الامم المتحدة- وفي مؤسسة حقوق الانسان،حينما راح الأمين العام للأمم المتحدة السابق- كوفي عنان- فقال:( قول-علي ابن أبي طالب- يا مالك إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..، هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كل المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية)) ولم يكتف المسؤول العالمي والاممي الرفيع المستوى(كوفي عنان) بهذه الشهادة فقط اذ انه وبعد أشهر منها اراد أن تكون هناك دراسة ومداولة قانونية حول كتاب الإمام علي-ع- هذا إلى مالك الأشتر،وعملت اللجنة القانونية في الأمم المتحدة، بعد دارسات طويلة،وطرحت التساؤلات حول ترشيحه للتصويت أم لا، وقد مرت عليه مراحل ثم رُشِّح للتصويت، وصوت عليه الكل الفكري المختص بهذا الموضوع لدن هذه الهيئة العالمية وجعله أحد مصادر التشريع الدولي والتي اتفقت عليه الاطراف بقدره الفكري المناسب لمفهومية حقوق الانسان في العالم، وقبل التثبيت هذا والاقرار الواسع لها لدي مراجع الهيئة هذه،وحين قرأ الكاتب اللبناني المسيحي- جورج جرداق- وصية الامام الى مالك الأشتر،والتي باتت معروفة عالميا واسموها بالدستور العلوي أنذاك،راح الكاتب جورج جرداق معلقاً على هذا الدستور قبل الاضافة هذه ِ بقوله: ((ليس من أساس بوثيقة حقوق الإنسان التي نشرتها هيئة الأمم المتحدة إلا وتجد له مثيلا في دستور-ابن أبي طالب- ع- ثم تجد في دستوره ما يعلو ويزيد))...
ان التردي الحاصل في مؤسسات الدول وماهية حكوماتها كظاهرة عالمية شملت كل العالم،هذه المؤسسات التي راحت بالابتعاد عن انسنةالتوجه والاهتام اليها،لذا حذر منه الامام علي،وهذا ما اكده قوله العظيم بهذا الصدد...
(ان من نَصب للناس نفسه إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره. وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه. فمعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم).
ومن الممكن ان نستشف الحضور الدائمي لافكار علي لما لها من معالجة وتناول علمي،حمل ديمومتها الزمنية وحضورها كمعيار وحل للكثير الشائك في جميع الامور الحياتية ومنها السياسية وكما حصل هذا الحضور،والعالم يبني مؤسساته الحكومية في مكان من العالم ومن خلال الانتخابات،حيث يؤكد الامام علي على مواصفات الرجل الذي تريد اختياره لأي منصب كان وكما وصفه في قوله،وبما يمكننا من اختيار مرشحينا كذلك من خلاله ومن خلال تقليبنا وتمعننا،وبما يبصر العقل وينبهه أزاء هذا المفصل الحياتي المهم...
فهو القائل...(اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكمه الخصوم ولا يتمادى في الزلة،ولا يحصر من المضيء إلى الحق إذا عرفه،ولا تشرف نفسه على طمع،ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه،وأوقفهم في الثبوت وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور،واحرمهم عند اتضاح الحكم،ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستمليه إغراء وأولئك قليل).
ولا نشك في ما قاله المفكر المسيحي – نصري سلهب – ( علي من لآولئك البشر الذين كتب عليهم أن يموتوا لتحيا بموتهم شعوب وآمم،وأعداء علي من اولئك النفر الذين آثروا الحياة على الموت،فأماتوا بحياتهم كل أياء وشمم) ومن هذا ذهبت الباحثة – آرمسترونغ – لاعتبار ان الامام علي هو من الناحية الفعلية الأمام والوصي الشرعي على كل المسلمين،بل راح الفيلسوف الامريكي – رالف والدو أمرسون-
في جعل الامام علي امام كوني لم يحصر في الاسلام فقط، وامرسون هذا هو من المتأثرين كثيراُ بعالمية فكر الامام علي –ع- واضافة الى كون الفيلسوف هذا، شاعراً واديباً ورجل دين عالي المقام في كنيسة – بوسطن الموحدة- ومع التزامة بديانته المسيحية إلا انه يملك عقل منفتح لايقبل الحصار الإيماني الذي يمنعه من تقبل أي فكر متقدم الانسانية في علميته المعالجة للشان البشري،كما هو فكر الامام علي- ع - .
لقد كتب الكثيرعن العلمية العقلية للامام علي امثال الشاعر المسيحي الرومانسي- جورج جرداق- والكاتب الكبير – عباس محمود العقاد – واخرون لكن وكما قيل لا تكفي الف صفحة في اعطاء القليل عن هذه ِ الظاهرة العقلية التي لم تتكرر بانسنتها الشجاعة والتي لا تكل من اجل العدالة.
فلم يموت الامام علي يوماً ما،فهو حي فينا،نحن فقراء الارض والحالمين بحريتنا...
ولم يقتل علي في محراب عبادته لشدة عدله فقط...
كما خبرنا عنه وقدس له الاديب والمفكر- جبران خليل جبران-،بل يبقى-علي- هو الرجل القائم لتعليمنا الثورة من اجل حقوقنا في كل العصور،فهو الرجل الثائر في كل حراكة الشجاع خاصة فيما راح بقوله...(لاتكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)،هذه الكلمات التي بقت نبراس لكل الثائرين من اجل العدالة الانسانية عبر التاريخ.