المدرس المساعد :
هادي سعدون هنون العارضي
عبد الهادي عبد الرحمن الشاوي
رسالة الإمام علي(عليه السلام) للقاضي شريح أنموذجا
المقدمة :
يعد نهج البلاغة من المؤلفات التي لا تبرح أن تنتهي أسرارها على مر العصور ففيه سيل من العلوم والآداب والفنون فحضت به كثير من الدراسات ، إذ توالت عليه لتنهل وترتوي منه ونصحوا الناس الباحثين عن نفيس اللغة العربية ((أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم وأفضل مأثور هم ، مع تفهم معانيه في الأغراض التي جاءت لأجلها ،وتأمل ألفاظه في المعاني، التي صيغت للدلالة عليها وليصيبوا بذلك أفضل غاية ، وينتهوا إلى خير نهاية )) .
وفي خضم هذا السيل من الدراسات حاولنا أن نبحث عن نبع جديد في بحر هائج فبدت لنا مظاهر الانسجام النصي واضحة المعالم في نهج البلاغة في ما يحويه من خطب ورسائل ووصايا ولكن الإحاطة بهذه الظاهرة في كل الفنون، أمر غير ممكن لما هو مألوف من سمات المشاركة في المؤتمرات كونه موضوع كبير وبحاجة إلى تفصيل يتجاوز الحد المقرر من صفحات المشاركة ؛ لذا درسنا هذا الانسجام في كتاب الإمام علي (عليه السلام) إلى قاضيه شريح بن الحارث .
ولما كان الانسجام من الموضوعات الجديدة القديمة في نتاجنا الأدبي وقفنا عنده لتعريفه في اللغة والاصطلاح بعدها جاءت الدراسة في مبحثين:
الأول : علاقات الربط وتضمنت الأمور الآتية:
- الفصل والوصل.
- التكرار.
- التقديم والتأخير .
أما المبحث الثاني فكان في علاقات التكامل وتضمنت الأمور الآتية:
- علاقة السببية.
- علاقة الإجمال والتفصيل.
- علاقة الشرط والجزء.
بعدها جاءت الخاتمة ونتائج البحث وقائمة بالمصادر والمراجع
المدخل :
لو تقصينا تراثنا النقدي القديم لو جدنا الحديث عن انسجام النص الفني واضحا وجليا في كتابات نقاده ، فقد فصل في ذلك عبد القاهر الجرجاني بقوله: (( فلو أَّنك عمدْتَ إلى بيتِ شعرٍ أو فصل نثرٍ فعددتَ كلماتَه عدّاً كيفَ جاءَ واتفق ، وأبطلت نضدَهُ ونِظَامَهُ الذي عليه يُبنى وفيه أُفرِغَ المعنى وأجْرى ، وغيّرْتَ ترتيبَهُ الذي بخصوصيته أفادَ كما أفاد وبنسقه المخصوص أبان المراد نحو أن نقولَ في( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ) (منزل قفا ذكرى من نبكِ حبيب ) أخرجته من مجال البيان إلى مجال الهذيان ، نعم وأسقطت نِسْبتَهُ من قائله ، وقطعْتَ الرحِمَ بينَهُ وبين منشئه ، بل أحلت أن يكون له إضافة إلى قائل ، ونسب يختصُ بمتكلم)).
ولاشك أن هذا الاهتمام الكبير لصغائر الأمور في اللغة العربية ، يعود للإعجاز القرآني الذي أحدث دهشة أحلت بفحول العربية وروادها ، فأخذوا يحيطون لغتهم بأدق التفاصيل ويضعون المفاهيم التي نظر إليها من جاء بعدهم.
وقد خلف لنا عباقرة اللغة العربية وروادها موروثا لغويا وبلاغيا كبيرا ، لاسيما الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام ) والذي عرف بشجاعته وعلمه وبلاغته ، فحرص على اللغة العربية التي كرمها الله جل شأنه عندما جعلها أداة لبيانه فترك لنا كنز البلاغة نغترف منه ما نشاء بما يحتويه من خطب وحكم ووصايا ورسائل .
وتعد الرسائل من الفنون الأدبية و الوسيلة الكتابية الثانية التي اتبعها الإمام بعد الخطابة في نهجه وتعرف الرسائل بأنها: )) ما يكتبه امرؤٌ إلى آخر مُعبِّراً فيه عن شؤون خاصة أَو عامة)) ,وقد وردت الرسائل في نهج البلاغة على شكلين :
الأول : الرسائل الإخوانية أو الشخصية (الخاصة)وفيها ينقل الإمام رؤيته إلى خاصته فيوجه تارة وينصح ويرشد تارة أخرى .
والثاني : الرسائل الديوانية وهي : الرسائل الرسمية التي يوجهها الإمام إلى العامة كالرسائل العسكرية والسياسية والعهود والأحلاف وغيرها .
هذه الرسالة من الرسائل الرسمية التي وجهها الإمام إلى قاضيه شريح بن هانئ ٤بعد سماعه بشراء شريح بن الحارث دارا بثمانين دينارا.فخاطبه قائلا : (( بَلَغَني أَنًكَ ابتعت دارا بثمانين دينارا ، وكتبت لها كتابا ، وأشهدت فيه شهودا ، فقال شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين ، قال : فنظر إليه (عليه السلام ) نظر مغضب ثم قال له : يا شريح ، أما إنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ، ولا يسألك عن بينتك ، حتى يخرجك منها شاخصا ، ويسلمك إلى قبرك خالصا ، فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك ، أو نقدت الثمن من غير حلالك ، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة.
أما إنك لو كنت أتيتني عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتابا على هذه النسخة ، فلم ترغب في شراء هذه الدار بدرهم فما فوق ، والنسخة هذه : هذا ما اشترى عبد ذليل ، من ميت قد أزعج الدار حدود أربعة : الحد الأول ينتهي إلى دواعي الآفات ، والحد الثاني ينتهي إلى للرحيل ، اشترى منه دارا من دار الغرور ، من جانب الفانين ، وخطة الهالكين ، وتجمع هذه دواعي المصيبات ، والحد الثالث ينتهي إلى الهوى المردي ، والحد الرابع ينتهي إلى الشيطان المغوي ، وفيه يشرع باب هذه الدار. أشترى هذه المغتر بالأمل ، من هذا المزعج بالأجل ، هذه الدار بالخروج من عز القناعة ، والدخول في ذل الطلب والضراعة ، فما أدرك هذا المشتري فيما اشترى من درك ، فعلى مبلبل أجسام الملوك وسالب نفوس الجبابرة ، ومزيل ملك الفراعنة ، مثل كسرى وقيصر ، وتبع وحمير، ومن جمع المال على المال فأكثر ، ومن بنى وشيد ، وزخرف ونجد ، وأدخر وأعتقد ، ونظر بزعمه للولد ، إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض والحساب ، وموضع الثواب والعقاب ، إذا وقع الأمر بفصل القضاء ( وخسر هنالك المبطلون ) شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى ، وسلم من علائق الدنيا )) .
المبحث الأول
علاقات الربط
قبل الخوض في تفاصيل مظاهر الانسجام الخطابي في رسالة الإمام علي ( عليه السلام ) إلى القاضي شريح من خلال مظاهر الربط المتمثلة في الفصل والوصل والتقديم والتأخير والحذف ، لابد من الإشارة من أن الجملة ترتبط ب ((سلسلة من المكونات تتفاعل فيما بينها كي تؤدي في النهاية المعنى الواحد المنشود وأساس هذا التفاعل التركيب النحوي)).
وهذا ما سبق به الجرجاني غيره من علماء اللغة وأشار إليه في أكثر من موضع بأن الجملة في التركيب النحوي تحمل معنى واحد لا عدة معان منها قوله : ((إذا قلت : ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم ، هو معنى واحد لا عدة معاني كما يتوهمه الناس)) .
ولاشك أن الجرجاني يؤكد بذلك أن للجملة معنى واحداً أطلق عليه علماء اللغة المحدثون (( المعنى المركزي )) وهو لا ينفي وجود معاني جزئية ضمن التركيب الواحد أطلق عليها المحدثون (( المعاني الهامشية )) بل تسخر تلك المعاني لخدمة المعنى الواحد الذي صرح به الجرجاني أو المعنى المركزي كما أطلق عليه المحدثون .
وهذا ما يسير عليه بحث الانسجام النصي في دراسته القائمة على مبدأ الترابط الجملي في الرسالة الفنية التي بين أيدينا إذ أن هذا الربط (( يجعل الجملة شبيه باللوحة التشكيلية التي يصورها فنان ؛ إذ لا يمكن فهمها أو تذوقها إلا من خلال نظرة شاملة متكاملة ؛ فهي تقع في النفس موقعا واحدا ، وكل جزئية فيها من لون أو خط أو ظل أو انحناء تؤدي وظيفتها ، وتتحدد هذه الوظائف وتتآلف من خلال علاقات ؛ لتكون معنى اللوحة واحد )) .
وبذلك سنقتفي أثر التشكيل الجملي وما أحدثه من انسجام ، وآثاره في تعميق الدلالة المركزية من خلال دراستنا لمظاهر ذلك الانسجام المتمثلة في :
أولا : الفصل والوصل:
لا يختلف في القول بأن فهم النصوص الفنية ، لايأتي عبثا من دون إطلاع ومعرفة أولية عن تلك النصوص وأنواعها وتحديد موضوعها الذي يرتبط بطبيعة الخطاب وطريقة عرضه للفرق الواضح بين الخطاب المسموع والخطاب المقروء والخطاب المرئي والمسموع ، هذا الارتباط الذي يأتي عن طريق متكلمين عاديين أو غير عاديين وعلى وفقه يتجلى الخطاب المتناسق من غيره.
ولاشك أن تعميق هذه الرؤى ستولد قدرة تحليلية لدى أي باحث ، تمكنه من معرفة علاقات الإنسجام والتناسق في نصوصه المدروسة .
ويعد الخطاب الذي بين يدي البحث من النصوص الخطابية المقروءة التي تحتاج إلى معرفة بمواضع الربط الجملي لاسيما الفصل والوصل الذي عده الجاحظ ( ت ٢٥٥هـ) على لسان الفارسي البلاغة كلها .
فيما يعد معرفتها عبد القاهر الجرجاني ( ت ٤٧٤ه) طريقا لمعرفة سائر معاني البلاغة فعرفها على أنها : (( العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض ، أو ترك العطف فيه والمجيء بها منثورة تستأنف منها بعد الأخرى)) .
ولم يفارق هذا الفن البلاغي نهج الإمام في خطابه الذي بين أيدينا ، فتظهر لنا في أكثر من موضع من خلال علاقة الوصل المقدمة بأداة العطف في قوله عليه السلام : ((بَلَغَني أَنًكَ ابتعت دارا بثمانين دينارا ، وكتبت لها كتابا ، وأشهدت فيه شهودا...)) .
وعلى وفق المعطيات اللغوية في النص الخطابي ، يكشف لنا البحث وسائل الإنسجام من خلال تعميق النظر إلى بنية الخطاب من الداخل وتمحيص علاقات الإرتباط الأفقية التي تنسج العلاقات بين البنى الداخلية من خلال :
*- الحديث عن الإطار العام لهذا الخطاب نجد أن المنشيء يتجاوز الحديث عن نفسه ، ويسير بخطابه نحو منهج نفعي جماعي تظهر ملامحه في الحرص والمتابعة لقضاته في الأمصار وهذا ما يظهره النص من خلال خاصية العطف بحرف ( الواو) ، إذ أشرك المنشئ الجمل في الحكم الإعرابي لما ينماز به الواو من خاصية الإشراك في الحكم ، فأشرك الجمل في الحكم والمعنى ويبدو لنا من خلال التشكيل النصي للبنى السطحية أن المنشئ وظف الخطاب ليرسم لنا عدة معاني جزئية منها:
*- استيائه من تصرف القاضي ، وهذا ما يوضحه الدخول المباشر من دون مراعاة البناء الفني للخطاب ؛ لما هو مألوف في كتابة الرسائل ، إذا ما استثنينا السقط الذي قد يصيب النصوص الفنية التي وصلت إلينا، فهو ناتج من حالة المنشئ الشعورية واستيائه الواضح ؛ لحرصه في تطبيق حكم الله في الأرض .
*- تأكده من الخبر الذي وصل إليه المنشئ وهذا ما يوضحه اللفظ (بلغني) ولم يقل (سمعت) ولاشك أن السمع للخبر ذات صفة شمولية لا تمنح المنشئ خصوصية الخبر في السمع كونها تؤدي لأمرين:
الأول : صدق الخبر.
الثاني : كذب الخبر.
إما (البلوغ) فهو الوصول والنهاية ، وكأن المنشيء يريد أن يؤكد للمخاطب تيقنه من فعله فهو لا يدع للقاضي أي مجال للتشكيك بما يقوله المنشيء ، ولتأكيد تلك المعلومة إسترسل في إظهار التفاصيل الدقيقة للحدث من خلال علاقة الوصل ، فالقاضي قد أشترى تلك الدار بثمانين دينارا ومن ثم كتب عقد تلك الدار ، بل وضع على عقد البيع والشراء شهودا ، فلو وضعنا لتلك الوحدات النصية مخططا يوضح كيفية تأكيد المعلومة في ذهن المخاطب من خلال علاقة العطف لكان لدينا الشكل الآتي :
البنية المحورية والتركيب الجملي لمعلومة البيع والشراء
ويبدو لنا من خلال التحليل السابق أن البنية المحورية في الجملة التي خضعت للتحليل ، تفاعلت ضمن وحدات نصية منسجمة بعلاقة العطف ، تم كشفها بتعميق الرؤية في آليات الترابط ألمفهومي وتعالق العناصر ؛ لأن منشي النص يقوم (( بتعليق دلالات الألفاظ في عقله أولا ، وذلك بضم بعضها إلى بعض ، وترتيبها بحسب معاني النحو ، ووفقا لمقدرة المتكلم اللغوية )) وعلى الباحث أن يفكك تلك المعاني ليصل ما يريد أن يصل إليه المبدع في نتاجه الفني ، ولعل سمة التأكيد في تقصي المعلومة هذه تشير إلى حقيقة مهمة، يجب أن يقف عندها كل الحكام والقضاة ، والمسؤولين وهي التيقن من المعلومة قبل توجيه التهمة إلى الآخرين وهذا ما يؤكد عليه ديننا الحنيف فجاء بقوله تعالى : ﴿يأيها اللين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهلة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين﴾ .
ولاشك أن الترابط و الانسجام النصي في الخطاب البلاغي ، رسم أبعاد المعنى في ذهن المتلقي ورسخها على وفق ما نسجه من الإختيار الأمثل للألفاظ وطريقة نسجها .
أما علاقة الفصل في الخطاب ، فنجد مصاديقها في قوله : ((هذا ما اشترى عبد ذليل ، من ميت قد أزعج الدار حدود أربعة : الحد الأول ينتهي إلى دواعي الآفات ، والحد الثاني ينتهي إلى للرحيل ، اشترى منه دارا من دار الغرور ، من جانب الفانين ، وخطة الهالكين وتجمع هذه دواعي المصيبات ، والحد الثالث ينتهي إلى الهوى المردي ، والحد الرابع ينتهي إلى الشيطان المغوي ، وفيه يشرع باب هذه الدار....)) .
ويتجلى في الخطاب الفصل بين الجملتين الخبريتين ، ولم يحدث الفصل إلا لدواعي الانسجام بين الجملة الأولى والجملة الثانية ، فهناك ارتباط منطقي بينهما ، لوجود مسوغ أوجب الفصل يقوم على أساس الإيحاء عند سماع الجملة الأولى منه سؤالا: تقديره : ما هذه الحدود؟.
وتبع الفصل في السؤال منطقية الإجابة التي تستدعي مواصلة الكلام بعد الفصل ، فجاءت إجابة المنشئ بتفصيل تلك الحدود ؛ لأن (( من دواعي فصل كلام عن كلام سابق وجود سؤال مقدر غير متجل في سطح الخطاب )) ، ومن يتقصى التركيب في النص السابق يجد أن المنشيء حقق عدة أهداف بتضمينه هذا الأسلوب عمقت الانسجام النصي في الخطاب منها:
*- إغناء المخاطب عن السؤال ومواصلة المنشئ كلامه من دون إنقطاع.
*- تنبيه المخاطب عن موقعه وأهمية الحدث عند المنشئ.
* - تكثيف المعنى بتقليل اللفظ.
ثانيا: التكرار :
لا نريد تكرار تعريفات هذا الأسلوب في اللغة والاصطلاح ؛ للاختصار وشيوع تعريفه عند المختصين ، إلا أنه لابد من الإشارة بأن التكرار لا يضفي في ذاته على النص الفني جمالا ، إلا بعد براعة المنشئ في إضافة لمساته الفنية وصياغة المعنى صياغة تعتمد الدقة في إنتقاء الألفاظ وتوظيفها فتبث الحياة في النص فتتحرك مع المعنى لتحمله بين كفي الراحة إلى المتلقي فتبعث فيه إحساسات المتلقي ، وخلاف تلك البراعة يتحول التكرار داخل النص إلى مظهر سلبي يعوق توصيل المعنى إلى متلقيه.
وعلى هذا النحو سنتتبع هذه الظاهرة الفنية وأثرها في الإنسجام النصي في النص الفني الذي بين أيدينا لنتطلع من خلاله على براعته في توظيف هذه الظاهرة في وجهتين :
الأولى : التكرار الملفوظ ( التكرار اللفظي ) والمتمثل بتكرار الألفاظ في لفظها ومعناها وقد يكون التكرار إسما أو فعلا أو حرفا أو جملة .
ونجد مصاديق هذا النوع من التكرار في النص الذي بين أيدينا في كلمة ( الدار) التي تكررت في النص تسع مرات من دون أن نشعر بملل من تناوبها في النص ، بل أضاف تكرارها انسجاما نصيا تتجلى ملامحه في الأمور الآتية :
*- القيمة المعنوية للنص من خلال تعميق المعنى في ذهن المخاطب و التأكيد على نقطة الخطاب المركزية وهي ( شراء الدار) فأحس المتلقي بطرقة دلالية ذات وقع جميل تطرق الذهن طول سماعه أو قراءته للنص ، وهذا ما ينماز به النص العربي كون التكرار من سننه ، وإعادة اللفظ ما هي إلا للإبلاغ بأمر ما على وفق أهميته .
*- القيمة النغمية التي وفرها التكرار في النص ، لما ينماز به هذا الأسلوب من توفير القرع على الأسماع وإثارة الأذهان لتوفيره مظهرا موسيقيا .
الثانية : التكرار الملحوظ ( التكرار المعنوي ) والذي نجد فيه الألفاظ لا تتكرر بذاتها وإنما تتكرر المعاني لغاية أو لأخرى تراود المنشئ فيحاول إظهارها من خلال استحواذها على الجانب النفسي للأداء الفني ، وقد ورد هذا النوع من التكرار في أكثر من موضع في النص الخطابي من ذلك قوله ( عليه السلام ) : (( ... ومن جمع المال على المال فأكثر ، ومن بنى وشيد ، وزخرف ونجد ، وأدخر وأعتقد ، ونظر بزعمه للولد ، إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض والحساب ، وموضع الثواب والعقاب...)) .
فالأفعال (( بنى – شيد- زخرف- نجد - ادخر- اعتقد٠٠٠٠)) كلها تكرار لمعنى واحد ، حاول المنشئ تكثيفه من خلال ظلال تلك الأفعال ، و ما تلقيه من أثر معنوي في تكرارها يعمق المعنى في ذهن المتلقي ويرسم أبعاده الآتية :
أولا : البعد الفني : ولا نختلف مع القائل أن هناك تفاوت في معنى تلك الأفعال فالذي يبني ليس كالذي يشيد ، والذي يزخرف ليس كالذي ينجد وهكذا ... ولكننا نتفق على أن كل تلك الأفعال تعملق المعنى الواحد الذي نفهمه من الفعل الأول (( الذي يبني )) وهو الذي يختر بالحياة الدنيا الزائلة وينسى الحياة الدائمة فهذه الصورة التي رسمها التكرار لتلك الأفعال سوف لن تكون بهذا العمق والانسجام لولا التكرار.
ثانيا : البعد النفسي :لاشك أن الطرق على الأذهان من خلال تكرار تلك الأفعال ، ستحفز نفس المتلقي لاستقبال المعنى وشده نحوه ، ومن ثم التأثير الذي ستقل وطأته لو كان الفعل الدال على المعنى غير مكرر ، وهذا ما دفع المنشيء لتوظيفه بهذه الصورة .
ثالثا : البعد الإيقاعي : وهذا مايتضح جليا في عملية تكرار الأفعال ، إذ تنتهي تلك الأفعال بتكرار قافية واحدة وهي ( الدال ) كما موضح في الشكل الأتي:
ولاشك أن هذا البناء في النص يمنح الخطاب قيمة موسيقية من خلال توظيف المنشئ مادته اللغوية توظيفا منسجما ،فهو يدرك أسرار العربية ، إذ أن (( العرب تحلي ألفاظها وتدبجها وتشيها بزخرفها عناية بالمعاني التي وراءها وتوصيلا بها إلى إدراك مطالبها )) .
ثالثا : التقديم والتأخير:
يبنى الكلام العربي كما هو سائد في التنظير والتطبيق (( على نظرة عميقة إلى عنصرين قائمين في الصياغة هما الثابت والمتحول , يتمثل الثابت في تواجد أطراف الإسناد وما يتصل بها من متعلقات , أما المتغير فيتمثل في تحريك بعض هذه الأطراف من أماكنها الأصلية التي اكتسبتها من نظام اللغة إلى أماكن جديدة ، ليست لها في الأصل ، كما يتمثل هذا التغير أحيانا في تثبيت أحد الأطراف في مكانه وإعطائه حتمية ، يمتنع معها نقله وتحريكه وهذا يمثل تغيرا)) .
وهذا التغيير الذي يحدثه منشئ النص في تراكيبه اللغوية يسمى عدولا وهو لا يتم إلا بعد أن يسمح له المقام ويتطلبه السياق لإغراض أبلاغية أو فنية تؤثر في نفس المتلقي لأنها بمثابة منبهات حسية لذلك صار ((العدول عن النمط العادي بمثابة منبهات فنية يعمد إليها المبدع ليخلق صورة نية متميزة)) ولكون هذا المتغير الأسلوبي ذا أهمية فلقد رأينا عناية البلاغيين القدماء به كثيرا فهو ((باب كثير الفوائد جم المحاسن ,واسع التصرف ,بعيد الغاية )) وهو أيضا ((باب شجاعة العربية )) .
عند ابن جني لما يمنح النص من معان إضافية أو يحدث في قابلية التأثير في المتلقي ,ونلحظ ففي رسالة الإمام علي (عليه السلام) للقاضي وجود هذه الظاهرة التي جاءت عن قصد لأنها تحقق غايات أسلوبية مهمة ومن ذلك قوله (عليه السلام)((يا شريح أما انه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ولا يسألك عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصا ,ويسلمك الى قبرك خالصا)) ففي هذا النص الذي حدث عدول وتغير في بنية التراكيب وخروج عن الأنظمة اللغوية المتعارف في البناء التركيبي ,اذ قدم شبه الجملة المتكونة من الجار والمجرور(منها)على الحال(شاخصا) وكذلك فعل في الجملة اللاحقة فقدم الجار والمجرور(إلى قبرك )على الحال (خالصا)وهو هنا يخلق هيمنة للجانب التعبيري ويحقق فنية للنص لان فنية النص تظهر واضحة متى ما هيمن الجانب التعبيري وما كان هذا التغير ليحدث إلا ليخلق او يدل على غرض قصده المنشئ لكي يركز الدلالة المرجوة من النص ويحدث التأثير المطلوب في المتلقي الذي احتاج إلى هذا التغير البنائي الذي ركز على كلمات معينة في النص وحركها من موقعها قصد التنبيه والاهتمام ولكي ((ينبئ عن غرض ما ,ذلك الغرض هو إبراز كلمة من الكلمات لتوجيه التفات السامع إليها )) الذي تشاغل عن الصواب بالمنفعة الدنيوية متناسيا يوم الميعاد عندما يخرج من دنياه عنوة ويسلم الى قبره خالصا ,ولعل في نص رسالة الإمام (عليه السلام)مظاهر أخرى لهذه العلاقة الرابطة والمؤدية إلى جعل النص نصا متجانسا ملتحما ,يشعر من يقراه بقوة بلاغته وحسن سبكه وجمالية شكله وعمق دلالاته.
المبحث الثاني :
علاقات التكامل في النص
تعد علاقات التبعية إحدى أهم مقومات النص ,فلا نص يأخذ محله بين النصوص ويتبوأ مقعده في فضاء الأدب إلا إذا اكتملت لديه شروط النصية التي تتجلى في خصائص ذكرها اللغويون المحدثون ومنها خاصية الحبك (coherence)أو التماسك الدلالي الذي يمثل العلاقات المنطقية التي تحكم النص الأدبي وتمنحه صفة التماسك والانسجام لان هذه العلاقات هي وحدها ((التي تجعل النص مترابطا ,لأنه يعتمد على علاقات داخلية وعناصر مقاميه يتم بواسطتها فهم النص))وان هذا التصور أو الفهم للنص وللعلاقات التي تحكمه نجد له مصاديق فيما كتبه علماء العربية القدماء رغم أنهم لم يضعوا له قواعد أو يقيدوه في نظرية ذات سمات واضحة وقابلة للبقاء أو للدراسة ,بل ظلت آراءهم إشارات ومنها ما ذكره السيوطي (ت٩١١هـ)عندما قال:((لا يكون الكلام لخلوه من العقادة متحدرا كتحدر الماء المنسجم ,ويكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسيل رقة والقرآن كله كذلك.....وقد جاءت قرأته موزونة بلا قصد لقوة انسجامه)) ويبدو لنا من قول السيوطي انه لا يشير إلى العلاقات المنطقية التي تحكم النص وتسيره والتي تقوم بربط التراكيب اللغوية في النص الواحد والتي تتمثل في علاقات السببية ,والإجمال والتفصيل ,والشرط والجزاء,لذلك تتعدد العلاقات بين الجمل في النص ((فإذا كانت هناك جملة اسمية يكون غيرها من الجمل أما معطوفا عليها أو بدلا منها ,أو بينا لها ,أو توكيدا لها أو تفسيرا,أو تعليلا ,أما موقع الجملة بالنسبة للمفرد فيمكن ان يكون خبرا ,أو نعتا ,أو بدلا ,أو تعليلا أو تفسيرا)) وقد نجد أن جملة ما في النص قد جاءت جوابا لشرط أو لطلب ,أو تفصيلا لمجمل ,وكل هذه العلاقات في تفاعلها داخل النص تؤدي غرضا دلاليا سعى له منشئ النص وأراد له النمو والاستمرار لذلك نرى د .سعد مصلوح قد عدها((الاستمرارية الدلالية التي تتجلى في منظومة المفاهيم والعلاقات الرابطة بين هذه المفاهيم.)) إذ أن كل نص أدبي يطمح إلى إيجاد هذه الاستمرارية كسبا للمتلقي وتأدية للقصدية التي بني عليها النص ومن اجلها انشأ.
وسيحاول البحث توضيح هذه العلاقات التي جعلت من النص المدروس نصا متماسكا منسجما ,وان من أهم هذه العلاقات:
أولا-علاقة السببية :
هي إحدى أهم العلاقات التي تحكم النص وتؤدي إلى انسجامه,كونها علاقة من علاقات التبعية النصية التي هي علاقات منطقية تصورية قد لا تظهر في النص ,أي أنها((غير متمثلة بصراحة في النص ,أي أنها لا تحظى باستثارة مباشرة من خلال ظاهرة النص ,وإنما تقوم بتزويد المرء بما يلزم من العلاقات لاستخراج المعنى من النص))فتجعل منه نصا مترابطا ,وهذا الربط بين جمل النص هو الذي يجعل النص ينمو ويثري القصدية التي من اجلها انشأ,وان النص الذي قيد البحث قد توافرت فيه هذه العلاقات المنطقية وبأشكالها المختلفة ومنها العلاقة السببية التي لمسنا أثرها في انسجام النص ,فما هي هذه العلاقة ؟
تعرف علاقة السببية بأنها((الطرق والوسائل التي فيها يؤثر موقف أو حدث على الظروف المهيئة لوقوع حدث أخر)) فهذه العلاقة تعمل عندما يكون هنالك سبب يؤدي إلى نتيجة تظهر إلى سطح النص جملة مكتملة لا تعرف دلالتها إلا بالرجوع إلى الجملة التي سبقتها في النص وكانت سببا في إيجادها ,فهي على علاقة بها أي أنها مرتبطة بها وهذا الارتباط هو الذي يسمح للنص بالاستمرارية في تقديم المعاني المرجوة منه ,ومثلما يؤدي الدلالة فانه يعمل على تماسك النص وانسجامه ويسد ثغرات النص أن وجدت فقد ((يستخدم السبب لإيضاح علاقة بين حدث وحدث أخر تلاه,فالحدث الأول أتاح الظروف لحدوث حدث أخر وعلى العكس)) ,وهو ما نجده في قول الإمام علي (عليه السلام)((فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا والآخرة)) فلقد ربطت الخسارة التي أصابت القاضي بالسبب الذي أوجدها وهو شراءه الدار من غير أمواله الخاصة ,فالجملة التي أعطت دلالة الخسارة ,أي قدمت نتيجة الفعل هي جملة ارتبطت بسبب متقدم في النص دلت عليه الجمل السابقة ,وهذا ما يشير إلى علاقة منطقية أوجدها النص فهي أداة من أدوات انسجامه ودالة على ترابطه اللفظي والمعنوي الذي يؤدي إلى بلوغ المعنى غايته المنشودة ويوثق الصلة بين المتكلم والمتلقي ,ونلحظ أيضا أن النص الذي اعتمد العلاقة السببية واحدة من علامات انسجامه وتلاحمه عندما قرن الفعل السيئ بنتيجة سيئة مثله ,وهذا الاقتران هو ما أوضح العلاقة السببية بين الجمل وساعد على انسجامها ,مضافا إليه الاستعمال الدقيق للألفاظ وللأساليب ,إذ أن إتباع أسلوب النداء الذي اعتمد أداة النداء ((يا)) وهي تستعمل لمناداة البعيد أصلا في مخاطبة القاضي ما هو إلا استعمالا واختيارا دقيقا أريد به الإشارة أو الإيحاء إلى دلالة البعد الحاصل بين المتكلم (الإمام عليه السلام)والقاضي الذي خالف الحكم الإسلامي عندما اشترى دارا من غير ماله الخاص .
وفي هذا النص تبدو العلاقة السببية جلية لان الجملة الأولى كانت سببا للجملة الثانية التي حملت دلالة الخسران في الدنيا والآخرة وهي إحدى الدلالات التي سعى النص إلى إظهارها ,فقد كانت إحدى مقاصده التوجيهية أو الوظيفية ((لان أي نص أدبي تتقاسمه وظيفتان لكي ينمو ويستمر ...وهما الوظيفة التوجيهية والتعويضية )) وهما اللتان ساعدتا على نمو النص واستمرار قدرته على التأثير في المتلقي الحاضر في المكان والذي سيأتي به الزمان والمكان في قادم الأيام ,لان النص ينشد التوجيه والتوعية والإرشاد ولا يتوقف عند وصف لحاثة أو كشف غامض من الأعمال والأفعال بل يتعدى ذلك إلى ما هو أسمى منه في التأثير النفسي في بنية العقل الفردي المسلم ولغير المسلم أيضا لان القيم التي يتحدث عنها النص هي قيم إنسانية خالدة ,إنما هي قيم عامة لا تخص قوم أو زمن معينين ,إنما تنفتح على المستقبل ,وتسمو على الخصوصية وتنفر من التقييد ,وتسعى إلى إشاعة الشمولية في المقاصد والغايات النبيلة .
ونظل نلمس العلاقة السببية علاقة رابطة في النص ومؤدية الى تماسك النص الأدبي وانسجامه وظهوره بالمظهر البليغ القادر على إيصال الدلالة بأوضح صورها وأجملها وأكثرها تقبلا من المتلقي ,فنرى الإمام(عليه السلام) يقول وهو يوجه إرشاداته إلى القاضي ويحدد الهدف بدقة ويدل عليه وبتركيز قاصدا التأثير ,موضحا أن شراء الدار ما كان ليحدث لو أن القاضي أتى الإمام (عليه السلام)وحدثه بذلك أي لو استشاره فيما قدم عليه وهذا واضح في ((أما لو انك لو أتيتني عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتابا على هذه النسخة ,فلم ترغب في شراء هذه الدار بدرهم فما فوق))ومن هذه الجمل نستنتج نتيجة لسبب ,فالنتيجة هي عدم الشراء وعدم الوقوع في الخطأ والحرام ,والسبب في النص واضح أيضا تدل عليه جملة ((لو انك أتيتني عند شراءك.....))وهذا يدل على أن النص قد اوجد علاقة السببية كعلاقة رابطة وهي علاقة منطقية وليست علاقة لفظية ,وهذا يشير إلى الترابط والانسجام الحاصل في النص ,لان الكتاب الذي يقدمه الإمام(عليه السلام) إلى القاضي سيكون سببا في حجزه عن الشراء الذي صار مقصد المتكلم وهو الدافع لإنشاء النص الذي يقدم لنا أفكارا نحن والمخاطب في حاجة ماسة لها لأنها تهذب النفس البشرية وتقومها ,وما كان لهذا النص من تأثير إنما مرده إلى الفكرة النبيلة والصياغة الدقيقة التي جاءت على وفق الفهم المشترك بين المتكلم والمتلقي فهما قريبان من الحدث بل هما في خضمه و((كلما كان المتكلم والمتلقي قريبين من حيث الزمان والمكان والأعراف الاجتماعية ,كان ذلك ادعى إلى وضوح علاقات الارتباط العرفية ,مما يؤدي إلى فهم المتلقي المعنى الدلالي العام ))وهو الغاية التي سعى لها النص ووفق في تقديما عندما تضافرت علاقات النص ومنها العلاقة السببية فأنتجت نصا منسجما محكم البناء واضح الدلالة,قادر على إيصال الفكرة المركزية التي تمحور حولها النص وتركزت الدلالات المستوحاة من الجمل والتراكيب اللغوي التي تشكل منها النص في صورة تشعر المتلقي بقوة بنائها وحسن صياغته لأنها قد راعت التقاليد اللغوية التي وفرت للنص الاستمرارية الدلالية المنتجة من خلال مجموعة المفاهيم والعلاقات التي تتخلل النص إذ أن ((الاستمرارية الدلالية تتجلى في منظومة المفاهيم والعلاقات الرابطة بين هذه المفاهيم)) التي استطاعت ان تؤسس لنص محكم بليغ توافرت لديه المقدرة على التأثير والانتشار.
ثانيا-علاقة الإجمال والتفصيل:
تحكم أي نص أدبي علاقات لا تبدو ظاهرة على السطح ,أي ليس لها وجود لفظي يمكن الاستدلال عليه في النص ,وهذا يعني أنها علاقات منطقية عرفية ,ومن هذه العلاقات التي وجدنا لها حضورا في النص الذي ندرسه –علاقة الإجمال والتفصيل التي يلجأ إليها منشئ النص عندما يريد تقديم فكرة تبدو مجملة تحتاج إلى إيضاح يتولاه التفصيل فيشرح ما كان مجملا ويدل على جزئياته ,وفي ذلك تأكيد للمعنى ومحاولة لإرساء قواعد فهم صحيحة في نفس المتلقي ,لان الشيء إذا صار مجملا تولدت في النفس رغبة لمعرفة تفاصيله ,وأننا لنلمس هذا الإجمال في جملا وردت في النص المدروس ,ثم جاءت جملا أخرى نهضت بمهمة التفصيل فإبانته ودلت عليه وهي بذلك استطاعت أن تؤكد المعنى وترسي الدلالة,وتلبي رغبة في نفس المتلقي ,وتعيد صياغة علاقة الود والمشاركة بين المنشئ والمتلقي,ومن ذلك ما نجده في قول الإمام (عليه السلام)للقاضي شريح((انك لو أتيتني عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتابا على هذه النسخة,فلم ترغب في شراء هذه الدار بدرهم فما فوق ,والنسخة)),يبدو من النص ان لفظ (النسخة )لفظ مجمل ,وهذا الإجمال مكتسب من التركيب وليس للبناء الصرفي دخل في ذلك, وقد ظل هذا الإجمال بحاجة إلى تفصيل وظل المتلقي في متلهفا لسماع هذا التفصيل ,لذلك جاءت الجمل التالية تفصيلا لما أجمل فهو يقول((هذا ما اشترى عبد ذليل من عبد قد أزعج بالرحيل ,اشترى منه دارا .....))وهذا التفصيل ما جاء إلا ليوفر أو يحقق غاية سعى لها المنشئ لان(( علاقة التفصيل والإجمال لا تخلو من غاية ,وهي تأكيد التفصيل للإجمال))والتأكيد غاية تتحقق من خلال الاستمرار في ذكر التفاصيل التي يحتاجها المتلقي من طرف ,ويرغب المنشئ في إثباتها قصد الإبلاغ وإحداث التأثير في السامع وتؤدي أيضا إلى استمرارية الدلالة التي ينشدها النص في نموه وتطوره ((لان علاقة الإجمال والتفصيل,تعد إحدى العلاقات الدلالية التي يشغلها النص لضمان اتصال المقاطع يبعضها عن طريق استمرار دلالة معينة في المقاطع اللاحقة))التي استطاعت ان تضمن نمو النص وسيرورته نصا محكما بليغا ذا وقع وتأثير وان اختلف زمانه وبعد به المكان
ونجد علاقة الإجمال والتفصيل مرة أخرى تبدو واضحة في قول الإمام علي (عليه السلام)وهو يصف الدار التي اشتراها القاضي بان لها ((حدود أربعة :الحد الأول ينتهي إلى دواعي الآفات ,والحد الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات , والحد الثالث ينتهي إلى الهوى المردي ,والحد الرابع ينتهي إلى الشيطان الغاوي ,وفيه يشرع باب هذه الدار)) فلقد ذكر أن للدار حدود أربعة ,وفي هذا القول إجمال إذ لابد من توضيح وتفصيل لهذه الحدود لذلك نرى الإمام (عليه السلام)يبدأ بتفصيل هذه الحدود ذاكرا صفاتها دالا على غاياته ومنتهاها مبتدأ بالحد الأول الذي يراه انه ينتهي إلى دواعي الآفات ويستمر في توصيف هذه الحدود وتفصيل ما أجملته جملة(لها حدود أربعة)إذ أنها احتاجت إلى الإيضاح الذي اسند إلى التفصيل فكان خير توضيح وأفضل وإبانة , وقدر على ترسيخ المعنى في عقل المتلقي الذي ينشد المعرفة التامة بتفاصيل الفكرة.مضاف إلى ذلك ان التفصيل استطاع أن يضمن للنص استمرار يته وتطوره وان يحقق له الغاية التي من اجلها أنشئ ويؤدي الوظائف التي اسند تاليه ومن هذه الوظائف , الوظيفة التوجيهية التي ((هي من ضرورات نمو النص وسيرورته ,إذ كل جملة تلقي مزيدا من الضوء على المنطلق ,سواء أكان على أصله أم لا ,فقد يحدث أن المنطلق يكون في البداية ,ثم تتوالى جمل تخصصه ))أو جمل تفصل ما أجمل فيه غرض الإبلاغ والتوجيه والرعاية للغاية والقصد الذي اكتنف النص وساعد على نشوءه ونموه وظهوره للعيان بلغة بليغة قادرة على إيصال الدلالة بأقصر السبل وأدقها أداء.
وتبدو لنا علاقة الإجمال والتفصيل واضحة جلية في مقاطع أخرى من هذا النص المدروس ففي قوله(عليه السلام)واصفا للقاضي قوة الخالق جل وعلا وقدرته على إهلاك الملوك وسلب( نفوس الجبابرة)وهذه اللفظة (الجبابرة)فيها إجمال لابد من تفصيله وذكر هؤلاء وعدهم ,وهذا يدل على أن هذه اللفظة قد احتاجت إلى التفصيل لما له من اثر في المعنى والدلالة ,لذلك نجد الإمام(عليه السلام)يفصلها فيقول هم((كسرى وقيصر ,وتبع وحمير ,ومن جمع المال على المال فأكثر ,وبنى وشيد وزخرف ونجد وأدخر..)) فهولاء وغيرهم هم الجبابرة الذين ورد وصفهم في النص ,وفي هذا التفصيل إيضاح لعلاقة دلالية(( لا يكاد يخلو منها أي نص ,يحقق شرطي الإخبارية والشفافية مستهدفا تحقيق درية معينة من التواصل , سالكا في ذلك بناء اللاحق على السابق ,بل لا يخلو منها أي نص يعتمد الربط القوي بين أجزاءه))ولقد جاء هذا النص مترابطا قويا اجتمعت فيه علاقات منطقية ولفظية عدة ساعدت على ظهوره نصا محكما اتسم بالانسجام والترابط ,وهذا ما أهله للقبول وأمده بالقدرة على التأثير في المتلقي وان اختلف زمانه ومكانه لأنه نص عابر لحدود الزمان والمكان لكون الفكرة التي يقدمها فكرة إنسانية تتوالد مع البشر وتدخل في أخلاقهم وسلوكهم مهما اختلفت ألوانهم وأمصارهم لان فكرة العدل فكرة إنسانية يسعى لها البشر السليم الفطرة جاهدا في كل العصور والأزمان.
ثالثا- علاقة الشرط والجزاء:
هي إحدى العلاقات المنطقية التي تحكم النص وتؤدي إلى انسجامه,ومن ثم مقبوليته لدى المتلقي حين يجد فيه المتعة والمنفعة وان هذه العلاقة قد تتواجد في النص الأدبي لغرض أراده المنشئ وعندها تتعاضد هذه العلاقة مع ما في النص من علاقات لفظية أو منطقية فتؤدي إلى ظهوره نصا منسجما ذي بناء رصين قادر على التأثير والبقاء والسيرورة وقابل أيضا للتأويل والمشاركة ,عندما يكون باستطاعته أن يثير في المتلقي أسئلة ,ويثبت في وعيه علامات من التعجب ,أو الاستفهام ,أو الحيرة ,أو القبول, أو الرفض ,وهذه كلها تشير إلى التفاعل بين النص والمتلقي ,وكلما كان هذا التفاعل عميقا ,صار النص أكثر إثارة وأحق بالتأثير من غيره ,ولما كان غاية النص المدروس هو إحداث التأثير الفاعل وبث التوجيه الصارم ,وإشاعة النص والرشاد العام ,وجدنا أن الإمام علي (عليه السلام) يقول(( فانظر يا شريح ,لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك ,أو نقدت الثمن من غير حلالك ,فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة)),يبدو لنا من هذه الجمل التي صيغت بدقة ,وبتحكم سليم في التراكيب وعناية فائقة في الدلالة التي أوجبت تغيرا في النمط المألوف وابتعادا عن المعيارية في الصياغة ,لذلك وجب علينا أن نقوم بصياغة أخرى للجمل من اجل البحث ليس إلا ولكي نتمكن من عرض ما وجدناه من علاقة منطقية تجمع بين جمل النص وتجعله نصا منسجما وهذه العلاقة هي علاقة الشرط والجزاء المتحققة في الجمل أعلاه ,فلقد قدم الإمام علي (عليه السلام) جمله هذه على وفق أسلوب النهي حين استعمل أداة النهي "لا"فقال (لا تكون)وكأنه يريد أن يبعد ما كان واقعا بالفعل وهي التفاتة مهذبة راعت الحالة النفسية للمتلقي حتى لا يكون الوقع شديدا وعندها يفقد النص والإرشاد أثره المنوط فيه ,وما أحوجنا إلى مثل هذا الأسلوب في خطابنا الراهن ,ثم أن هذه الجمل قد اعتمدت أسلوب الشرط والجزاء أداة لنقا الدلالة وإيصال المعنى المبتغى ,ولكن هذا الأسلوب قد طرأ عليه تغير تمثل في تأخير أداة الشرط " إذا" حتى جاز لنا ان نقدر القول ونعيد صياغته بالشكل الأتي لكي توضح العلاقة القائمة بين جمله,أي إننا نعمل إلى فك النص وإعادة تشكيله قصد التحليل لا غيره ,لذلك فالنص يكون هكذا((إذا أنت ابتعت هذه الدار من غير مالك ,او نقدت الثمن من غير حلالك فأنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة) وبهذا تبدو علاقة الشرط والجزاء واضحة جلية ,استطاعت أن تلم شمل الجمل وتحد الدلالة وتقدم المعنى بشكل مؤثر ومقبول لدى المتلقي لأنه ((لكي يكون النص مقبولا عند المتلقي ,لابد من ان تكون مجموعة الوحدات الكلامية تشكل نصا متماسكا ,يمس المتلقي من طرف ما,ويحدث فيه تغيرا ,وعندها لابد أن يكون النص ذا نفع للمستقبل,أو صلة ما به ,أي اكتسابه معرفة جديدة ,أو قيامه بالتعاون لتحقيق خطة ما)) ,والملاحظ أن كلا الحالتين قد تحققتا في النص ,فهو نافع لمن أراد أن اكتساب معرفة بأمور العدل والحق والشرع ,وهو دعوة إلى تجنب الخطأ في الأعمال وعدم التسرع في اتخاذ القرارات إلا بعد المشورة من ذوي الألباب ,وهو يعني أيضا أن على المرؤوس أن يأخذ رأي رئيسه فلا يتعجل ثم يندم أو يخسر ثقة الناس فيه وثقة قائده مضافا الى وقوعه في الإثم والخطيئة.
وقد لا تأتي علاقة الشرط والجزاء واضحة ,إلا بعد التمحيص والتاني لشدة تماسك النص ولقوته البلاغية وصناعته المحكمة ,مما يحتاج من محلل النص التمعن والروية والتقصي لإيجاد أماكن أدوات الشرط التي لا وجود ظاهري لها في النص ,إنما يعتمد اكتشافها على فطنة الباحث الذي يستدل عليها من المعنى المعطى والدلالة العامة ,ومن هذا النوع ما نجده في قول الإمام(عليه السلام) ((فعلى مبلبل أجسام الملوك ,وسالب نفوس الجبابرة ,ومزيل ملك الفراعنة ,مثل كسرى وقيصر ,وتبع وحمير ,ومن جمع المال على المال فأكثر,وبنى وشيد وزخرف,ونجد وادخر ,واعتقد ونظر بزعمه للولد- اشخاصهم جميعا إلى موقف العرض والحساب)) وعن هذا النص يقول الشارح محمد عبده-((أي إذا لحق المشتري ما يوجب الضمان فعلى مبلبل الأجسام إرساله هو والبائع إلى موقف الحساب))ونحن نوافقه الرأي في هذا التقدير الذي ذهب اليه ,لان لفظة (اشخاصهم)هي مبتدأ مؤخر خبره (على مبلبل الأجسام)لذلك وجبت صياغة النص بالشكل الذي رآه الشارح ,وهذا يدل على أن النص قد تحكمت به علاقة الشرط الذي هو((تعليق أمر على أمر أخر ,وعبارة الشرط وعبارة الجواب جميعا تؤلفان جملة واحدة تسمى جملة الشرط))وعندما يكون القول جملة واحدة فان الترابط والانسجام يكون عنوانا له ,وهو أيضا قد ضمن للنص انسجامه ((وكل ذلك خلق ترابطا شديدا في النص ,كان الرابط الأساسي له الشرط والجزاء))الذي تشير إليه إحدى أدوات الربط هي ((الفاء))في قوله((فعلى))وللأداة أهمية في الاستعمال اللغوي العربي ((لأنها القرينة اللفظية المستخدمة في التعليق وتعتبر من القرائن الهامة في الاستعمال العربي))فالأداة الربطة الفاء استطاعة ان تدل على علاقة الشرط والجزاء لأنها تصاحب الجمل الشرطية في كثير من الأحيان ,وأشارت إلى أن الجزاء –أي جملة الجزاء(اشخاصهم جميعا إلى موقف العرض والحساب )قد تقدمت على جملة الشرط في هذا التغيير في البناء والتركيب دلالة وغرض قصده المنشئ ليحقق إشعار المذنب بالعقاب ,كوسيلة ردع عن ارتكاب الأخطاء في الزمان والمكان المعينين وفي الأزمنة القابلة ,لان أسلوب الشرط يدل على العموم الشيوع ويستعمل دائما لنقل أفكار عامة ,لذلك نراه شائع في الحكم والأقوال السائرة مسارها.
وفي النص المدروس نجد لهذه العلاقة مصاديق منها قوله (عليه السلام)((شهد على ذلك العقل إذا خرج من اسر الهوى وسلم من علائق الدنيا))وتبدو علاقة الشرط والجزاء واضحة جلية وان حدث فيها تقديم لجملة الجزاء على جملة الشرط وذلك لدواعي أبلاغية ودلالية تعمدها منشئ النص وسعى إليها في تقدير لأهمية العقل في الإنسان ودوره في حسم كثير من الأمور ولمقدرته على التمييز بين الصائب والخاطئ ,وهذه العلاقة جاءت لترسخ الترابط بين جزئيات النص من جمل أو مقاطع ولكي تظهره بالمظهر الذي يستدعي الانتباه ويثير في المتلقي الرغبة في الحصول على المنفعة بعد أن استطاعت التراكيب اللغوية المنسجمة من التأثير فيه بما وفرته من متعة صنعها الجمال الفني الذي اتسمت به هذه القطعة النثرية لسيد البلغاء والمتكلمين الإمام علي (عليه السلام).
الخاتمة :
إن دراسة مظاهر الانسجام في رسالة الإمام علي (عليه السلام)للقاضي شريح قد أوصلتنا إلى نتائج يمكن إجمالها بالاتي :
١- أكد البحث في كثير من تحليلاته للنص الخطابي ، ضرورة العكوف على دراسة كتاب (( نهج البلاغة )) لوضع الحلول لكثير من المشاكل المجتمعية والآفات التي تنخر بالعلاقات الإنسانية السامية التي خطها الله للبشر ، فنستطيع القول بأن النص الخطابي كان ولا يزال تطبيقا لمبادئ القرآن الكريم وهذا ما تجلى للباحث من خلال تعميق الرؤية والتحليل في الخطاب الذي يقول فيه الإمام لقاضيه:((بَلَغَني أَنًكَ ابتعت دارا بثمانين دينارا ، وكتبت لها كتابا ، وأشهدت فيه شهودا )) .
فيبدو أن المنشئ متيقن من الخبر الذي وصل إليه ، وهذا ما يوضحه اللفظ( بلغني) ولم يقل (سمعت) ولاشك أن السمع للخبر ذات صفة شمولية لا تمنح المنشئ خصوصية الخبر في السمع كونها تؤدي لأمرين :
الأول : صدق الخبر . والثاني : كذب الخبر
إما ( البلوغ ) فهو الوصول والنهاية ، وكأن المنشئ يريد أن يؤكد للمخاطب تيقنه من فعله فهو لا يدع للقاضي أي مجال للتشكيك بما يقوله المنشئ ، ولتأكيد تلك المعلومة أسترسل في إظهار التفاصيل الدقيقة للحدث من خلال علاقة الوصل ، فالقاضي قد أشترى تلك الدار بثمانين دينارا ومن ثم كتب عقد تلك الدار ، بل وضع على عقد البيع والشراء شهودا ولعل سمة التأكيد في تقصي المعلومة هذه تشير إلى حقيقة مهمة، يجب أن يقف عندها كل الحكام والقضاة ، والمسؤولون وهي التيقن من المعلومة قبل توجيه التهمة إلى الآخرين وهذا ما يؤكد عليه ديننا الحنيف فجاء بقوله تعالى : (( وإذا جاءكم فاسق بنبأ..... )) .
٢- لقد تمثلت مظاهر الانسجام بوجود علاقات منطقية ساعدت في تحقق انسجامه وظهوره نصا محكما,وقد كانت هذه العلاقات على ثلاثة أنواع هي:علاقة السببية ,علاقة الإجمال والتفصيل,علاقة الشرط والجزاء.
٣ - ارتبطت اغلب جمل النص بعلاقات منطقية غير واضحة للعيان ,إنما يستدل عليها من خلال التحليل وإعادة صياغة النص أي إعادة تشكيله قصد العثور على هذه العلاقات وإظهار أثرها في الترابط والانسجام الذي بدا عليه النص.
٤ - اتضح أن جمل النص كانت لا تقتصر في ترابطها على علاقة منطقية واحدة,بل أن هنالك تداخل بين هذه العلاقات ,كان من نتائجه الواضحة قوة تماسك النص وانسجامه .
٥ - اعتمد البحث على التقصي الدقيق لجميع العلاقات وأدوات الربط التي حكمته وميزته نصا قادرا على حمل الدلالة المؤثرة والشكل الفني الناضج الذي يستهوي القارئ والسامع.