الشيخ مقداد الدجيلي
حينما ندرس ماهية الفتنة وآثارها المدمرة كما سلّط الإسلام الضوء عليها، وكما كشف عنها وحذّر منها، فإنما نفعل ذلك لندرك مدى تأثيرها في جرّ الابتلاءات على الحياة الفردية والجماعية، لنحسن بعد ذلك الوقوف أزاءها على أقدامنا، ونثبت على الصراط المستقيم وليس كالإمام علي(عليه السلام) في خطبه وتوجيهاته من بيّن وأوضح بإسهاب رأي الإسلام في الفتنة ومثيريها.
الفتنة: الاختبار والامتحان والابتلاء، وفتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميّز الرديء من الجيد، ويقال فتن الرجل بالمرأة وافتتن [١] ، فتكون بمعناها اللغوي صالحة للاستعمال للابتلاء الفردي والجماعي، وبهذا نتعرّف على نوعَين من الفتن:
١ ـ الفتنة بمعنى الاختبار والامتحان الربّاني بالنعم، وتشير إلى ذلك الآية الكريمة: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة...) [الأنفال: ٢٨].
٢ ـ بمعنى الاختبار في درجة الوعي وتميّز المؤمنين من المنافقين، وتشير إليها آية (أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: ٢ـ٣].
أمّا بالمعنى الأول وهو الاختبار في النعم والابتلاء الفردي فيشير إليه الإمام علي(عليه السلام) بقوله:
((لا يقولنّ أحدكم أللهم إني أعوذ بك من الفتنة، لأنه ليس أحد إلاّ وهو مشتمل على فتنة (بمعنى الاختبار الفردي) ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن)) [٢] (بالمعنى السياسي الكاشف للمؤمنين من المنافقين))).
إن إثارة الفتن في التاريخ البشري صفة قديمة، وهي ذات مدلول سلبي بالنسبة لحركة التقدّم النبوية.
وحينما نقسّمها لا يعني وجود حدود مائزة تامة الانفصال بينهما حيث قد يتداخل القسم مع الآخر.
يقول الإمام عليّ(عليه السلام): ((لأنه ليس أحد إلاّ وهو مارٌ بها)) [٣] ، يشير (عليه السلام) إلى أن المرور بالفتنة بالمعنى الفردي هو سنّة من سنن الوجود.
وتتخذ الفتنة العامة، أي مضلات الفتن والتي هي عوائق تبرز في طريق حركة تقدم الأنبياء (عليه السلام) والإنسانية السليمة أشكالاً ثلاثة [٤] :
١ ـ الفتنة الشاملة، ٢ ـ الفتنة الغالبة، ٣ ـ الفتنة العارضة.
١ ـ الفتنة الشاملة
من سماتها أنها تكون مستوعبة لكل المجتمع، لا يخلو منها مستوى من مستوياته، ومثالها فتنة الجاهلية قبل بعثة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في الجزيرة.
وسماتها:
١ ـ فقدان النظام الأخلاقي والإيماني في الحياة، حيث يقول الأمير (عليه السلام) حول ذلك: ((انجذم (انقطع) فيها حبل الدين)) [٥] .
٢ ـ شيوع روح الشك واتباع المقياس الذاتي الأناني المزاجي المصلحي في القيم، حيث يقول الإمام(عليه السلام): ((تزعزعت فيها سواري (أعمدة) اليقين)) [٦] .
٣ ـ المجتمع فيها يكون كالمجتمع الجاهلي منقسماً طبقياً، فئوياً، عائلياً، وبدون هدف سام.
مثال الفتنة الشاملة: أمثلتها في الوجودات الاجتماعية التي تكوّنت بعد محاربة الرسل والرسالات الإلهية، حيث سادت الجاهلية وأصبح المجتمع فاقداً لأصل العقيدة لابتعاد المجتمعات عن تعاليم الرسل أو لتحريفها، وحال عرب الجاهلية خير مثال على ذلك.
واستقرائياً: فإن أغلب الفتن الشاملة حدثت نتيجة انحرافات عارضة ما لبثت أن تحولت إلى شديدة مستمرة.
٢- الفتنة الغالبة
وهي دون الشاملة، حيث تشمل ساحتها أغلب الناس لا كلهم، وهي فوق الفتنة العارضة (بل هي مرحلة أولية لها)، حيث في الغالبة مجتمع له إطار ديني ذو رسالة نبوية، لكن المجتمع جلّة يسير باتجاه الانحراف عن الدين، وهي تنشأ نتيجة تدهور عقيدي، وعماية عن الحق وأهله، فتفشل النخبة الإيمانية القليلة في علاجه، فهي إذاً تبدأ كفتنة عارضة تستفحل على مرّ الزمن إلى أن تصبح غالبة.
ومثالها: ما حصل من فتنة عارضة بعد وفاة الرسول(صلّى الله عليه وآله) وأصبحت غالبة بعد شهادة الأمير(عليه السلام)، وكذلك مثالها بعض المجتمعات الإسلامية التي يعتمد حكّامها على وعّاظ السلاطين.
ومن سمات الفتنة الغالبة: التي تبدأ عارضة إذا استمرت تتحول إلى شاملة. هو تكوّن قناعات جديدة وقيم جديدة مضللة تدخل إلى الدين لتعطي الشرعية إلى الحكام الجدد المتلبّسين بلبوس الدين، لكن تبقى هناك فئة قليلة متمسكة بالقيم الصالحة، تعلنها وتجاهد دونها، كما تبقى هذه القيم موجودة بصورة كامنة عند مئات من عوام الناس، ومن هذه الحالة يكون ظاهر الدين باقياً أمّا جوهره وقضيته الكبرى فمغيبتان، هذا ما طغى على عهد الأمويين وصاحب كذلك زمن العباسيين امتداداً إلى زمن العثمانيين وغيرهم. والآن تمرّ مجتمعاتنا بهذه الفتنة.
سمتان أساسيتان للفتنة
١ ـ تغليب المقياس الذاتي، حيث يكون المقياس هو الطمع والشخصانية والأنانية وليس العقيدة والتشريع، فيتجه الناس إلى النوازع الذاتية.
((إنما بدع وقوع الفتن أهواء تتّبع، وأحكام تُبتدع، يُخالَف فيها كتاب الله، ويتولّى عليها رجال رجالاً على غير دين الله)) [٧] (وباستمرار هذا التّولي تصير الفتنة شاملة).
٢ ـ سقوط القانون وانتهاجه عملياً ((وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله)) فتتغلّب المصلحة على القانون الشرعي الأساسي، ويبدأ ذلك في الفتنة العارضة، ويزداد ليصبح أكثر انحرافاً في الغالبة، ثم يعمّ الانحراف في الشاملة، فتتكون قناعات وقواعد جديدة يفرضها المسيطرون من أهل هذه المصالح ((ويتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله)).
كيف تتحرك الفتنة
يقول الأمير (عليه السلام): ((تبدأ في مدارج خفية وتؤول إلى فظاعة جلية))، وهذا يظهر في خطبته(عليه السلام): ((ثم إنكم معشر العرب أعراض بلايا قد اقتربت، فاتّقوا سكرات النعمة، واحذروا بوائق النقمة، وتشبّثوا في قتام العشوة واعوجاج الفتنة، عند طلوع جنينها، وظهور كمينها، وانتصاب قطبها، ومدار رحاها، تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية، شبابها كشباب الغلام، وآثارها كآثار السلام، يتوارثها الظلمة بالعهود، أوّلهم قائد لآخرهم، وآخرهم مقتد بأولهم، يتنافسون في دنيا دنية، ويتكالبون على جيفة مُرية، وعن قليل يتبرّأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، ويتلاعنون عند اللقاء)) [٨] .
كما تشير إلى ذلك الآية القرآنية الكريمة: (إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوْا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) [البقرة: ١٦٦].
الفتنة عموماً تبدأ بظواهر انحرافية بسيطة
إذ يتهاون القادة في حق الظواهر الانحرافية (تبدأ في مدارج خفية وتؤول إلى فظاعة جلية)، وهذه الفظاعة تصل بقوتها إن استمرت إلى الفتنة الغالبة ـ إلاّ ما ندر ـ فتكون بعدها فتنة شاملة.
يتوارث القادة الانحراف (يتوارثها الظلمة بالعهود أولهم قائد لآخرهم وآخرهم مقتدٍ بأولهم).
وبعدما تستشري مظاهر الفتنة، تظهر المطامع فيحصل التنافس وينقسم قادة الفتنة إلى متخاصمين، حينها تظهر تناحرات وحروب داخل المجتمع، يقول الإمام علي(عليه السلام): ((وعن قليل يتبرّأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود فيتزايلون بالبغضاء ويتلاعنون عند اللقاء)).
وليس ضحايا الفتنة الخصوم السياسيين فقط، بل الذين ساندوها أيام ضعفها أيضاً هم ضحاياها، عندما تستغني عنهم من قوتها، يقول الرسول (صلّى الله عليه وآله): ((من أعان ظالماً سلّط الله عليه ذلك الظالم))، ((من أعان ظالماً ابتلي به))، ((من عذر ظالماً بظلمه سلط الله عليه من يظلمه)) [٩].
فكيف بمن يعينه، وقد يكون المحايدون من ضحايا الفتنة لأن المحايد في البدء قد يسكت في الفتنة، فإذا استشرت يكون عليه وزر السكوت، يقول القرآن (وَاتّقُوا فِتْنَةً لاَتُصِيبَنّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصّةً) [الأنفال: ٢٥]. والبلية في الفتنة إذا نزلت عمّت، وإذا عمّت هانت. والحكم المنحرف دائماً جهاز قمعي يعتدي على المجتمع فيتفشى الظلم ويزداد الإذلال وهدر الكرامات.
أسبابها:
تحصل الفتنة بسبب التخاذل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن التناصح والتضحية، مما يجعل الفتنة تستشري نتيجة لإهمال المسؤولية تجاه الحق، يقول الإمام (عليه السلام): ((أيها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقومنّ قويّ عليكم، لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل، ولعمري ليضعفنّ بكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلّفتم الحق وراء ظهوركم وقطعتم الأدنى (أئمة آل البيت (عليهم السلام)) ووصلتم الأبعد)) [١٠].
أخطر الفتن فتنة بني أمية
لأن هدفهم كان وأد الدين، وفاءً لنهج أبي سفيان وثأراً لبدر وأحد، كما أعلنوا ذلك بأنفسهم. فهذا يزيد ابن معاوية كان يُصرّح بقوله:
لعبت هاشم بالملك ***** فلا خبر جاء ولا وحي نزل
والإمام علي(عليه السلام) يقول: ((ألا وإنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة)) [١١].
علامات للفتنة بعد شيوعها
١ـ يقول الإمام عليّ (عليه السلام): ((وكان أهل ذلك الزمان ذئاباً، وسلاطينهم سباعاً)) [١٢].
٢ ـ شيوع طبقة راكبي الموجة والمتملقين واستعمال المودّة باللسان، يقول الإمام علي (عليه السلام): ((واستعملت المودة باللسان)) [١٣] .
وإذا غلبت الفتنة واستقرت سيطرتها، فإنها تشيع روح الميوعة وانحسار الروح الرسالية وفساد العلاقات الاجتماعية، يقول الإمام علي (عليه السلام): ((واستعملت المودة باللسان وتشاجر الناس بالقلوب)) [١٤].
وعندها تنقلب المقاييس الصحيحة، فيقول (عليه السلام):
((ولُبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً)) [١٥].
مصير المؤمنين في الفتنة
يقول الإمام علي(عليه السلام): ((تدوسكم دوس الحصيد وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطير الحبة الطيّبة من بين هزيل الحبّ)) [١٦].
وأما مصير الحكمة والحق، فيقول الإمام علي (عليه السلام) عنهما: ((تغيض الحكمة (أي تختفي) وتنقض فيها الظلمة)) [١٧].
ويقول (عليه السلام) أيضاً: ((تنثلم منار الدين وتنقض عقد اليقين)) [١٨] .
كما يقول (عليه السلام) حول مصير المؤمنين: ((بين قتيل مطلول وخائف مستجير)) [١٩].
والسبب كما يقول (عليه السلام): ((أحفيتم بالأمر غير أهله، وأوردتموه غير مورده)) [٢٠] .
أي بسبب تجاوز الحق وأهله والانسياق وراء المصالح الخاصة والأنانيات والعصبيات، وعدم تحمّل مسؤوليات الصراع، ونتيجة لتراكمات الذنوب.
من نتائج الفتنة
بعد أن يسلّط الباري الأشرار بسبب تقصير الأخيار، يضطرب وضع الأمّة، فيقوم الناس للثورة ـ غالباً ـ نتيجة ما لا قوة من ظلم، ويصبح الناس قسمين: قسم يبكي دينه وقسم يبكي لزوال دنياه، يقول الإمام علي (عليه السلام): ((وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باكٍ يبكي لدينه وباك يبكي لدنياه)) [٢١].
((تزيغ قلوب بعد استقامة، وتضلّ رجال بعد طول سلامة)) [٢٢].
بعد الفتنة
ونتيجة لمحاولات الإصلاح ربما يزول قسم من الظلمة وتصبح الأمور إلى من هم أهون منهم، ويكون ذلك على قدر أوب الأمّة إلى ربّها، أو تغيّر القوم، يقول الإمام عليّ(عليه السلام): ((ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الأديم)) [٢٣].
الموقف أثناء الفتنة
إذا وجد من يمثّل القيادة الشرعية فعلى المرء أن يأخذ جانبه وموقفه، وأما إذا تشابهت السُبل وخفي الطريق فالموقف كما يقول الإمام (عليه السلام): ((كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيُحلب)) [٢٤] ، لأن البعير الذي عمره سنتان لا يصلح للحلب ولا للركب، أمّا الّذين سايروا الفتنة وأهلا كي يحفظوا مصالحهم، فهؤلاء أشدّ الناس ضلالاً.
٣ ـ الفتنة العارضة
وهي عثرة تقوم في وجه مجتمع يتبنى رسالة نبوية أثناء حركته التغييرية، فتشيع روح الحيرة والالتباس في أحايين عديدة، حيث يتعرض القادة وبعض فئات المجتمع لاختبارات حرجة، وتظهر بعض المبادئ والعادات القديمة للتعبير عن نفسها، لكن مناعة المجتمع واندفاع قوة المبادئ في قلوب الأفراد، تحول بين الفتنة وبين أن تنتشر وتتعمق وتضرب بجذورها، فتذبل حركتها ويخفّ صوت الداعين لها، ويغدون موضعاً للنقد والتجريح، هذا إن أمكن للمجتمع أن يتعافى من الفتنة العارضة، فإنه يخرج أكثر وعياً، وإن لم يتعافَ اشتدت الفتنة العارضة (نعوذ بالله) واستمرت وتحوّلت إلى فتنة غالبة.
أمثلة للفتنة العارضة
في غزوة بني المصطلق [٢٥] تشاجر حليف الخزرج (سنان الجهني) مع أجير لعمر بن الخطاب اسمه (جهجهاه) حيث استنجد الأول بالأنصار والثاني بالمهاجرين، واستغلّ الموقف (عبد الله بن أُبيّ) شيخ المنافقين وكاد أن يثير فتنة كبيرة لكي يخرج الرسول (صلّى الله عليه وآله) من المدينة ويقضي بالتالي على الإسلام. وقد كشف الله تعالى هدف المنافقين ووبخهم.
وتعرّض الأمير (عليه السلام) والمسلمون لفتنة عارضة بعد بيعة الغدير المشهورة، ولكن الإمام (عليه السلام) سكت عن حقه حفظاً للدين واستمراريته بعدما برزت عوامل الضعف لدى بعض المسلمين، وقد جاءه أبوسفيان عارضاً مساعدته عليه لكي يسترجع الخلافة بالقوة من أبي بكر، فقال الإمام علي (عليه السلام): ((هذا ماء آجن (آسن) ولقمة يغصّ بها شاربها)) ناظراً بذلك إلى مصلحة الإسلام العليا دون سواها.