صادق الظالمي (*)
أهمية دراسة المعوقات
للرؤية التغييرية وفق ما يتبنّاه الإسلام معوّقات شاخصة في وعي الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، يركّز في كل فرصة على كشفها وتثبيتها في ذهنية العاملين، ليأخذوا بها في سياق حركتهم التغييرية باتجاه التغيير المنشود، وليتجنّبوا إيجاد حركة إصلاحية قاصرة فاقدة لمقوّمات التغيير الحقيقي الشامل.
ولدراسة هذه المعوقات المنظورة أهميّة كبيرة في المنهج الإصلاحي الإسلامي، والتحوّل الصحيح تجاه القضايا الإنسانية الملحّة، والتي تلوح بوادرها ـ دائماً ـ لدى مخيّلة العاملين في الوسط الاجتماعي والثقافي والسياسي من لحظة تحرّكهم ، وبدء انطلاقتهم . فهم يرون أن النهضة المنشودة سوف تواجه جملة من العقبات والمعوّقات، فأهمية دراسة هذا الجانب تتأتى من تأمين سيرورة أثر التغيير في حياة الناس، من خلال إزاحتها أو دراسة آليات إزاحتها على الأقل قبل حدوث المطلوب في وعي النخب والجماهير...
إن هذه الأهمية تكمن ـ أيضاً ـ في إدراك ضخامة الجهد العلمي والتنظيمي المطلوب في التغيير، لكي توضع المبادىء الإسلامية في صياغات وأشكال وأساليب تتلاءم مع أطوار الواقع القادم ومتطلبات تجسيد القيم الإسلامية ، ليضمن السائرون والمصلحون أن ثمّة ضرورة ملحّة أخرى غير إحداث التغيير، وهي ضرورة الثبات على مبادىء النهضة الإسلامية في طريق شائك معقّد، وجو ملتهب بشتى أنواع الصراع، وعالم مذهول بالاكتشافات، تسكنه الدهشة والمفاجآت...
وفي ما أمكننا استقراؤه في "نهج البلاغة"، آثرنا دراستها وتحليلها؛ لاكتشاف رؤية الإمام(عليه السلام) إزاء قدرتها الذاتية على الإعاقة، بغية الوعي الجماعي بخطرها المتربّص بما يمكن أن ينهض المجتمع الإسلامي على أساسه ...
وبما أنّ رؤى التغيير روعي في رسمها ـ إسلامياً ـ مصادر الشريعة الإسلامية ، وأنموذجها "نهج البلاغة" ، بوصفه مصدراً لاستمداد شعاعها الممتدّ على طول الزمن القادم إلى مالا نهاية له، فاستكمالنا لرؤية معوقات التغيير المطلوب على أساس "نهج البلاغة" أيضاً باعتبار خلود ورسوخ بنائه وأساسه...
غير أنّ هذه المعوقات يختلف رصدها عند الإمام(عليه السلام) عمّا هو عليه عند غيره، اذ يطلقها الإمام(عليه السلام) معوّقات لها قدرة على الامتداد والتأثير عبر الزمن، تاركاً ما يتفرّع عنها لجهود الباحثين والمصلحين، طاوياً كشحاً عن رصد الجزئيات والأحداث الجانبية، لأمور تنتظم خلال ما تؤلّفه من كلّ مدمّر وبنية تأثيرية، مهما اتخذت من أشكال عصرية وتحوّلات مقبلة...
وهذه الأمور هي:
أولاً : نبذ المبادىء الشرعية والقيم الأخلاقية
يقول(عليه السلام) " "اليمين والشمال مضلّة، والطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي الكتاب، وآثار النبوّة، ومنها منفذ السّنّة ، وإليها مصير العاقبة، هلك من ادّعى ، وخاب من افترى، من أبدى صفحته للحقّ هلك" [١] .
اليمين والشمال كناية ومثل، والمقصود بهما كلّ انحراف عن المنهج الفكري الأصيل للحياة، والذي اختطّته يد التشريع بعناية فائقة ، روعي فيه حاجات الإنسان الضرورية ومتطلبات وجوده الحقيقية، والذي يسمّيه الإمام(عليه السلام) بالطريق الوسطى، وهو ما يذكّرنا بآية : (وكذلك جعلنا أمة وسطاً) البقرة : ١٤٣، أي أخياراً عدولاً [٢] .
والحصيلة أنّ للمنهج الاسلامي أحكاماً وقيماً ومبادىء وكتاباً وسنّة، يضخ الإنسان المتطلع برؤيً عادلة وخيّرة، والانحراف عنه يؤدي إلى قمّة الضياع الفكري والتيه الثقافي (مضلّة).
فلتغيير الحضاري الشامل المرجوّ تحقيقه يتمّ تحت ظلّ هذا المنهج وفي إطاره الفكري العام، والتجديد كذلك. أمّا السعي وراء ثقافات مقروءة في نماذج الآخرين هنا وهناك دون أيّ فحص أو نقد أو تحليل، فالإمام(عليه السلام) لا يتنبّأ بإفضائه إلى تعثر أو عاقبة خطيرة فحسب، بل يجزم بانتهائه إلى الهلاك: "هلك من ادّعى، وخاب من افترى، من أبدى صفحته للحقّ هلك".
ويضرب(عليه السلام) لذلك مثلاَ: "من سلك الطريق الواضح ورد الماء، ومن خالف وقع في التيه" [٣] .
فهنالك طريق واضحٌ يوصل إلى الماء، وسلوك غيره يؤدي إلى بعثرة الهدف المقصود، وهو مثلٌ يستوحيه(عليه السلام) من واقع الناس ليلفت نظرهم إلى ضرورة اجتناب الأساليب والأفكار وأنماط الحياة، التي لا تؤدّي إلى سعادتهم وأمنهم وتحضّرهم ، تلك المؤديات التي تشكّل غاية ما تصبو إليه الحركة الإنسانية والعقل البشري...
إنّ نبذ مبادىء الشريعة ومخالفة قيمها وأفكارها، لا يؤدي إلى المصير الجهنّمي الأسود فحسب، بل يؤدي إلى تعثر الكدح الاجتماعي للإنسان، وتعرقل حركة بنائه ، واضطراب علاقاته الاجتماعية وأنساقه الحياتية، وهذا ما يؤدي إلى موت حضاري وتخلّف فكري أو اتّباعه مطلقة : "ومن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة، هلك فيهما" [٤].
وهكذا يجعل(عليه السلام) اتّباع أهواء وأحكام وأفكار الآخرين والتي لا تتفق مع المنهج الشرعي، بداية كل اضطراب وتغرّب وضياع وسقوط: "إنّما بدء وقوع الفتن أهواءٌ تتبع وأحكامٌ تبدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتوّلى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله" [٥] .
فالتغيير والتجديد ودخول الإسلام في العصر، دائماً يكون محفوظاً بصراع للأفكار والمصالح والسياسات، كما يكون ممارساً في واقع تسوده الابتكارات والاكتشافات ، وهذا ما يجعل مستقبل التغيير يتعقّد تدريجاً ، وتصعب على المصلحين مهمّة الإمساك بعناصره وعوامله للتحكّم بها؛ لأنّ التغيير يعني أو يحتمّ دخول الفرد في عصره مقبلاً عليه بعقله وقلبه؛ إذ لا يمكن تغيير الواقع بالنفور منه، لكن دخوله هذا يؤدي إلى حالات نفسية يعترف بوجودها وبضرورتها رجال الفكر المعاصر جميعاً، ويذكرون منها: القلق، والتمزّق ، واليآس، والعنف، والاغتراف وما إلى ذلك من قائمة طويلة، وهنا سيجد المسلم ـ بكل وضوح ـ أنّ علاج ذلك كلّه يكمن في جوهر العقيدة الإسلامية ومبادئها.
ثانياً : عوامل التضليل والتخريب
يسعى الإمام(عليه السلام) ـ في نصوص كثيرة من "نهج البلاغة" ـ إلى أن يخلّص الإنسان المسلم من عوامل الشدّ والجذب التي تعترض طريق تلك النخب المتحرّكة لإصلاح واقعها وتغييره أو تجديده؛ لأنّ تلك العوامل تتصف بقدرتها على تضبيب الواقع او تحويله إلى صور غير واقعية، فيما يكمن سرّ انطلاقه الإنسان وجدّية تحرّكه في تشخيص خط السير ومكونات الواقع. من هنا نجده(عليه السلام) يحذّر السائرين في ذلك الطريق الشائك من الانسياق وراء خطط وخدع مجموعة من الشرائح المخرّبة، بل ويدعو(عليه السلام) إلى التفكير الجادّ والواعي بكيفية مواجهتها ...
"إيّاك ومصادقة الأحمق، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإيّاك ومصادقة البخيل، فإنّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وايّاك ومصادقة الفاجر، فإنّه يبيعك بالتافه، وإيّاك ومصادقة الكذاب؛ فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعّد عليك القريب" [٦] .
"واحذر صحابة من يفيل برأيه وينكر عمله" [٧] .
"واحذركم أهل النفاق، فإنّهم الضالّون المضلّون والزالّون المزلّون، يتلونون ألواناً ويفتنون افتتاناً، ويعمدونكم بكل عماد، ويرصدونكم بكل مرصاد" [٨].
"قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشرّتبن عنهم" [٩] .
فهؤلاء الشرائح المخرّبة والمثبطة والمضلّلة، تشكلّ قدرة الإنسان عن التحرك، وتحجب عنه منافذ الرؤية والأمل، فكان(عليه السلام) ـ لذلك ـ شديد الحرص على الصدق والحق والحقيقة والخير والجمال والتلقائية، لأنّها نوافذ للرؤية عبر ما توجده هذه النوافذ من تهذيب عظيم، ينطلق من خلاله الإنسان ويتفاعل مع مفردات الوجود وعناصر الزمن، فيمسك بعوامل تغيير الواقع الفاسد، ويتحكم بها حاضراً لبناء غد أفضل، "وبذلك أيضاً ينتفي من التهذيب السليم كلّ ما يخالف روح الحقّ وروح الخير وروح الجمال، فالتهذيب على غير أصوله الكبرى تواطؤٌ سطحي على الكذب القبيح، وهو على أصوله البعيدة إحساسٌ عميقٌ بالصدق الجميل، ممّا يجعله اندماجاً بثورية الحياة الجارية الفاتحة" [١٠] .
ثالثاً : الجهل وتوابعه
قال(عليه السلام): "العامل بغير عمل كسائر في غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق إلاّ بعداً عن حاجته" [١١] .
"الفكرة تورث نوراً، والغفلة تورث ظلمة" [١٢] .
"إنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله" [١٣] .
"العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه والاّ ارتحل" [١٤] .
"من استبدّ برأيه هلك" [١٥] .
"ولقد نظرت، فما وجدتُ أحداً من العاملين يتعصّب لشيء من الأشياء إلاّ عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجّة تليط بعقول السفهاء غيركم" [١٦] .
بهذا الحسّ النقدي الصارم يندّد الإمام(عليه السلام) بالجهل وتوابعه (التعصّب، الاستبداد الفكري، الغفلة، عدم المواءمة بين الفكر والتطبيق، التخبّط...)؛ لأنّ هذه الأمور ـ وأشباهها المتفرعة عليها ـ تتأتى بوصفها انحرافات سلوكية ونفسية لحالة الجهل بالمنهج الفكري الإسلامي الأصيل، فبالنتيجة تتحول هذه الانحرافات إلى عقبات وعراقيل، تعترض طريق التغيير عبر اعتراضها للعملية الاجتهادية والتجديدية التي تؤمّن الجانب الفكري والتنظيري للتغيير، وأيضاً لاعتراضها السلوك الاجتماعي والتطبيقي المطلوب والملائم ...
التغيير الحاضر يتطلّب اجتهاداً فكرياً وعلمياً أصيلاً، يستوعب ثوابت الشريعة وأحكامها وقيمها، كما يستوعب العصر بكل أشيائه وعلاقاته وتعقيداته، فيكون شرط الدخول في العصر والتعبير عن مكوّناته بشكل ملائم لطبيعه التوجّه الفكري في الإسلام، هو رؤية إسلامية لهذه المكوّنات، وإقامة روابط وجدانية وروحية وعقلية وأخلاقية معها، وبهذا يكون التجديد عبارة عن هضم وتمثل شيئين أساسيين: الشرع والعصر، بكل ما لكليهما من مكونات وأدوات وخبرات وتطلّعات... فكيف ـ والحال هذه ـ يكون دور الجهل وتوابعه في إعاقة التجديد والإصلاح؟!
وعلى هذا الأساس يكون للعقل دور محوري في هذه العملية، بالإضافة إلى احترامه من قبل متبنيات الدين وأحاديث الشريعة ونصوص القرآن، والحث على إعماله كأداة فاعلة في التفكير، إذ الاجتهاد ثمرة من ثمرات إعمال القوّة العقلية في النصوص الإسلامية ، (مسموح به إلى الحدّ الذي لا يناقض النصّ الصريح... وإنّ المصلح الديني وقد اكتسب وعيه التأريخي على هذا النحو، فإنّ أداته التي أعلن هي العقل، والعقل هنا هو ذلك الذي يتوسّط بين النصّ والتأريخ... إذ ذاك يغدو الإصلاح الديني ثمرة من ثمار العقل المرفوع شأنه إسلامياً) [١٧].
وعلى أساس الكمّ الهائل من النصوص الإسلامية التي تمجّد دور العقل في العملية التجديدية والتغييرية، ندرك السرّ في نقد الإمام(عليه السلام) للجهل وتوابعه من خلال النصوص المتقدّمة، لأنهما يشلاّن الطاقة التفكيرية للعقل، ويقودانه إلى إحداث مضاعفات تقف في طريق التحوّل المطلوب، فالجهل الخالص يؤدي إلى الجمود والتخلف والتبعية، واستخدام العقل بطريقة خاطئة أو خالية من التطبيق يقود إلى نتائج مغايرة لما يتطلبه التجديد والإصلاح.
وهكذا يتكرّر المشهد إن تكرّرت شروطه الموضوعية ، وفي كلتا الحالتين لا يمكن أن يتحقق تغيير أو انبعاث أو تجديد...
فالجهل وتوابعه كلّها تنبع من غياب أو تغييب دور العقل في الحياة الفكرية والاجتماعية للشعوب، وهو ـ كما يكون سلاحاً تدميرياً حاضراً ـ يكون سلاحاً لتدمير المستقبل أو تجميد مكونات الوعي في الأجيال المتلاحقة، والقضاء عليه إنّما يكون بسلاح مضاد أشدّ فتكاً وهو العقل...
(لكن العقل أبعد ما يكون عن مجرد أداة تفكير منطقية فحسب، بل أنّ ضرورة الإصلاح هي ضرورة عقلية، لأنّها تستجيب لواقع الحال والمستقبل المنشود) [١٨] .
من هنا لم يكن الجهل وحده عند الإمام(عليه السلام) هو الذي يسبب حالة الجمود أو التخلف أو التبعية، بل هنالك التعصّب والاستبداد وسوء الفهم والتطبيق، كما قرأنا في النصوص الواردة أعلاه... وهكذا نجد أنه(عليه السلام) يتعدّى حدود التنديد بالجهل، ليندّد بالغفلة ويشيد بالتفكير: "الفكرة تورث نوراً، والغفلة تورث ظلمة" .
لأنّ الغفلة لا تتلاءم مع وعي الذات ودورها التغييري من أيّ واقع مظلم تعيش فيه، فيما يؤدي التفكير إلى الإبصار والرؤية والموقف؛ فهنالك ماضٍ وتجربة وثوابت، وهنالك حاضر ومستقبل ومتطلباتهما، فلا نستطيع بالجهل أو بمضاعفاته حلّ مشكلات التغيير والتحوّل المطلوب بالاتّباعية المطلقة أو بالسلفية الجمودية أو بالاغترابية الانكفائية، فهذه المناهج كلّها إمّا جهل بالماضي، أو جهل بطرق التعامل المثمر معه، وإمّا جهل بالعصر ومتطلباته، فعلينا (أن نجد ـ مرّة أخرى ـ الينبوع الصالح الحيّ، والطاقة المبدعة للإسلام في فجره.
والشريعة ليست بركة راكدة يغرف المرء منها ماءً آسناً: إنّ هذا الماء لن يطفىء أنواع العطش الحديثة، إن الشريعة نهرٌ رائع الجمال مرسل للنور، يضفي الخصب على ضفافه أثناء جريانه...) [١٩] .
وهذا ما يحتاج ـ بطبيعة الحال ـ إلى طاقة بحثية ونقدية كبيرة، وجهد متواصل؛ لاستخلاص النتائج والعمل الجاد بها...
رابعاً : الاعتماد على الغير وغياب الاستعداد الذاتي
قال(عليه السلام) : "من استعان بغير مستقل ضيّع أمره" [٢٠] .
"الخائن من شغل نفسه بغير نفسه، وكان يومه شرّاً من أمسه" [٢١] .
"من اعتزّ بغير الله ذلّ" [٢٢] .
"لا تزيدني كثرة الناس حولي عزّاً ولا تفرّقهم عني وحشةً" [٢٣] .
"تحلّ باليأس مما في أيدي الناس" [٢٤].
"لا تترك الاجتهاد في إصلاح نفسك، فإنّه لن يعينك إلاّ الجدّ" [٢٥] .
"لا تكن ممّن يرجو لنفسه بأكثر من عمله" [٢٦] .
"من أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه" [٢٧] .
"والله مستأديكم شكره، ومورثكم أمره، ممهلكم في مضمار ممدود، لتتنازعوا سبقه، فشدّوا عقد المآزر، واطووا فضول الخواصر، لا تجتمع عزيمة ووليمة ، ما أنقص النوم لمزائم اليوم!" [٢٨].
إنّ هذا التأكيد على الاعتماد على ما تكتنزه الذات والإرادة الإنسانية من قدرة على الفعل الخلاّق المغيّر، وصولاً إلى استعداد ذاتي محكم أصيل مبتن على قاعدة فكرية رصينة ... ينبّهنا إلى أنّ غيابه أو الاعتماد على الآخر عقبة كأداء تقف في سبيل التحوّل المطلوب.
إنّ المهمّة الأساسية لدعاة التغيير وطلاّب التجديد في واقعنا المعاصر أو في أيّ واقع سيجيء، ومهما كان شكله ودرجة تعقّده.. إنّ أوّل مهمّة وأهمّ عقبة هي كيفية إخراج النظرية المصاغة للتجديد من أطرها النظرية، وتحويلها إلى خطط وبرامج النظرية المصاغة للتجديد من أطرها النظرية، وتحويلها إلى خطط وبرامج تنفّذ في الواقع الفاسد أو المتخلّف. ولكن السؤال الأساسي هو: بأي منهج فكري أو عملي يتم التطبيق؟ هل يتم ذلك بالمنهج العلماني أو السلفي المتشدّد أو بشيء ثالث؟
إنّ الاعتماد على الغير وغياب الاستعداد الذاتي، كما يتحقق في الأمور الحياتية والعملية، يتحقّق كذلك في الاعتماد على مناهج الآخرين وأفكارهم، وغياب الهوية الفكرية والشخصية لممارسة عملية التغيير والتجديد.
والحقيقة أن هذه الآراء جميعها تدور في فلك الآخر، وتتطلق من أزمة غياب الاعتماد على الذات وقدرتها على التغيير والتفكير، فهي تتردد بين الاتباعية المطلقة والابتداعية المطلقة أو التلفيق فيما بينهما.
من هنا، كان الاستعداد الذاتي للتفكير والتحرّك باتجاه بناء حاضر كريم ومستقبل مشرق، هو مقصود الإمام(عليه السلام) من أحاديثه وكلماته الأصلية، من أجل الوصول إلى صيغة فعّالة لإقامة توازن خلاّق بين الأصالة والمعاصرة، وهو الكفيل بخلق جو طبيعي من التفكير والإبداع، وذلك من خلال إعمال القوّة العقلية لصياغة نظرية إسلامية حديثة، تستلهم أسس الشريعة وقيمها ومبادئها في عملية خلق جادّ وفاعل لمجتمع عربي وإسلامي متطوّر، فيكون (التجذّر) في الواقع المشخّص المباشر هو السبيل المحتوم أمام المسلم في معركة مع الاستلاب والاعتماد على الغير.
والتجذّر يعني أن تظلّ العقلية الممتدة الجذور في حياة صاحبها وشروطه الموضوعية، لا أن تتوجه إلى التفكير والعمل داخل المقولات والمعطيات الخاصّة بواقع مباين غير معاين، وهو لا يعني ثورة ثقافية على كل (غريب)، وإنّما يعني أن تكون الجذور الأصلية المتأصلة هي الإطار المرجعي للفكر الذي يفكّر وللسلوك الذي ينشط . أمّا العناصر الذهنية والسلوكية المضافة أو المستحدثة فتدخل في مركب جديد، لحمته الواقع الأصلي والتراث الحيّ والوحيّ ، كما يقول الباحثون.
من هنا، تشير كلمة الإمام(عليه السلام): "من استعان بغير مستقل ضيّع أمره" إلى أنّ على المسلم أن يعي تحقيق الذات والهوية الفكرية والاجتماعية، بعيداً عن الاعتماد والتلبّس بفكر الآخر، سواء كان هذا الآخر هو فكر الماضي والجمود الحادّ عليه أو فكر الوافد القادم من خارج منظومته المعرفية ، فعلى كلا التقديرين لن يستطيع أحدٌ أن يكون جزءاً من خطة التغيير المستقبلي ما لم يكن مستقلاً متحرراً ، محققاً لذاته، متجذراً في مبدئه ، بمعنى أن يكون متمسّكاً بذات ممتدة في التأريخ، صانعة له، نامية معه باتجاه المستقبل ...
واذا كانت العولمة ـ كما يقولون ـ تعمل على توحيد العالم من حيث الأنموذج الحضاري، أي من حيث أسباب العيش وتقنيات الاتصال وأسواق المال، فإنّه لا يمكن للعالم أن يصبح واحداً من حيث هويّاته الثقافية، أي من حيث أنظمة المعنى ونظام القيم، لأنّ الإنسان ما دام يفكّر ويبحث ويبدع، فإنه متفرد لا محالة ... وهو الأمر الذي يؤكّده نصّ الإمام(عليه السلام): "العلم: خير دليل، أعظم كنز، أعلى فوز، أفضل قنية، عنوان العقل، رشدٌ لمن عمل به..." [٢٩] .
"الفكر: مرآة صافية، جلاء العقول، في غير الحكمة هوس، في العواقب ينجي من المعاطب..." [٣٠] .
وهكذا يكون علاج إشكاليات الواقع المعاصر المعقّدة ، عن طريق أن يعتمد المفكر الإسلامي على ذاته ومبدئه، الأمر الذي يدعوه إلى نقد ذاته ومهمّته ... وذلك هو معنى أن يحس القراءة؛ تغيير صورته عن نفسه لإعادة ابتكاره دوره من جديد، حتى لا تتحول قضايا الأمّة ومشكلات المجتمع وهموم الناس إلى حكايات يتغذّى منها المثقّفون في نضالاتهم الفاضلة. هذا هو الرهان: أن لا نتحدّث عن الاختراق الثقافي بلغة الصدمة، بل أن نمارس علاقتنا بهويتنا الثقافية بصورة خارقة للحدود الثقافية، وأن نحوّل أوطاننا إلى أرض للابتكارات والانجازات.
لكن تلك الابتكارات والانجازات المستمدّة من روح الأحاديث وآيات الكتاب المبين ومعالم الرؤية الإسلامية وقدرتها التوجيهية والنقدية، مع الإفادة من معطيات العلم الحديث، لا تلك المستمدة من فتات الموائد الثقافية للآخر... وهذا هو البديل الوحيد لعلاج إشكالية غياب الاستعداد الذاتي للتغيير...
خامساً : عدم دقّة التخطيط
قيل له(عليه السلام): صف لنا العاقل؟ قال(عليه السلام): "هو الذي يضع الأشياء مواضعها"، قيل: فصف لنا الجاهل؟ قال(عليه السلام): "قد فعلتُ" [٣١].
إنّ التغيير المطلوب بحاجة إلى تخطيط واعٍ ودقيق، يأخذ بالحسبان مجمل العوامل والمعطيات المتوافرة والمحتملة حاضراً ومستقبلاً، كما يضع في الحسبان عوامل القوّة والضعف في الفعل الإنساني وطبيعة جريان سنن التأريخ. وهذا التخطيط كما يتضمّن ـ وفق المنطق الإسلامي ـ الأخذ بنظر الاعتبار الرؤية الإسلامية بوصفها نظام حياة ومنهج عمل مستند إلى نظرة توحيدية شمولية للكون والحياة والإنسان والآخرة، كذلك ينبغي أن يتضمن الاعتماد على العقل والمنطق، والحسابات الدقيقة، والعلم وقوانينه ومبادئه ، وهو ما يمكن استشفافه من المبدأ القرآني: (ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد) الحشر: ١٧.
فإنّ مفردة (النظر) مساوقة لكل ما تقدّم من متطلبات النهوض والتجديد والإصلاح التي تسبق الاختيار أو الفعل، وشاملة له، كما أنّ ما تقدّمه النفس لغد لا يقتصر على العمل الصالح الذي يقدّمه الإنسان لآخرته، بل تشمل النظر في عواقب الفعل الإنساني ونتائجه المتوقعة ، وآليات التجديد وبرامجه، وإن كانت ـ بالنتيجة ـ ترتبط بالمنهج الإسلامي المارّ عبر الدنيا باتجاه العالم الأخروي العظيم ...
من هذا المدخل، يصف الإمام(عليه السلام) العاقل بأنّه الذي يضع الأمور في مواضعها، وهو ما يمكن الاستدلال به على أهمية التخطيط ، وتوخّي دقّته في عملية صنع الحاضر وتغييره ، كما يمكن الاستدلال به على ضرورة التدقيق في عملية الصنع أو إدامة مشروع التغيير والحفاظ على منجزاته .
فالذي لا يتأمل في التخطيط ولا يضع الدقّة بوصفها عنصراً أساسياً في نجاحه ، فهو جاهل في نظرة الإمام المستقبلية ، فإنّ التخطيط الذي لا يعتمد الدقة (وضع الأمور في مواقعها) سيتحول إلى نوع من الخيال، والخيال وحده لا يكفي، إذ لابدّ من التخطيط والنظر، وربط العقل بالحدس والتأمل والتصوّرات المختلفة اذا أراد النفاذ إلى طبيعة التجديد وخفاياه .
وعلى هذا : فكلّ ما يمكن تشخيص الواقع من خلاله أو عبره ، من أدوات ووسائل ومناهج وطرق علمية ، تستجلب النتائج الإيجابية القريبة من الواقع والحقيقة ، ممّا لا يتناقض أو يتضادّ مع مبدأ إسلامي ... على كل هذا يصدق : (وضع الأمور مواضعها) حاضراً ومستقبلاً .
فيما يصدق على نبذ هذه الوسائل والمناهج والطرق العلمية التي تعين على التخطيط الدقيق للنهوض بالواقع أنّه (جهل) ؛ لأنّه سوف لا يكون (واضعاً للأمور مواقعها) ، وسكون ـ أيضاً ـ (استدباراً للأمور) وهو ما يتنبّأ الإمام(عليه السلام) بإفضاةه إلى الحيرة في قوله: "من استدبر الأمور تحيّر" [٣٢] .
وكذلك تتجلّى عدم دقة التخطيط في (الاستعجال) فيما تكمن دقّته في (التأمل)، وأمّا النتائج التي يصوّرها الإمام(عليه السلام) على كلا العملتين (الدقة ـ التأمل أو الاستعجال ـ عدم الدقة) فهي نتائج ترتبط بمآل التخطيط وتجسّده الفعلي : "أصاب متأمل أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد" [٣٣] .
فمع وجود احتمال مخالف يذكره الإمام(عليه السلام) لتقرير نتائج العمل البشري التأمّلي الذي يسبق التنفيذ والفعل عبر كلمة (كاد)، لكن هذه الطريقة المتّبعة في التفكير الإعدادي ـ غالباً ـ ما تكون متساوقةٌ في نتائجها مع طبيعة ونوعية التفكير المسبق .
وكذلك يركّز الإمام(عليه السلام) على التوقيف الدقيق، ضمن خطّة الإعداد والتخطيط الدقيق للنهوض، ليزيح من امام العاملين والمتحرّكين عقبة الفشل ومواجهة النتائج غير المتوقعة ... ليديم بذلك منجزات مشروع التغيير، ويؤمّن استمرارية معطياتها للأجيال:
"كل شيء طلبته في وقته، فقد فات وقته" [٣٤] .
"من الخرق المعاجلة قبل الإمكان ، والأناة بعد الفرصة" [٣٥] .
وهذا التوقيت الدقيق ليس توقيتاً مهووساً بالأرقام على غرار ما تفعله الدراسات البحثية الأرضية، بل يستهدف استباق الزمن من حيث وضع البرنامج التغييري لأنساق المجتمع الإسلامي الخاطئة، كما يضع الزمن وعاءً مناسباً ودقيقاً للتخطيط والتنفيذ، إزاحةٌ لعقبة الجمود التي تصيب تنفيذ المشروع التغييري أو العمل على إطلاقه الممتد مع المستقبل.
فأفكار روّاد النهضة ـ مثلاً ـ مع كونها تمخّضت عن تيارات جماهيرية صاخبة وثائرة قذفت بالاستعمار إلى خارج المحدودة العربية والإسلامية ، إلاّ أنّها لم تكن تحمل مقوّمات التخطيط والبرمجة الدقيقة ، لأنّها لم تعتمد المناهج العلمية في تحديد زمن النهوض ، وصوره ، وأهدافه ،وبدائله، وأساليب الوصول إليه، فسؤال النهضة ظلّ يجيب على سؤال (ما يجب أن نكون عليه؟)، وأحال الإجابة على (كيف؟) للأظر العامة والكلّيات الإرشادية ، وترك الإجابة على تساؤل (متى؟) للزمن المفتوح ، كما يذكر الباحثون المعاصرون المهتمّون بموضوعة النهوض والتجديد.
وعلى هذا المنوال يمكن بالكشف والاستقراء والبحث في نصوص وكلمات وخطب ورسائل هذا الكتاب القيم "نهج البلاغة" ،استجلاء معوقات أخرى للنهضة المطلوبة حاضراً ، يمكن لها أن تستوعب الأطر النظرية لفعل إنساني خلاّق ومثمر في التعامل مع كل ما يتحدّث عنه الباحثون من أحداث وأخطار وتحوّلات سيحملها لنا العصر .
كما يمكن أن يستوعب هذا الفعل الذي تحدّده النصوص كل ما يمكن أن يضعه الباحثون من خطط وبرامج ، ووسائل، ومناهج ، وبدائل...
فالنهوض والتجديد ـ كما يتحدّث عنه الإمام علي(عليه السلام) في نصوص "نهج البلاغة" ـ محفوف بمجموعة من المعوقات ولعقبات ذكرنا نماذج منها، لبيان وكشف رؤية الإمام(عليه السلام) إزاءها ـ وكيفية تجاوزها أو إزاحتها عن طريق السائرين إلى الله جميعاً ، من علماء ومفكرين ومثقفين ورساليين ...