الاستاذ المساعد الدكتور: محمد علي غناوي وطه هاشم الدليمي
جامعة ديالى/ كلية التربية الأساسية – اتحاد الأدباء في ديالى
المقدمة
في مرحلة الدراسة الابتدائية كنت أسمع عن كتاب نهج البلاغة وفي تلك المرحلة أطلعت على كتاب ألف كلمة وكلمة للإمام علي (عليه السلام).
وبعد أن أنهيت الدراسة الإعدادية حزت على كتاب نهج البلاغة شرح الأستاذ الإمام محمد عبده.
فدهشت مما سرده الشيخ محمد عبده في مقدمته الرائعة التي جاء فيها:(... وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً، لا يشبه خلقاً جسدانياً.
فصل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني.
فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد النور الأجلي...)[١].
فعكفت على الكتاب الجليل أقرأ فيه مستعيناً بشرح الشيخ على فهم معانيه. مقيداً الألفاظ الغريبة.
وبعد أن أطلعت على المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم الذي وضعه المستشرق الألماني فلوجل عام ١٨٤٠م.
قررت أن أصنع معجماً مفهرساً لألفاظ نهج البلاغة على غرار المعجم المفهرس لألفاظ القرآن.
فابتدأت بالخطبة الأولى وبدأت العمل في صيف عام ١٩٩٣م.
فأنجزت وريقاتٍ معدوداتٍ.
بيد أن تحول الظروف حالت دون إتمام العمل. وحينما وصلني دليل المؤتمر العلمي الذي سيقيمه مركز دراسات الكوفة وكلية التربية الأساسية ـ جامعة الكوفة ـ في ٢٧ـ٢٨/آذار/٢٠١١م.
تحت شعار:«نهج البلاغة سراج الفكر وسحر البيان» رجعت إلى تلك الوريقات لإكمال العمل لتقديمه كبحث معجمي في المؤتمر... أو تقديم نموذج مما يتيسر إنجازه منه ـ واستأنست برأي الأستاذ الحقوقي طه هاشم الدليمي هاتفياً ـ إذ كان قد حلَّ في مدينة النجف الأشرف فاستحسن الموضوع وشجعني.. وبعد يومين وإذا بالأستاذ طه يهاتفني بمفاجأة مفادها أن معجماً مفهرساً لألفاظ نهج البلاغة قد ورد إلى إحدى مكتبات النجف الأهلية، فابتاع لي نسخة منه فوجدتها كما خططت لها.
ولأنني قد أصررت على المشاركة في هذه التظاهرة العلمية الثقافية تشاورت مع الأستاذ طه هاشم بهذا الأمر فعرض عليَّ أن نبحث في ضروب كلام الإمام.فكان هذا البحث الذي نقدمه للمؤتمر.
داعين الله تعالى أن يوفق القائمين عليه به وبأمثاله لتزدهر مدينة باب العلم الأمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي قال فيه نبينا العظيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا مدينة العلم وعلي بابها).
والله الموفق
تمهيد:
قال السيد الشريف الرضي (ت ٤٠٦ هـ) في وصفه (نهج البلاغة): انه تضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعاَ في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب إذ كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه (عليه السلام) ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدم وتأخروا وذكر أن كلامه (عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقه من الكلام النبوي[٢].
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي المتوفى سنة ٦٥٦ هـ ـ في وصف فصاحة الإمام (عليه السلام) (… وأما الفصاحة فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء وسيد البلغاء وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين….)[٣].
وقال … وانظر كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) فانك تجده مشتقاَ من ألفاظه (ألفاظ القرآن) ومقضباً من معانيه ومذاهبه ومحذواَ به حذوه ومسلوكاَ به في منهاجه فهو وإن لم يكن نظيراَ ولا نداَ يصلح أن يقال أنه ليس بعده كلام أفصح منه ولا أجزل ولا أعلى ولا أفخم ولا أنبل إلا أن يكون كلام ابن عمه (عليه السلام) وهذا أمر لا يعلمه إلا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة وليس كل الناس يصلح لانتقاد الجوهر بل ولا لانتقاد الذهب ولكل صناعة أهل ولكل عمل رجال)[٤].
ولا عجب أن يكون كلامه (عليه السلام) بهذه المنزلة العظيمة من الفصاحة والملاحة والفضل والنبل وهو القائل في بعض كلامه (ألا إنّ اللسان بضعة من الإنسان فلا يسعده القول إذا امتنع ولا يمهله النطق إذا اتسع وإنّا لأمراء الكلام وفينا تنشّبت عروقه وعلينا تهدلت غصونه)[٥].
ضروب كلامه (عليه السلام):
إنّ المتأمل لكلام الإمام علي (عليه السلام) ليجد أن كلامه الشريف جاء على ضروب وأساليب مختلفة كلها يمت إلى الفصاحة والبلاغة بأكثر من صلة ومن هذه الضروب:
الضرب الأول: كلامه الذي استمد من آية من آيات القرآن الكريم أو من لفظة شريفة من ألفاظ القرآن كما جاء في قوله (عليه السلام) (فماذا بعد الحق إلا الضلال المبين)[٦].
وهو من قوله تعالى «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ»[٧].
ونجد مثل هذا في قوله (عليه السلام) (ألا أن الله قد كشف الحق كشفة لا انه جهل ما أخفوه من حصون أسرارهم ومكنون ضمائرهم ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملا)[٨].
ولا يخفى أن كلامه الأخير من قوله تعالى «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»[٩].
ومن هذا قوله (عليه السلام) (أما بعد فأقم للناس الحج وذكرهم بأيام الله)[١٠].
وقوله الأخير من قوله تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّه»[١١].
ومن ذلك قوله (عليه السلام) في وصف الصالحين (وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم)[١٢].
وهو من قوله تعالى في وصف المؤمنين: «تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً»[١٣].
قال الشارح ابن أبي الحديد في قول الإمام المتقدم انه لفظ الكتاب العزيز)[١٤].
وقد يستمد (عليه السلام) من لفظة قرآنية فيستعملها استعمالاَ عربياَ فصيحاَ رائعاَ كما في قوله (عليه السلام) في بعض وصاياه إلى بعض عماله (واخلط الشدة بضغثِ من اللين)[١٥].
وهو من قوله تعالى في قصة أيوب (عليه السلام) «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ»[١٦].
قال الدكتور إبراهيم السامرائي ـ رحمه الله ـ الضغث كل ما يخلط به وقد يكون الحزمة والباقة من النبت قالوا: أضغاث أحلام[١٧].
ومما استند إلى القرآن الكريم واستمد منه من كلام الإمام وهو كثير قوله في التحذير من الشيطان (فاحذروا عباد الله عدو الله أن يعديكم بدائه وأن يستفزكم بندائه وان يجلب عليكم بخيله ورجله)[١٨].
وهو من القرآن الكريم قال تعالى «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ»[١٩].
ومن استعماله اللفظ القرآني على وجه فصيح بديع قوله (عليه السلام) في كتاب له إلى عامله سهل بن حنيف (أما بعد فقد بلغني أن رجالاَ ممن قبلك يتسللون إلى معاوية)[٢٠] وهذه اللفظة (يتسللون) قرآنية نطق بها القرآن الكريم في قوله تعالى «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً»[٢١].
وذهب ابن أبي الحديد إلى أن المراد أنهم يخرجون هاربين في خفية واستتار[٢٢].
ورأى كمال الدين ميثم بن علي البحراني ت ٦٧٩ هـ أن التسلل هو الذهاب واحداَ بعد واحد[٢٣].
وجاء في لسان العرب أنّ انسل وتسلل بمعنى إذا خرج بتأن وتدريج وأنسل من بين القوم يعدو إذا خرج في خفية يعدو وقال الفراء فـي(يتسللون) أن المراد يلوذ هذا بهذا ويستتر ذا بهذا وقال الليث: يتسللون وينسلون واحد[٢٤].
ولا بد من القول هنا أن تضمين الإمام علي (عليه السلام) كلامه آية قرآنية جاء مقوياَ لكلامه مؤيداَ له وأن استعماله للفظ قرآني لم يكن استعمالاَ كيفما اتفق بل كان استعمالاَ سليماَ فصيحاَ كاشفاَ عن دقة معرفته العميقة باللفظ القرآني الشريف.
الضرب الثاني: من ضروب كلامه (عليه السلام) هو الكلام الذي وصف بأنه من الكلام الضارب في الفصاحة بسهم وافر وهو كثير ومن ذلك قوله (عليه السلام): (فإن الغاية أمامكم وان وراءكم الساعة تحدوكم تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم آخركم).
قال السيد الشريف الرضي: إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وتعالى وبعد كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكل كلام لمال به راجحاَ وبرز عليه سابقاَ فأما قوله (عليه السلام) (تخففوا تلحقوا) فما سمع كلام أقل منه مسموعاَ ولا أكثر محصولاَ وما أبعد غورها من كلمة وانقع نطفتها من حكمة)[٢٥].
ومن كلامه الفصيح جداَ قوله (عليه السلام) (لقد كنت وما أهدد بالحرب ولا ارهب بالضرب)[٢٦].
قال ابن أبي الحديد قوله: لقد كنت وما اهدد بالحرب معناه: ما زلت لا أهدد بالحرب والواو زائدة وهذه كلمة فصيحة كثيراَ ما تستعملها العرب وقد ورد في القرآن لعزيز (كان) بمعنى (ما زال) في قوله تعالى «كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً»[٢٧].
ونحو ذلك من الآتي معنى ذلك: لم يزل الله عليماَ حكيما[٢٨].
ومن ذلك قوله (عليه السلام) الآتي لما عزم على حرب الخوارج وقيل له: إنهم قد عبروا جسر النهروان (مصارعهم دون النطفة) قال السيد الشريف معلقاَ: يعني بالنطفة ماء النهر وهو أفصح كناية وان كان كثيراَ جماَ[٢٩].
وقد تكرر في كلامه (عليه السلام) ذكر (النطفة) بمعنى النهر في قوله (وقد أردت أن أقطع هذه النطفة إلى شرذمة منكم موطنين أكناف دجلة).
أراد بالنطفة ماء الفرات وهو من غريب العبارات وعجيبها[٣٠].
قد ذكر أهل اللغة أن النطفة هي الماء الصافي قل أو كثر والجمع النطاف[٣١].
ومن ذلك قوله (عليه السلام) في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن ابنه (عليه السلام) يتسرع إلى الحرب (إِملكوا عني هذا الغلام لا يهدني) قال الشريف: قوله (عليه السلام)(املكوا عني هذا الغلام) من أعلى الكلام وأفصحه[٣٢]. وفسّر ابن أبي الحديد الكلام المتقدم قائلاَ: الألف في (أملكوا) ألف وصل لأن الماضي ثلاثي من ملكت الفرس والعبد والدار املك بالكسر أي احجروا عليه كما يحجر المالك على مملوكه و(عن) متعلقة بمحذوف تقديره: استولوا عليه وأبعدوه عني ثم قال: ووجه علو هذا الكلام وفصاحته أنه لّما كان في (أملكوا) معنى البعد أعقبه بـ (عن) وذلك أنهم لا يملكونه دون أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا وقد أبعدوه عنه ألا ترى انك إذا حجرت على زيد دون عمرو فقد باعدت زيداَ من عمرو فلذلك قال: املكوا عنّي هذا الغلام واستفصح الشارحون قول أبي الطيب:
إذا كان شم الروح أدنى إليكم ***** فلا برحتني روضةٌ وقبول
قالوا: ولّما كان في (فلا برحتني) معنى (فارقتني) عدى اللفظة وإن كانت لازمة نظرا إلى المعنى: وقوله لا يهدني أي لئلا يهدني فحذف[٣٣].
والنظر إلى المعنى الذي أشار إليه ابن أبي الحديد هو الذي عرف في العربية بـ (الحمل على المعنى) وقد عدّ باباَ من أبواب شجاعة العربية[٣٤].
ومن فصاحته وكلامه العالي قوله سلام الله عليه (فجعلت اتبع مأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأطأ ذكره حتى انتهيت إلى العرج).
قال الرضي: قوله (عليه السلام) (فاطأ ذكره) من الكلام الذي رمى إلى غايتي الايجاز والفصاحة أراد أني كنت أعطى خبره (صلى الله عليه وآله وسلم) من بدء خروجي إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع[٣٥].
ومن الشواهد الدالة على بلوغ كلامه الدرجة العالية في الحسن والفصاحة قوله (عليه السلام) فيما يعمل في أمواله (وأن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى وديّة حتى تشكل أرضها غراساَ) والودية هي الفسيلة وجمعها وديّ وقوله (حتى تشكل أرضها غراسا) من أفصح الكلام والمراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها ويحسبها غيرها[٣٦].
وقد ذهب الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي ـ رحمه الله ـ إلى أن معنى (حتى تشكل أرضها غراساَ) أن تنضج حتى يطيب رطبها[٣٧].
يظهر أن الدكتور ابتعد عن المعنى الذي أراده علي (عليه السلام) ومن كلامه (عليه السلام) مما نحن فيه قوله في دعاء استسقى به (اللهم اسقنا ذلل السحاب دون صعابها).
قال السيد الرضي: وهذا الكلام العجيب الفصاحة وذلك انه (عليه السلام) شبّه السحاب ذوات الرعود والبوارق والرياح والصواعق بالإبل الصعاب التي تقمص برحالها وتقص بركبانها وشبّه السحاب خالية من تلك الروائع بالإبل الذلل التي تحتلب طيّعة وتقتعد مُسمحة[٣٨].
الضرب الثالث: هو الكلام الكاشف عن قدرته الكبيرة على التصرف في الاستعمال اللغوي الدال على سعة العربية من جهة وتمكنه من الأخذ بزمام الكلام وتوجيهه على وجه مفضٍ إلى فصاحة وبيان عاليين من جهة أخرى والشواهد على ذلك كثيرة منها: قوله (عليه السلام) في كلام اخبر فيه عما ستؤول إليه أحوال الناس (فلئن أمر الباطل لقديماَ فعل).
ونجد أن الإمام استعمل الفعل (أمر) بمعنى كثر وهو استعمال جميل قال الشيخ محمد عبده ـ رحمه الله ـ: ولئن أمر الباطل أي كثر بكثرة أعوانه فلقد كان منه قديماَ لأن ّ البصائر الزائغة عن الحقيقة أكثر من الثابتة عليها[٣٩]. ورأى الدكتور إبراهيم السامرائي أن الفعل (أمر) الوارد في كلام علي (عليه السلام) معناه صار أميراَ[٤٠].
ويظهر أن الحق مع الشيخ محمد عبده والدليل على أن الإمام علياَ (عليه السلام) أراد بـ (أمر كثر قوله بعد ذلك (ولئن قلّ الحق) وقد جاء في العربية: أمر ماله أي كثر وأمر القوم كثروا[٤١].
ونتبين مما تقدم أنه (عليه السلام) نقل الكثرة التي ذكرها أهل اللغة للحال والرجال إلى الكثرة في الباطل وهذا توسع منه في الاستعمال اللغوي كما هو واضح.
ومن شواهد تصرفه (عليه السلام) في الصياغة اللغوية للفعل قوله (وقد أرعدوا وأبرقوا ومع هذين الأمرين الفشل ولسنا نرعد حتى نوقع ولا نسيل حتى نمطر)[٤٢].
وأرعد الرجل وأبرق يقال هذا إذا أوعد وتهدد وكان الأصمعي ينكر ويزعم انه لا يقال إلا رعد وبرق ولّما احتج عليه ببيت الكميت:
أرعد وأبرق يا يزيد ***** فما وعيدك لي بضائر
قال: الكميت قروي لا يحتج بقوله
قال ابن أبي الحديد: وكلام أمير المؤمنين حجة دالة على بطلان قول الأصمعي[٤٣].
ولا نشك في أن إسناده (عليه السلام) الإرعاد والإبراق إلى أعدائه وإسناده الرعد والسيل والإمطار إلى نفسه والى جماعته من الإسناد المجازي الجميل.
ومن شواهد تصرفه في البناء الفعلي للجملة قوله لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل: (تزول الجبال ولا تزل.... أعر الله جمجمتك تِد في الأرض قدمك)[٤٤].
ومن المعلوم أن (تِد) فعل أمر من الفعل وتد يتد والمراد: ثبتها وأجعلها ثابتة كما يثبت الوتد في الأرض وقوله: (تزول الجبال ولا تزل) خبر فيه معنى الشرط وتقديره: إن زالت الجبال فلا تزل أنت كما قال ابن أبي الحديد[٤٥].
ومن شواهد هذا الضرب قوله في بيان فضل آل محمد صلوات الله عليهم (بنا اهتديتم في الظلماء وتسنتم العلياء وبنا انفجرتم عن السِّرار).
أراد (عليه السلام) بقوله الأخير: دخلتم في الفجر والسرار في اللغة الليلة والليلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشهر فلا يظهر وروي (افجرتم) وهو أفصح وأصح لأن انفعل لا يكون إلاّ مطاوع (فعل) نحو: كسرته فانكسر،وحطمته فانحطم إلاّ ما شذ من قولهم: أغلقت الباب فانغلق وأزعجته فانزعج، وأيضاً فإنه لا يقع إلاّ حيث يكون علاج وتأثير نحو: انكسر وانحطم ولهذا قالوا: إن قولهم انعدم خطأ، وأما أفعل فيجيء لصيرورة الشيء على حال وأمر نحو: أغدّ البعير أي صار ذا غدة وأجرب الرجل إذا صار ذا ابلٍ جربى وغير ذلك فافجرتم أي صرتم ذوي فجر وأما (عن السرار) فهي للمجاوزة على حقيقة معناها الأصلي أي منتقلين عن السرار متجاوزين له[٤٦].
الضرب الرابع: هو الكلام الجاري مجرى المجاز والاستعارة ولا يكاد يحصى كثرة ومن شواهده: قوله (عليه السلام) لما أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.
فقال له (عليه السلام): أهوى أخيك معنا ؟ فقال: نعم، قال: فقد شهدنا ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان[٤٧].
ولنا أن نلاحظ جمال التعبير في (سيرعف بهم الزمان) قيل: إن المراد بهذا أن الزمان سيوجدهم ويخرجهم كما يرعف الإنسان بالدم الذي يخرجه من أنفه قال الشاعر:
وما رعف الزمان بمثل عمرو***** ولا تلد النساء له ضريبا [٤٨]
وقيل أنه (عليه السلام) استعار لفظ الرعاف وهو الدم الخارج من أنف الإنسان لوجودهم وفيه تشبيه للزمان بالإنسان وإنما نسب وجودهم إلى الزمان لأنه من الأسباب المعدّة لقوابل وجودهم[٤٩].
ومن هذا الضرب قوله (عليه السلام) في خطبة له يصف فيها المنافقين ويذكر محاربة قريش للنبي صلى الله عليه وآله (وضربت إلى محاربته بطون رواحلها حتى انزلت بساحته عداوتها).
وأرد (عليه السلام) بالعداوة الحرب فعبّر عنها بالعداوة لأن العداوة سبب الحرب فعبّر بالسبب عن المسبّب ومثل هذا قول العرب في كلامها: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناك يعنون الماء لمّا كان اعتقادهم أن السماء سبب الماء[٥٠].
ومن ذلك قوله (عليه السلام) (المرء مخبوء تحت لسانه).
وقد علق الشارح ابن أبي الحديد على هذا الكلام قائلاً: فأما هذه اللفظة فلا نظير لها في الإيجاز والدلالة على المعنى وهي من ألفاظه (عليه السلام) المعدودة[٥١].
والحق أن هذا الكلام لا يخلو من المجاز لاستحالة أن يكون الإنسان مخبوءً تحت اللسان والمعنى أن جمال المرء أو قبحه مخبوء تحت لسانه.
ومن شواهد الاستعارة قوله (نحن النمرقة الوسطى التي يلحق بها التالي وإليها يرجع الغالي) والنمرق والنمرقة وسادة صغيرة ويقال للطنفسة فوق الرحل نمرقة والمراد أن آل محمد عليه وعليهم السلام هم الأمر المتوسط واستعار لفظ النمرقة لهذا المعنى لما كانوا يقولون: ركب فلان من الأمر منكراً وقد ارتكب الرأي الفلاني وكانت الطنفسة فوق الرحل مما يُركب استعار لفظ النمرقة لما يراه الإنسان مذهباً يرجع إليه ويكون كالراكب عليه والجالس عليه والمتورك فوقه[٥٢].
ونتأمل قوله (عليه السلام) (من أحدّ سنان الغضب قوي على قتل أشدّاء الباطل) فنجد أن فيه استعارة تدل على الفصاحة والمعنى أن من أرهف عزمه على إنكار المنكر وقوي غضبه في ذات الله ولم يخف ولم يراقب مخلوقاً أعانه الله على إزالة المنكر...[٥٣] .
الضرب الخامس: هو الكلام الذي يظهر شيئاً من تصرفه (عليه السلام) في الجموع المختلفة ومن ذلك قوله (عليه السلام) (فتداكوا عليّ تداكّ الأبل الهيم يوم ورودها قد أرسلها راعيها وخُلعت مثانيها..)[٥٤].
والمثاني هنا الحبال جمع مثناة بفتح الميم وكسرها وهو الحبل[٥٥].
أما (الهيم) فهي لفظة قرآنية وردت في قوله تعالى «فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ»[٥٦].
قال الفرّاء: والهيم الأبل التي يصيبها داء فلا تروى من الماء واحدها أهيم والأنثى هيماء ومن العرب من يقول: هائم والأنثى هائمة ثم يجمعونه على هيم كما قالوا: عائط وعيط وحائل وحول..[٥٧].
وذكر الدكتور إبراهيم السامرائي أن الإبل الهيم هي العطاش قال: وجمل هيمان وناقة هيمى والجمع هيام بالكسر[٥٨].
وجاء في اللسان: الجوهري وغيره: والهيام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان[٥٩].
ومن جمع الأسماء قوله (عليه السلام) في وصف خلقة الطاووس (وما ذرأ من مختلف صور الأطيار)[٦٠].
قال في القاموس: والطير جمع طائر وقد يقع على الواحد جمعه طيور وأطيار[٦١].
وقال (عليه السلام) في وصف الطاووس أيضاً (ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته)[٦٢].
والأصابيغ جمع أصباغ وأصباغ جمع صبغ[٦٣].
ومن هذا قوله (عليه السلام) في وصف خلق السماء (ونظم بلا تعليق رهوات فُرَجها)[٦٤].
والرهوات جمع رهوة أي المكان المرتفع ويقال للمنخفض أيضاً فهو من الأضداد والفرج جمع فرجة بضم فسكون وهي المكان الخالي[٦٥].
ونجد في خطبة الأشباح جموعاً مختلفة منها: (عزيمات اليقين) و (مسارق إيماض الجفون) و (غيابات الغيوب) و (مصائخ الأسماع) و (مصائف الذر) و (مشاتي الهوام) و (غيران الجبال) و (شناخيب الجبال) و (هماهم كل نفس هامة) و (تدابير المخلوقين).
والعزيمات جمع عزيمة وهي التي يعقد القلب عليها وتطمئن النفس إليها والغيابات جمع غيابة وهي قعر البئر في الأصل ثم نقلت إلى كل غامض خفي ومصائخ الأسماع خروقها التي يُصيخ بها أي يتسمّع بها ومصائف الذر المواضع التي يصيف فيها أي يقيم الصيف فيها والموضع مصيف ومصطاف والذر جمع ذرة وهي صغار النمل والمشاتي المواضع التي تشتو فيها الهوام والهوام جمع هامة ولا يقع هذا الاسم إلاّ على المخوف من الأحناش وغيران الجبال جمع غار وهو الكهف في الجبال والشناخيب الرؤوس الواحد منها شُنخوب والهماهم جمع همهمة وهي تردد الصوت في الصدر[٦٦].
وترد في كلام علي (عليه السلام) أنواع من الجموع نادرة قلّ أن نجدها في غير النهج من ذلك قوله (عليه السلام) من كلام في حث أصحابه على القتال (وأنتم لهاميم العرب) وقوله (وحتى يُرقوا بالمناسر تتبعها المناسر ويُرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس وحتى تدعق الخيول في نواحر أرضهم وبأعنان مساربهم ومسارحهم[٦٧].
وقوله (عليه السلام) في ذكر الملاحم (وتخرج له الأرض من أفاليذ أكبادها)[٦٨].
وقوله (عليه السلام) في الاستسقاء (حين الجأتنا المضايق الوعرة وأجاءتنا المقاحط المجدبة واعيتنا المطالب المتعسرة وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة)[٦٩].
والشواهد على تصرفه (عليه السلام) في الجموع المختلفة كثيرة وقد أوردنا منها ما يكون شاهداً على تفننه (عليه السلام) في الكلام وتلوينه والتنقل به من أسلوب إلى أسلوب ولا يليق بكلامه (عليه السلام) مثل هذه العجالة فإن كلامه أهل لكل بحث ودرس واستقصاء لعلوّه وجماله وسموّه وقد شهد بهذا أهل الفن والمتصدرون لشرح كلامه (عليه السلام) وقد قال الشريف الرضي: وأني لأقول أبداً إنه لو كان كلام يلحق بغباره أو يجري في مضماره بعد كلام الرسول صلى الله عليه وآله لكان ذلك كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذ كان منفرداً بطريق الفصاحة لا تزاحمه عليها المناكب ولا يلحق بعقوه فيها الكادح الجاهد[٧٠].
والحمد لله أولاً وآخراً وبه التوفيق.
الخاتمة
يختتم هذا البحث بفضل الله تعالى، بعد قضاء رحلة ممتعة في رحاب كتاب نهج البلاغة الذي احتوى مختار كلام الإمام في جميع فنونه، ومتشعبات غصونه من خطب ومواعظ وآداب عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب، فاخترنا ما اخترناه مما بدا لنا من ضروب هذا الكلام الذي جعلناه في ضروب ثلاثة كما رأيناه..
واستشهدنا على هذه الضروب بالأمثلة التي أوردناه مما حواه كتاب النهج.
كما ضم البحث طائفة من الألفاظ التي وجدناه قد استخدمت استخداماً خاصاً تميزت عن استخدامها في كتب اللغة التي تناولت الموضوعات كصيغ الجمع المختلفة كما مر في صفحات البحث.
وهنا نوصي باعتماد خطب الإمام في كتب اللغة والأدب المنهجية في المراحل الدراسية المختلفة لينهل منها طلبة العلم ولترتقي لغتهم العربية إرتقاءً نحوياً وبيانياً على أن تطبع على وفق خاصية الطبيعة الحركية للغة العربية.
---------------------------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة : ص٤، شرح الأستاذ الإمام محمد عبده، دار التعارف، لبنان.
[٢] . نهج البلاغة ١ / ٣ ـ ٤.
[٣] . شرح النهج ١ / ٢٤.
[٤] . المصدر المتقدم ٢ / ٨٣.
[٥] . النهج ٢ / ٢٥٤.
[٦] . النهج ٣ / ١٣٧.
[٧] . يونس / ٣٢.
[٨] . النهج ٢ / ٣٦.
[٩] . هود / ٧.
[١٠] . النهج ٣ / ١٤٠.
[١١] . إبراهيم / ٥.
[١٢] . النهج ٢/٤٥.
[١٣] . السجدة / ١٦.
[١٤] . شرح النهج ١٦ / ٢٩٦.
[١٥] . النهج ٣ / ٨٥.
[١٦] . ص / ٤٤.
[١٧] . مع نهج البلاغة / ٢٣٨.
[١٨] . النهج ٢ / ١٦٣.
[١٩] . الإسراء / ٦٤.
[٢٠] . النهج ٣ / ١٤٤.
[٢١] . النور / ٦٣.
[٢٢] . شرح النهج ١٨ / ٥٢.
[٢٣] . شرح البحراني / ٩٣٠.
[٢٤] . لسان العرب ( سلل ) ومعاني القرآن للفرّاء ٢ / ٢٩٢.
[٢٥] . النهج ١/ ٥٤.
[٢٦] . النهج ١ / ٥٥.
[٢٧] . النساء / ١٧٠.
[٢٨] . شرح النهج ١ / ٣٠٥.
[٢٩] . النهج ١ / ١٠٣.
[٣٠] . النهج ١ / ٩٤.
[٣١] . اللسان ( نطف ).
[٣٢] . النهج ٢ / ٢١٢
[٣٣] . شرح النهج ١١ / ٢٥ ـ ٢٦.
[٣٤] . الخصائص ٢ / ٣٦٠.
[٣٥] . النهج ٢ / ٢٥٦.
[٣٦] . النهج ٣ / ٢٦.
[٣٧] . مع نهج البلاغة / ٢٢٥.
[٣٨] . النهج ٣ /٢٦٥.
[٣٩] . النهج ١ / ٤٤ وشرح النهج ١ / ٢٧٢.
[٤٠] . مع نهج البلاغة / ٣٤.
[٤١] . الصحاح ( أمر ).
[٤٢] . النهج ١ / ٣٨.
[٤٣] . شرح النهج ١/ ٢٣٧ وينظر لسان العرب في ( رعد ).
[٤٤] . النهج ١/٣٩.
[٤٥] . شرح النهج ١/ ٢٤١.
[٤٦] . شرح النهج ١/٢٠٨ وينظر مع نهج البلاغة / ٢٨٢.
[٤٧] . النهج ١/٣٩.
[٤٨] . شرح النهج ١/٢٤٧.
[٤٩] . شرح النهج للبحراني /١٤٧.
[٥٠] . شرح النهج ١٠/١٦٥.
[٥١] . شرح النهج ١٨/٣٥٣.
[٥٢] . شرح النهج ١٨/٤٠٥.
[٥٣] . النهج ١/٩٩.
[٥٤] . شرح النهج ٤/٦.
[٥٥] . شرح النهج ٤/٦.
[٥٦] . الواقعة / ٥٥.
[٥٧] . معاني القرآن ٣/١٢٨.
[٥٨] . مع نهج البلاغة ٣٥٤.
[٥٩] . اللسان ( هيم ).
[٦٠] . النهج ٢/٨٧.
[٦١] . القاموس المحيط ( الطيران ).
[٦٢] . النهج ٢/٨٧.
[٦٣] . شرح النهج ٩/٢٦٧.
[٦٤] . النهج ١/١٦٥.
[٦٥] . النهج ١/١٦٥.
[٦٦] . شرح النهج ٧/٢٦ـ٣٠.
[٦٧] . النهج ٢/٧.
[٦٨] . النهج ٢/٣٠.
[٦٩] . النهج ٢/٣٥.
[٧٠] . حقائق التأويل ١٦٧.
قائمة المصادر والمراجع
القرآن الكريم
١- حقائق التأويل في متشابه التنزيل، السيد الشريف الرضي(ت٤٠٦هـ)، شرح محمد الرضا آل كاشف الغطاء، دار الأضواء، بيروت،الطبعة الأولى، ١٩٨٦م.
٢- الخصائص، صنعة أبي الفتح عثمان بن جني، تحقيق محمد علي النجار (١ـ٣)، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ٢٠٠٦م.
٣- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، تحقيق محمد أبو الفضصل إبراهيم، ج١ ـ ٢٠، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، ١٩٦٧م.
٤- شرح نهج البلاغة، كمال الدين ميثم بن علي البحراني (ت٦٧٩هـ) ج١ـ٥، مكتبة فخراوي البحرين، الطبعة الأولى، ٢٠٠٧م.
٥- الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، مرتب ترتيباً الفبائياً، تأليف أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (ت٣٩٨هـ)، راجعه واعتنى به د. محمد محمد ثامر وزكريا جابر أحمد، دار الحديث، القاهرة، ٢٠٠٩م.
٦- القاموس المحيط، تأليف مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، دار الجيل، بيروت، د.ت، ج١ـ٤.
٧- لسان العرب، ابن منظور، طبعة مراجعة ومصححة، لجنة من السادة والأساتذة المتخصصين، ج١ـ٩، دار الحديث، القاهرة، ٢٠٠٣م.
٨- مع نهج البلاغة، دراسة ومعجم، د. إبراهيم السامرائي، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمّان، الطبعة الأولى، ١٩٨٧م.
٩- معاني القرآن للفرّاء، بتحقيق أحمد يوسف نجاتي ومحمد علي النجار، ج١ـ٣، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، ١٩٨٠م.
١٠- نهج البلاغة، شرح الإمام محمد عبده، طبعة دار الأندلس، بيروت.
١١- نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط١، ١٩٩٠م.