وضع الإمام (ع) خطته الاصلاحية الشاملة، وقد انصب جل اهتمامه (ع) على اصلاح شؤون الادارة والاقتصاد والحكم كما قدمنا.
ومن خلال ذلك العمل الاصلاحي الكبير حظيت الامة عبر مسيرتها الجديدة التي اختطها لها أمير المؤمنين (ع) ، بمعطيات جمة ذات مردودات عظيمة لمصلحتها والمسيرة بشكل عام، نذكر منها ما يلي:
أولا: إستعان الإمام (ع) بجهاز من الولاة والموظفين لإدارة دفة الحياة الاسلامية، يعد أفراده نموذجا في مستواهم الروحي والفكري والالتزامي: كعثمان بن حنيف، ومحمد بن أبي بكر، ومالك الأشتر وسواهم.
وبهذا الاجراء الذي راعى فيه المبادئ الاسلامية ومصلحة الامة، قضى على مبدأ القرابة والعشيرة الذي كان سائدا أيام الخليفة عثمان والذي أدى آخر المطاف إلى إثارة النقمة عليه وقتله.
وقد حاول المتضرون من اجراءات أمير المؤمنين (ع) التي تعكس صورة الاسلام الأصيل، حاولوا التفاوض معه، فأرسلوا إليه الوليد بن عقبة بن أبي معيط مندوبا فجاء إليه وقال:
«يا أبا الحسن!انك قد وترتنا جميعا، ونحن أخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال أيام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام...
فرد عليهم: (أما ما ذكرتم من وتري إياكم، فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم، فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم) » [١].
وهكذا كان القوم الموتورون من عدالة علي (ع) يحاولون أن يثنوا الإمام عن تنفيذ خطته الاصلاحية الكبرى، خصوصا بشأن الأموال التي نهبوها أيام الخليفة عثمان، وراحوا يذكرونه بأنهم قرشيون مثله، وهددوا إن لم يستجب لمطالبهم فسيلتحقون ببلاد الشام لينضموا إلى جبهة البغاة هناك، فلم يعرهم الإمام (ع) انتباها بل فضحهم عند ما اعتلى المنبر وخطب قائلا:
«فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهومال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله، به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا، فمن لم يرض به فليتول كيف شاء» [٢].
بل إن بعضا من أصحابه (ع) ، وقد أحسوا بخطر اولئك المتآمرين الذين يريدون شن حرب شعواء على النظام الاسلامي العادل الذي يديره الإمام علي (ع) ، حاولوا دفع ذلك الشر بحل وسط برواية المؤرخ إبراهيم الثقفي الذي قال:
«إن طائفة من أصحاب علي (ع) مشوا إليه فقالوا: يا أمير المؤمنين!اعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن تخاف خلافه من الناس وفراره.
فقال: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟والله لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السماء نجم، والله لوكان ما لهم لي لواسيت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم؟» [٣] .
وهكذا ظلت مبدئية علي وصلابته في الاسلام، الاسلام الذي تلقاه من رسول الله (ص) كما أوحاه الله إليه وأمره باتباعه، وليس اسلام المحاباة والحلول الوسط وتفضيل جنس على جنس أوعشيرة على اخرى، أوحر على عبد، فهذا ليس من الاسلام بشيء، وبعد ذلك فليغضب من يغضب، فالمهم لديه هوأن يرضي الله سبحانه ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. «إن امرأتين أتتا عليا (ع) عند القسمة إحداهما من العرب والاخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهما وكرا من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين!إني امرأة من العرب، وهذه امرأة من العجم، فقال علي (ع) : إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلا على بني إسحاق» [٤] .
على أن تلك النماذج الخيرة من الرجال الذين عينهم ولاة وموظفين وان كانوا في مستوى لائق في الفكر والعمل والقدرة الادارية والقيادية، فإن الإمام على (ع) قد زودهم بخطط هادية ومناهج راشدة، يهتدون بها في حياتهم العملية، وفي علاقاتهم مع مختلف قطاعات الامة التي يباشرون قيادتها.
فهويلزم ولاته بالنصح لعباد الله، وإشاعة العدل بينهم ومعاملتهم باللين والحب، والتجاوز عن كل مظاهر الاستعلاء التي يغري بها المنصب غالبا، والحيلولة دون تأثير ذوي النفوذ الاجتماعي في مسيرة العدالة الاسلامية على حساب القطاعات الاجتماعية الاخرى، ونحو ذلك من مستلزمات إشاعة العدل وإقامة الحق بين الناس.
وهذه نماذج من خططه في هذا المضمار:
«فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإن الله تعالى يسائلكم معشر عبادة عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وإن يعف فهوأكرم» [٥] .
«سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك، وإياك والغضب فإنه طيرة من الشيطان، واعلم أن ما قربك من الله يباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار» [٦] .
هذه مقاطع من توجيهات الإمام (ع) التي ألزم ولاته بالعمل على ضوئها في حياتهم العملية.
ومن نافلة القول أن نشير إلى أن الإمام (ع) على الرغم من اهتمامه بانتفاء العناصر الأكفاء والورعة فإنه كان يحرص على الإحاطة بأساليبهم في معاملة الامة من خلال مراكزهم القيادية باستعانته بجهاز من الرقباء والعيون ليرى مدى طاعة الولاة وتنفيذهم لقواعد العدالة الاسلامية، فإذا بدا من أحدهم خطأ أوتقصير، بادر الإمام إلى تقويم سلوكه بالوسائل التربوية تارة وبالتهديد أوبالعزل إذا لزم الأمر، وهذه نماذج من وسائله تلك:
فقد بلغه أن عثمان بن حنيف (رض) واليه على البصرة دعاه بعض شخصيات أهل البصرة إلى مأدبة، فخشي الإمام (ع) أن تستميله تلك الوسائل أوسواها فينحرف عن خط العدالة الاسلامية المرسوم فيميل في أحكامه أويجوز في قضائه ومعاملته للامة، فكتب إليه كتابا جاء فيه:
«أما بعد، يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم، عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد» [٧] . وقد كتب إلى مصقلة الشيباني عامله على (أردشير خرة) مهددا ومتوعدا:
«بلغني عنك أمر إن كنت فعلته، فقد أسخطت إلهك وعصيت إمامك: إنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، واريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقا لتجدن لك علي هوانا، ولتخفن عندي ميزانا، فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالا» [٨].
وكتب إلى أحد عماله يقول:
«أما بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك : بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلي حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس» [٩] .
وكما كان الإمام (ع) يخطط للولاة ويزودهم بنصائحه الهادية، كان يرسم الخطط كذلك لقادة جيوشه، ويوضح لهم معالم الطريق، وما ينبغي عليهم فعله عند مواجهة العدو.
فكان (ع) ينهاهم عن البغي، ويأمرهم بعدم إثارة الحرب من جانبهم، ويحثهم على التسلح بالصبر وضبط النفس، وأن يكونوا في بداية المواجهة كما لوكانوا مدافعين فحسب، فإذا اعتدي عليهم فقد قامت الحجة لصد العدوان، فإذا قدر وانتصروا على عدوهم فلا يباح أن تحملهم نشوة الظفر على عدوهم إلى ملاحقة جنوده الهاربين من القتال، أوالذين لا يملكون سلاحا يدافعون به عن أنفسهم كما لا يجوز قتل الجرحى، أوالإساءة إلى النساء، وإن بدان الإساءة بسب أوشتم أونحوه.
وهذه بعض وصاياه (ع) لجيوشه:
«لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم فإنكم بحمد الله على حجة وترككم إياهم حتىيبدؤوكم حجة اخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله، فلا تقتلوا مدبرا ولا تصيبوا معورا ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى، وإن شتمن أعراضكم وسببن امراءكم» [١٠] .
«ألا وإن لكم عندي ألا احتجز دونكم سرا إلا في حرب، ولا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم، ولا اؤخر لكم حقا عن محله، ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، وألا تنكصوا عن دعوة ولا تفرطوا في صلاح وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق» [١١] .
وبالنظر للأهمية البالغة التي يحتلها جهاز جباية الأموال في الدولة الاسلامية حيث تشكل الحقوق العامة في ملكية الأفراد عنصرا مهما من عناصر الاقتصاد الاسلامي.
وإن حق الجماعة في الملكيات الخاصة يوفر ضمانة كبرى لمساعدة الدولة الاسلامية على تغطية نفقاتها الضخمة على الصعيد الاجتماعي والعسكري وغيرهما من جوانب الحياة العامة.
وبالنظر لأهمية جهاز الجباية هذا فقد أولاه الإمام (ع) عناية فائقة لا من أجل أن يجمع أكبر نصيب من المال كما يفعل حكام الجور، وإنما من أجل أن ينخرط ـ ذلك الجهاز ـ في مسيرة العدالة الاسلامية المثلى التي جسدها الإمام (ع) في حياة الناس.
كان الإمام حريصا على أن يلتزم موظفوذلك الجهاز بأقصى درجات العدل والفضيلة والنبل، والشعور بالمسؤولية، فليست مهمتهم في نظر الإمام (ع) أن يجمعوا المال من أجل المال، وإنما ينبغي عليهم أن يلتزموا الحق في تعاملهم مع الامة وأن يعكسوا عدالة الاسلام لمن يلتقون بهم من الناس، فلا ينبغي أن يغضبوا أحدا من الناس، ولا يسيئوا معاملة أحد، ولا يضربوا انسانا من أجل درهم مثلا، ولايجوز أن يعتدوا على مال امرئ من المسلمين أومن غيرهم ممن يتمتع بحق التابعية للدولة الاسلامية.
كما لا يجوز أبدا أن يبيعوا كسوة انسان أودابته من أجل استيفاء المال، ولا يحق لأحد الجباة أن يردع أحدا أويستوفي أكثر من حق الله في ماله، ولا ينبغي أن يستعلي على الناس أويبخل عليهم بالتحية أواللطف والمرونة في معاملتهم إلى غير ذلك من وصاياه وخططه العظيمة البناءة.
قال وهو يوصي ولاته من حكام الأقاليم:
«فإنكم خزان الرعية ووكلاء الامة، وسفراء الائمة، ولا تحشموا أحدا عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا عبدا، ولا تضربن أحدا سوطا لمكان درهم، ولا تمسن مال أحد من الناس مصل ولا معاهد» [١٢] .
«إنطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعن مسلما، ولا تجتازن عليه كارها، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج بالتحية لهم. ثم تقول: عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟» [١٣].
ثانيا: جسد (ع) المخطط الاسلامي للعدالة الاجتماعية بأجلى صوره وأدق تفصيلاته: إذا كانت جميع جوانب الجهاز الحكومي في الدولة الاسلامية قد تناولتها يد الإصلاح، فحققت أرقى النماذج التي يصبوإليها الانسان، فإن الإمام (ع) قد خطا في سبيل تحقيق أفضل صورة للعدالة الاجتماعية وفقا للتصورات الاسلامية التفصيلية. فقد شهد المجتمع الاسلامي بجميع قطاعاته وقواه عدالة رائدة كالتي شهدها أيام رسول الله (ص) في منطلقاتها وأبعادها.
وفيما يلي شواهد من تلك التجربة التاريخية المشعة التي تفيأت الامة ظلالها ولو لوقت قصير:
أ ـ رفق وتعاهد:
فقد شهدت قطاعات الامة جميعا صورا من التعاهد لأمرها والرفق بها ورعاية شؤونها، والتسوية في العطاء بين جميع حملة التابعية للدولة الاسلامية التي تجسدها هذه النصوص:
«المال مال الله يقسم بينكم بالسوية لا فضل لأحد على أحد».
«وايم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها» [١٤] .
إلى جانب هذا وذاك، شهدت الامة التي قادها أمير المؤمنين (ع) بمختلف قطاعاتها من ألوان التدبير لشؤونها، والرعاية لامورها، والحدب عليها ما حقق لها الكرامة والسعادة والحرية، وهذه صور منها:
«عن الحكم قال: شهدت عليا، وقد اتي له بزقاق من عسل، فدعا اليتامى وقال: ذوقوا والعقوا، حتى تمنيت أني يتيم، فقسمه بين الناس وبقي منه زق، فأمر أن يسقاه أهل المسجد» [١٥].
وعن هارون بن عنترة عن زاذان قال:
«انطلقت مع قنبر غلام علي (ع) فاذا هويقول: قم، يا أمير المؤمنين!فقد خبأتلك خبيئا. قال (ع) : وما هو، ويحك!!قال: قم معي. فقام فانطلق به إلى بيته، وإذا بغرارة مملوءة من جامات ذهبا وفضة. فقال: يا أمير المؤمنين!رأيتك لا تترك شيئا إلا قسمته فادخرت لك هذا من بيت المال.
فقال علي (ع) : ويحك يا قنبر، لقد أحببت أن تدخل بيتي نارا عظيمة، ثم سل سيفه، وضربها ضربات كثيرة، فانتثرت، ثم دعا بالناس، فقال: اقسموه بالحصص، ثم قام إلى بيت المال، فقسم ما وجد فيه، ثم رأى في البيت أبرا ومسال فقال: ولتقسموا هذا» [١٦] .
وعن الحكم قال:
«إن عليا قسم فيهم الرمان حتى أصاب مسجدهم سبع رمانات، وقال: أيها الناس إنه يأتينا أشياء نستكثرها إذا رأيناها، ونستقلها إذا قسمناها، وإنا قد قسمنا كل شيء أتانا. قال: وأتته صفائح فضة فكسرها، وقسمها بيننا».
وعن علي بن ربيعة قال:
«جاء ابن التياح إلى علي بن أبي طالب (ع) فقال: يا أمير المؤمنين!امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء. فقال علي (ع) : الله أكبر، ثم قام متوكئا على يد ابن التياح، فدخل بيت المال وهويقول:
هذا جناي وخياره فيه*وكل جان يده إلى فيه» [١٧] .
ثم نودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت المال وهويقول: (يا بيضاء!ويا صفراء!غري غيري). حتى لم يبق فيه درهم ولا دينار، ثم امر بنضحه بالماء، فصلى فيه ركعتين (ع). وكان لشدة حرص الإمام (ع) على مصلحة الامة لرفع غائلة الفقر والظلم عنها أنه التزم السير ـ عبر أيام خلافته عليها ـ وفقا للنهج الآتي:
«ولوشئت لا هتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أواليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أوأبيت مبطانا، وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى؟أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا اشاركهم في مكاره الدهر أوأكون اسوة لهم في جشوبة العيش؟» [١٨] .
«اشترى ثوبين، وأعطى أغلاهما ثمنا لقنبر خادمه وقال: إني سمعت رسول الله (ص) يقول: ألبسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تأكلون» [١٩] .
ب ـ رقابة دقيقة لوضع السوق:
ولقد كان الإمام علي (ع) حريصا على تجسيد العدالة الاقتصادية في مرافق الحياة الانسانية كافة، ومن أجل ذلك فقد التزم خطة لمراقبة السوق من ناحية البيع والشراء وطبيعة ما يعرض للبيع، للحيلولة دون التطفيف في المكاييل والتلاعب بالأسعار أوالغش، فعن الإمام الباقر (ع) قال:
«كان أمير المؤمنين (ع) كل بكرة يطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا، ومعه الدرة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمى السبيبة، فيقف عليها سوقا سوقا فينادي:
يا معشر التجار!قدموا الاستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن الكذب واليمين، وتجافوا عن الظلم وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا (وأوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولاتعثوا في الأرض مفسدين) » [٢٠].
وعن أبي النوار قال:
«رأيت عليا (ع) وقف على خياط، فقال له: يا خياط!صلب الخيط، ودقق الدرز، وقارب الغرز، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: يؤتى يوم القيامة بالخياط الخائن وعليه قميص ورداء مما خاطه، وخان فيه، فيفتضح على رؤوس الأشهاد. ثم قال: يا خياط!إياك والفضلات والسقطات فإن صاحب الثوب أحق بها» [٢١] .
هكذا جسد الإمام أمير المؤمنين (ع) المخطط الاسلامي للعدالة الاجتماعية بأدق صورها، وهكذا عامل الامة بالرفق والحب فعايش آمالها وآلامها حتى قطفت أروع ثمرات العدل في تاريخها كما كانت في عهد رسول الله (ص) سواء بسواء.
ج ـ سياسته عليه السلام مع نفسه:
تبنى الإمام (ع) سياسة مع نفسه ترتكز على الزهد الصادق بكل ما يطمع به الطامعون من مال وملذات وزخرف، فلقد عاش أمير المؤمنين في بيت متواضع لا يختلف عما يسكنه فقراء الامة، وكان يأكل خبز الشعير، تطحنه امرأته أويطحنه بيده سواء في ذلك قبل خلافته، وبعدها. وكان يلبس أخشن لباس وأبسطه، وكان مبدؤه الثابت في هذا المضمار.
«ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منه كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة مقرة» [٢٢] .
وبمقدورنا أن نلمس سياسة الإمام (ع) هذه مع نفسه من خلال المصاديق التالية: عن هارون بن عنترة عن أبيه قال:
«دخلت على علي بالخورنق، وهي في فصل شتاء، وعليه خلق قطيفة. فقلت: يا أمير المؤمنين!إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبا، وأنت تفعل هذا بنفسك!!فقال (ع) : والله ما أرزؤكم ـ أنقصكم ـ شيئا، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة» [٢٣] .
وقد خاطبه عاصم بن زياد يوما بقوله: يا أمير المؤمنين!هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، فأجابه علي (ع) :
«ويحكم إني لست كأنت، إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره» [٢٤].
وعن سويد بن غفلة قال: دخلت على علي (ع) يوما وليس في داره سوى حصير رث وهوجالس عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين!أنت ملك المسلمين والحاكم عليهم وعلى بيت المال، وتأتيك الوفود وليس في بيتك سوى هذا الحصير؟قال (ع) : «يا سويد!إن اللبيب لا يتأثث في دار النقلة وأمامنا دار المقامة، قد نقلنا إليها متاعنا، ونحن منقلبون إليها عن قريب» [٢٥] .
وها هوعلي يخرج سيفه ليبيعه في السوق كي يشتري بثمنه ازارا، وهوأمير المؤمنين وزعيم الامة الاسلامية الذي تجبى إليه الأموال من أكثر بقاع العالم الاسلامي.
فعن أبي رجاء قال: أخرج علي (ع) سيفا إلى السوق فقال: «من يشتري منيهذا؟فوالذي نفس علي بيده لوكان عندي ثمن إزار ما بعته!!!
فقلت له: أنا أبيعك إزارا وأنسؤك ثمنه إلى عطائك، فدفعت إليه إزارا إلى عطائه، فلما قبض عطاءه دفع إلي ثمن الإزار» [٢٦] .
إنه (ع) لا يأخذ من فيئهم شيئا، وإن قدر له الخروج من الكوفة، فلا يخرج إلا بالذي جاء به من المدينة المنورة: راحلته ورحله وغلامه.
فعن بكر بن عيسى قال: «كان علي (ع) يقول: (يا أهل الكوفة!إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي، ورحلي وغلامي فلان، فأنا خائن) ».
فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع، وكان يطعم الناس منها الخبز واللحم، ويأكل هوالثريد بالزيت.
ولشدة حرصه (ع) على سلوك سبيل رسول الله (ص) في عدله وزهده، أشار عقبة بن علقمة قال :
«دخلت على علي (ع) فإذا بين يديه لبن حامض، آذتني حموضته، وكسر ـ خبز ـ يابس. فقلت: يا أمير المؤمنين!أتأكل مثل هذا؟فقال لي: (يا أبا الجنوب!كان رسول الله يأكل أيبس من هذا، ويلبس أخشن من هذا، وأشار إلى ثيابه، فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به) » [٢٧] .
ولعظيم إيثاره للأمة على نفسه ما رواه عبد الله بن الحسين بن الحسن (ع) قال: أعتق علي (ع) في حياة رسول الله (ص) ألف مملوك مما عملت يداه، وعرق جبينه. «ولقد ولي الخلافة، وأتته الأموال، فما كان حلواه إلا التمر ولا ثيابه إلا الكرابيس» [٢٨] .
وعن سفيان الثوري عن عمر بن قيس قال: رئي على علي (ع) إزار مرقوع، فعوتب في ذلك، فقال : «يخشع له القلب، ويقتدي به المؤمن» [٢٩] .
ولقد بلغ في شدة زهده (ع) ابتغاء لوجه الله تعالى ما يتجلى عبر عبارته: «والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قيل لي: ألا تستبدل بها غيرها؟فقلت للقائل : ويحك أعزب، فعند الصباح يحمد القوم السرى» [٣٠].
أما صدقاته التي تصدق بها أووقفها للمساكين، فقد ذكر المؤرخ عمر بن شبة المتوفى عام (٢٦٢ ه) قائمة طويلة بها [٣١]، حتى انه عند ما بشر بتفجر الماء من أحد عيون ينبع، وهي أراض خصبة مليئة بالنخل والزروع كان قد وقفها (ع) للمسلمين، أبدى سروره«ثم تصدق بها على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله، وأبناء السبيل القريب والبعيد، في السلم والحرب، ليوم تبيض فيه وجوه وتسود وجوه، ليصرف الله بها وجهي عن النار، ويصرف النار عن وجهي» [٣٢].
د ـ مساواة أهل بيته عليهم السلام بسائر الناس:
أما منهاج أمير المؤمنين (ع) الذي سلكه في أهل بيته وقرابته فلم يكن بعيدا عن منهاجه مع نفسه إلا من حيث الدرجة، فقد كان مبنيا على أساس مساواتهم بالامة في الحقوق والواجبات، بل إن الذي يتحملونه من مهام من أجل حماية الرسالة والمسيرة الاسلامية أكثر بكثير مما ينالون من حقوق.
فقد كان الإمام (ع) حريصا على معاملة ذويه في مسألة الحقوق كما لوكانوا من عامة الناس، فلا يفضلهم، بعطاء، ولا يميزهم بحق، وسلك معهم اسلوب التدريبوالإعداد للعمل بمنهاجه معهم، بل كان يبدوشديدا مع بعضهم من أجل أن ينتهج الخط الذي رسمه لمتعلقيه وأهل قرابته.
وهاك صورا من منهاجه ذلك:
قال مسلم صاحب الحنا:
«لما فرغ علي (ع) من أهل الجمل أتى الكوفة، ودخل بيت المال، ثم قال: يا مال!غر غيري، ثم قسمه بيننا، ثم جاءت ابنة للحسن أوللحسين (ع) فتناولت منه شيئا، فسعى وراءها ففك يدها ونزعه منها، فقلنا: يا أمير المؤمنين!إن لها فيه حقا، قال (ع) : إذا أخذ أبوها حقه فليعطها ما شاء» [٣٣] .
وروى هارون بن سعيد أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قد قال له: يا أمير المؤمنين!لوأمرت لي بمعونة أونفقة، فوالله ما لي نفقة إلا أن أبيع دابتي!!فقال الإمام (ع) : «لا والله ما أجد لك شيئا إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك» [٣٤] .
وقد جاءه أخوه عقيل ـ وكان ضريرا ـ يوما يطلب صاعا من القمح من بيت مال المسلمين ـ زيادة على حقه ـ وظل يكرر طلبه على علي (ع) ، فما كان من الإمام أمير المؤمنين إلا وأحمى له حديدة على النار وأدناها منه، ففزع منها عقيل، ثم وعظه: «يا عقيل!أتئن من حديدة أحماها إنسانها لمدعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها من غضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى؟» [٣٥] .
وعن أبي صادق عن علي (ع) : أنه تزوج ليلى، فجعلت له حجلة، فهتكها، وقال: «حسب آل على ما هم فيه» [٣٦] .
وعن الحسن بن صالح بن حي قال: «بلغني أن عليا (ع) تزوج امرأة فنجدت ـ زينت ـ له بيتا، فأبى أن يدخله» [٣٧] .
وعن كلاب بن علي العامري قال:
«زفت عمتي إلى علي (ع) على حمار بأكاف تحتها قطيفة، وخلفها قفة معلقة!!» [٣٨] .
هكذا كان منهاج علي (ع) مع أهل بيته وذوي قرابته لا يفرط من أجلهم بحق من حقوق المسلمين أبدا، بل يعمل كل ما من شأنه على رفع مستواهم باتجاه مبادئه في الزهد، وسياسته مع نفسه في سبيل الله تعالى، ولمصلحة مجموع الامة.
ولقد كان منهجه واضحا كل الوضوح لا لبس فيه ولا غموض ولا يخضع لعاطفة أومساومة أبدا : «والله لئن أبيت على حسك السعدان مسهدا، أواجر في الأغلال مصفدا، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشيء من الحطام. وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها» [٣٩] .
وهذا السبيل الذي اختاره الإمام (ع) إنما يمثل أحد مصاديق العدل الاجتماعي الشامل الذي حرص أمير المؤمنين (ع) على تجسيده واقعا حيا في دنيا الناس.