وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ .                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                

Search form

إرسال الی صدیق
من بلاغة الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة – الأول

عادل حسن الأسدي

المقدّمة

(الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقرْآنً * خًلًقً ألْإِنسَانَ *عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) فله الحمد أن علم .

والشكرعلى ما أنعم والصلاة والسلام على نبيه الأكرم وعلى أهل بيته المعصومين .

إنّ كلام أميرالمؤمنين عليه السلام جامعُ للعجب العُجاب ، منحدرعنه السيلُ والعُباب ، بل هو بحر متلاطم التيار، متراكم الزَّخار، فهو أعظم شأناً وأمنع جانباً وأجلُّ قدراً وأبعدُ قعراً من أن يناله غوض الأفهام ، أو يبلغ غورةُ العقول والأوهام ، هيهات هيهات !

ضلت العقولُ ، وتاهت الحلوم ، وقصرت الخطباءُ وعجزت الأدباءُ وكلّت الفصحاء، وعَجبت البلغاء، وتحيرت الحكماء ، وتصاغرت العظماء عن وصف شأنٍ من شأنه ، أو إدراك فضيلة من فضائله .

وبعد ، تقسم المقدّمة إلى أقسام لغرض التوضيح والاختصار.

أوّلاً : نهج البلاغة

كتاب جمعه الشريف الرضي محمّد بن أبي أحمد الحسين الهاشمي العلوي(٣٥٩ – ٤٠٦ هـ) واختاره وانتخبه من كلام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ويضم الكتاب (٢٤٠) خطبة وكلاماً ، و(٧٨) بين كتاب ووصية وعهد ، و(٤٩٨) كلمة من يواقيت الحكمة وجوامع الكلم .

ثانياً : الإمام علي عليه السلام

أبوالحسن علي بن أبي طالب عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، ولد في الكعبة المشرفة سنة(٤٠هـ ٦٦١ م )، رُبي في حجرالنّبي صلى الله عليه وآله ولم یفارقه وکان اللواء بيده في أكثرالمشاهد، وهو ابن عم النّبي وصهره والوصي من بعده ، كان قدوة مثالية للمسلمين ونبراساً رائداً للمؤمنين ، وهوالإمام الأوّل عند الشيعة ، والخليفة الرابع عند أهل السنّة .

ثالثا : البلاغة

البلاغة : مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام [١] :

أ – علم المعاني : الذي يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى المراد .

ب – علم البيان : علم إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه .

ج – علم البديع : وهو الذي تعرف به وجوه تحسين الكلام ، وينقسم إلى قسمين :

الأوّل : ما يرجع إلى اللفظ ويسّمى بالمحسنات اللفظية .

الثاني : ما يرجع إلى المعنى ويسمّى بالمحسنات المعنوية .

وعلى هذا فعلم المعاني يعالج فكرة الصحة أو المطابقة ، وعلم البيان يدرس فكرة الوضوح ، وعلم البديع معني بفكرة الجمال .

رابعاً : الكتب المؤلفة في بلاغة الإمام عليه السلام .

لم نجد كتاباً مستقلاً يتحدّث عن بلاغة الإمام علي عليه السلام ويبين الصورالبلاغية في نهج البلاغة إلّا  كتابين ، هما : كتاب جِلوِه هاي بلاغت درنهج البلاغة (تجّلياتٌ من البلاغة في نهج البلاغة)، للدكتور محمّد الخاقاني، والكتاب الآخر (بلاغة الإمام علي) للدكتورأحمد محمّد الحوفي .

أما الكتاب الأوّل فكتب باللغة الفارسية ، وهذا الكتاب أورد المصطلحات البلاغية وقسمها وذكرأنواعها ثمّ ساق أمثله عليها من النهج ، والكتاب غير شامل لجميع الخطب والرسائل والحكم ، فهو كتاب بلاغي عامّ وليس مختصّاً ببلاغة الإمام علي عليه السلام بصورة شاملة .

وأمّا الكتاب الثاني : ركّزعلى نسبة الكتاب (نهج البلاغة) والشكّ في بعض خطب النهج ، أمّا من الناحية البلاغية فقد ذكرها بشكل مجمل ومختصر،ومن المفروض أن يركّزعلى الصورالبلاغية ؛ لأنّ الكتاب اسمه بلاغة الإمام علي عليه السلام، وقد جاء الكتاب دراسة خاطفة وسريعة في بلاغة الإمام عليه السلام وليس دراسة شاملة  لبلاغته عليه السلام .

أمّا إذا تفحصنا شروح نهج البلاغة ، وهي :

١ . شرح ابن ميثم البحراني : ذكرت النكت البلاغية أثناء شرحه لعبارات النهج بشكل أوسع من بقية الشروح .

٢ . شرح ابن أبي الحديد : ذكرها بجزء يسير جدّاً ، وذكرأبواباً لبعض المصطلحات البلاغية ، مثل : الالتفات والموازنة والسجع ولزوم ما يلزم والاستطراد ، وجاء بأمثلة قليلة جدّاً عليها من النهج .

٣ . منهاج البراعة لحبيب الله الخوئي : ذكر في الجزء الأوّل المصطلحات البلاغية وساق أمثله عليها من نهج البلاغة لكن لم تكن شاملة لجميع الخطب والرسائل والحكم أمّا الأجزاء الأُخرى فقد أشار إلى بعض النكت البلاغية التي ذكرها ابن ميثم البحراني في شرحه .

٤ . شرح نهج البلاغة لشارح من القرن الثامن الهجري : وكان يحوي هذا الكتاب على تسع وأربعين خطبة فقط ، وقد ذكرالفنون البلاغية لهذه الخطب ، ولكن وجدنا في هذا الشرح الكثيرمن الأخطاء البلاغية والنحوية واللغوية .

٥ . أمّا بقية الشروح لم تذكرالنكت البلاغية إلّا ما ندر.

ولا تعتبرهذه الشروح كتاباً مستقلاً في بلاغة الإمام عليه السلام .

خامساً : منهجية البحث

لم أجد كتاباً في بلاغة الإمام يورد الخطبة والرسالة والحكمة ويبين صورها البلاغية ليكون شاملاً لجميع ما ورد في نهج البلاغة .

وهذا الكتاب الذي بين أيديكم هو مختصّ ببلاغة الإمام علي عليه السلام في النهج وإليك خطوات البحث :

١ . اعتمدنا الخطب والرسائل والحكم حسب تسلسل وترتيب نسخة صبحي الصالح .

٢ . أخذنا مقاطع معينة من كلّ خطبة أو رسالة أو حكمة والتي فيها النكتة البلاغية فبيناها .

٣ . لم نورد بعض الخطب والرسائل والحكم ؛ لأنّها متشابهة مع بعض التي وردت قبلها من ناحيتين : أمّا العبارة مكررة مع التي قبلها ، أو متشابهة معها في الجانب البلاغي .

٤ . شرحنا معاني بعض المفردات .

٥ . استقصينا النكت البلاغية في شروح نهج البلاغة مع الترتيب والإضافة والتعليق عليها .

٦ . أشرنا إلى بعض تعليقات مؤلفي شروح النهج في الهامش .

٧ . أشرنا إلى نوع الاستعارة (تصريحية ، مكنية) في مواضع كثيرة، وتركنا الباقي كتمرين للقارئ الكريم يستنتجها بنفسه .

٨ . قسمنا البحث إلى :

أ – التمهيد ، ويشمل على :

أوّلاً : مميزات الخطب وأنواعها .

ثانياً : مميزات الرسائل وأنواعها .

ثالثاً : مميزات الأقوال والحكم .

رابعاً : أقوال العلماء والأدباء في بلاغة الإمام علي عليه السلام .

خامساً : أثر نهج البلاغة في الأدب العربي .

ب – الباب الأوّل : الصورالبلاغية في الخطب .

ج – الباب الثاني : الصورالبلاغية في الرسائل .

د – الباب الثالث : الصورالبلاغية في الحكم .

هـ – ملحق بالمصطلحات البلاغية التي وردت في الكتاب .

وختاماً اُقدم خالص الشكر والتقديرلكلّ من مدّ يد العون والمساعدة ، وخصوصاً

زوجتي التي ساعدتني كثيراً في إتمام هذا الكتاب وتحملت عبء مقابلة النصوص ومطابقتها .

نسأل الله التوفيق والسداد ، وأن يهدينا إلى أقوم السبل وأكثرها خيراً ، ويجعلنا من المتمسكين بولاية أميرالمؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام .

(رَبَّنَا لَاتُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)

 

عادل حسن الأسدي

قم المقدّسة

الثامن عشرمن ذي الحجة سنة ١٤٢٥ هـ

التمهيد  وفيه :

أوّلاً : مميزات الخطب وأنواعها

ثانياً : مميزات الرسائل وأنواعها

ثالثاً : مميزات الأقوال والحكم

رابعاً : أقوال العلماء والأدباء في بلاغة الإمام عليه السلام

خامساً : أثر نهج البلاغة في الأدب العربي

التمهيد

إنّ الملامح الفنية في خطب ورسائل وحكم الإمام علي عليه السلام والتي هي ليست مجرد ألفاظ خاوية وشعارات فارغة نابعة من أحاسيس فردية وحب الأنا ، بل تجلت هذه الألفاظ بالصدق والعاطفة والجدّ والشعور بالمسؤولية والمساواة والاُخوة والمحبة والثورة ومقارعة الظلم والجهاد في سبييل إعلاء كلمة الحقّ وحفظ الدين والإسلام ونبذ الدنيا والزهد فيها ، وغيرها من الجوانب التي تطرق لها الإمام عليه السلام ، وإضافة إلى الأساليب البلاغية التي جاءت انسيابية في الكلام بدون تكلف وصنعة ، وفيما يلي نذكر:

أوّلاً : مميزات الخطب وأنواعها

أ – مميزات الخطب :

تمتازخطب الإمام علي عليه السلام بعدّة اُمور:

١ . تجد في عباراته الجزالة والقوة والوضوح ،فهناك انسجام في الكلمة والعبارة والقطعة فكلّ لفظ تحس به في مكانه الذي يجب أن يكون .

٢ . تجد في موضوع الخطبة الوضوح والجلاء والسلامة والقرب والقوة ، وأيضاً تجد الابتكار والجدة والاتساع والشمولية والعمق والترتيب مستمدّاً معانيها من القرآن الکریم وکلام رسول الله صلى الله عليه وآله .

٣ . اتصفت خطب الإمام علي عليه السلام بتساوي الفواصل حفظاً على التوازن الإيقاعي والجرس الموسيقي ، وهذا ضرب آخر في التعبير يحببه السامع ويقربه إلى الذوق .

٤ . نجد في خاتمة كلامه خلاصة وافية لموضوع الخطبة وبكلمات قليلة .

٥ . تمتاز الخطب في عرض الحجج الدامغة وإيراد القضايا المنطقية وانتهاج وسائل البرهنة والإقناع واتّبع في ذلك عليه السلام أساليب القرآن الکریم .

٦ . استعان الإمام بقليل من الشعرخلافاً للخطب التي أُلقيت في الجاهلية والتي كان فيها الخطباء يكثرون من الشعر، فقلّل الإمام عليه السلام من ذكرالشعر وأكثر من ذكرالآیات وهذه إحدى خصائصه الفنية في الخطابة .

٧ . وضوح الهدف والغاية ، وأنّ هذا الوضوح مصحوب بالتسامي فلا إسفاف في أفكاره ولا غموض ولا تعقيد ولا مخاتلة ولا مواربة ، بل صراحة كاشفة مطلقة .

٨ . خطبة متينة في تراكيبها محكمة في عباراتها .

٩ . التكرار في اللفظ والمعنى للزيادة في التأكيد والحثّ والتأثير.

١٠ . تمتاز خطب الإمام عليه السلام في مخاطبة العقول والعواطف معاً فجاءت زاخرة بالدليل والبرهان والاستقراء .

١١ . استخدم الإمام عليه السلام الفنون البلاغية من المعاني والبيان والبديع ، وأكثرخصوصاً من المجاز والكناية والتشبيه والاستعارة والتمثيل للوصول بالمخاطب إلى الصورالمحسوسة .

١٢ . الميل إلى التطويل فقد كانت الخطب قبل الإسلام قصيرة لا تتعدى بعض الجمل والعبارات ، وأنّ خطب الإمام عليه السلام تميل أغلبها إلى التطويل ، حيث كان يستعرض في الخطبة أفكاراً عميقة ويحاول الاستدلال عليها وردفها بأفكارمؤيدة تدعم الفكرة الأصلية ،وهذا يستدعي الإمام عليه السلام في إطالة الخطبة .

١٣ . الابتداء بالحمد والشهادة .

١٤ . فيها الكثيرمن الجدّة والطرافة والألوان المتعددة للثقافة .

١٥ . قوة الحجّة والبراعة في سوق الدليل المفحم الملزم في غير إطالة ولا استطراد .

١٦ . البراعة في اختيارالمفردات بحيث تنسجم من الناحية الصوتية فتجيء خفيفة على اللسان لذيذة الوقع في الأذان موافقة لحركات النفس مطابقة للعاطفة التي أزجتها أو الفكرة التي أملتها ، وهذا الانسجام تحقق بائتلاف حروف الكلمات وتوافق أصواتها وحلاوة جرسها وملاءمتها لمواضعها .

١٧.كثرة الصیغ الانشائية من أمر ونهي واستفهام وترجي ونداء وقسم وتعجب؛لأنّها أقوى من الصيغ الخيرية تجديداً لنشاط السامعين وأشد تنبيهاً وأكثرإيقاظاً، وهي أدق في تصوير مشاعرالخطيب ؛لأنّ أفكاره ومشاعره المتنوعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها ثمّ إنّ الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء وهذا كلّه عون على الوضوح من ناحية وعلى التأثير في السامعين من ناحية أُخرى .

١٨ . تحفل خطب الإمام بسجع كثير يضيف إلى روعة التعبير وجودة الإلقاء وجلال الشخصية وسموالفكرة نوعاً مستطاباً من الإيقاع الفني .

١٩ . المحاورة والوصف ، وهما من عناصرالقصة فنرى في خطبة دقة الوصف وهذا ما نجده في وصف الطاووس والخفاش بحيث نرى في هذا الوصف كلّ التفصيلات الجسمية والحركة بأدق المستويات .

٢٠ . نرى كلّ مقطع كأنّه مستقل عن الآخر ولكنه موصول بسابقه ولاحقه حيث تصب كلّ المقاطع في المركز للنصّ .

٢١ . العاطفة ، وتتصف بعدّة أُمور:

أ – الصدق ، فالعاطفة صادرة من وجدان صادق صحيح غيرمصطنع .

ب – القوة التي تهز نفوس السامعين وتؤثّر فيهم .

ج – الثبات بأن تستمرالخطبة مؤثّرة في نفس القائل لتؤثّرعلى السامعين وكان الإمام علي عليه السلام قد استخدم هذه الأحاسيس الوجدانية خصوصاً في خطب الجهاد والحثّ على مواجهة الأعداء .

٢٢ . التنسيق : ترتيب المعاني التي يقصد عرضها وإحكام تركيب الخطبة وربط أجزائها حتّى تأتي الخطبة انسيابية كالماء ، كما وصفها ابن أبي الحديد .

ب – أنواع الخطب :

تنقسم خطب الإمام علي عليه السلام على أساس غرضها وأهدافها إلى الأنواع التالية [٢] :

١. الخطب الفكرية :

وهي الخطب التي تتناول قضايا العقيدة من التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد وما خلق الله في السماوات والأرض وما أودع من نعم ظاهرية ، وتعبرهذه الخطب مصدراً مهماً من مصادرالثقافة الإسلامية ، فقد اشتملت على علوم كثيرة منها : علم الفلك، طبقات الأرض ، البيولوجيا ، علم الحيوان،الفيزياء،وتضمنت كذلك علوماً مرتبطة بكائنات غيرمرئية كالملائكة والجن والشياطين .

صفات الخطب الفكرية :

أ – طول الخطبة .

ب – غلبة الجانب الفكري على اللفظ .

ج – الابتداء بالتوحيد؛ لأنّه الأساس ثمّ الانتقال إلى الأُمورالأُخرى كالنبوة والإمامة والميعاد.

٢ .الخطب الوعظية :

وتشمل الخطب التربوية والأخلاقية التي أوصى بها أميرالمؤمنين عليه السلام إلى ولادته وأصحابه وما ورد عنه في ذكرالموت .

منهج الإمام عليه السلام في الوعظ :

أ – التركيزعلى حقيقة الموت وما سيلاقيه الإنسان في القبر وما بعد الموت .

ب – التذكير والاستغفار وما يترتب على المذنب من مسؤوليات .

وصفة الخطبة الوعظية أنّها تكون مختصرة مجملة في عدّة كلمات ، ولا رنين وصدى كبير ووقع في النفس ، والخطب الوعظية هي من أقصرالخطب وهذا ما نلاحظه في النهج .

٣ . خطب التقريع :

تمتاز خطب التقريع بما يلي :

أ – الكلمات الحادة والعبارات ذات الجرس العنيف على آذان السامع .

ب – الهدف من الخطبة التقريعية استثارة الأحاسيس الآدمية عند المستمعين والمخاطبين .

ج – القصد من الخطبة التقريعية هو التربية، فالتقريع هو أحد أساليب التربية، فمسؤوليته

إزاء أصحابه أن يدفعهم إلى الصلاح .

٤ . خطب التحريض :

وهي الخطب التي يحث فيها أصحابه على الجهاد ويدفعهم للقتال.

أساليب خطب التحريض:

أ – استخدام أسلوب التوبيخ والتنديد؛ لأنّه وسيلة للحثّ على الجهاد إذ أنّ البعض لاينفعهم أُسلوب الموعظة والإرشاد.

ب – من أساليب الحث على الجهاد إثارة روح الحمية والشجاعة بتصوير ما فعله الأعداء بهم.

ج – من أساليب الحث والتحريض التي استخدمها الإمام عليه السلام مقابلة العدو بالمثل

فإن كان العدو يهاجم فالمنطق يستدعي مواجهته بالرد المناسب لا الصمت والسكوت عليه .

٥ . خطب الملاحم :

وهي الخطب التي يذكر فيها أميرالمؤمنين ما سيحدث في المستقبل وسميت الملاحم ؛ لأنّ الإمام تطرق لموضوع المستقبل أثناء حديثه عن الفتن والحروب والاضطرابات التي وقعت في عهده والتي ستقع في المستقبل وسميت بالملاحم إشارة إلى تلك الفتن والاضطرابات .

صفات خطب الملاحم :

أ – هذه الخطب بمثابة جرس الإنذارالذي يقرعه الإمام عليه السلام لينتبه الناس عما يفعلون من شرور.

ب – الأُسلوب المتبع في خطب الملاحم هو التأنيب والتحليل والتدقيق وقراءة المستقبل .

ج – الهدف ليس كشف المستقبل بقدر ماهو تحذير لهم من مغبة نتائج أعمالهم .

د – خطب الملاحم ليست ترفاً وضرباً في المستقبل ، بل هي تحمل أجلّ الغايات التي يريد الإمام من خلالها أن يضع الأُمة أمام مسؤوليتها .

هـ - ليست جميع أخبار الملاحم أخبار سوء وحزن وأسى ، بل هناك من الأخبارالمفرحة التي أخبرالإمام بها أصحابه ليزيدهم ثباتاً وليقوي من عزيمتهم ويجعلهم أقدرعلى مواجهة الأعداء .

٦ . خطب الاستسقاء :

وهي الخطب التي خطبها الإمام عليه السلام طلباً للمطر،وخطب الاستسقاء منفردة عن بقية الخطب ، فهي تمتاز:

أ – برقة الكلمات .

ب – امتزاج الدعاء بالوعظ .

ج – طلب الرحمة وإعلان التوبة والاستغفار والإنابة .

د – تصورعجز الإنسان أمام إرادة الله وقدرته .

هـ - يذكرهم بحقائق الحياة المتعلّقة بالاستسقاء .

و – بيان الغاية من نزول المطر وكيفية النزول وسرّه.

٧. الخطب الحربية :

وهي الخطب التي تلقى في الحروب لحثّ الجنود على القتال والطاعة والامتثال للأوامر ورعاية القوانين والأعراف الحربية ، وتتصف بالأُمورالتالية :

أ – يلقيها لجماعة عظيمة فتثير سامعيه ما فيها من الحمية والنشاط .

ب – كونها خطبة بليغة متضمنة للأفكارالشريفة والقيم المهيجة لروح الجندية .

ج – كونها واضحة قريبة المنال يدركها الجندي ويتجاوب معها دون عناء .

د – كونها قصيرة لا يملّ منها الجند فتخرج من فم الخطيب كشهب النار الملتهبة ويتلقاها السامعون كالنبال الراشقة فلا يكادون يتمالكون أنفسهم عن نزال العدو.

أغراضها :

أ – التعاليم القتالية وفنون القتال : إذ احتوت هذه الخطب على كافة القواعد والخطط الحربية وأُصول الحرب النفسية .

ب – تعظيم أمر الفرار من الحرب وتصويره على أنّه أكبرالكبائر وأعظم الذنوب .

ج – استثارة روح الشهادة في المقاتلين .

د – رفع معنويات المقاتلين بوصفهم بأحسن الصفات .

هـ - الخطب الحربية ليست موجهة إلى المقاتلين وحسب ، بل موجهة أيضاً إلى الأعداء ، وينذرهم ويحذرهم من مغبة أعمالهم إن تمادوا ولم يأخذوا بالنصحية والموعظة .

٨ – الخطب السياسية :

تناول أميرالمؤمنين في الخطب السياسية والموضوعات

المتعلّقة بالدولة الإسلامية وبمسيرة الأُمّة وعوامل تقدمها وتأخرها وأهم هذه المواضيع :

أ – إنّه صاحب الحقّ في السياسة والحكم .

ب – صفات الحاكم .

ج – دور في تقوية الإسلام ونشره والإنجازات التي قام بها أيّام حكمه .

د – السياسة العامة وهي تتضمن قواعد منهجه السياسي في الحكم .

وهي قواعد متناثرة في خطبه ورسائله إلى ولاته .

هـ - الإشادة بأهل البيت عليهم السلام .

و – الرد على المنحرفين وإسقاط حججهم .

ز- التاريخ السياسي : نظرة تحليلية للتأريخ من أجل أخذ العبرة والتأسي بالذين سبقوا أصحابه .

خصائص الخطب السياسية :

أ – حسن اختيارالألفاظ والتعابيرالمعبرة عن موقف سياسي أو وصف سياسي لحالة من الحالات ، أو لشخص من الأشخاص وهذه الألفاظ تعبرعن معانيها دون لبس أو غموض .

ب – الإيجاز حيث يلاحظ في تلك الخطب أنّها أقصر بكثيرمن الخطب الفكرية والدينية أو يتناسب الإيجاز مع المواقف السياسية .

ج – الاكتفاء بالإشارة واللمحة السريعة وعدم الاستفاضة في الألفاظ والعبارات والأمثلة والتي في العادة يستخدمها الخطباء في الأُمورالخطابية الأخُرى.

د – الاستعداد بالكلمات والآیات القرآنیة .

هـ - مخاطبة العقل والعاطفة في الخطب السياسية إذ أنّ مخاطبة وحده لا يكفي ، ومن هنا جاءت الخطب السياسية ممتزجة بالوعظ بالتذكير بالآخرة والموت .

ثانياً : مميزات الرسائل وأنواعها

أ – مميزات الرسائل :

تمتاز رسائل الإمام علي عليه السلام بعدّة أُمور:

١ . استقامة الأُسلوب ورصانته وقوته .

٢ . النسق المنطقي في تنظيم الأفكار.

٣ . استخدام الأدلة والحجج والبراهين العقلية .

٤ . إنّ رسائله اجمالاً تنزع منزع الإيجاز وهي تمتاز بقوة الجزالة .

٥ . الطول والقصر مرتبطة بطبيعة الرسالة أو الموضوع .

٦ . تمتازالرسائل التي تحمل الأوامرالعسكرية إلى قادة الجيوش في الاختصار؛ لأنّها محصورة بالأمرالذي يراد تنفيذه .

٧ . رسائل الحرب تمتاز بقوة الألفاظ ومتراصة في عباراتها ، ومحكمة في مدلولاتها ، لأنّ الكلمات في الحرب لها أثر كبيرعلى النفوس .

٨ . الوصايا الاجتماعية غاياتها الجوانب التربوية والخلقية فتجد فيها حثّاً على التمسك بمكارم الأخلاق .

ب – أنواع الرسائل :

لو تفصحنا رسائل الإمام لوجدناها منحصرة في المناسبات والأغراض التالية [٣] :

أ – الرسائل التي تبعث إلى الولاة ، أمّا لغرض المحاسبة والتأنيب أو النصح والإرشاد أو التعليمات الحربية والإدارية أو إخبارهم بما يجري في البلاد .

ب – رسائل المناظرة والمحاكمة : وقد استخدم أميرالمؤمنين عليه السلام شتى أساليب المناظرة لدفع حجج خصومه منها : أُسلوب الاستدراج ، التهكم والسخرية ، الاستدراك وردَّ الحجّة على الخصم .

ج – رسائل التعبئة والتحريض .

د – رسائل اشبه ما تكون بالبيان السياسي .

هـ - الوصايا ، وهي أنواع : في الجانب السياسي ، والحربي ، والاجتماعي .

ثالثاً : مميزات الأقوال والحكم

تمتاز بما يلي :

١ . من ناحية الأُسلوب فحكمه عليه السلام ذات أُسلوب خاص يقوم على الإيجاز والتكثيف والتركيزحيث يفي القليل من الكلام بالكثير.

٢ . الجمل قوية بصورها وتشبيهاتها معتمدة حيناً على السجع وحيناً على الأزدواج والموازنة.

٣ . تعتمد أحياناً على الطباق والمقابلة .

٤ . تسند من حيث الأساس الحكمي على وحدة الوسائل والغايات، فتمقت الانتهازية بشتى صورها ومختلف مجالاتها ، ومن هنا فهي معالجة جذرية للأُمور مبنية على نظر فلسفي عميق وعلى نفاذ إلى كفة الحياة الاجتماعية وفهم لحقيقتها وتطوراتها .

٥ . الألفاظ ذات وقع ، شديدة التأثير،قوية الدلالة على المعنى المراد، وتتصف بالجزالة وسهولة النطق وجمال الوقع والقدرة على الإيحاء بالجو العاطفي الملائم لمضمونها .

٦ . أغلب الحكم والمواعظ ما هي إلاّ أجزاء من الخطب والرسائل اقتطفها السيّد الشریف الرضي واتخذها منهجاً مناسباً في ذلك الوقت فقد استخرج هذه العبارات المناسبة وأعطاها هالة من الاستقلالية .

إذاً نستنتج من خلال مميزات الخطب والرسائل والأقوال الخصائص البلاغية التي امتازبها الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة :

أوّلاً : اختياراللفظة الملائمة بكلّ خصائها وربط الألفاظ على أجمل ما يكون ، وربط الجمل والمعاني والفقرات في صياغة فنية قوية تضيف جمالاً إلى جمال .

ثانياً : تجد مع السجع حلاوة الألفاظ وجمال انسيابها لتزيد الموسيقى جمالاً وروعة ، وتجد مع الجمل مقابلة وترتيباً وتناسقاً وترابطاً .

ثالثاً : الجرس الموسيقي وجمال الإيقاع ممّا يدركه أهل الذوق الفني .

رابعاً : المحسنات البديعية  في نمط ممتاز من جناس إلى طباق وترجيع وإلى قلب وعكس تزدان بجمالها ويكمل بها حسن الموقع .

خامساً : المجازات والكنايات في معرض انيق وقالب بديع .

سادساً : تجد صورالجمال الفني المتمثلة بالموضوع والجرس الموسيقي والصورة والحركة متداخلة متناسقة في النصّ الواحد .

سابعاً : الجمال الفني أشرق من خلال تفاعل الخصائص الإيمانية والفنية والتحامها في النصّ كلّه .

رابعاً : أقوال العلماء والأدباء في بلاغة الإمام عليه السلام

ابن أبي الحديد : فهوعليه السلام إمام الفصحاء وسيّد البلغاء وفي كلامه قيل : دون الخالق وفوق كلام المخلوقين ، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة [٤] .

وقال أيضاً عند ذكرالفرق بين كلام الإمام علي عليه السلام وخطب ابن نباتة :

ونحن نذكر في هذا الموضع فصولاً من خُطب الفاضل عبدالرحيم بن نُباتة رحمه الله ، وهو الفائز بقّصَبات السبق من الخطباء،وللناس غرام عظيم بخطبه وكلامه ، ليتأمّل الناظركلامّ أميرالمؤمنين عليه السلام في خطبه ومواعظه ، وكلام هذا الخطيب المتأخّرالذي قد وقع الأجماع على خطابته وحسنها ، وأنّ مواعظه هي الغاية التي ليس بعدها غاية .

من ذلك قوله :

((أيّها الناس ، تجهزوا فقد ضَرَب فيكم بُوق الرحيل ، وابُرزوا فقد قربت لكن نوق التحويل ، ودَعُوا التمسّك بخُدَعِ الأباطيل، والركون إلى التسويف والتعليل ؛ فقد سمعتكم ما كرّرلله عليكم من قِصص أبناء القُرى ، وما وعظكم به من مصارع مَنْ سَلَف من الورى ؛ ممَا لا يعترض لذوي البصائر فيه شك ولا مِرَا؛ وأنتم معرِضون عنه إعراضكم عمَا يُختلق ويفتَرى ؛ حتَى كأنّ ما تعلمون منه أضغاثُ أحلام الكّرى ، وأيدي المنايا قد فصمت من أعماركم أوثق العُرَا، وهجمت بكم على هول مطلع كريه القِرى؛فالقهري رحمكم الله عن حبائل العطب القهقري! واقطعوا مفاوز [٥] الهلكات بمواصلة السّرى [٦] ، وقفوا على أحداث المنزلين من شَناخيب الذٌرَا،المنجلين بوازع أمَّ حَبَوْ كَرى [٧] ، المشغولين بما عليهم من الموت جرى ، واكشفوا عن الوجوه المنعمة أطباق الثرى ، تجدوا ما بقي منها عِبْرَة لمن يرى.فرحِم الله أمرأً رحم نفسه فبكاها ، وجعل منها إليها مشتكاها ! قبل أن تعلق به خطاطيف المنون ، وتصدق فيه أراجيف الظنون ، وتَشْرَقَ عليه بمائلها مُقَل العيون ؛ ويلحق بمن دَثَرمن القرون، قبل أن يبدوَعلى المناكب محمولاً ، ويغدوَ إلى محلّ المصائب منقولاً ، ويكونَ عن الواجب مسؤولاً، بالقدوم على الطالب الغالب مشغولاً.هناك يرفع الحجاب،ويوضع الكتاب،وتقطع الأسباب،وتذهب الأحساب،ويمنع الإعتاب ،ويجمع من حَقّ عليه العقاب ، ومَنْ وجب له الثواب ، فيضرب بينهم بسورٍ له باب ،باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبّله العذاب)) .

فلينظرالمنصف هذا الكلام وما عليه من أثرالتوليد ؛ أوّلاً بالنسبة إلى ذلك الكلام العربّي المحض ، ثمّ لينظر فيما عليه من الكسل والرخاوة ، والفتور والبلادة ،حتّى كأنّ ذلك الكلام لعامر بن الطفيل [٨] مستلئماً شِكَته [٩]،راكباً جواده، وهذا الكلام للدلال المديني [١٠]المخنّث آخذاً زمّارته، متأبطأ دفّه.

والمحْ ما في ((بوق الرحيل)) من السفسفة واللفظ العامّي الغثّ واعلم أنّهم كلّهم عابوا على أبي الطيب قوله :

فإن كان بعضُ الناس سيفاً لدولةٍ ***** ففي النّاس بُوقاتٌ لها وطبُولُ

وقالوا : لا تدخل لفظة ((بوق)) في كلام يفلح أبداً .

والمحْ ما على قوله : ((القهقرى القهقرى))متكرّرة من الهجْنة ،وأهجَنُ منها ((أمّ حَبَوْ كَرى)) .

وأين هذا اللفظ الحوشيّ الذي تفوح منه روائح الشَّيح والقّيْصوم [١١]؛وكأنّه من أعرابيّ قد قِدم من نجد لا يفهم محاورة أهل الحضر،ولا أهل الحضر يفهمون حواره؛من هذه الخطبة اللينة الألفاظ التي تكاد أن تتثنى من لينها، وتتساقط من ضَعْفِها !

ثم المحْ هذه الفِقَر والسَّجَعات ،التي أولها ((القرى)) ثمّ ((المرا)) ثمّ ((يفترى)) ثمّ ((الكرى)) إلى قوله : ((عبرة لمن يَرى)) هل ترى تحت هذا الكلام معنى لطيفاً ،أو مقصداً رشيقاً ! أو هل تجد اللفظ نفسه لفظاً جَزْلاً فصيحاً ،أوعذباً معسولاً ! وإنّما هل ألفاظ قد ضُمّ بعضُها إلى بعض ،والطائل تحتها قليل جداً .

وتأمل ((مِرا)) فإنّها ممدوة في اللغة ، فإن كان قصرها فقد ركب ضروره مستهجنة ، وإن أراد جمع ((مِرْية)) فقد خرج عن الصناعة ؛لأنّه يكون قد عَطَف الجمع على المفرد ، فيصير مثل قول القائل : (( ما أخذت منه ديناراً ولا دارهم)) ، في أنه ليس بالمستحسن في فن البيان .

ومن ذلك قوله : (( أيها الناس ، حصحصّ الحقّ ، فما من الحقّ مناص ، وأُشخِص الخلق ؛ فما لأحد من الخلق خَلَاص ،وأنتم على ما يباعدكم من الله حِرَاص ،ولكم على موارد الهّلكة اغتصاص ؛ وفيكم عن مقاصد البركة انتكاص ؛ كأن ليس أمامكم جزاء ولا قصاص ، ولجوارح الموت في وّحْش نفوسكم اقتناص ؛ ليس بها عليها تأبًّ ولا اعتياص)) .

فليتأملْ أهلُ المعرفة بعلم الفصاحة والبيان هذا الكلام بعين الإنصاف ، يعلموا أنّ سطراً واحداً من كلام ((نهج البلاغة)) يساوي ألف سطر منه ، بل يزيد ويُرِبي على ذلك ؛ فإنّ هذا الكلام ملزقٌ عليه آثار کُلْفة وهُجْن ظاهرة ، يعرفها العامّي فضلاً عن العالم .

ومن هذه الخطبة : (( فاهجروا رحمكم الله وثيرّ المراقد ، وادّخروا طيّب المكتسب تخلصوا من انتقاد الناقد ، واغتنموا فسحة المّهَل قبل انسداد المقاصد ، واقتحموا سُبُل الآخرة على قِلّة المرافق والمساعدة)).

فهل يجد متصفّح الكلام لهذا الفصل عُذوبة ، أو معنى يُمدح الكلامُ لأجله؟ وهلْ هُوَ الَا ألفاظ مضموم بعضها إلى بعض ، ليس له حاصل ؛ كما قيل في شعر ذي الرُّمة :

((بعر ظِباء ونقط عروس)) !

ومن ذلك قوله : ((فيا له من واقع في كُرَب الحشارج ،مصارع لسكرات الموت معالج َ! حتّى دَرَج على تلك المدارج ، وقدم بصحيفته على ذي المعارج)) .

وغير خاف ما في هذا الكلام من التكلّف .

ومن ذلك قوله : ((فكأنّهم بمنادي الرحيل قد نادى في أهل الإقامة ، فاقتحموا بالصّغارمحجّة القيامة ، يتلو الأوائل منهم الأواخر، ويتبع الأْكابرُ منهم الاْصاغر، ويلتحق الغوامر من ديارهم بالغوامر، حتّى تبتلع جميعهم الحفر والمقابر)) .

فإنّ هذا الكلام ركيك جدّاً ، لو قاله خطيب من خُطباء  قُرَى السواد لم يستحسَن منه ، بل ترك واسترذل .

ولعلّ غائباً يعيب علينا فيقول : شرعتم في المقايسة والموازنة بين كلام أميرالمؤمنين عليه السلام وبين كلامه ابن نُباتة؛ وهل هذا إلّا بمنزلة قول مَنْ يقول : السيف أمضى من العصا؛ وفي هذه غضاضة على السيف !

فنقول : إنّه قد اشتملت كتبُ المتكلّمين على المقايسة بين كلام الله تعالى وبين كلام البَشَر،ليبيَنوا القرآن وزيادة فصاحته على فصاحة كلام العرب ؛ نحو مقايستهم بين قوله تعالى (وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَياةٌ) [١٢] وبين قول القائل : (( القتل أنفى للقتل)) ونحو مقايستهم بين قول الله تعالى : ((خُذِ الْعَفْوَ وَأمُرَبَالْمعُرْوفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) [١٣] وبين قول الشاعر:

فإن عرضوا بالشرّ فاصفح تكرّما ***** وإن كتموا عنك الحديث فلا تسلْ

ونحو إيرادهم كلام مُسَيلمة [١٤] ،وأحمد بن سليمان المعرّي ، وعبدالله بن المقفع ، فصلاً فصلاً ،الموازنة والمقايسة بين ذلك وبين القرآن المجيد ،وإيضاح أنّه لا يبلغ ذلك إلى درجة القرآن العزيز، ولا يقاربها ، فليس بمستنكَرٍ منّا أن نذكر كلام ابن نُباتة في معرض إيرادنا كلام أميرالمؤمنين عليه السلام لتظهرَ فضيلة كلامه عليه السلام ، بالنسبة إلى هذا الخطيب الفاضل ، الذي قد اتفق الناس على أنه أوْحدُ عصره في فنّه .

واعلم أنّا لا ننكر فضَل ابن نُباتة وحُسنَ أكثرخطبه ، ولكنّ قوماً من أهل العصبيّة والعناد ، يزعمون أنّ كلامه يساوي كلامَ أميرالمؤمنين عليه السلام ويماثله !  [١٥].

---------------------------------------------------------------

[١] . جواهرالبلاغة : ص ٣٣ – ٣٦ .
[٢] . ملخصاً من كتاب المدخل في علوم نهج البلاغة : ص ٥٠ – ٧٥ .
[٣] . ملخصاً من كتاب المدخل في علوم نهج البلاغة : ص ١٠٠ – ١١٣ .
[٤] . شرح بن أبي الحديد : ج ١ ص ٢٤ .
[٥] . المفاوز: جميع مفازة هي الصحراء الواسعة .
[٦] . السُّرى : سيرالليل .
[٧] . حَبَوْ كرى : اسم للداهية .
[٨] . عامر بن الطفيل : من فرسان العرب المشهورين وفتّاكهم وساداتهم في الجاهلية. أدرك الإسلام شيخاً وتوفي سنة ٧٠ ق هـ .
[٩] . الِشكة : السلاح .
[١٠] . الدلال المديني : من ظرفاء المدينة. اسمه ناقد.
[١١] . الشيخ والقيصوم : من أسماء النباتات السهلية .
[١٢] . البقرة : ١٧٩ .
[١٣] . الأعراف : ١٩٩ .
[١٤] . مسيلمة : هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي ، متنبئ من المعمرين.وفي الأمثال : (( أكذب من مسيلمة)).توفي سنة ١٢ هـ .
[١٥] . شرح بن أبي الحديد : ج ٤ ص ١٤٤ – ١٤٧ .

يتبع ......

****************************