التوحيد
نهج البلاغه؛ كتاب التوحيد، كتاب أوله الحمد وآخره الشُكر، وبين الحمد والشكر عِطرُ التوحيد من سمائه... .
أوله الحمدللّه الذي لا يبلغُ مِدحته القائلون، ولا يُحصي نعماءه العادُّون، ولا يؤدّىِ حقّهُ المجتهدون... الى آخر الخطبة.
لقد تكلّم الامام اميرُالمؤمنين عن التوحيد بأفضل شكل، فلو جمعنا اقوال المتكلمين والعارفين وكل من تفوّه بالتوحيد أو كتب فيه لفاقت كلمة اميرالمؤمنين في التوحيد على كا ماكتبوا و تفوهوا قال اميرالمؤمنين بعتارة قصرة وبليفة جداً.
التوحيدُ أن لاتتوهمَّه، والمذلُ أن لاتَتهمهُ لان كل موهم محدود، واللّه لايحد بوهم، واعتقاد الانسان يعدله هو أن لاتَتهمهُ في أفعالهِ بظن عدم الحكمة فيها، وهذا منتهى معنى التوحيد... .
وعند ما يقول أميرالمؤمنين: أولُ الدينِ معرفته وكمالُ معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيدهُ وكمالُ توحيده الاخلاص له وكمالُ الإخلاص له نفي الصفات عنه....
فأين نجد مثل هذهِ العبارات التي تدخل الى القلب بلا جواز مرور، وبلاشرطة وحرس لانه كلام نابع في القلب، وهذا هو سرُّ البلاغة عند اميرالمؤمنين عليه السلام أنه يقول بلسانه ما يقتحم القلوب ويستقر في الأفئدة.
فهو ''كائن لا عن حدثٍ'' لإنه مكّون المحدثات.
و''موجودٌ لا عن عدمٍ'' لأنه موجد المعدومات.
و''أنشأ الخلق إنشاءً وابتدأه إبتداءً'' إذا أوجده من لا مادة ولا لكي تحصل له فائدةٌ من الخلق... .
فإذا أردنا كتاباً في التوحيد هو صنو القرآن الكريم فعلينا بنهج البلاغة الذي يضم ما قاله أميرالمؤمنين عليه السلام وما كتيه من رسائل كانت غايته من ذلك هو الهداية العامة للبشرية، وأول منطلق للهداية هو التوحيد.
لقد أراد أميرالمؤمنين عليه السلام بكلماته أن يبني مجتمعاً صالحاً يقوم على العدل والإنصاف ولن يتحقق هذا المجتمع إلاّ أن يرسي على قاعدة متينة هي قاعدة التوحيد هو عمل الأنبياء. وفي أجل هذهِ الواجبات بعث اللّه الأنبياء للبشرية.
وهكذا يتحدث أميرالمؤمنين عليه السلام عن الانبياء والنبوة، وهو حديث ينطلق من القلب ليدخل الى القلب.
معرفة اللَّه وصفاته
اللَّه خالق كل شي ء
الْحَمْدُ لِلّهِ بَطَنَ [١] خَفِيّاتِ الْأُمُورِ [٢]، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلامُ الظُّهُورِ، وَامْتَنَعَ عَلى عَيْنِ الْبَصِيرِ، فَلا عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ، وَلا قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ... [٣]
أَرانا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ، وَعَجائِبِ ما نَطَقَتْ بِهِ آثارُ حِكْمَتِهِ، وَاعْتِرافِ الْحاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إلى أَنْ يُقِيَمها بِمِساكِ [٤]
قُوَّتِهِ: ما دَلَّنا بِاضْطِرارِ قِيامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلى مَعْرِفَتِهِ، فَظَهَرَتْ فِي الْبَدائِعِ الَّتي أَحْدَثَها آثارُ صَنْعَتِهِ وَأَعْلامُ حِكْمَتِهِ.
فَصارَ كُلُّ ما خَلَقَ حُجَّةً لَهُ. وَدَلِيلاً عَلَيْهِ، وَإنْ كانَ خَلْقاً صامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ ناطِقَةٌ، وَدَلالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قائِمَةٌ... [٥]
شواهد خلقه
فَمِنْ شَواهِدِ خَلْقِهِ: خَلْقُ السَّمواتِ مُوَطَّداتٍ [٦] بِلا عَمَدٍ، قائِماتٍ بِلاسَنَدٍ. دَعاهُنَّ: فَأَجَبْنَ طائِعاتٍ، مُذْعِناتٍ، غَيْرَ مُتَلَكِّئاتٍ، [٧] وَلا مُبْطِئاتٍ. وَلَوْلا إقْرارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَاذْعانُهُنَّ بِالطَّواعِيَةِ، [٨] لَما جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرشِهِ، وَلا مَسْكَنّاً لِمَلائِكَتِهِ، وَلا مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ، وَالْعَمَلِ الصّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ. [٩]
النظر في معالم التوحيد
فَانظُرْ إلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالنَّباتِ والشَّجَرِ، والْماءِ والْحَجَرِ، واخْتِلافِ هذَا اللَّيْلِ والنَّهارِ، وَتَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحارِ، وَكَثْرَةِ هُذِهِ الْجِبالِ، وَطُولِ هذِهِ الْقِلالِ، [١٠] وَتَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغاتِ وَالْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفاتِ. فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ وَجحَدَ الْمُدَبِّرَ.
زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّباتِ ما لَهُمْ زارِعٌ، وَلا لاِخْتِلافِ صُوَرِهِمْ صانِعٌ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا [١١] إلى حُجَّةٍ فِيما ادَّعَوْا، وَلا تَحْقِيقٍ لِما أوعَوْا [١٢] ، وَهَلْ يَكُونُ بِناءٌ مِنْ غَيْرِ بانٍ؟! أَوْ جِنايَةٌ مِنْ غَيْرِ جانٍ؟! [١٣]
التفكّر مفتاح الحق والمعرفة
وَلَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَجَسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إلَى الطَّرِيقِ، وَخافُوا عَذابَ الْحَرِيقِ؛ وَلكِنَّ الْقُلُوبَ عَلِيلَةٌ، وَالْأَبْصارَ مَدْخُولَةٌ! أَلا يَنْظُرُونَ إلى صَغِيرِ ما خَلَقَ؟! كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ، وَأَتْقَنَ تَرْكِيبِهُ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَسَوّى لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ [١٤] ، [١٥] .
عجائب خلقة النملة
أُنظُرُوا إلَى النَّمْلَةِ! فِي صِغَرِ جُثَّتِها، وَلَطافَةِ هَيْئتها،لا تُنالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ،وَلا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلى أَرْضِها، وَصُبَّتْ عَلى رِزْقَها، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إلى حُجْرِها، وَتُعِدُّها فِي مُسْتَقَرِّها، تَجْمَعُ فِي حَرِّها لِبَرْدِها، وَفِي وُرُودِها لِصَدَرِها. [١٦]
مَكْفُولَةٌ بِرِزْقِها، مِرْزُوقَةٌ بِوَفْقِها [١٧] ، لا يُغْفِلُهَا الْمَنّانُ، وَلا يَحْرِمُهَا الدَّيّانُ وَلَوْ فِي الصَّفَا [١٨] الْيابِسِ، الْحَجَرِالْجامِسِ [١٩] ، [٢٠] . وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجارِي أَكْلِها: فِي عُلْوِها وَسُفْلِها، وَما فِي الْجَوْفِ مِنْ شَراسِيفِ [٢١] بَطْنِها، وَما فِي الرَّأسِ مِنْ عَيْنِها وَأُذُنِها، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِها عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِها تَعَباً!!
فَتَعالَى الَّذِي أَقامَها عَلى قَوائِمِها، وَبَناها عَلى دَعائِمِها، لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِها فاطِرٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلى خَلْقِها قادِرٌ. وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غاياتِهَ، ما دَلَّتْكَ الدَّلالَةُ إلاّ عَلى أَنَّ فاطِرَ النَّمْلَة هُوَ فاطِرُالنَّحْلَةِ، لِدَلِيلِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْ ءٍ، وَغامِضِ أخْتِلافِ كُلِّ حَيٍّ. وَمَا الْجَلِيلُ وَاللَّطِيفُ، وَالثَّقِيلُ وَالْخَفِيفُ، وَالْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إلا سَواءٌ. [٢٢]
ياللعجب!! هذه اعجوبة أخرى
وَإنْ شِئتَ قُلْتَ فِي الْجَرادَةِ:
إذْ خَلَقَ لَها عَيْنَيْنِ حَمْراوَيْنَ، وَأَسْرَجَ لَها حَدَقَتَيْنِ قَمْراوَيْنَ، [٢٣] وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ، وَفَتَحَ لَهَا الفَمَ السَّوِيَّ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، وَنابَيْنِ بِهِما تَقْرِضُ، وَمِنجَلَيْنِ [٢٤] بِهِما تَقْبِضُ، يَرْهَبُهَا الزُّرّاعُ فِي زَرْعِهِمْ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّها [٢٥] وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ، حَتّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَواتِها [٢٦] ، وَتَقْضِيَ مِنْهُ شَهَواتِها، وَخَلْقُها كُلُّهُ لا يَكُونُ إصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً. [٢٧]
عجائب خلقة الحيوان
وَلَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوانِها: مِنْ طَيْرِها، وَبَهائِمِها، وَما كانَ مِنْ مُراحِها [٢٨] وَسائِمِها [٢٩] ، وَأَصْنافِ أَسْناخِها [٣٠] وَأَجْناسِها، وَمُتَبِلِّدَةِ [٣١] أُمَمِها وَأَكْياسِها، عَلى إِحْداثِ بِعُوضَةٍ، ما قَدَرَتْ عَلى إحْداثِها، وَلا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إلى ايجادِها، وَلَتَحَيَّرَتْ عُقُولُها فِي عِلْمِ ذلِكَ وَتاهَتْ، وَعَجَزَتْ قُواها وَتَناهَتْ، وَرَجَعَتْ خاسِئةً [٣٢] حَسِيرَةً [٣٣] ، عارِفَةً بأَنَّها مَقْهُورَةٌ، مُقِرَّةً بالْعَجْزِ عَنْ إنْشائِها، مُذْعِنَةً بالضَّعْفِ عَنْ إفْنائِها. [٣٤]
عجائب خلقة الانسان
... أَمْ هذَا الَّذِي أَنشَأَهُ فِي ظُلُماتِ الْأَرْحامِ، وَشُغُفِ الْأَسْتارِ [٣٥] ، نُطْفَةً دِهاقًا، [٣٦] ، وَعَلَقَةً مُحاقًاً [٣٧] ، وَجَنِينًا [٣٨] ، وَراضِعًا، وَوَلِيدًا وَ يافِعاً [٣٩] ، ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْبًا حافِظاً وَلِسانًا لاّفِظًا، وَبَصَراً لاحِظاً، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً، وَيُقَصِّرُ مُزْدَجِرًا، حَتَى إذا قامَ اعْتِدالُهُ، وَاسْتَوى مِثالُهُ [٤٠] ، نَفَرَ مُسْتَكْبِرًا، وَخَبَطَ سادِرًا. [٤١] ، [٤٢] .
... أَيُّهَا الْمَخْلُوقُ السَّوِيُّ، [٤٣] وَالْمُنْشَأُ [٤٤] الْمَرْعِيُّ، في ظُلُماتِ الْأَرْحامِ، وَمُضاعَفاتِ الْأَسْتارِ، بُدِئَتَ ''مِنْ سُلالَةٍ [٤٥] مِنْ طِينٍ''، وَوُضِعْتَ ''في قَرارٍ مَكِينٍ، [٤٦] إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ''، [٤٧] وَأَجَلٍ مَقْسُومٍ، تَمُورُ [٤٨] في بَطْنِ أُمِّكَ جَنِيناً لا تُحِيرُ [٤٩] دُعاءً، وَلا تَسْمَعُ نِداءً.
ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلى دارٍ لم تَشْهَدْها، وَلَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنافِعِها، فَمَنْ هَداكَ لاِجتِرارِ الْغِذاءِ مِنْ ثَدْي أُمِّكَ، وَعَرَّفَكَ عِنْدَ الْحاجَةِ مَواضِعَ طَلَبِكَ وَإِرادَتِكَ؟! [٥٠] .
... فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلامُ الْوُجُودِ عَلى إقْرارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ. تَعالَى اللَّهُ عَمّا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ، وَالْجاحِدُون لَهُ عُلُوَّاً كَبِيراً [٥١] .
النبوة العامة والخاصة
النبوة
عندما يتحدث الامام أميرالمؤمنين عليه السلام عن النبوة، يتحدث عن عمق الفكر وسعة المعرفة بدقائق الأمور فهو لايتكلم عن اجتهاد أو مظنة أويلقي رأيأ كما يفعل ذالك الحكماء والمتكلمون. وَتجلي هذهِ المعرفة الدقيقة بخبايا النبوة في كلماته الدقيقة التي تجد فيها آية زياده أو نقيصته لا في اللفظ ولا في المعنى.
يقول اميرالمؤمنين عليه السلام فبعث فيهم رُسُله، وواتر اليهِمْ أنبياءه ليستأدُهُمْ ميثاق فطرته، ويذكِّرُ هُم منسِيَّ نعمتِهِ، ويحتجّوا عَلَيهم بالتَّبليغ، ويُثيرا لهم دَفائنَ العقول، ويُروهم الآيات المقَدَّره.
فقد ذكر الشيخ المفيد بأن العقل البشري يحتاج في علمه ونتائجه الى السمع... وأنه لابد في أول التكليف وإبتدائه في العالم من رسول [٥٢] وواجب الرسول كما يقول أميرالمؤمنين عليه السلام:
أولاً: ليستأدُوهُمْ ميثاق فطرَته، إشارة الى الآية الكريمة (وإذ أخذ ربك في بني آدم في ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة، إنا كنّا عن هذا غافلين) [٥٣] ، فقد أخذ اللّه في البشر عهداً أن يقروا بربوبيته ويعترفوا بأنه الخالق العليم القدير وقد جاء الأنبياء ليطلبوا من البشر العمل بموجب هذا الميثاق الإلهي.
ثانياً: ويُذكِّرُوهُم؟ نعمته، فالإنسان مأخوذٌ في النسيان لفظاً ومعنىً وقد نست الأقوام الماضية نعم اللّه فجاء الأنبياء ليذكروهم بتلك لنعم: فهذا بني اللّه هود جاء قومه ليذكرهم بأنّ اللّه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح وزادهم في الخلق بسطة وذلك صالح بني اللّه جاء ليذكر قومه نعمة اللّه في تبؤهم الأرض يتخذون في سهولها قصوراً وينحتون في الجبال بيوتاً وذلك موسى بني اللّه جاء ليذكر بني اسرائيل بنعم اللّه ع ليهم. وهكذا كل بنيّ جاء لتذكير الناس بما أنعم اللّه عليهم.
ثالثاً: يحتجون عليهم بالتبليغ لئلا يعتذروا في ترك طاعته.
رابعاً: ويثيروا لهم دفائن العقول؛ من علم وحكمه ومعرفة أنعم اللّه بها على الانسان.
خامساً: ويرهم الآيات المقدرة: وهي المعجزات التي لا تستطيع العين مشاهدتها بدون مرشد.
في الرّسالة الالهية
الْحَمْدُلِلّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، الْخالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنصَبَةٍ، [٥٤] خَلَقَ الْخَلائِقَ بِقُدُرَتِهِ، وَاسْتَعْبَدَ الْأَرْبابَ بِعِزَّتِهِ، وَسادَ الْعُظَماءَ بِجُودِهِ. وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيا خَلْقَهُ، وَبَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ رُسُلَهُ... [٥٥]
وَواتَرَ [٥٦] إلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّروُهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّواْ عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفائِنَ الْعُقُولِ وَيُرُوهُمْ آياتِ الْمُقْدِرَةِ: مِن سَقْفٍ فَوْقَهُم مَرْفُوعٍ، وَمِهادٍ تَحْتَهُم مَوْضُوعٍ، وَمَعايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَآجالٍ تُفْنِيهمْ، وَأَوْصابٍ [٥٧] تُهْرِمُهُمْ، وَأَحْداثٍ تَتابَعُ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يُخْلِ اللَّه سُبْحانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِىٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتابٍ مُنْزَلٍ، اَوْ حُجَّةٍ لازِمَةٍ، اَوْ مَحَجَّةٍ [٥٨] قائِمَهٍ... [٥٩]
فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَودَعٍ، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ، تَناسَخَتْهُمْ [٦٠] كرائِمُ الْأَصْلابِ إلى مُطَهَّراتِ الْأَرْحامِ، كُلَّما مَضى مِنْهُمْ سَلَفٌ قامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ... [٦١]
رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَلا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ: مِنْ سابِقٍ سُمِّىَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ غابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ: عَلى ذلِكَ نَسَلَتِ [٦٢] الْقُروُونُ، وَمَضَتِ الدُّهُورُ، وَسَلَفَتِ الْاباءُ، وَخَلَفَتِ الْأَبْناءُ. [٦٣]
الرّسالة المحمدية
إلى أَنْ بَعثَ اللَّه سُبْحانَهُ مُحَمَّدَاً رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَالِهِ لِإنْجازِ عِدَتِهِ، [٦٤] وَتَمامِ نُبُوَّتِهِ، مَأخُوذاً عَلَى النَّبيَّينَ مِيثاقُهُ، مَشْهُورَةً سِماتُهُ، [٦٥] كَرِيماً مِيلادُهُ... [٦٦]
خَيْرَالْبَرِيَّةِ طِفْلاً، وَأَنْجَبَها كَهْلاً، أَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً، [٦٧] وَأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً... [٦٨] ، [٦٩] كُلَّما نَسَخَ اللُّهُ الْخَلْقَ [٧٠] فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِما، لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عاهِرٌ، [٧١] وَلاضَرَبَ [٧٢] فِيهِ فاجِرٌ... [٧٣]
فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعادِنِ مَنْبِتاً، [٧٤] وَأَعَزِّ الْأُروُماتِ [٧٥] مَغْرِساً، [٧٦] مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ [٧٧] مِنْها أَنبِياءَهُ، وَانتَجَبَ [٧٨] مِنها أُمَناءَهُ... [٧٩] عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ، [٨٠] وَاُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ، نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ، وَبَسَقَتْ [٨١] فِي كَرَمٍ، لَها فُروُعٌ طِوالٌ، وَثَمَرَةٌ لا تُنالُ.. [٨٢] أَغْصانُها مُعْتَدِلَةٌ، وَثِمارُها مُتَهَدِّلَةٌ، [٨٣] مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ، [٨٤] عَلابِها ذِكْرُهُ، وَامْتَدَّ مِنْها صَوْتُهُ، أَرْسَلَهُ بِحُجَّةِ كافِيَةٍ، وَمَوْعِظَةٍ شافِيَةٍ، وَدَعْوَةٍ مُتَلافِيَةٍ [٨٥] ، أَظْهَرَ بِهِ الشَّرائِعَ الْمَجْهُولَةَ، وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ، وَبَيَّنَ بِهِ الْأَحْكامَ الْمَفْصُولَةَ [٨٦] ، [٨٧] .
رسالة الاسلام في ظلمة الجاهلية
أَرْسَلَهُ بِالدَّينِ الْمَشْهُورِ، وَالْعِلْمِ المَأثُورِ، وَالْكِتابِ الْمَسْطُورِ، وَالنُّورِ السّاطِعِ، وَالضِّياءِ اللاّمِعِ، وَالْأَمْرِ الصّادِعِ. إزاحَةً لِلشُّبُهاتِ، وَاحْتِجاجاً بِالبَيِّناتِ، وَتَحْذِيراً بِالْآياتِ، وَتَخْوِيفاً بِالْمَثُلاتِ، [٨٨] وَالنّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَذَمَ [٨٩] فِيها حَبْلُ الدّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوارِي [٩٠] الْيَقينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، [٩١] وَتَشَتَّتَ الْأَمْرُ، وَضاقَ الْمَخْرَجُ، وَعَمِيَ الْمَصْدَرُ.
فَالْهُدى خامِلٌ، وَالْعَمى شامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطانُ، وَخُذِلَ الْإيمانُ، فَانْهارَتْ دَعائِمُهُ، وَتَنَكَّرَتْ مَعالِمُهُ، وَدَرَسَتْ[٩٢] سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ [٩٣] ، أَطاعُواْ الشَّيْطانَ فسَلَكُوا مَسالِكَهُ، وَوَرَدُوا مَناهِلَهُ [٩٤] ، بِهِمْ سارَتْ أَعْلامُهُ، وَقامَ لِواؤُهُ، فِىِ فِتَنٍ داسَتْهُمْ بِأَخْفافِها، [٩٥] وَوَطِئَتْهُمْ بِأَضْلافِها، [٩٦] وَقامَتْ عَلى سَنابِكِها. [٩٧] فَهُمْ فِيها تائِهُونَ حائِرونَ جاهِلُونَ مَفْتُونُونَ، فِي خَيْرِ دارٍ وَشَرِّ جِيرانٍ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بِأَرْضٍ عالِمُها مُلْجَمٌ، وَجاهِلُها مُكْرَمٌ... [٩٨] .
ظلمات قبل الظهور
أَرْسَلَهُ عَلى حِينِ فَتْرَةٍ [٩٩] مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَاعْتِزامٍ [١٠٠] مِنَ الْفِتَنِ، وَانتِشارٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَتَلَظٍّ [١٠١] مِنَ الْحُرُوبِ، وَالدُّنْيا كاسِفَةُ النُّورِ، ظاهِرَةُ الْغُرُورِ، عَلى حِينِ اصْفِرارٍ مِنْ وَرَقِها وَإياسٍ مِنْ ثَمَرِها، واغْوِرارٍ [١٠٢] مِنْ مائِها، قَد دَرَسَتْ أعْلامُ الْهُدى، وَظَهَرَتْ أعْلامُ الرَّدى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ [١٠٣] لاَهْلِها، عابِسَةٌ فِي وَجْهِ طالِبِها. ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ [١٠٤] وَطَعامَهَا الجِيفَةُ، [١٠٥] وَشِعارُهَا [١٠٦] الْخَوْفُ، وَدِثارُهَا [١٠٧] السَّيْفُ... [١٠٨]
بَعَثَهُ وَالنّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَيْرَةٍ، وَحاطِبُونَ [١٠٩] فِي فِتْنَةٍ، قَدِاسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْواءُ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ [١١٠] الْكِبْرِياءُ، وَاسْتَخَفَّتْهُمُ [١١١] الْجاهِلِيَّةُ الْجَهْلاءُ، [١١٢] حَيارى فِي زِلْزالٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَبَلاءٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَبَلاءٍ مِنَ الْجَهْلِ.
فجر الإسلام
فَبالَغَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَالِهِ فِي النَّصِيحَةِ، وَمَضى عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَدَعا إلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. [١١٣]
...حَتّى أَراهُمْ مَنجاتَهُمْ، وَبَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، فَاسْتَدارَتْ رَحاهُمْ، [١١٤] وَاسْتَقامَتْ قَناتُهُمْ... [١١٥] ، [١١٦] .
... أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُحَجِ،وَظُهُورِالْفَلَجِ، [١١٧] وَإيضاحِ الْمَنْهَجِ، فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ صادِعاً [١١٨] بِها،حَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ دالاً عَلَيْها،وَأَقامَ أَعْلامَ الإِهْتِداءِ،وَمَنارَ الضِّياءِ،وَجَعَلَ أَمْراسَ [١١٩] الإسْلامِ مَتِينَةً، وَعُرَى الإيْمانِ وَثِيقَةً . [١٢٠]
إِبْتَعَتَهُ بِالنُّورِ الْمُضِي ءِ، وَالْبُرْهانِ الْجَلِيِّ، وَالْمِنْهاج الْبادِي، [١٢١] وَالْكِتابِ الْهادِي... [١٢٢] .
يتبع .....