هوالسيد السند صدر الملة والدين ملك السادة والنقباء في القرن السادس علي بن ناصر الحسيني السرخسي- رضوان اللّه عليه- ، كان من اعاظم العلماء وأكابر المتكلمين، كما يظهر من رسالة فخر الدين الرازي اليه. من الاسف ما وجدنا له ترجمة في المصادر التي بأيدينا، وما ندري انه- رحمه اللّه- في أي ارض ولد وفي اي مكان توفي، ولا نعلم ايضا تاريخ ولادته ووفاته، والظاهر انه كان مقيما بسرخس من بلاد خراسان، وله رئاسة وزعامة كما هوظاهر من القابه.
كان من اهل الفضل والادب والعلم والكلام والحكمة، كما هوظاهر من شرحه على «النهج»، وكان له عناية وعلاقة بهذا الكتاب، وعنده عدة من الشروح مثل شرح الامام الوبري وشرح قطب الدين الراوندي وشرح قطب الدين الكيذري وقد اشرنا الى ذلك في التعليقات.
كان غرضه- رضوان اللّه عليه- من تحرير هذا الشرح شرح مشكلات «نهج البلاغة» وتفسير معضلاته، وحل معقداته وتوضيح بعض كلمات الامام امير المؤمنين- عليه السلام- في التوحيد والامامة، وخلق السماء والارض والملائكة والشبهات الواردة عن طريق المخالفين.
ثم ان فخر الدين الرازي نسبه في رسالته الى سرخس ونيسابور، يحتمل انه ولد في نيسابور واخذ العلم عن مشايخها، ثم ذهب الى سرخس وسكن بها، ويمكن انه ولد بسرخس ثم رحل الى نيسابور لطلب العلم، ثم قطن بها وصار منسوبا اليه.
الكنتوري وعلي بن ناصر:
قال الكنتوري في «كشف الحجب»: ان علي بن ناصر اول شارح «لنهج البلاغة»، وكان معاصرا للشريف الرضي مؤلف «نهج البلاغة»، ثم شاع ذلك واشتهر بين المؤلفين والمحققين والباحثين عن «النهج» ونقلوا عنه في كتبهم وآثارهم.
الظاهر ان الكنتوري لم ير هذا الكتاب، لانه لويراه لوجد في الصفحة الاولى ان الشارح نقل عن الوبري، والوبري هذا كان من اعيان القرن السادس، وكان معاصرا لعلي بن زيد البيهقي شارح «نهج البلاغة».
قال البيهقي في شرحه: وممن سمعت خبره وعاينت اتره ولم اره الامام احمد بن محمد الوبري الخوارزمي، وكذا نقل عن قطب الدين الراوندي وقطب الدين محمد بن الحسين الكيذري، كما ترى القارءون في مطاوي هذا الشرح.
اظن ان مدير مكتبة رضا برامفور من بلاد الهند كان يكتب اسماء الكتب المخطوطة، ويرسل الى مؤلف «كشف الحجب»، وهويثبتها في كتابه اعتمادا عليه، والخطأ نشأ من مدير مكتبة رضا، لانه رأى في هذا الكتاب عبارة قال: السيد المصنف زيد عزه وعلوه فزعم ان المقصود من المصنف السيد الرضي، ولوتأمل في العبارات والالفاظ لعلم ان المقصود منه، هوالشارح.
رسالة فخر الدين الرازي الى السرخسي:
كتب- رضي اللّه عنه- الى السيد الكبير صدر الدين علي بن ناصر السرخسي النيسابوري رحمه اللّه.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم رأيت في السفر الخامس من التوراة ان اللّه سبحانه وتعالى قال لموسى عليه السلام: يا موسى أحبب ربك بكل قلبك، وانا أخبر سيدي وسندي ومولاي الصدر الاجلّ المبجل السيد السند، الطاهر الظاهر، التقي النقي صدر الملة والدين وشمس الاسلام والمسلمين، ملك السادات، افتخار العترة الطاهرة، قدرة المحققين في العالم.
خصه اللّه من السعادات القدسية والكرامات العلوية بأكمل درجاتها وافضل غاياتها بأني أحبه من صميم قلبي، وأحب أني أحبه، وأبغض ان لا أحبه، وكيف لا، وقد دلت البراهين اليقينية على انه لا يجوز أن يكون كل محبوب محبوبا لغيره، والا لزام الدور والتسلسل.
بل لا بد من الانتهاء الى ما لا يكون محبوبا لذاته، ومطلوبا لماهيته وحقيقته، واحق الاشياء بان يكون كذلك الكمال، فدل بهذا البرهان على ان الكمال محبوب لذاته والكمال اللايق بالنفس البشرية والفطرة الانسانية، هوالعلم الناجح والعمل الصالح.
قال الخليل: رب هب لي حكما والحقني بالصالحين الحكمة العالية، ومن تحصيل الاستعداد في جوهر النفس الناطقة المطهرة لقبول هاتين الصفتين والاستكمال بهاتين السعادتين، الا اذا كانت النفس مشرقة الجواهر، طاهرة الطينة، عالية العنصر، علوية الغريزة ولا اقول كلاما على سبيل التجزيف والتحريف.
ثم أدعي اني وجدت نفسه النفيسة موصوفة بهذه الصفات، واصلة الى درجات الكمالات الى اقصى الغايات وابلغ النهايات والشعور بالكمال، من حيث انه كمال يوجب جمالا تقبل الزوال والانحلال، فلهذا السبب الاصلي والموجب الجوهري، حصلت هذه المحبة الروحانية والعلاقة النفسانية.
مثل هذه المحبة لا يضعف اركانهم ولا ينهدم بنيانها، بسبب تباعد الاجساد واضطراب احوال عالم الكون والفساد، فان السبب اذا كان مبرأ عن قبول التغيرات مبعدا عن اوضار عالم الجسمانيات، كان المسبب من الباقيات الصالحات، وهذا باب فيه اطناب لارباب الالباب.
اقول: لقد فضل اللّه تعالى عليّ بالدخول في ديار الهند مرتين، والحضور في معركة الطائفتين المتقابلتين وقويت موجبات الآفات وعظمت اسباب المخافات، وكنت غافلا عن كيفية استدادها والتيامها غير واقف على استكمالها وانتظامها.
الا ان اللّه تعالى برحمته التي لا يتوقف سطوع نورها على حيل المتحالين اجتهاد الطالبين، عصمني من تلك المحنة العظيمة والآفات الجسيمة، وانا الآن ساكن في خطة هرات افاض اللّه عليها انواع الخيرات، ولقد ارشدتهم الى دلائل التنزيه والتوحيد.
فقبلوها، ولم يتمردوا عن الانقياد لها، ولولم يكن الا هذه النعمة العظيمة والمنحة الجسمية من اللّه في حق هذا الفقير الكسير، لما قدر على الوفاء بشكرها وذكرها، والحمد للّه الذي اذهب عنا الحزن ان ربنا لغفور شكور.
من جملة المكتوبات التي الفق تلفيقها وتنميقها في هذه الاسفار المتوالية المتواترة «شرح عيون الحكمة» للشيخ الرئيس اعلى اللّه درجته، ولقد ارسلت منها نسخة الى تلك الحضرة الشماء رفع اللّه اعلام مواليها الى عنان السماء.
حامل هذه الرقعة الشيخ الامام ركن الدين سيد العلماء حرس اللّه قدره، رجل حسن السيرة، مرضي الطريقة، بعيد عن الموذيات، محترز عن السيئات، طراز ملك الخيرات الفوز بخدمته والاستعداد بالوصول الى بساط حضرته وفي الكلام كثرة، ولكن في الطبع اللطيف ملالة، ويختم الكلام بالحمد للّه الذي لا نهاية له، والشكر الذي لا غاية له لذي الجلال والاكرام.
الحمد للّه على نعمة الاسلام والصلاة على محمد وعلى آله في الليالي والايام.
كان قد كتب على ظهر الكتاب هذا الفصل: لقد كنت اردت أن اكتب هذا الكتاب«» بخطي وان أبالغ في تصحيحه وتنميقه حتى لا تتضاعف الزحمة لسبب اختلال الكلام، الا ان الشيخ نحيف، والنسخ ضعيف، وليس مع العجز تكليف، وكان لي واحد من الاصدقاء الموصوفين بالصدق والصفا المحترزين عن الريبة والرياء.
يقال له يحيى بن شافعي المزدقاني، وكان قد كتب لنفسه هذه النسخة، وزعم انه سعى في تصحيحها وتسديدها، فأخذتها معه وارسلتها الى تلك الحضرة التي هي منشأ الخيرات ومنبع السعادات، وارجومن اللّه ان تقع من تلك الحضرة بعين القبول.
لقد صنفت تفسيرا كبيرا لعله يبلغ الفا وخمسمائة جزء، واكثر، وتيسرت مباحث علوية ودقائق يقينية وحقيقية في تفسير تلك الآيات والسور قريبة من المعاني والحقائق مبرأة عن اوضار السور ولئن ايد اللّه التوفيق والتسديد، فلعلي اقدر ان ارسل شيئا من تلك المجلدات ليضاف اليّ بأسبق من أنواع الابرامات، واللّه ولي لكل الخيرات.
رسالة صدر الدين في جوابه:
أجاب السيد صدر الدين علي بن ناصر الحسيني وقال: لا زالت عين اللّه تعالى على عالي صدر مولانا ولي النعم فخر الملة والدين، حجة الاسلام والمسلمين، علامة العصر، ملك العلماء، محيي العلوم، افتخار العالم، وصرف عنه عين اللّه، وساق اليه وفود الاقبال وزف اليه من منحه ما تحسر دونه مطامح الابصار، ويقصر عنه مطامع الآمال.
تكفل عن طلبة العلم احسان جزائه شرح كتاب «عيون الحكمة»، فكم قد فجر منه عيونا لطف مواردها، تقسي غلة الصادين في بيداء الحيرة برد زلالها ونتف فوائدها تذكي مشكاة الهداية للخاطبين في ظلماء الضلالة بذبالها.
فإن قلت انها تقر عيون الناظرين لعين الانصاف، فما جسرت ولا شططت، وإن قلت انها تسخن عيون المائلين الى الانحراف، فلا حقا جهدت ولا لفظت، وفيما خصص مولانا أدام اللّه علاه عبده بإهداء هذا الكتاب اليه مشفوعا بكتابه الكريم.
الذي هوعنوان الحكم وبنيان الكرم، انعام يعي شقاشق الفصحاء، عن شكره وينسى دقائق البلغاء في عذره.
لقد لفظ البحر الخضم بدرة | اليّ غدت تزهوعلى نخب الدر | |
فلم يبق قدر للدراري عندها ولكن | تخطي هامها شرفا قدري | |
لمولاي فخر الدين عندي النعم | لأيسرها قد خاف ذرعي بالشكر | |
فكم خطة عمياء عني فرجت | بتبيينه الحربي على ساطع الفجر | |
اخوالخاطر الوداد لم تبق عقدة | من العلم الا حلها هو بالفكر |
هذا ولولا لهج الدهر الخؤن لضرب الاسداد بين الطالب والمراد، وشعف الزمن الحزون بقطع الامراد دون المرتاد والمراد، لامتطيت ولوغارت الشمال، واختطبت ولوحافا على النعال، ابتدارا الى حضرة قد عكفت جنود الملأ الاعلى ووقف عليها وفود الآيات الكبرى.
ففيها الفوز بالحسنى ونبل سعادات الاولى والاخرى، والرقى الى الدرجة القصوى، وثم مراتع العلم ما هولة معمورة ومراتع الفضل مطلولة ممطورة، ولكن العوائق الضرورية لا يخفى على الرأي العالي المولوي، قد قصت قوادم هوائي و... حوا في منابي، فتخيل ما شئت من تحسر وتلهف وتصور ما شئت من تحنن وتاسف.
وصرت كباز الجوقص جناحه | يرى حسرات كلما طار طائر | |
يرى طائرات الجويخفق حوله | ويذكر اذ ريش الجناحين وافر |
فالعبد، وان قصرت يداه عن اختراف مخارف محاوراته، والاغتراف من مغارف مباحثاته، فهودائما مقتبس من انوار مصنفاته ما عسى يتحلى به للفكر المرام، وملتمس من بحار مؤلفاته ما عسى يتحلى به في النظر الافهام.
واللّه المأمول في تسهيل ادراك تلك الخدمة، وهوالمسئول به في تحويل تلك النعمة في اقرب الاوقات على احسن الحالات، والهيآت انه على ما يشاء قدير، وبالاجابة جدير.
وجدت رسالة فخر الدين الرازي الى صدر الدين علي بن ناصر في مجموعة خطية عتيقة محفوظة في مكتبة جامعة طهران، راجع فهرس المكتبة ج ٤ ص ٧٠٥.