أ.م.د: عبد علي حسن ناعور الجاسمي
توطئة
بين مدة وأخرى أعود الى (نهج البلاغة) لأعتاد على مفرداته وأسلوبه. أما مفرداته فلأحيط بالغريب منها، وأما أسلوبه فليتراكم عندي خزين لغوي يحفزني لتقوية أسلوبي في الكتابة.
وكنت في أثناء قراءتي هذا السفر الخالد من كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ألحظ كثيرا من المفردات الغريبة النادرة الواردة فيه فأقيدها لأستجلي معانيها، ومن هذه المفردات ما كنت أعرف لها معنى غير المعنى المقصود في السياق الذي وردت فيه (بالنسبة لي على أقل تقدير). فكان عدد المفردات كبيرا، وهو أمر حفزني على أن أختار مجموعة منها لأكتب بها هذا البحث استجابة لدعوة كريمة من الكلية الإسلامية الجامعة في النجف الأشرف التي أقامت مسابقتها لأفضل بحثي علمي تحت عنوان(جائزة وارث علم النبيين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للإبداع الفكري)؛ اعتقادا مني بأن كثيرين غيري لا يعرفون هذه المعاني، اللهم إلا أولئك العلماء المتبحرون بعلوم اللغة وآدابها.
ونظرا لما في هذه المفردات من غرابة وندرة عند مستعملي اللغة فقد جعلت عنوان هذا البحث: ( الكلم النوادر في نهج البلاغة/ مقاربة دلالية ) ليأتي مطابقا لما أردت بيانه للقارئ الكريم.
الثاني: معجم مقاييس اللغة لابن فارس (ت٣٩٢هـ)، لأنه معني بأصول المفردات.
لثالث: معجم لسان العرب لابن منظور (ت٧١١هـ)، لأنه أجملَ وفصّل وجمع فأوفى، وأكثرَ من الشواهد بأنواعها؛ ومن ثم أثبتُّ ذلك كل في هوامش صفحات هذا البحث.
وتسهيلا للباحثين الراغبين في الوقوف على هذه المفردات وصِلَتها بما أوردَتْه كتب المعجمات، وضعت أرقام الخطب أو الرسائل في (نهج البلاغة) مشفوعة بأرقام الصفحات التي وردت فيها في هوامش الصفحات أيضا، وهكذا فعلت عند الرجوع الى كتب المعجمات الثلاثة. فإذا ما مرت آية كريمة أو حديث شريف لنبينا الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو شاهد شعري أو مثلٌ؛ وثّقتُ كلاً منها من مضانه المعروفة منهجا.
وتتمة لما قدمتُ أسجل الملاحظ الآتية:
ـــ لم تُشرح بعض المفردات في هوامش (نهج البلاغة) لإغراقها في الغرابة والندرة.
ـــ وردت بعض المفردات مشروحة في هوامش النسخة التي اعتمدتها من (نهج البلاغة)، ولكنني وجدت أنها لم توَفَّ حقَّها من الشرح، أو أنها شُرحتْ بعيدة عن معناها الصحيح.
ـــ جُلُّ المفردات وسياقاتها التي وردت في هذا البحث وعدتُ الى كتب المعجمات لأشرحها وجدت هؤلاء يوثّقون بها ما ذهبوا اليه من توضيح المعاني الواردة في كتبهم من خلال كلام الإمام (عليه السلام).
ـــ طلباً للإحاطة بمعاني المفردات النادرة التي اشتمل عليها هذا البحث، أوردتُ معانيها المركزية والهامشية معا، وبعبارة أخرى أثبتُّ معاني المفردات وظِلال معانيها. أما في حال كان للمفردة معنى مركزي لا ينصرف الى دلالات أُخَر فقد أثبتُّهُ مكتفيا به.
ـــ اخترت وضع المفردات بحسب جذورها، متخذا التسلسل الهجائي لها تسهيلا للرجوع اليها.
لقد بذلت جهدا أحسبه كبيرا في سبيل إنجاز هذا البحث الموجز، ولعل القارئ اللبيب يدرك ذلك. أسأل الله تعالى أن أكون بما قدمت في هذه الصفحات قد أسهمت إسهاما يسيرا في خدمة لغة القرآن الكريم، والله الموفق.
( أ ر ر )
وقال (عليه السلام): ( يُفضي كإفضاء الدِّيكة، ويؤُرُّ بملاقحه أَرَّ الفحول المغتلمة في الضِّرابِ ) [١] .
قال الخليل: " الإرارُ: شِبْهُ ظُؤْرةٍ يَؤرُّ بها الرّاعي رَحِم النّاقة إذا ما رَنَتْ، وممارنتها: أن يضربها الفحل فلا تلقح. وتفسير يَؤُرُّ بها الرّاعي: أن يُدْخِلَ يدّه في رَحمِها فيقطعَ ما هناك بالإرار ويُعالجَهُ. والأرّ: أن يأخذ الرّجلُ إراراً، وهو غُصْنٌ من شوك القتاد وغيره فيضربه بالأرض حتّى تبينَ أطرافُ شوكه، ثمِ يَبُلُّه، ثمّ يَذُرّ عليه مِلحاً مدقوقاً فيَؤُرّ به ثَفْر النّاقة حتّى يُدْمِيَها.. يُقال: ناقة ممارن، والفعل: أرّها يؤرّها. " [٢]
قال ابن فارس: " أَصْلُ هَذَا الْبَابِ وَاحِدٌ، وَهُوَ هَيْجُ الشَّيْءِ بِتَذْكِيَةٍ وَحَمْيٍ، فَالْأَرُّ: الْجِمَاعُ، يُقَالُ أَرَّهَا يَؤُرُّهَا أَرًّا، وَالْمِئَرُّ: الْكَثِيرُ الْجِمَاعِ... وَالْأَرُّ: إِيقَادُ النَّارِ، يُقَالُ أَرَّ الرَّجُلُ النَّارَ: إِذَا أَوْقَدَهَا. " [٣]
قال ابن منظور:" ...الأَرُّ: الجماع. وفي خطبة عليّ، كرّم الله تعالى وجهه: ( يُفْضي كإِفضْاءٍ الدِّيَكةِ ويَؤُرُّ بِملاقِحِه...)؛ الأَرُّ: الجماع. وأَرَّ المرأَةَ يَؤُرُّها أَرّاً: نَكحها... أَبو عبيد: أَرَرْتُ المرأَةَ أَوُرُّها أَرّاً إِذا نكحتها. ورجل مِئَرُّ: كثير النكاح.." [٤]
يصف الإمام (عليه السلام ) الطاووس وسلوكه مع انثاه حين تهيج به الشهوة واصفا إياه بالفحول التي تغلبها الشهوة عند الجماع.
( أ ر ز )
قال (عليه السلام): ( والله لتفعلُنَّ أو ليَنقُلَنَّ الله عنكم سلطان الإسلام، ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز الأمرُ الى غيركم." [٥]
قال الخليل: " أرز: الأَرُزّ: معروف. والأَرْزُ: شدّةُ تَلاحُمٍ وتَلازُمٍ في كَزازةٍ وصَلابةٍ. وإنّ فلاناً لأَرُوزٌ، أي: ضيّقٌ بخيلٌ شُحّاً، قال: ويُقالُ للدّابة: إنّ فقارَها لآرزةٌ، أي: مُتَضايقة مُتَشَدّدة... وما بَلَغَ فلانٌ أَعْلَى الجَبَلِ إلاّ آرزاً، أي: مُنْقَبِضاً عن الانبساط في مَشيه من شِدّةِ إعيائِهِ، يُقال: أَعْيا فلانٌ فآرَزَ، أي: وَقف لا يَمضي. وسُئِلَ فُلانٌ شيئاً فآرَزَ، أي: انقبض عن أن يَجُودَ به وامتنع..." [٦]
قال ابن فارس: " (أَرَزَ) الْهَمْزَةُ وَالرَّاءُ والزَّاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ لَا يُخْلِفُ قِيَاسُهُ بَتَّةً، وَهُوَ التَّجَمُّعُ وَالتَّضَامُّ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:( إِنَّ الْإِسْلَامَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا ) [٧] .
وَيَقُولُونَ: أَرَزَ فُلَانٌ: إِذَا تَقَبَّضَ مِنْ بُخْلِهِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: " إِنَّ فُلَانًا إِذَا سُئِلَ أَرَزَ، وَإِذَا دُعِيَ انْتَهَزَ ". وَرَجُلٌ أَرُوزٌ: إِذَا لَمْ يَنْبَسِطْ لِلْمَعْرُوفِ... وَيُقَالُ: نَاقَةٌ آرِزَةُ الْفَقَارَةِ: إِذَا كَانَتْ شَدِيدَةً مُتَدَاخِلًا بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ.
وَقَالَ زُهَيْرٌ: [٨]
ـــ من الوافر ـــ
بِآرِزَةِ الْفَقَارَةِ لَمْ يَخُنْهَا ***** قِطَافٌ فِي الرِّكَابِ وَلَا خِلَاءُ
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ لِلَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ آرِزَةٌ فَمِنْ هَذَا، لِأَنَّ الْخِصْرَ يَتَضَامُّ. " [٩]
قال ابن منظور: " أرز: أَرَزَ يَأْرِزُ أُرُوزاً: تَقَبَّضَ وتَجَمَّعَ وثَبَتَ، فهو آرِزٌ وأَرُوزٌ، ورجل أَرُوزٌ: ثابت مجتمع... وروي عن أَبي الأَسود الدؤلي أَنه قال: إِن فلاناً إِذا سئل أَرَزَ وإِذا دُعِيَ اهْتَزَّ؛ يقول: إِذا سئل المعروفَ تَضامَّ وتَقَبَّضَ من بخله ولم ينبسط له، وإِذا دعي إِلى طعام أَسرع إِليه... وأَرَزَتِ الحيةُ تأْرِزُ: ثبتت في مكانها، وأَرَزَتْ أَيضاً: لاذت بجحرها ورجعت إِليه.
وفي الحديث: ( إِن الإِسلام ليأْرِزُ إِلى المدينة كما تأْرِزُ الحية إِلى جُحْرِها) ... ومنه كلام عليّ، (ع): (حتى يأْرِزَ الأَمْرُ إِلى غيركم). والمَأْرِزُ: المَلْجَأُ [١٠] .
هنا يكنّي الإمام (عليه السلام) عما سيؤول اليه أمر الدين الإسلامي إن لم يحتكم الناس الى عقولهم، وليتخذوا من دينهم محجة للسلوك الذي يحفظ للإسلام هيبته ومنهجه المنقذ للإنسانية لو اتبعته صادقة. فيصف مآل هذا الدين بالتقبَّض والتضامّ والضيق وانحسار أثره وزوال خطره، وهو ما شبّهه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الشريف بالحية حين تعود الى جحرها وتتقبّض وتجمع هيكلها بطوله وأثره للناظر، فيزول هذا الأثر بعدما كان واضحا على من يرى الحية وهي في ميدان حياتها المعروف.
( أ ل س )
قال (عليه السلام): (أُفٍّ لَكُمْ !...، فَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ...) [١١] .
قال الخليل: " الأَلس: الكَذِب. والمَأْلُوس: الضَّعيف البخيل، شبه المخبّل " [١٢] .
قال ابن فارس" الْهَمْزَةُ وَاللَّامُ وَالسِّينُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْخِيَانَةُ. الْعَرَبُ تُسَمِّي الْخِيَانَةَ أَلْسًا، يَقُولُونَ: " لَا يُدَالِسُ وَلَا يُؤَالِسُ " [١٣] .
قال ابن منظور: " الأَلْسُ والمُؤَالَسَة: الخِداع والخيانة والغشُّ والسَّرَقُ، وقد أَلَس يأْلِس، بالكسر، أَلْساً. ومنه قولهم: فلان لا يُدالِسُ ولا يُؤَالِسُ، فالمُدالَسَةُ من الدَّلْس، وهو الظُّلْمَةُ، يراد به لا يُغَمِّي عليك الشيء فيُخْفيه ويستر ما فيه من عيب. والمُؤَالَسَةُ: الخِيانة؛ ... والأَلْسُ: أَصله الوَلْسُ، وهو الخيانة. والأَلْسُ: الأَصلُ السُّوء. والأَلْس: الغدر. والأَلْسُ: الكذب. والأَلْسُ والأُلْسُ: ذهاب العقل وتَذْهيله... قال أَبو عبيد: الأَلْسُ هو اختلاط العقل... ورجل مَأْلوس: ذاهب العقل والبدن" [١٤] .
لقد اختزل الإمام (عليه السلام) بهذه المفردة شر الصفات عند من خذله وتقاعس عن نصرته في مواضع كثيرة، متأففا متألما مما يفعله هؤلاء به (عليه السلام) إزاء ما يطلبه لهم من صلاح ورفعة وفوز بالنعيم الأبدي.
( ب أ و )
قال (عليه السلام): (... فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ، سَاجِياً مَقْهُوراً، ... وَسَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ، وَرَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَاعْتِلاَئِهِ، وَشُمُوخِ أَنْفِهِ وَسُمُوِّ غُلَوَائِهِ...) [١٥] .
قال الخليل: " البأوُ: من الزّهو والافتخار والكِبر.. بَأَى يَبأَى فلانٌ على أصحابه بَأْواً شديداً، قال: إذا ازدهاهم يومُ هَيْجا أَكْمَخُوا بأوا ومدْتهم رجالٌ شُمَّخُ أكمخوا، أي: رفعوا رؤوسَهم من الكبر " [١٦] .
قال ابن فارس: " الْبَاءُ وَالْهَمْزَةُ وَالْوَاوُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ الْبَأْوُ، وَهُوَ الْعُجْبُ." [١٧] .
قال ابن منظور:" البَأْواءُ، يمدّ ويقصر: وهي العَظَمة، والبَأْوُ مثله، وبأَي عليهم يَبْأَى بأْواً، مثال بَعى يَبْعى بَعْواً: فَخَرَ. والبَأْوُ: الكِبْرُ والفخر. بأَيْتُ عليهم أَبْأَى: فَخَرْتَ عليهم، لغة في بَأَوْتُ على القوم أَبْأى بَأْواً؛ حكاه اللحياني في باب مَحَيْتُ ومَحَوْتُ وأَخواتها؛
قال حاتم : [١٨]
ـــ من الطويل ـــ
وما زادَنا بَأْواً على ذي قَرابةٍ *****غِنانا، ولا أَزْرى بأَحْسابنا الفَقْرُ
وبأَى نَفْسَه: رفعها وفَخَر بها..." [١٩]
والكلام هنا في سياق صفة الأرض ودحوها على الماء، وخضوع البحر بمياهه وهيجانه وعُجبه واصطخاب أمواجه لينقاد بكل صفاته الشامخة لقدرة الخالق الجبار الذي خضع له كل شيء.
( ب ع ع )
قال (عليه السلام): (مَّا أَلْقَتِ السَّحابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا،وَبَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا ) [٢٠] .
قال الخليل: " البَعاعُ: ثقل السَّحاب، بعَّ السَّحابُ والمطر بَعاًّ وبَعاعاً: إذا أَلَحَّ بالمكان والبَعَاعُ أيضاً نباتٌ،" [٢١] .
قال ابن فارس: " الباء والعين أصلٌ واحد، على ما ذكره الخليل، وهو الثِّقَل و الإلحاح. .. قال: ويقال للرّجُل إذا ألقى بنفسه: ألقى علينا بَعَاعَه. ويقال للسَّحاب إذا ألقَى كلّ ما فيه من المطر: ألقى بَعاعه. يقال بَعَّ السَحابُ والمطرُ بعَّاً وبَعَاعَاً، إذا ألحَّ بمكان. " [٢٢] .
قال ابن منظور: " البَعاعُ: الجَهازُ والمَتاعُ. أَلقى بَعَعَه وبَعاعَه أَي ثِقَلَه ونفْسَه، وقيل: بَعاعُه مَتاعُه وجَهازُه. والبَعاعُ: ثِقَلُ السحاب من الماء. أَلقتِ السحابةُ بَعاعَها أَي ماءَها وثِقَلَ مطرِها؛
قال امرؤُ القيس: [٢٣]
ـــ من الطويل ـــ
وأَلقَى بصَحْراء الغَبِيطِ بَعاعَه ***** نُزولَ اليَماني ذي العِيابِ المُخَوَّلِ
وبَعَّ السحابُ يَبِعُّ بَعًّا وبَعاعاً: أَلَحَّ بِمَطَرِه. وبَعَّ المطرُ من السحابِ: خرج. والبَعاعُ: ما بعَّ من المطر... والبَعاعُ: شدَّة المطر، ... ومنه حديث عليّ، (رض):أَلقت السحابُ بَعاعَ ما استقَلَّت به من الحِمْل." [٢٤]
يشبّه الإمام (عليه السلام) السحاب بالناقة إذا بركت وضربت بعنقها على الأرض ولاطمتْها بأضلاع صدرها المتجمع (بوانيها)، مكنّيا بذلك عن ثقل الماء المنهمر من هذه السُّحُب التي ألقت ما في حملها على الأرض لتحييها وتخرج بها النبات من هوامد الأرض.
( ب و ن )
قال (عليه السلام): (مَّا أَلْقَتِ السَّحابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا، وَبَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا ) [٢٥] .
قال الخليل: " يُقالُ: بينَهما بَوْنٌ بعيد.والبِوانُ: من أعمدِة الخِباء عندَ الباب، والجميع: الأَبْوِنة والبوائن." [٢٦]
قال ابن فارس: " الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَالنُّونُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْبُعْدُ. قَالَ الْخَلِيلُ: يُقَالُ بَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَعِيدٌ وَبُوَنٌ - عَلَى وَزْنِ حَوْرٍ وَحُوَرٍ - وَبَيْنٌ بَعِيدٌ أَيْضًا، أَيْ فَرْقٌ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: بَانَنِي فُلَانٌ يَبُونُنِي، إِذَا تَبَاعَدَ مِنْكَ أَوْ قَطَعَكَ. قَالَ وَبَانَنِي يَبِينُنِي مِثْلَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَنْقَاسُ الْبُوَانُ عَلَى هَذَا؟ قِيلَ لَهُ: لَا يَبْعُدُ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْبُوَانَ الْعَمُودُ مِنْ أَعْمِدَةِ الْخِبَاءِ، وَهُوَ يُسْمَكُ بِهِ الْبَيْتُ وَيَسْمُو بِهِ، وَتِلْكَ الْفُرْجَةُ هِيَ الْبَوْنُ. قَالَ أَبُو مَهْدِيٍّ: الْبُوَانَ عَمُودٌ يُسْمَكُ بِهِ فِي الطُّنُبِ الْمُقَدَّمِ فِي وَسَطِ الشُّقَّةِ الْمُرَوَّقِ بِهَا الْبَيْتُ. قَالَ: فَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْبُوَانِ. قَالَ: ثُمَّ تُسَمَّى سَائِرُ الْعُمُدِ بُوَنًا وَبُوَانَاتٍ. وَأَنْشَدَ: وَمَجْلِسَهُ تَحْتَ الْبُوَانِ الْمُقَدَّمِ " [٢٧] .
قال ابن منظور: " البَوْنُ والبُونُ: مسافةُ ما بين الشيئين...والبوان بالضم عمود الخيمة لغة في البوان بالكسر، ... عمود من أَعْمِدة الخِباء، والجمع أَبْوِنةٌ وبُونٌ، بالضم، وبُوَنٌ ... ويقال: أَلقى عَصاه وأَلقي بَوانِيَه. قال ابن الأَثير: البَواني في الأَصل أَضْلاعُ الصدْرِ، وقيل: الأَكتافُ والقوائمُ، الواحدة بانية، قال: ومنْ حقِّ هذه الكلمة أَن تجيء في باب الباء والنون والياء، قال: وذكرناها في هذا الباب حملاً على ظاهرها، فإنها لم ترد حيث وردت إلا مجموعة. وفي حديث عليّ:( أَلقَت السماءُ بَرْكَ بَوانيها) يريدُ ما فيها من المطر." [٢٨]
( ب ي غ )
قال (عليه السلام): (إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ) [٢٩] .
قال الخليل: " بيغ: البَيْغُ: ثؤورُ الدّم وفَوْرته حتى يظهرَ في العروق، وقد تَبَيَّغ به الدَّم" [٣٠] .
قال ابن فارس: " (بَيَغَ) الْبَاءُ وَالْيَاءُ وَالْغَيْنُ لَيْسَ بِأَصْلٍ. وَالَّذِي جَاءَ فِيهِ تَبَيُّغُ الدَّمِ، وَهُوَ هَيْجُهُ. قَالُوا: أَصْلُهُ تَبَغَّى، فَقُدِّمَتِ الْيَاءُ وَأُخِّرَتِ الْغَيْنُ، كَقَوْلِكَ جَذَبَ وَجَبَذَ، وَمَا أَطْيَبَهُ وَأَيْطَبَهُ." [٣١]
قال ابن منظور: " تَبَيَّغَ به الدمُ: هاجَ به، وذلك حين تَظْهَرُ حُمْرَتُه في البَدَن، وهو في الشفة خاصّة البَيْغُ. أَبو زيد: تَبَيَّغَ به النوْمُ إِذا غَلَبَه، وتبيَّغَ به الدمُ غَلبه، وتبيَّغَ به المرضُ غلبه... وفسّر التبيُّغ من كل كتَبَيُّغِ الداءِ إذا أَخذ في جسده كله واستدّ؛ ...وتبَيَّغَ به الدم غَلَبه وقَهَرَه كأَنه مقلوب عن البغي أَي تَبَغَّى مثل جَذَبَ وجَبَذَ وما أَطْيَبَه وأَيْطَبَه؛ عن اللحياني. وإِنك عالِمٌ ولا تُبَغْ أَي لا تَبَيَّغُ بك العينُ فتصيبك كما يَتَبَيَّغُ الدمُ بصاحبه فيقتله... " [٣٢]
من خلال هذه الدلالات لمفردة (يتبيّغ) ينجلي المعنى المراد من كلام الإمام (عليه السلام)، وهو أن يترفع المؤمنون ــ لا سيما أولي الأمر منهم ـــ عن ملذات الدنيا وزخرفها، وأن يسهروا على غيرهم ممن قل رزقُهُ، وأن ينفقوا من مالهم على الفقراء كي لا يزداد بالفقير فقره ولا تقهره حاجته وتغلبه نفسه بالخروج عن جادة الاستقامة، ولا تدفعه حاجته الى أن يعرض وجهه وحاجته في وجوه الناس، بسبب إنفاق الموسرين على أنفسهم وإعراضهم عن الفقراء.
(ت أ ق )
قال (عليه السلام): (ثُمَّ إِنَّ هذَا الْإِسْلاَمَ دِينُ اللهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسهِ... وَأَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ، أَذَلَّ الْأَدْيَانَ بِعِزَّتِهِ... وَهَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلاَلَةِ بِرُكْنِهِ، وَسَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ، وَأَتْأَقَ الْحِيَاضَ بِمَوَاتِحِهِ ) [٣٣] .
قال الخليل: " التَّأَقُ: شدة الامتلاء. وتَثِقَتِ القربة تَتْأَقُ تَأَقَاً، وأتْأَقَها الرجل إتاقَاً. وتَثِقَ فلان إذا امتلأ حزناً وكاد يبكي. وفرس تَئِقٌ: ممتلئ جرياً. وأتْأَقْتُ القوس: نزعتها فأغرقت السهم." [٣٤]
قال ابن منظور:" التَّأَقُ: شدَّة الامْتِلاء. ابن سيده: تَئِقَ السِّقاء يَتْأَق تَأَقاً، فهو تَئِقٌ: امْتَلأَ، وأَتْأَقَه هو إتْآقاً. وفي حديث علي: (أتْأَقُ الحِياضَ بمواتِحه).
وقال النابغة: [٣٥]
ـــ من البسيط ـــ
يَنْضَحْنَ نَضْحَ المَزادِ الوُفْرِ أتْأَقَها ***** شَدُّ الرُّواةِ بماء غير مشروبِ
... وأتأَقَ القوسَ: شدَّ نَزْعها وأَغرق فيها السهمَ. وفرس تَئِقٌ: نشِيط مُمْتلئ جَرْياً ... وفي مثل للعرب: ( أَنتَ تَئقٌ وأَنا مَئقٌ فكيف نَتَّفِق؟) [٣٦] .
قال اللحياني: قيل معناه أَنت ضيّق وأَنا خفيف فكيف نتفق.. " [٣٧] .
ينبّه الإمام (عليه السلام) هنا الى إحاطة علم الله بالجزئيات، ثمّ يحث على التقوى. وسياق النص في فضل الإسلام على الناس وتخليصهم من الضلالة والشرك وما سواها من الموبقات التي قطع الإسلام دابرها. مستعيرا (عليه السلام) الإرواء الذي يريح الظامئ، وليس الإرواء فحسب بل الامتلاء من ماء الإسلام والاستقاء من حياضه التي لا تنضب.
-----------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة: ١٦٥/٣٥٥ من كلام له (عليه السلام) يصف فيه عجيب خلقة الطاووس.
[٢] . العين: (أرّ) ٨/٣٠٤
[٣] . مقاييس اللغة: (أرَّ) ١/١٢
[٤] . لسان العرب: (أرر) ٤/١٥
[٥] . نهج البلاغة: ١٦٩/٣٦٥ من خطبة له (عليه السلام) في أصحابه عند مسير أصحاب الجمل الى البصرة.
[٦] . العين: (أرز) ٧/٣٨٣
[٧] . في صحيح البخاري: ٣/٢١، وصحيح مسلم: ١/١٣١ ، و سنن ابن ماجة: ٢/١٠٣٨ : (إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى المَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا).
[٨] . شرح ديوان زهير بن أبي سلمى: ٦٣
[٩] . مقاييس اللغة: (أرز) ١/ ٧٨، ٧٩
[١٠] . لسان العرب: (أرز) ٥/٣٠٥، وينظر: (أزح) ٢/٤٠٤
[١١] . نهج البلاغة: ٣٤/١٣٣ من خطبة قالها في استنفار الناس الى الشام بعد فراغه من قتال الخوارج.
[١٢] . العين: (ألس) ٧/٣٠١
[١٣] . مقاييس اللغة: (أَلس) ١/١٣١
[١٤] . لسان العرب: (ألس) ٦/٧
[١٥] . نهج البلاغة: ٩١/٢٢٤
[١٦] . العين: (بأو) ٨/٤١٤
[١٧] . مقاييس اللغة(بأو) ١/٣٢٨
[١٨] . ديوان شعر حاتم بن عبد الله الطائي:٢٠٣
[١٩] . لسان العرب: (بأو) ١٤/ ٦٣، ٦٤
[٢٠] . نهج البلاغة: ٩١/٢٢٦
[٢١] . العين: (بعّ) ١/٩٣
[٢٢] . مقاييس اللغة: (بعّ) ١/١٨٥،١٨٤
[٢٣] . ديوان امرئ القيس: ٢٥
[٢٤] . لسان العرب: (بعع) ٨/ ١٧
[٢٥] . نهج البلاغة: ٩١/٢٢٦
[٢٦] . العين: (بون) ٨/٣٨٠
[٢٧] . مقاييس اللغة: (بون)١/٣٢٣،٣٢٢
[٢٨] . لسان العرب: (بون) ١٠/ ٣٩٨ ولبيان المعاني التي ذهب اليها الإمام (عليه السلام) في هذا النص، ينظر: النص السابق في المتن.
[٢٩] . نهج البلاغة: ٢٠٩/٤٦٣ من كلام له في البصرة وقد دخل على أحد أصحابه ــــ يعوده ـــــ فرأى سعة داره.
[٣٠] . العين: (بيغ) ٤/٤٥٤ استدراك ما فات من الجزء الرابع. ينظر: نهاية الجزء الثامن.
[٣١] . مقاييس اللغة: (بيغ) ١/٣٢٧
[٣٢] . لسان العرب: (بيغ) ٨/٤٢٢
[٣٣] . نهج البلاغة: ١٩٨/ ٤٥٠
[٣٤] . العين: (تأق) ٥/١٩٩
[٣٥] . ديوان النابغة الذبياني: ٥٠
[٣٦] . المستقصى في أمثال العرب، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (ت ٥٣٨هـ) دار الكتب العلمية، بيروت، ط٢، ١٩٨٧م: ١/٣٧٩ تسلسل: ١٦٣٠
[٣٧] . لسان العرب: (تأق) ١٠/٣١
يتبع .......