أ.م.د: عبد علي حسن ناعور الجاسمي
( ع ف س )
قال (عليه السلام): (عَجَباً لاِبْنِ النَّابِغَة! يَزْعُمُ لأهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً، وَأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ, أُعَافِسُ وَأُمَارِسُ، لَقَدْ قَالَ بَاطِلاً، وَنَطَقَ آثِماً.) [١]
قال الخليل : " العَفْسُ: شدة سوق الإبل، والرجل يَعْفِسُ المرأة برجله إذا ضربها على عجيزتها، يعافسها وتعافسه... المعافسة: المعاركة في جدّ أو لعب، وأصله اللعب. " [٢]
قال ابن فارس " الْعَيْنُ وَالْفَاءُ وَالسِّينُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى مُمَارَسَةٍ وَمُعَالَجَةٍ. يَقُولُونَ: هُوَ يُعَافِسُ الشَّيْءَ، إِذَا عَالَجَهُ. وَاعْتَفَسَ الْقَوْمُ: اصْطَرَعُوا وَعُفِسَ، إِذَا سُجِنَ. وَهَذَا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ، كَأَنَّهُ لَمَّا حُبِسَ كَانَ كَالْمَصْرُوعِ. وَالْمَعْفُوسُ: الْمُبْتَذَلُ. وَالْعَفْسُ: سَوْقُ الْإِبِلِ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَقَارِبٌ." [٣]
ابن منظور (عفس): " العَفْس: شِدَّة سَوق الإِبل. عَفَس الإِبلَ يَعْفِسُها عَفْساً: ساقها سَوْقاً شديداً ... والعَفْس: الضرب على العَجُز. وعَفَسَ الرجلُ المرأَة برجله يَعْفِسها: ضربَها على عجيزتها يُعافِسُها وتُعافِسُه، وعافَسَ أَهله مُعافَسَة وعِفاساً، وهو شبيه بالمُعالجة. والمُعافَسَة: المُداعَبة والمُمارَسَة؛ يقال: فلان يُعافِس الأُمور أَي يُمارِسُها ويُعالجها. والعِفاس: العِلاج. والمُعافَسة: المُعَالجَة... " [٤] " وقد يطلق على الملاعبة. وفي حديث عليّ، (ع): زعم أَني كنت أُعافِسُ واُمارِسُ " [٥] .
( ع م د )
قال (عليه السلام): ( كَمْ أُداريِكُمْ؟ كَمَا تُدارَى البِكارُ العَمِدَةُ.) [٦]
قال الخليل: " وعَمِدَ السّنام يَعْمَدُ عَمَداً فهو عَمِدٌ إذا كان ضخماً وارياً فحمل عليه ثقل فكسره ومات فيه شحمه فلا يستوي فيه أبداً كما يَعْمَدُ الجُرْحُ إذا عسر قبل أن ينضج بيضه فَيرِم. وبعيرٌ عَمِدٌ، وسنام عَمِدٌ، وناقة عَمِدَةٌ. وثرىً عَمِدٌ، أي: بلّته الأمطار...وبعير معمود، وهو داءٌ يأخذه في السّنام. " [٧]
قال ابن فارس: "...السَّنَامُ الْعَمِدُ عَمِدَ يَعْمَدُ عَمْدًا. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَلْبٌ عَمِيدٌ وَمَعْمُودٌ، وَذَلِكَ السَّنَامُ إِذَا كَانَ ضَخْمًا وَارِيًا فَحُمِلَ عَلَيْهِ فَكُسِرَ وَمَاتَ فِيهِ شَحْمُهُ فَلَا يَسْتَوِي أَبَدًا - وَالَوَارِي: السَّمِينُ - كَمَا يَعْمَدُ الْجُرْحُ إِذَا عُصِرَ قَبْلَ أَنْ تَنْضَجَ بَيْضَتُهُ فَيَرِمَ، وَبَعِيرٌ عَمِدٌ، وَنَاقَةٌ عَمِدَةٌ، وَسَنَامُهَا عَمِدٌ." [٨]
قال ابن منظور: "وعَمِدَ البعَيرُ عَمَداً، فهو عَمِدٌ والأُنثى بالهاء: وَرِمَ سنَامُه من عَضِّ القَتَب والحِلْس وانْشدَخَ؛ ... وقيل: هو أَن يكون السنام وارياً فَيُحْمَلَ عليه ثِقْلٌ فيكسره فيموت فيه شحمه فلا يستوي، وقيل: هو أَن يَرِمَ ظهر البعير مع الغُدَّةِ، وقيل: هو أَن ينشدخ السَّنَامُ انشداخاً، وذلك أَن يُرْكَب وعليه شحم كثير. والعَمِدُ: البعير الذي قد فَسَدَ سَنَامُه. قال: ومنه قيل رجل عَمِيدٌ ومَعْمُودٌ أَي بلغ الحب منه، شُبه بالسنام الذي انشدخ انشداخاً. وعَمِدَ البعيرُ إِذا انفضح داخلُ سَنَامِه من الركوب وظاهره صحيح، فهو بعير عَمِدٌ. ... ومنه حديث عليّ: (كم أُدارِيكم كما تُدارَى البِكارُ العَمِدَةُ؟ ) البِكار جمع بَكْر وهو الفَتيُّ من الإِبل، والعَمِدَةُ من العَمَدِ: الورَمِ والدَّبَرِ، وقيل: العَمِدَةُ التي كسرها ثقل حملها. والعِمْدَةُ: الموضع الذي ينتفخ من سنام البعير وغاربه" [٩] .
يوحي كلام الإمام (عليه السلام) بما عاناه من أصحابه الذين وصف مداراته لهم كمداراة الإبل التي تفتق سنامها وانشدخ من الكبر والمرض، وهو يعالجهم من أمراضهم التي ركبتهم من ابتعادهم عنه وانقيادهم لأنفسهم من دون أن يكونوا له سندا وعونا في ما لقيه من أغلب الناس في زمانه.
( ع ن ج )
قال (عليه السلام): ( كأنه قِلعٌ داريٌ عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ ) [١٠] .
قال الخليل: " عنج: العِناجُ: خَيْطٌ أو سَيْرٌ يُشَدُّ في أسفل الدّلو ثمّ يُشدّ في عروته فإذا انقطع الحبل أمسك العناج الدّلَو من أن تقع في البئر، وكل شيء يُجْعَلُ له ذلك فهو عناج. وثلاثة أعنجة، وجمعه عُنُج. وكلّ شيءٍ تجذبه إليك فقد عَنجته. عَنَجَ رأس البعير، أي: جذبه إليه بخطامه." [١١]
قال ابن فارس: " الْعَيْنُ وَالنُّونُ وَالْجِيمُ أَصْلٌ صَحِيحٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى جَذْبِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ يَمْتَدُّ، كَحَبْلٍ وَمَا أَشْبَهَهُ...قَالَ: [١٢]
ـــ من البسيط ـــ
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمْ***** شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
وَقَالَ آخَرُ: [١٣]
ـــ من الوافر ـــ
وَبَعْضُ الْقَوْلِ لَيْسَ لَهُ عِنَاجٌ ***** كَسَيْلِ الْمَاءِ لَيْسَ لَهُ إِتَاءُ
... وَالرَّجُلُ يَعْنُجُ إِلَيْهِ رَأْسَ بَعِيرِهِ، أَيْ يَجْذِبُهُ بِخِطَامِهِ... قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْعَنْجُ: جَذْبُكَ رَأْسَهَا وَأَنْتَ رَاكِبُهَا. يَعْنِي النَّاقَةَ... " [١٤]
قال ابن منظور : " عنج: عَنَجَ الشيءَ يَعْنِجُه: جَذَبه. وكلُّ شيء تَجْذِبه إِليك، فقد عَنَجْتَه. وعَنَجَ رأْسَ البعير يَعْنِجُهُ ويَعْنُجُه عَنْجاً: جذبه بِخِطامه حتى رفعه وهو راكب عليه. والعَنْجُ: أَن يَجْذِبَ راكبُ البعير خِطامه قِبَلَ رأْسه حتى ربما لَزِمَ ذِفْرَاه بقادِمَة الرَّحْلِ.... وفي حديث علي، (ع): ( كأَنه قِلْعُ دارِيٍّ عَنَجَه نُوتِيُّه )أَي: عطفه مَلاَّحُه... " [١٥]
لقد مرَّ عرض هذه المفردات وشرحها في مادة (د و ر ) من هذا البحث.
( ع ن ق )
قال (عليه السلام): (فَاللهَ اللهَ في كِبْرِ الْحَمِيَّةِ، وَفَخْرِ الْجَاهلِيَّةِ! فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ، وَمَنَافِخُ الشَّيْطانِ، اَلَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ، والْقُرُونَ الْخَالِيَةَ، حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ، وَمهَاوِي ضَلاَلَتِهِ ) [١٦] .
قال الخليل: " العَنَق: من سيَرِ الدَّوابِّ. والنَّعْتُ مِعْناقٌ ومُعْنِقٌ وعَنيقٌ. وسَيْر عَنيقٌ ، وبِرْذَونٌ عَنَقٌ." [١٧]. " والنَّسَلانُ: مِشيَةُ الذِّئب إذا أعنَقَ وأسْرَعَ " [١٨] .
قال ابن فارس: " الْعَيْنُ وَالنُّونُ وَالْقَافُ أَصْلٌ وَاحِدٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى امْتِدَادٍ فِي شَيْءٍ، إِمَّا فِي ارْتِفَاعٍ وَإِمَّا فِي انْسِيَاحٍ. فَالْأَوَّلُ الْعُنُقُ، وَهُوَ وُصْلَةُ مَا بَيْنَ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ، مُذَكَّرٌ وَمُؤَنَّثٌ، وَجَمْعُهُ أَعْنَاقٌ. وَرَجُلٌ أَعْنَقُ، أَيْ طَوِيلُ الْعُنُقِ. وَجَبَلٌ أَعْنَقُ: مُشْرِفٌ. وَنَجْدٌ أَعْنَقُ، وَهَضْبَةٌ عَنْقَاءُ. وَامْرَأَةٌ عَنْقَاءُ: طَوِيلَةُ الْعُنُقِ. وَهَضْبَةٌ مُعْنِقَةٌ أَيْضًا... " [١٩] .
قال ابن منظور: " ... والعَنَق من السير: المنبسط، والعَنِيقُ كذلك. وسير عَنَقٌ وعَنِيقٌ: معروف، وقد أَعْنَقَت الدابةُ، فهي مُعْنِقٌ ومِعْناق وعَنِيق... يقال: أَعْنَقْتُ إليه أُعْنَقَ إعْناقاً. ... قال شمر: قوله معانيق أَي مسرعين، من عانَقَ مثل أَعْنِقَ إذا سارَع وأَسرع، ويروى: فانطلقوا مَعانيقَ؛ ورجل مُعْنِقٌ وقوم مُعْنِقون ومَعانيق؛ قال القطامي: [٢٠]
ــ من الكامل ـــ
طَرَقَتْ جَنُوبُ رحالَنا من مُطْرِق ***** ما كنت أَحْسَبُها قريبَ المُعْنِقِ " [٢١]
لقد استعمل الإمام (عليه السلام) أبعد المعاني غورا وأثقلها معنى حين استعمل مفردة ( أعنقوا)، اذ استغنى بها عن مجموعة كبيرة من المفردات التي يُراد منها وصف من أسرف في اتباع الشيطان وذهب بنفسه الى طريق الشرور والآثام من خلال انسياحه في عالم من الضلالة والغي.
( ف ن ك )
قال (عليه السلام): (فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ، وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ، وَأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ ، وَهذهِ الْأَمَّةَ قَدْ فَنَكَتْ وَشَغَرَت، قَلَبْتَ لابن عَمِّكَ ظَهْرَ الْمجَنِّ) [٢٢] .
قال الخليل: " فنك: فَنَكَ يفْنُكُ فُنُوكاً، إذا لزم مكانه لا يبرح. " [٢٣]
قال ابن فارس: " ... قَالُوا: الْفَنْكُ: اللَّجَاجُ: وَيُقَالُ اللُّزُومُ. يُقَالُ: فَنَكَ: أَقَامَ..." [٢٤]
قال ابن منظور : " الفَنْكُ: العَجَبُ، والفَنْك الكذب، والفَنْكُ التَّعَدِّي، والفَنْكُ اللَّجاج. وفَنَك بالمكان يَفْنُكُ فُنُوكاً ... وفَنَك في أَمره: ابْتَزَّه ولَجَّ فيه وغَلَبَ عليه؛ قال عَبِيدُ بن الأَبْرَص: [٢٥]
ـــ من البسيط ـــ
ودِّعْ لَمِيسَ ودَاعَ الصَّارِمِ اللاَّحِي***** إذ فَنَّكَتْ في فسادٍ بعدَ إصْلاحِ
وفَنَكَ فُنُوكاً وأَفْنَك: كذبَ. وفَنَكَ في الكذب: مَضى ولَجَّ فيه؛ ... فَانَكَ في الكذب والشر وفَنَكَ وفَنَّكَ ولا يقال في الخير، ومعناه لَجَّ فيه ومَحَكَ" [٢٦] .
صورة أخرى من صور الآلام التي لقيها (عليه السلام) من تنكر أصحابه، بل من ذوي رحمه الذي خذله واستولى على مال المسلمين الذي ائتُمن عليه، مستغلا خذلان الأمة التي شبهها الإمام (عليه السلام) بالجارية إذا صارت ماجنة، ومجون الأمّة هو أخذها بغير الحزم في أمرها كأنها هازلة، و(شغرت) أي: لم يكن في الأمّة من يحميها.
( ف هـ هـ )
قال (عليه السلام): ( اللَّهُمَّ إِنْ فَهِهْتُ عَنْ مسْأَلَتِي، أَوْ عَمِيتُ عَنْ طِلْبَتِي، فَدُلَّنِي عَلَى مَصَالِحِي ...) [٢٧] .
قال الخليل: " رجلٌ فهٌّ وفَهيهٌ: إذا جاءت منه سقطة أو جهلة من العِيِّ. ورجلٌ فَهٌّ: عَيٌّ عن حجّته. وامرأة فَهَّةٌ... وقد فَهَّ يَفَهُّ فَهاهَةً وفَهّاً وفَهَّةً، وفَهِهْتَ يا رجل. ويقال: جئتُ لحاجةٍ فأفهّني عنها فلانٌ إذا أَنْساكَها." [٢٨]
قال ابن فارس: " الْفَاءُ وَالْهَاءُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَدَلٍّ عَلَى الْعِيِّ وَمَا أَشْبَهَهُ، مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْفَهُّ، وَهُوَ الْعَيِيُّ، وَالْمَرْأَةُ فَهَّةٌ، وَمَصْدَرُهُ الْفَهَاهَةُ. قَالَ:
ـــ من الطويل ـــ
فَلَمْ تَلْقَنِي فَهًّا وَلَمْ تَلْقَ حُجَّتِي ***** مُلَجْلَجَةً أَبْغِي لَهَا مَنْ يُقِيمُهَا
وَيُقَالُ: خَرَجْتُ لِحَاجَةٍ فَأَفَهَّنِي فُلَانٌ حَتَّى فَهِهْتُ، أَيْ أَنْسَانِيهَا." [٢٩]
قال ابن منظور: " فَهَّ عن الشيء يَفَهُّ فَهّاً: نَسِيَه. وأَفَهَّهُ غيرهُ: أَنْساه. والفَهُّ: الكليلُ اللسانِ العَييُّ عن حاجته، والأُنثى فَهَّةٌ، بالهاء . والفَهِيهُ والفَهْفَهُ: كالفَهِّ. وقد فَهِهْتَ وفَهَهْتَ تَفَهُّ وتَفِهُّ فَهّاً وفَهَهاً وفَهَاهةً أَي عَيِيتَ؛ وفَهَّ العَيِيُّ عن حاجته... ويقال: خرجت لحاجةٍ فأَفَهَّني عنها فلانٌ حتى فَهِهْتُ أَي أَنْسانِيها. ابن الأَعرابي: أَفَهَّني عن حاجتي حتى فَهِهْتُ فَهَهاً أَي شَغَلني عنها حتى نَسِيتُها، ورجلٌ فَهٌّ وفَهِيهٌ؛ ...
... وتقول أَتَيْتُ فلاناً فبَيَّنْتُ له أَمري كلَّه إلا شيئاً فَهِهْتُه أَي نَسِيتُه " [٣٠] .
إن مدرسة الإمام التعبيرية لم تستطع مدرسة اخرى أن تجاريها، ولو وضعنا أسلوبه الأدائي بين نصوص أدبية أخرى لوجدناها مختلفة عن هذه النصوص، كما نعرف بصمة إبهام الإنسان التي لا يشترك فيها إنسان آخر. وقد تصاغر الإمام أمام ربه تبارك وتعالى في استعماله (فهِهْتُ) التي من معانيها النسيان، والعيّ الذي لا يعرف عند الإمام مكانا له ولا هو ممن تصعب عنده المفردات ولا الأفكار، ولكنه استعمل هذه المفردة ليعلن عبوديته الخالصة لله تعالى وصغر نفسه إزاءه.
( ف ي ل )
قال (عليه السلام): (فَارْبَعْ أَبَا الْعَبَّاسِ، رَحِمَكَ اللهُ، فِيَما جَرَى عَلَى َلِسَانِكَ وَ يَدَكَ مِنْ خَيْر وَشَرّ! فَإِنَّا شَرِيكَانِ فِي ذلِكَ، كُنْ عِنْدَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ، وَلاَ يَفِيلَنَّ رَأَيِي فِيكَ، وَالسَّلاَمُ.) [٣١]
وفي موضع آخر قال (عليه السلام): (وَاحْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ يَفِيلُ رَأْيهُ، وَيُنْكَرُ عَمَلُهُ، فَإِنَّ الصَّاحِبَ مَعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ.) [٣٢]
قال الخليل: " تفيّلَ رأيُ فلانٍ، أي: أخطأ في فراسته، وفيَّلتُ رأيه " [٣٣]
قال ابن فارس: " الْفَاءُ وَالْيَاءُ وَاللَّامُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى اسْتِرْخَاءٍ وَضَعْفٍ. يُقَالُ: رَجُلٌ فِيلُ الرَّأْيِ. قَالَ الْكُمَيْتُ: [٣٤]
ـــ من الوافر ـــ
بَنِي رَبِّ الْجَوَادِ فَلَا تَفِيلُوا***** فَمَا أَنْتُمْ فَنَعْذِرَكُمْ لِفِيلِ "[٣٥]
قال ابن منظور: " ... فَال رأْيُه يَفِيل فَيْلولة: أَخْطأَ وضَعُف. ويقال: ما كنت أُحب أَن يرى في رأْيك فِيَالة. ورجل فِيلُ الرأْي أَي ضعيف الرأْي؛ ... وتفيَّل: كَفال. وفَيَّل رأْيَه: قبَّحه وخطَّأَه ... ورجل فِيلُ الرأْي والفِراسة وفالُهُ وفَيِّله وفَيْلُه إِذا كان ضعيفاً، والجمع أَفْيال. ورجل فالٌ أَي ضعيف الرأْي مخطئ الفِراسة، وقد فال الرأْيُ يَفِيلُ فُيُولة. وفَيِّل رأْيَه تَفْيِيلاً أَي، فهو فَيِّل الرأْي... " [٣٦]
الإمام هنا يحذّر من اتباع الهوى والتحذير من أن يُساء الظن بالمخاطب (عبد الله بن عباس) وهو والي الإمام على البصرة، حين ينجرف الى الخطأ في القول أو العمل، لأنه إن فعل ذلك فلا يقع اللوم عليه وحده بل سيشار الى الإمام (عليه السلام) بذلك نتيجة سوء إدارة عمّاله أو ولاته. واستعماله الفعل ( يفيل) يتضمن سموا من الإمام على السفاهة، إذا كان (عليه السلام) في منتهى السمو والنبل حتى في تقريعه من استحق التقريع.
(ق ب ع)
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا، وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا " [٣٧] قال الخليل: " قَبَعَ الخنِزيرُ بصوته قَبْعاً وقُباعاً. وقَبَعَ الإنسان قُبُوعاً: أي تَخَلَّفَ عن أصحابه. والقَوابعُ: الخَيْلُ المَسْبُوقُة قد بقيت خلف السابق... ومن النساء القُبَعَةُ الطُّلَعَةُ: تَطْلُعُ مرةً وتَقْبَعُ أُخْرى فتَرجعُ. وقَبَعْتُ السِّقاء: إذا جَعَلْتُ رَأسهُ فيه وجَعَلْتُ بَشَرتَه الداخِلةَ." [٣٨]
قال ابن فارس: " الْقَافُ وَالْبَاءُ وَالْعَيْنُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى شُبَهِ أَنْ يَخْتَبِئَ الْإِنْسَانُ أَوْ غَيْرُهُ. يُقَالُ: قَبَعَ الْخِنْزِيرُ وَالْقُنْفُذُ، إِذَا أَدْخَلَ رَأْسَهُ فِي عُنُقِهِ، قَبْعًا. وَجَارِيَةٌ قُبَعَةٌ طُلَعَةٌ، إِذَا تَخَبَّأَتْ تَارَةً وَتَطَلَّعَتْ تَارَةً." [٣٩]
قال ابن منظور: "...يقال: قَبَعَ يَقْبَعُ قُبوعاً. وانْقَبَعَ: أَدخل رأْسه في ثوبه. وقَبَعَ رأْسَه يَقْبَعُه: أَدخله هناك. وجاريةٌ قُبَعةٌ طُلَعةٌ: تَطَلَّعُ ثم تَقْبَعُ رأْسها أَي تدخله، وقيل: تَطْلُعُ مرة وتَقْبَعُ أُخرى... " [٤٠] .
لقد استعمل الإمام (عليه السلام) التقابل الدلالي في عبارته هذه، انطلاقا من الدلالة المباشرة والمركزة التي يُظهرها هذا التقابل، إذ ورد في النصوص المتقدمة: (قُبَعةٌ طُلَعةٌ) التي ترجمها الإمام بقوله: (وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا ) الى هذه الصورة البائسة لمن خذله من جيشه، مستعملا التطلّع والتقبّع في هذا التقابل. ولا يخفى على القارئ الاستعمال المعاصر لمفردة ( التقبّع ) بإبدال القاف جيما مصرية، في إشارة الى لبس العباءة وتغطية الرأس بها، وهي طريقة معروفة للبسها لا سيما عند النساء.
( ق د د )
قال (عليه السلام): (... أَوَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَالْآبَاءَ، وَإِخْوَانَهُمْ وَالْأَقْرِبَاءَ؟ تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ، وَتَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَتَطَؤُونَ جَادَّتَهُمْ ) [٤١] .
قال الخليل: " والقدُّ: سيرٌ يُقد من جلد مدبوغ، والقديد اشتقاقه منه. ولا يُقال (القدَّة) إلا لكل شيء كالوعاء. وصار القوم قددا أي: تفرقت حالاتهم وأهواؤهم، قال الله (عز ذكره): [ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا] [٤٢] . والقدَّة: الطريقة والفرقة من الناس. وهم القدد إذا كان هوى كل فرد على حدة." [٤٣]
قال ابن فارس:" الْقَافُ وَالدَّالُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الشَّيْءِ طُولًا، ثُمَّ يُسْتَعَارُ. يَقُولُونَ: قَدَدْتُ الشَّيْءَ قَدًّا، إِذَا قَطَعْتَهُ طُولًا أَقُدُّهُ، وَيَقُولُونَ: هُوَ حَسَنُ الْقَدِّ، أَيِ التَّقْطِيعِ، فِي امْتِدَادِ قَامَتِهِ. وَالْقِدُّ: سَيْرٌ يُقَدُّ مِنْ جِلْدٍ غَيْرِ مَدْبُوغٍ. وَاشْتِقَاقُ الْقَدِيدِ مِنْهُ. وَالْقِدَّةُ: الطَّرِيقَةُ وَالْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ، إِذَا كَانَ هَوَى كُلِّ وَاحِدٍ غَيْرَ هَوَى صَاحِبِهِ. ثُمَّ يَسْتَعِيرُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ: اقْتَدَّ فُلَانٌ الْأُمُورَ، إِذَا دَبَّرَهَا وَمَيَّزَهَا. " [٤٤]
المعجم الوسيط: (قدد)" القِدّة: القطعة من الشيء المقدود. والفرقة من الناس تختلف آراء أفرادها" [٤٥] .
يذكّر الإمام (عليه السلام) الناس بمصائرهم وزوال لذائذهم مذكرا بالذين مضوا الى نهاياتهم المحتومة وبليت أجسامهم، وأن هؤلاء الذين مازالوا في دنياهم سيغادرون الى الموت ووحدة المضجع كما ذهب غيرهم، إذ سيركبون مركبهم ويتبعون جادتهم بلا انحراف عنهم في شيء، أي: سيصيبكم ما أصابهم من دون فرق ولا أقل تفاوت.
---------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة: ٨٤/١٩٨ في كلام له (عليه السلام) يذكر فيه عمرو بن العاص.
[٢] . العين: (عفس) ١/٣٣٩، ٣٤٠
[٣] . مقاييس اللغة: (عفس) ٤/٦٨
[٤] . لسان العرب: (عفس) ٦/١٤٣
[٥] . لسان العرب: (مرس) ٦/٢١٦
[٦] . نهج البلاغة: ٦٩/١٦٨ في توبيخ بعض أصحابه.
[٧] . العين: (عمد) ٢/٥٦
[٨] . مقاييس اللغة: ٤/١٣٨
[٩] . لسان العرب: (عمد) ٣/٣٠٥
[١٠] . نهج البلاغة: ١٦٥/٣٥٥ من كلام له (عليه السلام ) يصف فيه عجيب خلقة الطاووس.
[١١] . العين: (عنج)١/٢٣٠
[١٢] . البيت للحطيئة في ديوانه: ١٥
[١٣] . هو الشاعر ابن الإطنابة، عمرو بن عامر بن زيد مناة، الكعبي الخزرجي. شاعر جاهلي فارس. كان أشرف الخزرج. اشتهر بنسبته إلى أمه (الإطنابة) بنت شهاب، من بني القين. وفي الرواة من يعدّه من ملوك العرب في الجاهلية. كانت إقامته بالمدينة. وكان على رأس الخزرج في حرب لها مع الأوس. قال معاوية: لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين وهممت بالفرار فما منعني إلا قول ابن الإطنابة: أبت لي عفتي وأبي إبائي ***** وأخذي الحمد بالثمن الربيح (ينظر: الكامل في التاريخ: ٢/٦٥٣) .
[١٤] . مقاييس اللغة: (عنج) ٤/١٥٢
[١٥] . لسان العرب: (عنج) ٢/٣٢٩
[١٦] . نهج البلاغة: ١٩٢/ ٤٢٠ من خطبة له (عليه السلام) تسمى (القاصعة) ، وسياق النص في التحذير من الكبر.
[١٧] . العين: (عنق) ١/١٦٨
[١٨] . العين: (نسل) ٧/٢٥٦س
[١٩] . مقاييس اللغة: (عنق) ٤/ ١٥٩، ١٦٠
[٢٠] . ديوان القطامي: ١٠٥
[٢١] . لسان العرب: (عنق) ١٠/٢٧٣
[٢٢] . نهج البلاغة: ٤١/٥٧٥ من كلام له لبعض عماله، هو ( عبد الله بن عباس )
[٢٣] . العين: (فنك) ٥/٢٨٣
[٢٤] . مقاييس اللغة: (فنك) ٤/٤٥٥
[٢٥] . البيت مطلع قصيدة لأوس بن حجر في ديوانه: ١٣ وينظر ديوان عبيد بن الأبرص: ٤١ وما بعدها، إذ هناك قصيدتان من البحر والروي نفسهما لعبيد بن الأبرص ولم يرد فيهما البيت، وهما مشكوك في نسبتيهما بحسب ما ذهب اليه محقق الديوان.
[٢٦] . لسان العرب: (فنك) ١٠/٤٨٠
[٢٧] . نهج البلاغة: ٢٢٧/ ٤٩٥ من دعاء له (عليه السلام)
[٢٨] . العين: (فهّ) ٣/٣٥٦
[٢٩] . مقاييس اللغة: (فهّ) ٤/٤٣٥
[٣٠] . نهج البلاغة: ٢٢٧/ ٤٩٥ من دعاء له (عليه السلام)
[٣١] . نهج البلاغة: ١٨/٥٢٩ من كتاب له (عليه السلام) لابن عباس حين كان واليا على البصرة.
[٣٢] . نهج البلاغة: ٦٩/٦٣٧
[٣٣] . العين: (فيل) ٨/٣٣٤
[٣٤] . ديوان الكميت: ٣٤٩
[٣٥] . مقاييس اللغة: (فيل) ٤/٣٦٧
[٣٦] . لسان العرب: (فيل) ١١/٥٣٤
[٣٧] . نهج البلاغة: ٣٧/١٣٨ قالها بعد معركة النهروان.
[٣٨] . العين: (قبع) ١/١٨٣
[٣٩] . مقاييس اللغة: (قَبَعَ) ٥/٥١
[٤٠] . لسان العرب: (قبع) ٨/٢٥٨
[٤١] . نهج البلاغة: ٨٣/ ١٩١ من خطبته (عليه السلام) المسماة بـ (الغرّاء) وهي من الخطب العجيبة التي تنوعت محاورها بين الوعظ والإرشاد، ومصائر الناس والحث على صالح الأعمال.
[٤٢] . الجن: ١١
[٤٣] . العين:( قدّ) ٥/١٧
[٤٤] . مقاييس اللغة: (قَدَّ) ٥/٦
[٤٥] . المعجم الوسيط: ٧١٨ وقد أخل بها لسان العرب.
يتبع .......