قال صلوات الله عليه: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي ثلاث من لقي الله بهنّ فهو من أفضل الناس: من أتى الله بما افترض عليه فهو من أعبد الناس، ومن ورع عن محارم الله فهو من أورع الناس، ومن قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس». [١]
وقال صلوات الله عليه: «ثلاث خصال لا يموت صاحبهنّ أبداً حتى يرى وبالهنّ: البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وإنّ أعجل الطاعة ثواباً لصلة الرحم، وإنّ القوم ليكونوا فجّاراً فيتواصلون فتنمى أموالهم ويثرون، ويبرّون فتزداد أعمارهم، وإنّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم ليذران الديار بلاقع من أهلها». [٢]
وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاث لا تُطيقها هذه الأمّة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذِكر الله على كلّ حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف الله (عز وجل) عنده وتركه». [٣]
وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاثة يتخوّف منهنّ الجنون: التغوّط بين القبور، والمشي في خُفّ واحد، والرجل ينام وحده». [٤]
وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاثة مجالستهم تُميت القلب: مجالسة الأنذال، ومجالسة الأغنياء، والحديث مع النساء» [٥].
وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي ثلاثة من الوسواس: أكل الطين، وتقليم الأظفار بالأسنان، وأكل اللحية». [٦]
وقال صلوات الله عليه: «الرجال ثلاثة: عاقل، وأحمق، وفاجر؛ فالعاقل الدين شريعته، والحلم طبيعته، والرأي سجيّته، إن سُئل أجاب، وإن تكلّم أصاب، وإن سمع وعى، وإن حدّث صدق، وإن اطمأنّ إليه أحد وفى؛ والأحمق إن استنبه بجميل غفل، وإن استُنـزل عن حسن نزل، وإن حُمل على جهل جهل، وإن حدّث كذب، وإن فُقّه لا يفقه؛ والفاجر إن ائتمنته خانك، وإن صاحبته شانك، وإن وثقتَ به لم ينصحك». [٧]
وقال صلوات الله عليه: «إنّ للمرء المسلم ثلاثة أخلاّء: فخليل يقول له (أنا معك حياً وميتاً) وهو عمله، وخليل يقول له (أنا معك إلى باب قبرك ثمّ أخلّيك) وهو ولده، وخليل يقول له (أنا معك إلى أن تموت) وهو ماله، فإذا مات صار للوارث». [٨]
وقال صلوات الله عليه: «الفتن ثلاث: حبّ النساء وهو سيف الشيطان، وشرب الخمر وهو فخّ الشيطان، وحبّ الدنيا والدرهم وهما سهم الشيطان، فمن أحبّ النساء لم ينتفع بعيشه، ومن أحبّ الأشربة حرمت عليه الجنة، ومن أحب الدنيا والدرهم فهو عبد الدينار». [٩]
وقال صلوات الله عليه: «جُمع الخير كله في ثلاث خصال: النظر، والسكون، والكلام، فكلّ نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكلّ سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة، وكلّ كلام ليس فيه ذِكر فهو لغو، فطوبى لمن كان نظره عبراً، وسكوته فكراً، وكلامه ذِكراً، وبكى على خطيئته وأمن الناس من شرّه». [١٠]
وقال صلوات الله عليه: «قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) «يا علي ثلاث درجات، وثلاث كفّارات، وثلاث مهلكات، وثلاث مُنجيات، فأمّا الدرجات: فإسباغ الوضوء في السبرات، [١١] وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والمشي بالليل والنهار إلى الجماعات؛ وأمّا الكفّارات: فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والتهجّد بالليل والناس نيام؛ وأمّا المهلكات: فشُحّ مطاع، وهوى متبّع، وإعجاب المرء بنفسه؛ وأمّا المنجيات: فخوف الله في السرّ والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة العدل في الرضا والسخط». [١٢]
وقال صلوات الله عليه لولده محمد بن الحنفية: «إيّاك والعُجب وسوء الخلق وقلّة الصبر، فإنّه لا يستقيم لك على هذه الخصال الثلاث صاحب، ولا يزال لك عليها من الناس مجانب، ألزِم نفسك التودّد، واصبر على مؤذيات الناس نفسك، وابذل لصديقك نفسك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك ومحبتك، ولعدوّك عدلك وإنصافك، واضنُن بدينك وعرضك عن كلّ أحد، فإنّه أسلم لدينك ودنياك». [١٣]
وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاث من لم تكن فيه فليس منّي ولا من الله (عز وجل)، قيل: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: حلم يردّ به جهل الجاهل، وحسن خُلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن معاصي الله (عز وجل)». [١٤]
[الذنوب ثلاثة]:
وقال صلوات الله عليه: «الذنوب ثلاثة، ثمّ أمسك، فقال له حبّة العرني: يا أمير المؤمنين قلت «الذنوب ثلاثة» ثمّ أمسكتَ؟ فقال صلوات الله عليه: ما ذكرتُها إلاّ وأنا أريد أن أفسّرها، ولكن عرض بهرٌ حال بيني وبين الكلام، نعم الذنوب ثلاثة: فذنب مغفور، وذنب غير مغفور، وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه، قال: يا أمير المؤمنين فبيّنها لنا، قال: نعم، أمّا الذنب المغفور فعبد عاقبه الله على ذنبه في الدنيا، فالله أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرّتين؛ وأمّا الذنب الذي لا يُغفر فمظالم العباد بعضهم من بعض، إنّ الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قسماً على نفسه فقال: وعزّتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كفّ بكفّ، ولو مسحة بكفّ، ولو نطحة ما بين القرناء إلى الجمّاء، فيقتصّ للعباد بعضهم من بعض، حتّى لا تبقى لأحد على أحد مظلمة، ثمّ يبعثهم للحساب؛ وأمّا الذنب الثالث: فذنب ستره الله على عبده ورزقه التوبة منه، فأصبح خائفاً من ذنبه راجياً لربّه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة ونخاف عليه العذاب».[١٥]
من خطبة له (عليه السلام) في صفة الإسلام والإيمان:
خطب علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه ـ وقد سأله ابن الكوّاء (لعنه الله) عن صفة الإسلام والايمان والكفر والنفاق ـ فقال صلوات الله عليه:
«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَرَعَ الْإِسْلَامَ وَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ وَأَعَزَّ أَرْكَانَهُ لِمَنْ حَارَبَهُ وَجَعَلَهُ عِزّاً لِمَنْ تَوَلاهُ وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَهُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَزِينَةً لِمَنْ تَجَلَّلَهُ وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ وَعُرْوَةً لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ وَحَبْلًا لِمَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَنُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ وَعَوْناً لِمَنِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وَفُلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ وَعِلْماً لِمَنْ وَعَاهُ وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى وَحِلْماً لِمَنْ جَرَّبَ وَلِبَاساً لِمَنْ تَدَبَّرَ وَفَهْماً لِمَنْ تَفَطَّنَ وَيَقِيناً لِمَنْ عَقَلَ وَبَصِيرَةً لِمَنْ عَزَمَ وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَعِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ وَنَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ وَتُؤَدَةً لِمَنْ أَصْلَحَ وَزُلْفَى لِمَنِ اقْتَرَبَ وَثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ وَرَخَاءً لِمَنْ فَوَّضَ وَسُبْقَةً لِمَنْ أَحْسَنَ وَخَيْراً لِمَنْ سَارَعَ وَجُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ وَلِبَاساً لِمَنِ اتَّقَى وَظَهِيراً لِمَنْ رَشَدَ وَكَهْفاً لِمَنْ آمَنَ وَأَمَنَةً لِمَنْ أَسْلَمَ وَرَجَاءً لِمَنْ صَدَقَ وَغِنًى لِمَنْ قَنِعَ».
ثم إنّه (عليه السلام) غيّر أسلوب البيان خشية الملل وكراهية الإطالة في السير على منهج واحد، إيقاظاً لمن أخذته الغفلة في سياحة الفكر، أو تجاذبته الأنظار إلى غير المقصود، فقال معظّماً أمر الإسلام، مشيراً إلى مقامه الأسمى ومكانه الأعلى:
«فَذَلِكَ الْحَقُّ سَبِيلُهُ الْهُدَى وَمَأْثُرَتُهُ الْمَجْدُ وَصِفَتُهُ الْحُسْنَى فَهُوَ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ مُشْرِقُ الْمَنَارِ ذَاكِي الْمِصْبَاحِ رَفِيعُ الْغَايَةِ يَسِيرُ الْمِضْمَارِ جَامِعُ الْحَلْبَةِ سَرِيعُ السَّبْقَةِ أَلِيمُ النَّقِمَةِ كَامِلُ الْعُدَّةِ كَرِيمُ الْفُرْسَانِ».
ثمّ أخذ (عليه السلام) يفسّر ما ربّما يكون مُبهماً من كلامه أو مستعجماً من ألفاظه، وليس من كلامه بمبهم، ولا لفظ منها بمستعجم، ولكنّه عليّ وحرصه على تفهيم خلق الله وتعليم عباده، لذلك تسمعه يقوله: «فَالْإِيمَانُ مِنْهَاجُهُ وَالصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ وَالْفِقْهُ مَصَابِيحُهُ وَالدُّنْيَا مِضْمَارُهُ وَالْمَوْتُ غَايَتُهُ وَالْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ وَالْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ وَالنَّارُ نَقِمَتُهُ وَالتَّقْوَى عُدَّتُهُ وَالْمُحْسِنُونَ فُرْسَانُهُ».
ثمّ كأنّه يريد أن يأخذ بيدك يرشدك إلى الطريق ويدلّك على المحجّة، حتّى لا تلتوي بك السبل ولا تأخذك الملاوي والتعاريج، حيث يقول: «فَبِالْإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ وَبِالصَّالِحَاتِ يُعْمَرُ الْفِقْهُ وَبِالْفِقْهِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ وَبِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا وَبِالدُّنْيَا تَجُوزُ الْقِيَامَةَ وَبِالْقِيَامَةِ تُزْلَفُ الْجَنَّةُ وَالْجَنَّةُ حَسْرَةُ أَهْلِ النَّارِ وَالنَّارُ مَوْعِظَةُ الْمُتَّقِينَ وَالتَّقْوَى سِنْخُ الْإِيمَانِ». (أصول الكافي مج٢، ص٤٩، الطبعة الحديثة؛ وفي مج٢ من شرح ابن أبي الحديد ص ٢١٩) .
[الإيمان يدل على الصالحات]:
قوله: «فبالايمان يستدلّ على الصالحات» وذلك أنّ الإيمان هو المنهاج والطريق، وكلّما كان الطريق مستقيماً عدلاً كان دليلاً موصلاً، وأيضاً الإيمان له شبه العلّة بالنسبة إلى الصالحات، كما أشير إلى ذلك بقوله تعالى:
«إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ». [١٦]
ويشير إلى ذلك الشاعر بقوله:
وإذا حلّت الهداية قلباً نشطت للعبادة الأعضاءُ. [١٧]
ودلالة العلّة على معلولها قويّة، والاستدلال بها شايع، وهي من البراهين القطعيّة، وسمّاه الحكماء بالبرهان اللمّي، والإستدلال بالمعلول على العلّة بالبرهان الإنّي، واللمّي أقوى عندهم من الإنّي، وليس هنا موضع تفصيله، فلنكتفِ بهذا ولنعد إلى ما كنّا بصدده.
[إعمار الفقه بالصلاح]:
قال صلوات الله عليه: «بالصالحات يعمر الفقه».
وذلك أنّ الفقه إنّما يُطلب للعمل الصالح، فإذا طُلب لغير ذلك كان صنعة ولم يكن علماً، فلا جرم كان العمل الصالح باعثاً على الفقه، فحيث يُطلب العمل يُطلب العلم، وحيث يعمر العمل، يعمر العلم، وحيث يترك العمل يترك العلم. زهّد الناس في العلم قلّة العاملين به، أو أنّ المقصود الاشارة إلى أنّ بالعمل على موجب العلم ينمو العلم «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» [١٨] وقيل: إنّ المراد بالصالحات ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وعمران الفقه بها واضح، وذلك أنّ المقصود بولايتهم اتّخاذهم أولياء لهم الأمر والنهي والطاعة المفترضة، وإلى هذا المعنى يشير الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: «ولايتي لعليّ خير من ولادتي منه» [١٩] وهم (عليهم السلام) أبواب الفقه وخزّانه، وأنصار الحقّ وأعوانه، وهم تراجمة القرآن وسفرة الرحمن، استودعهم علمه، وائتمنهم على مكنون سرّه، فمن أخذ شيئاً من هذا فعنهم أخذ ومنهم اقتبس، وإلى ذلك يشير ابن أبي الحديد المعتزلي في علي (عليه السلام):
ألا إنّما التوحيد لولا علومه لعرضة ضلّيل ونهبة كافرِ.
وله ـ ابن أبي الحديد ـ في أوائل شرح النهج كلام في هذا المقام طويل ملخّصه: أنّ فقهاء المذاهب وغيرهم من أئمّة العلم وأعلامه أخذوا عنه علومهم، وحسبنا في ذلك قول الرسول (صلى الله عليه وآله) المتّفق على روايته عند الشيعة والسنّة «إنّي مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً، ألا وإنّ اللطيف الخبير قد أنبأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كإصبعيّ هاتين ـ وجمع بين سبّابتيه ـ ولا أقول هاتين ـ وجمع بين سبّابته والوسطى ـ فتفضل هذه على هذه، فلا تتقدّموهم فتمرقوا، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم». [٢٠]
وإلى هذا المعنى يُشير بعض الشعراء بقوله:
إليكم وإلاّ لا تُشدّ الركائبُ ***** وفيكم وإلاّ فالحديث زخارف
ومنكم وإلاّ لا تُنال المواهبُ ***** وعنكم وإلاّ فالمحدّث كاذب
ولله درّ من قال:
إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهباً ***** فدع عنك قول الشافعي ومالك
ووالِ أُناساً قولهم وحديثهم ينجّيك ***** يوم البعث من لهب النار
وأحمد والمروي عن كعب أحبار ***** روى جدُّنا عن جبرئيل عن الباري [٢١]
وقال الآخر:
مُطهّرونَ نقيّاتٌ ثيابهمُ الله***** لمّا برى خلقاً وأتقنه
فأنتم الملأ الأعلى وعندكمُ تجري***** الصلاةُ عليهم أينما ذُكروا
صفاكُمُ واصطفاكمْ أيّها البشرُ عِلمُ***** الكتاب وما جاءت به السور [٢٢]
وليس غرضنا من هذا الدعوةَ أو الدعايةَ على ما يقولون، ولكنّه الحقّ نقوله خدمة للحقّ ولطلاّب الحقّ ـ وما بعد الحقّ إلاّ الضلال المبين ـ ولنعد إلى تمام كلامه صلوات الله عليه في هذا الموضوع.
[بالفقه يرهب الموت]:
قوله (عليه السلام): «وبالفقه يرهب الموت».
الموت قنطرة أو سفينة يعبر بها أهل النعيم إلى نعيمهم، وأهل الجحيم إلى جحيمهم، فهو لأولئك راحة لا تزول، ولهؤلاء حسرة لا تنقضي، وباب العلم به على عباده مسدود، لا يعلم المرء متى يأتيه الموت ويدنو منه، ولا يعلم ما يلاقيه وينتهي إليه، وكم اطّردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى الله إلاّ إخفاءه، فكيف لا نرهبه، نعم إنّما يغفل عنه ولا يرهب منه الجاهلون، وإنّما يخشاه ويخافه العالمون «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ». [٢٣] أجل في الموت راحة المؤمن وهناؤه حيث يُخلّصه من كدورات الدنيا وآلامها.
[أشعار في الموت]:
قال الشاعر:
جزى الله عنّا الموت خيراً فإنّه ***** يعجّل تخليص النفوس من الأذى
أبرّ بنا من كل برّ وأرأفُ ويُدني***** من الدار التي هي أشرف [٢٤]
وقال آخر:
من كان يرجو أن يعيش فإنّني ***** في الموت ألف فضيلة لو أنها
أصبحت أرجو أن أموت لأُعتقا ***** عُرفت لكان سبيله أن يُعشقا [٢٥]
وقال الشيخ البهائي:
إنّ هذا الموت يكرهه ***** وبعين العقل لو نظروا
كلُّ من يمشي على الغبر ***** الرأوه الراحة الكبرى
وقال أبو العتاهية:
المرء يأمل أن يعيش ***** تفنى بشاشتُه ويبقى
وتخونه الأيّام حتّى كم ***** شامتٍ بي إن هلكتُ
وطولُ عمرٍ قد يضرّه ***** بعد حُلو العيش مُرّه
لا يرى شيئاً يسّره ***** وقائلٍ لله درّه [٢٦]
وقال ابن المعتز:
ألست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا ***** لقد حبّب الموتَ البقاءُ الذي أرى
فذمّاً له لكنّ للخالق الشكرا فيا ***** حسداً مني لمن يسكن القبرا [٢٧]
وقال آخر:
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا***** منها أمان لقائه بلقائه
في الموت ألف فضيلة لا تُعرفُ***** وفراق كلّ معاشر لا يُنصف [٢٨]
وقال ابراهيم بن المهدي:
وإنّي وإن قدّمت قبلي لَعالِمٌ *****وإنّ صباحاً نلتقي في مسائه
بأنّي وإن أبطأتُ عنك قريبُ *****صباح إلى قلبي الغداة حبيب [٢٩]
وهناك ناحية أخرى تدعو إلى رهبة الموت والخوف منه، نبّه إليها صلوات الله عليه بقوله: «وبالموت تُختم الدنيا».
وذلك أنّ الدنيا مضمار العمل وميدانه، ومزرعة الآخرة ومغرسها، وإنّما يحصد المرء بآخرته ما زرعه بها، ويجني من ثمر ما غرسه فيها، والموت يقطعه عن ذلك، ويحول بين المرء وقلبه، وبين المذنب وتوبته، والمجرم وأوبته، ومن هنا يقول صلوات الله عليه بعده: «وبالدنيا تجوز القيامة».
أي ثواب يوم القيامة، ويتلخّص من كلامه (عليه السلام) أنّ بالفقه يرهب الموت، وكيف لا يرهب الموت وبه تختم الدنيا، وبالدنيا تحاز الجنّة، فالموت إذن قد يحول بين المرء وبين أن يحوز الجنّة، ولا سيّما إذا جاء بغتة وعلى غير استعداد، نعوذ بالله من سوء الخاتمة ونستغفره ونتوب إليه من كلّ ما لا يرضيه، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلّي العظيم.
قوله صلوات الله عليه: «وبالقيامة تُزلف الجنة».
أي تقرب، قال الله تعالى: «وأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ». [٣٠]
قوله (عليه السلام): «والجنّة حسرة أهل النار» روي أنّه يُكشف لهم عن مقاعدهم فيها لو كانوا مؤمنين في الدنيا فيتحسّرون ويزدادون ألماً فوق آلامهم، نادمين على ما قدّموا من قبيح أعمالهم، «أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» [٣١] وذلك أنه «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ». [٣٢]
قوله (عليه السلام): «والنار موعظة المتّقين» أي يذكرونها فيتّعظون بها، «فهم والنار كمن قد رآها» لشدّة يقينهم بها «فهم فيها مُعذَّبون».
قوله (عليه السلام): «والتقوى سنخ الإيمان» أي أصله وأساسه.
ولنعد إلى كلامه الأوّل (عليه السلام) في وصف الإسلام ونعته.
قال كميل بن زياد رضوان الله عليه: سألت مولاي أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قواعد الإسلام ما هي؟ فقال: «قواعد الإسلام سبعة: فأوّلها العقل وعليه بُني الصبر، والثانية صون العرض وصدق اللهجة، والثالثة: تلاوة القرآن على جهته، والرابعة الحبّ في الله والبُغض في الله، والخامسة حقّ آل محمد (صلى الله عليه وآله) ومعرفة ولايتهم، والسادسة حقّ الاخوان والمحاماة عنهم، والسابعة مجاورة الناس بالحُسنى.
قلت: يا أمير المؤمنين، العبد يصيب الذنب فيستغفر الله منه، فما حدّ الاستغفار؟ قال: يا بن زياد التوبة، قلت: بس، قال: لا. قلت: فكيف؟ قال: إنّ العبد إذا أصاب ذنباً يقول «أستغفر الله» بالتحريك، قلت: وما التحريك؟
قال: الشفتان واللسان، يريد أن يتبع ذلك بالحقيقة، قلت: وما الحقيقة؟ قال: تصديق في القلب، وإضمار أن لا يعود إلى الذنب الذي استغفر منه، قال كميل: فإذا فعلتُ ذلك فأنا من المستغفرين؟ قال: لا. قال كميل: فكيف ذاك؟ قال: لأنّك لم تبلغ إلى الأصل بعد، قال كميل: فأصل الاستغفار ما هو؟ قال: الرجوع إلى التوبة من الذنب الذي استغفر منه، وهو أوّل درجة العابدين. وترك الذنب والاستغفار اسمٌ واقع لمعانٍ: أوّلها: الندم على ما مضى، والثاني: العزم على ترك العود أبداً، والثالث: أن تؤدّي حقوق المخلوقين التي بينك وبينهم، الرابع: أن تؤدّي حقّ الله في كلّ فرض، والخامس: أن تُذيب اللحم الذي نبت على السُّحت والحرام، حتّى يرجع الجلد إلى عظمه وتنشيء بينهما لحماً جديداً، والسادس: أن تُذيق البدن ألم الطاعة كما أذقته لذّات المعاصي». [٣٣]
وقال صلوات الله عليه: «لأنسبنّ الإسلام نسبة لا ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي إلاّ بمثل ذلك: إنّ الاسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل، والعمل هو الأداء، إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربّه فأخذه، إنّ المؤمن يرى يقينه في عمله، والكافر يرى إنكاره في عمله.
فو الذي نفسي بيده ما عرفوا أمرهم، فاعتبروا إنكار الكافرين والمنافقين بأعمالهم الخبيثة». [٣٤]
وقال صلوات الله عليه: «أثافيّ الإسلام ثلاث لا تنفع واحدة منهنّ دون صاحبتها: الصلاة، والزكاة، والولاية». [٣٥]
وقال صلوات الله عليه: «وأمّا ما فرضه الله (عز وجل) من الفرائض في كتابه، فدعائم الإسلام، وهي خمس دعائم، وعلى هذه الفرائض بُني الإسلام، فجعل سبحانه لكلّ فريضة من هذه الفرائض أربعة حدود لا يسع أحدٌ جهلها: أوّلها الصلاة، ثمّ الزكاة، ثمّ الصيام، ثمّ الحجّ، ثمّ الولاية وهي خاتمتها والحافظة لجميع الفرائض والسنن». [٣٦]
وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ الله خلق الاسلام فجعل له عرصة، وجعل له نوراً، وجعل له حصناً، وجعل له ناصراً، فأمّا عرصته فالقرآن، وأمّا نوره فالحكمة، وأمّا حصنه فالمعروف، وأمّا أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم، فإنّه لمّا أُسري بي إلى سماء الدنيا فنسبني جبرئيل (عليه السلام) لأهل السماء استودع الله حبّي وحبّ أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة، ثمّ هبط بي إلى الأرض فنسبني إلى أهل الأرض، فاستودع الله (عز وجل) حبّي وحبّ أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمّتي، فمؤمنو أمّتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة، ألا فلو أنّ الرجل من أمّتي عبد الله (عز وجل) عمره أيّام الدنيا ثمّ لقي الله (عز وجل) مُبغضاً لأهل بيتي وشيعتي ما فرّج الله صدره إلاّ عن النفاق». [٣٧]
وقال (صلى الله عليه وآله): «يا علي طوبى لمن أحبّك وصدّق بك، وويل لمن أبغضك وكذّب بك، محبّوك معروفون في السماء السابعة العليا والأرض السابعة السفلى وما بين ذلك، هم أهل الدين والورع والسمت الحسن والتواضع لله (عز وجل)، خاشعة أبصارهم، وجلت قلوبهم لذكر الله (عز وجل)، وقد عرفوا حقّ ولايتك، وألسنتهم ناطقة بفضلك، وأعينهم ساكبة تحنّناً عليك وعلى الأئمة من ولدك، يدينون لله بما أمرهم به في كتابه وجاءهم به البرهان من سنّة نبيّه، عالمون بما يأمرهم به أُولو الأمر منهم، متواصلون غير متقاطعين، متحابّون غير متباغضين، إنّ الملائكة لتصلّي عليهم وتؤمّن على دعائهم وتستغفر للمذنب منهم وتشهد لحضرته وتستوحش لفقده إلى يوم القيامة». [٣٨].